|
اشكالية الرغبة: جدلية النقص والإشباع في تشكيل الذات
أحمد زكرد
الحوار المتمدن-العدد: 8195 - 2024 / 12 / 18 - 20:35
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الرغبة هي المحرك الأساسي للحياة البشرية، فهي التي تدفعنا نحو السعي، وتمنحنا معنى لوجودنا، وتجعلنا نبحث عن تحقيق ما نفتقده أو نتمناه. ليست الرغبة مجرد شعور لحظي أو نزوة عابرة، بل هي ظاهرة معقدة تتشابك فيها الأبعاد النفسية والاجتماعية والثقافية. يتجاوز تأثيرها حدود الفرد ليشمل الجماعة، ويتشابك مع الأزمات النفسية والتحولات الحضارية. من هنا، فإن دراسة الرغبة تُعد مدخلًا لفهم طبيعة الإنسان وتفاعله مع ذاته ومع العالم. إذا عدنا إلى الطفولة، نجد أن الرغبة تظهر مبكرًا في أشكال بسيطة تعبر عن احتياجات أساسية. عندما يبكي الرضيع طلبًا للطعام أو الشعور بالأمان، فإنه يعبر عن رغبة أولية تعتمد على الحاجات البيولوجية. في هذه المرحلة، تلعب تلبية رغبات الطفل دورًا جوهريًا في بناء شعوره بالثقة في العالم من حوله. فوفقًا لنظرية إريك إريكسون حول مراحل النمو النفسي-اجتماعي، فإن الطفل في السنة الأولى من حياته يحتاج إلى الشعور بأن العالم مكان آمن. إذا تمت تلبية رغباته بشكل متوازن، فإنه يكتسب إحساسًا بالثقة؛ أما إذا تعرض للإهمال أو التلبية المفرطة، فقد يطور شعورًا بانعدام الأمان أو الاعتمادية المفرطة. الرغبة لا تقتصر على الطفولة، بل تنمو وتتعقد مع تطور الإنسان. في مرحلة المراهقة، على سبيل المثال، تظهر الرغبة في الاستقلال، في اكتشاف الذات، وفي بناء علاقات اجتماعية تُشبع احتياجات الانتماء والاعتراف. هذه الرغبات قد تؤدي إلى صراعات داخلية وخارجية، حيث يسعى الفرد لإيجاد توازن بين رغبته في التحرر من سلطة الأسرة وبين حاجته إلى دعمها وحبها. هنا يظهر دور المجتمع في توجيه الرغبات وتنظيمها. فإذا كان المجتمع متسامحًا ويتيح فضاءً آمنًا للتعبير عن الرغبات، فإن الفرد يتمكن من تحقيق ذاته بطرق بناءة. أما إذا كان المجتمع قمعيًا أو شديد التقييد، فقد يؤدي ذلك إلى كبت الرغبات أو انفجارها بطرق سلبية. على الصعيد النفسي، الرغبة قد تكون مصدرًا للتحفيز أو للمعاناة. العالم النفسي سيغموند فرويد كان من أوائل الذين درسوا الرغبة من منظور اللاوعي، حيث اعتبر أن الرغبات المكبوتة، خاصة تلك المرتبطة بالغرائز، هي المحرك الأساسي للسلوك البشري. من هنا، فإن عدم تحقيق الرغبات أو كبتها لفترات طويلة قد يؤدي إلى ظهور اضطرابات نفسية مثل القلق أو الاكتئاب. على سبيل المثال، إذا نشأ طفل في بيئة تمنعه من التعبير عن رغباته الطبيعية، مثل الرغبة في اللعب أو الاكتشاف، فإنه قد يطور شعورًا دائمًا بالذنب أو العجز، مما ينعكس على سلوكه في المستقبل. لكن هل يعني ذلك أن تلبية الرغبات دائمًا أمر إيجابي؟ هنا يظهر التحدي الحقيقي. التلبية المفرطة للرغبات، خاصة عند الأطفال، قد تؤدي إلى بناء شخصية أنانية تعتمد على الإشباع الفوري ولا تستطيع مواجهة الإحباط. مثال على ذلك، الطفل الذي يحصل دائمًا على ما يريده دون قيود قد يواجه صعوبة في التكيف مع التحديات الواقعية لاحقًا في الحياة. وقد أظهرت دراسة نفسية شهيرة تُعرف بـ"اختبار حلوى المارشميلو" (The Marshmallow Test)، التي أجراها والتر ميشيل، أن الأطفال الذين يتمتعون بالقدرة على تأجيل الإشباع (أي انتظار وقت أطول للحصول على مكافأة أكبر) يميلون إلى تحقيق نجاح أكبر في حياتهم مقارنةً بأولئك الذين يسعون للإشباع الفوري. من الناحية الفلسفية، الرغبة لها أبعاد مختلفة، كما يظهر في أعمال الفلاسفة الكبار. أفلاطون، على سبيل المثال، رأى أن الرغبة تعبر عن نقص يسعى الإنسان إلى ملئه، وأن السعادة الحقيقية لا تتحقق بإشباع الرغبات الحسية، بل بالسعي نحو الكمال الفكري والأخلاقي. في مقابل ذلك، سبينوزا اعتبر الرغبة جوهر الإنسان، فهي تعبير عن إرادته في الحفاظ على وجوده وتعزيزه. أما هيغل، فقد ركز على البعد الاجتماعي للرغبة، حيث ربطها بمفهوم الاعتراف، أي أن الإنسان لا يكتفي بتحقيق رغباته المادية، بل يسعى أيضًا إلى أن يُعترف به ككائن ذي قيمة من قبل الآخرين. لكن ماذا عن الحرمان من الرغبة؟ الحرمان ليس مجرد غياب للإشباع، بل هو تجربة نفسية عميقة تحمل في طياتها مشاعر معقدة مثل الإحباط والحزن والغضب. عندما يُحرم الطفل من تلبية رغباته الأساسية، مثل الحاجة إلى الحب أو التقدير، فإنه قد يطور شعورًا دائمًا بالنقص أو الرفض. هذا الحرمان قد يدفعه إلى البحث عن تعويض مفرط في المستقبل، أو على العكس، قد يؤدي إلى الانسحاب والانطواء. في الوقت نفسه، الحرمان ليس دائمًا سلبيًا. في بعض الأحيان، قد يكون الحرمان مصدرًا للإبداع والتحفيز. كثير من الفنانين والمبدعين عبر التاريخ عانوا من الحرمان بشتى أنواعه، لكنه كان دافعًا لهم للتعبير عن أنفسهم بطرق مبتكرة. من هنا، يمكن القول إن الحرمان يمكن أن يكون تجربة بناءة إذا ما تم التعامل معها بوعي وإرادة. التعامل مع الرغبة، سواء على المستوى النفسي أو الاجتماعي، يتطلب توازنًا دقيقًا. على المستوى الفردي، يمكن للشخص أن يتعلم كيف يفهم رغباته ويديرها بطريقة تحقق له الرضا دون أن تصبح مصدرًا للمعاناة. التأمل والوعي الذاتي يمكن أن يساعدا الفرد على التمييز بين الرغبات الحقيقية وتلك التي تفرضها الظروف أو الإغراءات الخارجية. على المستوى الاجتماعي، يمكن للمجتمعات أن تسهم في توجيه الرغبات من خلال نظام تعليمي وثقافي يشجع على تحقيق التوازن بين الإشباع والمسؤولية. الرغبة، في نهاية المطاف، ليست عدوًا يجب أن نقمعه، لكنها أيضًا ليست سيدًا يجب أن نخضع له. إنها جزء أساسي من طبيعتنا الإنسانية، تحمل في طياتها إمكانات لا حدود لها للتطور والنمو، لكنها قد تصبح مصدرًا للمعاناة إذا لم نفهمها وندرك حدودها. تحقيق التوازن في التعامل مع الرغبة هو ما يمنح الحياة عمقها ومعناها، ويساعدنا على مواجهة تحدياتها بروح إيجابية ومبدعة .
#أحمد_زكرد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إشكالية نقد الدين بين الوعي والواقع: من فيورباخ إلى ماركس
-
Lillusion et la vérité
-
مستقبل سوريا في ظل الصراع الدولي
-
الفلسفة المعاصرة: جدلية الإنسان بين انهيار اليقين والبحث عن
...
-
إشكالية الهوية و الوجود الرقمي: بين الأصالة والاغتراب
-
بين الظلم التاريخي وإعادة الاعتبار: إشكالية قراءة أفكار السف
...
-
النقاب كظاهرة ثقافية: تحليل فلسفي واجتماعي في السياق المغربي
-
الناسخ والمنسوخ والمفقود والمرفوع
المزيد.....
-
كيلوغ: ترامب لديه القدرة على إنهاء الصراع في أوكرانيا
-
ماذا نعرف عن كوباني أوعين العرب التي تعيدها الأحدث في سوريا
...
-
اتصالات دولية مع تركيا بشأن مستقبل سوريا ووضع الأكراد في شما
...
-
مقتل 25 شخصا على الأقل وفقدان العشرات بانقلاب قارب في الكونغ
...
-
إسرائيل تتوغل في الريف الجنوبي لمحافظة درعا السورية ونتنياهو
...
-
DW من دمشق – الخلاص من نظام الأسد أهم من كل شيء
-
أردوغان يوجه رسالة جديدة للسوريين
-
أدرعي يسخر من الأسد ونصر الله ونعيم بمناسبة باليوم العالمي ل
...
-
رئيس الحكومة المصرية يصاب بدوار خلال مؤتمر صحفي
-
البيت الأبيض: كييف تحتاج إلى ورقة -ضغط- للمفاوضات مع روسيا
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|