|
هاتف جنابي: جسور بين الشرق والغرب
يزن البدر
مخرج مسرحي
(Yazan Bader)
الحوار المتمدن-العدد: 8195 - 2024 / 12 / 18 - 20:11
المحور:
الادب والفن
في عالمنا المعقد حيث تتشابك الأفكار والمعتقدات والثقافات، يظهر لنا صوت هاتف جنابي شاعرا، كاتبا ومثقفا ينقل بتجربته الشعرية ورؤيته الفلسفية وثقافته الغنية تجربة الإنسان الحديث في مواجهة العالم، اذ يستكشف جنابي في كتاباته ذلك الصراع الأزلي بين الإنسان ومحيطه، بين الذات والآخر، بين السماوي والدنيوي، وبين ما هو مألوف وما هو غريب، حيث الأليف يستوحش، والمستلب يزداد استلابا، ويرى البياض وكأنه يمر بفترة تلمس ذاته. ولابد من قراءة العلامات التالية في شعره باعتبارها كلمات: (= يساوي؛ - ناقص؛ + زائد؛ وإلخ). نقرأ في قصيدته "البياض في طور النقاهة": الغياب = الذاكرة/العمى يستبسل/اكتبْ ما تشاء/ أنت القلم المهجور/ أنت العبارة الأخرى/إرثُ مَن هذا الذي يلكزني/ صوتُ من هذا الذي يصمّ مسمعي/ بأمرِ مَنْ هذا الذي يتبعني مثل ظلي/قوتُ مَنْ هذا الذي يأكلني؟"(ديوان: رغبة بين غيمتين، دار الغاوون، بيروت 2009). في قصيدته "غيمة"، يعبر جنابي عن التناقض أعلاه والذي هو إحدى سمات أو أدوات شعره، برمزية عميقة حيث يستخدم الغيمة كرمز للتحول والغموض، ويكتب: "نحن جئنا من غيمة/ نحن جئنا من غيمة، ترسم ظلال الغروب/ تعلوها عمامة سوداء"، تلك العمامة السوداء قد ترمز إلى الجهل والتعمية أو الغموض الذي يخيم على الوجود الإنساني، وتلك السحب التي تعلو وتغطي الضوء قد تكون مثالاً على العقبات التي تحجب الحقيقة عن الأنظار، أو تلك الأفكار المسبقة التي تعمي بصيرتنا تجاه الآخر. ومن خلال الغيمة، يطرح جنابي تساؤلات حول الهوية والانتماء، حيث يستكشف ما يعنيه أن تكون غريباً حتى في وطنك، أو أن تشعر بالانتماء إلى مكان لم تولد فيه، ولكنك تجد فيه روحك، هذه الغيمة بتقلباتها وغموضها، تعكس الحالة الإنسانية في عالم تغمره الصراعات والتحولات، حيث يبحث كل فرد عن معنى ومكان في هذا العالم. وهي في المحصلة النهاية تشي بسيولة وعدم ثبات الأشياء والأفكار والقيم. وبقدر ما تكون الغيمة صنو السحابة، فإنها تعني شدة العطش قاموسيا، وبالتالي تحمل النقيض الذي يوظفه الشاعر، وهذا أحد أوجه التناقض الذي يبتغيه، ولابد من أخذ معاني الغيمة المتعددة بنظر الاعتبار لفهم تكرار هذه الكلمة ومقاصدها في شعر الشاعر. وما حياة جنابي سوى تشكل غيمة، فمرة تظهر وأخرى تغيب، ومرة تمطر وفي أخرى تكون العطش ذاته. غريب وليس بغريب، كحضور الوطن الجاحد، والغربة اللعوب! وفي هذا السياق، يعكس جنابي أيضا الصراع بين الثقافات والحضارات من خلال تجربته الشخصية ككردي يعيش بين عوالم مختلفة، بين الشرق والغرب، بين العراق وأوروبا، يتنقل بين هذه العوالم محاولاً إيجاد مكان يشعر فيه بالانتماء، ولكنه يجد نفسه معزولاً في كل منها، كما لو كان يعيش في غيمة من العزلة والاغتراب. والغيمة تكون أحيانا بمثابة الحجاب الذي يفصل الشاعر عن العالم، ولكنها في الوقت نفسه تكون التكوين-العالم الذي يجد فيه سلامه ومنزله العابر، عزلته وانعكاسات وتقلبات حياته. يقول جنابي، وهو يصف تجربة الكتابة والإبداع كطريقة للتعامل مع الاغتراب والعزلة التي يشعر بها: "الكتابة هي تلك الغيمة التي أعيش فيها، ومن خلالها أرى العالم وأحاول فهمه". وبين الوجود والعدم، تتجلى أشعار الشاعر العراقي جنابي كصدى لصرخات تلك الروح التي تبحث عن معنى في زمن الفوضى والضياع، جنابي الذي رُزق بنفسه بين رمال بابل العريقة، وترعرع تحت سماء بغداد الصافية، لم يكتفِ بما قدمته الأرض الأم من معارف، بل تجاوز الحدود والبحار إلى أرض السلاف، حيث وجد نفسه في متاهات وارسو الباردة ولغتها المعقدة وبعدها عن المصادر العربية... وفي وارسو تحولت دراساته من مجرد سعي أكاديمي إلى رحلة فلسفية عميقة تنقب وتستقصي في أعماق اللغة والأدب البولندي مرورا بمحيطها، مستلهماً منهما جوهر الوجود الإنساني كما استلهم ميووش، وهربرت، وروزيفيتش، وغروتوفسكي، وشوبان، تشيخوف، وغيرهم... ومن هذا التمازج الثقافي العميق، خلق جنابي لنفسه حضورا أكثر من مزدوج، وتوصل إلى فلسفة شعرية تتأمل في الحياة والموت، في الحب والفقد، وفي الحرية والقيد، فمثلما كتب تشيخوف عن العزلة والاغتراب في قصصه القصيرة التي تناولت أعماق النفس البشرية، كذلك نجد جنابي ينقل هذه الأحاسيس في شعره الذي يبني جسوراً بين الشرق والغرب... فلا تقتصر أهمية جنابي على كونه شاعراً ينثر الكلمات بحساسية مرهفة، بل يمتد دوره ليشمل النقد الأدبي والبحث الأكاديمي، والترجمة، حيث يعمل كحلقة وصل بين الأدب البولندي والعربي، مقدمًا للعالم العربي أعمال ميتسكيفيتش وميووش وشيمبورسكا وهربرت وميشليفسكي، وعشرات سواهم، مانحا هذه النصوص حياة جديدة تنبض بالحياة والحيوية بلغة عربية فصيحة وغنية. تجسد حياة وأعمال هاتف جنابي الأدبية مسيرة بحث متجدد عن الجمال والحقيقة في عالم مضطرب، لكنه يعكس صورة الإنسان الذي، رغم الغربة والتشرد والمعاناة، يظل متمسكًا بثقافته وجذوره على الرغم من انفتاحه على الآخر وتفاعله العضوي معه، متأملاً في القضايا الكونية التي تواجه كل فرد منا... "فالشخصية الإنسانية تغيرت بسرعة أكبر من أي وقت مضى، ومع ذلك فإن الروح تظل دائمًا روحًا". وهكذا يبقى شعر جنابي في تنوع أفكاره وإيقاعاته وأشكاله الفنية مثل القصص والروايات العظيمة، شاهدًا على الروح الإنسانية التي لا تزال، رغم كل شيء، تسعى إلى النور وسط ظلمات الوجود.
#يزن_البدر (هاشتاغ)
Yazan_Bader#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
(السينما ومرآة الواقع: تأملات في -يانال- لجاد أبو علي بعيون
...
-
تأملات حول كتابات أم الزين بن شيخة
-
The Words of the Father كتاب كلام الاب، جاكوب ليفي مورينو، ا
...
-
كلام الأب، جاكوب ليفي مورينو، السيكودراما وفلسفة الله.
-
السينما البريختيه- Dogville
-
-حياتنا المسرحية بين أرسطو وجاكوب ليفي مورينو-
-
أهمية المسرح العلاجي في الأزمات النفسية والاجتماعية.
-
أهمية المسرح العلاجي في الأزمات النفسية والاجتماعية.
-
ما هو Meisner Technique.؟؟؟
-
توظيف الذكاء الروحي بالعلاج بالسيكودراما.
-
العنف ضد النساء، والاستقواء عليهم.
-
العنف ضد النساء
-
المخرج البولندي تادوش كانتور ومسرح الموت
المزيد.....
-
أفلام عربية مشاركة في الدورة الـ75 لمهرجان برلين السينمائي
-
اختيار فيلم فلسطيني بقائمة لترشيحات جوائز الأوسكار
-
شغف المسرح يعيد الأخوين ملص إلى دمشق: تحدينا نظام الأسد في ع
...
-
القائمة القصيرة لترشيحات جوائز الأوسكار 79
-
فيلم صيني بيلاروسي مشترك عن الحرب العالمية الثانية
-
-آثارها الجانبية الرقص-.. شركة تستخدم الموسيقى لعلاج الخرف
-
سوريا.. نقابة الفنانين تعيد 100 نجم فصلوا إبان حكم الأسد (صو
...
-
من برونر النازي معلم حافظ الأسد فنون القمع والتعذيب؟
-
حماس تدعو لترجمة القرارات الأممية إلى خطوات تنهي الاحتلال وت
...
-
محكمة برازيلية تتهم المغنية البريطانية أديل بسرقة أغنية
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|