|
قراءة في مجموعة الشاعر مجبل المالكي (وشم على جبين النخل)
أحمد السعد
الحوار المتمدن-العدد: 8195 - 2024 / 12 / 18 - 16:17
المحور:
الادب والفن
ما يسم مجموعة مجبل المالكي هو خروجها عن الثيمات المكررة وولوجها عالما خاصا بها ، عالم هواؤه معبأ برائحة التاريخ والفكر والأسفار والأغاني والأيقاعات التي وسمت مدينة على هذه الأرض ، مدينة معطرة برائحة البخور والتوابل ، تضج اجواؤها بأيقاعات البحر ورقصات البحارة ، تصطف أشجار النخيل على ضفتي نهرها العظيم من الملتقى حتى الخليج كالوشم على الجبين . هذا التناغم من الألوان والروائح والتاريخ والطيبة والحناء ومواسم القطاف ورياح الجنوب الرطبة شكلت هذه اليوتوبيا السماوية التي اسمها البصرة ! فللبصرة وتاريخها ونهرها ونخيلها وترابها وعبقها ولأهلها يسكب مجبل المالكي في مجموعته عصارة عاطفة مشبوبة مسجلا ومدونا نفحات الحب وطقوس الأجلال وشغف الأنتماء والأرتماء بحضن المدينة الدافيء . كرس الشاعر جل قصائدة للبصرة مدينته السماوية التي يتماهى في مجموعته هذه مع فضاءاتها وأمتداداتها في عمق التاريخ والوجدان كاشفا عن روح المدينة الدافق بالدفء والسحر والحكايات . انه غزل من نوع خاص ، غزل يكتبه عاشق غارق في تفاصيل عشقه يهيم في محراب عشقة وولهه فيكتب بما يوحي له قلبه . هي البصرة " ما أحلى الأسماء" ويسترسل الشاعر في وصف حبه ولواعجه لهذه الحبيبة المشتهاة لرقعة الأرض اليوتوبية التي تسكن القلوب : " كل هوىً فوق رحيق عرائشها يخضر. ستبقى خضراءْ حتى لوهبت كل رياح الموت، وغاض ربيع الماء. " ** اللغة الشعرية تحقق منتظمها الفني الجمالي من حيث توليف الكلمات والجمل برشاقة وأيقاعية جمالية مفعمة بالشعور ، ونحن هنا بصدد نصوص منظمة نسقيا تقوده حركة الأتساق التقفوية المتوازنة محققة درجة ايقاعية مثلى تنبعث من صدى الأيقاع الداخلي . وهي تزداد غنى حين تمتزج بالعاطفة المشبوبة والتعلق الروحي والشغف اللامتناهي والشفافية المبهرة خارجة من أعماق روح جذلى تسبح بالجمال وتتعبد في محراب العشق حتى الذوبان فتتشكل أجزاء الصورة الشعرية من هذه الشذرات الصوفية مزدانة بأنتقائية عالية للمفردة وتوظيفها الذكي ، هنا نشهد تحولا خاصا للغة الشعرية المفعمة بالصور والرموز والأيحاءات الدالة على هذا الأنزياح اللغوي حيث التأكيد على الصور الشعرية يبلغ مداه الأقصى في استخدام الصور البلاغية : " شهد الماء ، وطعم العسل الأشهى ، فاكهة الجنة ، قنطار البستان ، شناشيل العصر الذهبي ، ترانيم ( الخشابة ) ، مرسى العنبر والهيل ، حقول الياقوت ، ضفاف الورد ، ووشم الخضرة ، احلى مدن الله ،وأزكاها فطرة ." نماذج لأنزياحات دلالية وأيقاعية يعمد اليها الشاعر ليعمق التأثير لدى القاريء ويوسع دائرة الرؤية للمتسع المنظور أمامه في المشهد المتجسد بالكلمات وأيحاءاتها ودلالاتها فالأستخدام الرشيق للمفردات وسلاستها يجمع شظايا الصورة ويؤطرها . " حينما اصطخب البحر ، وأحتدمت فوق عرش الضفاف الزحوف ، كور البرقَ في روحه ، وأمتطى مهرة الشمس ، لم تخلع الريح أغصان بزتِه ، لم يحن قامته الموت ، لكنما النزف باغته فانهمى مطرا باردا في ثرى الورد " لغة مجبل المالكي برغم بساطتها وسلاستها ، تجري بنعومة بين يديك ، طرية منسابة رقيقة تلمس فيها شفافية مبهرة وتلقائية مميزة فهي قريبة الى حسك وروحك ، ملامسة لمشاعرك مداعبة لأحاسيسك تدخل قلبك دون تكلف أو أستئذان فتتلقفها بفرح غامر وتمضي معها حتى تكتمل بهجتك وترتسم اللوحة كاملة في وعيك وذائقتك فتعشقها وتتبعها فتقودك الى واحة ظليلة من الأيحاءات والدلالات التي تتعمق كلما توغلت فيها فلا تبلغ منتهاها فهي تستدرجك لتتوغل اكثر في القصيدة فتضعك في قلبها بحميمية وود : "على موج احلامك الخضر أهبط طيرا بلون السماوات ، اوغل في لجة الحلم ، احتز سرب الرؤى ، والظلال التي تحتوي عطشي ، واحتراق البنفسج بين الضلوع . تظلين اقرب من ومضة البرق بين اشتعالين ، ......................................... يا ترى ما الذي اشعل الصبوة المستكينة ، اجج نبض القصيدة ، قطر دمع الحنين ؟؟ يا لهذا الجنون !!" ** التكرار ، تكرار النبض والأسماء بأيقاع واحد وموسيقى ذات نبرة وسيماء منسق يدلف الشاعر الى التاريخ من نافذته التي يطل منها على مدينته (اليوتوبيا) السماوية التي شكلت محورية الرؤية والأكتشاف في قصائد مجموعته فأنت ترى : "مثل جمهرة الطير من كل ما خلق الله ، يغفو على عرش جناتكِ البدو، والحضرُ، الزنجُ ، والفرسُ ، والكردُ ، والتركُ ، والغجرُ ، التركمانُ ، الهنودُ ، النصارى ، المقيمون في ظل خيمتك الأريحيةِ ، والراحلونْ .. هذه المراكمة للأسماء ودلالاتها وأمتداداتها في العمق التاريخي لمجتمع المدينة وأنصهار العناصر البشرية في بوتقة المدينة فأستوعبت الجميع بمحبة الأم الحانية . **المفردة الشعرية بالنسبة لمجبل المالكي لها أهميتها القصوى في البناء الشعري للقصيدة حيث يجعلها تتناغم حرفا وصوتا وأيقاعا من أجل ان يحقق التوظيف السليم لها وليفجرها في المشهد الشعري ، بأيقاع داخلي ودلالة شعرية تؤهلها لأستدراج ذهن القاريء لفضاء النص . هذه المفردة تتحدد غايتها من خلال اتساقها مع المفردات الأخرى في بنية النص متناغمة بنائيا وأيحائيا فالمفردة من خلال المعنى تعبر عن مكنونها لكشف معالم النص وتماسكه والمستوى المعجمي للشاعر لذلك تتحدد وظيفة المفردة . " ها أنذا أخلعُ قمصانَ الليلِ وأقشاشَ جلابيب الروحِِِ لأفتح للنهرِ المتألق بوابات حقولي ، وأزركش بالنسرين فضاءات مسراتي ، وسفائن عشقي ، أرقص حتى مطلع فجرٍ يكتظ بجذوته اهلي ونداماي "... الأنتماء للمكان وتشرب تفاصيله وتشعباته والتوغل عميقا في تاريخه وأستخراج ما خفي عن الأعين من مستكشفات الشاعر وأظهارها في النص الشعري منح القصائد بهاءا إضافيا ومنحه بعدا ثالثا فأنت تراه من زواياه جميعها يتشكل من شذرات وشظايا تتجمع في فسيفساء ضاجة بالألوان والحكايات والوجوه والأسماء وهي تنعكس في مرآة الروح لتتشكل منها مجتمعة لوحة متخيله لمدينة نائمة في قرارة الحلم يداعبها التذكر بين الحين والآخر فتستفيق كاشفة عن تفاصيلها وأسرارها ومكنونها عبر الزمن بكل ما أسبغه عليها لتبدو نموذجا لتشكيل صوري متعدد التمظهرات والتشكلات والتجليات فأنت تراه حسبما يصور لك عقلك ووعيك وعاطفتك ومشاعرك ، تراها قاتمة معتمة ضاجة بحزن وأسى تكتسي سماؤها لونا رماديا طاغيا يتحدى عينيك حين تحدق في تفاصيلها الدقيقة عبر حقب الزمان التي قست عليها وأحالت صورتها اليوتوبية الى خرائب وأشلاء ولكنك حين تغمض عينيك تراها وهي تشع جمالا ورونقا متمددة عبر تاريخها في عصور غبطتها وألقها وعندئذ تكون اللوحة أكثر اخضرارا وزرقة .. الشاعر يراها وهي بصورتها المتخيلة ولكنها عنده هي الحقيقة التي يلمسها بعقله وبشاعريته ووجدانه وعواطفه المتأججة وعشقه الفريد فيذوب فيها شعرا . " مشهد يبهر الروح ، والنخل في زهو غاباته جنة فوق عرش الشواطيء ، والأغنيات التي عطرت اقحوان الشفاه الطروبة ينساب ايقاعها العذب في موكب العاشقين لم يزل سورها الماء والغاب " هذه لوحة مختلفة تماما ، هي الصورة النائمة في أعماق روح الشاعر يستحضرها ليستعرض الوانها المشرقة السعيدة وهي تختال بخضرتها الفاقعة وزرقة مياهها وسماءها عندئذ تختفي تلك اللوحة القاتمة الألوان المبهمة الأفق الضاجة بالحزن والأسى . الشاعر يعيد خلق المشهد ويعيد تلوينه ليسحبنا الشاعر من ذهولنا ويدخلنا عالم المدينة التي تمتد امامنا زاخرة بألوانها الحقيقية فتغادر حلتها الرمادية مكتسية ثوبها الحقيقي الناصع المزركش بألوان الخضرة والجمال . يقول كوليردج أن الصورة- "مهما بلغ جمالها ومهما كانت مطابقتها للواقع، ومهما عبر عنها الشاعر بدقة، ليست هي الشيء الذي يميز الشاعر الصادق، وإنما تصبح الصورة معياراً للعبقرية الأصيلة حين تشكلها عاطفة سائدة، أو مجموعة من الأفكار والصور المترابطة أثارتها عاطفة سائدة".ويقول باشلار: "إن كل ما تحتاجه الصورة هو ومضة من الروح " فالشاعر يسكب من روحه في الصورة لتصير انعكاسا لشعوره وموقفه وعواطفه وأنتمائه وتعلقه وشغفه وهكذا تتشكل الصورة من شظايا جرت لملمتها وأعادة موضعتها في أطارها الشعوري لتتجسد امامنا ناطقة بالومضة الروحية التي سكبها الشاعر فيها . " ايتها الجوهرة المغروسة في قاع الروح ، أريقي بعض نبيذ الكوثر فوق شفاهي ، رشي بزلالك لفح جراحي ، طوحني الشوق لخضرة عينيك المقمرتين ، لخصلة ورد تتألق فوق جبينك ...."
#أحمد_السعد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تسامي ال(أنا) في مجموعة (طائر الملكوت) للدكتور مجبل المالكي
-
تقاد البؤرة في مجموعة (لاجنة خارج النافذه) للشاعر سهيل نجم
-
طائر الفلامنكو يحط في روضة الشاعر- قراءه في مجموعة الشاعر كا
...
-
عندما امطرت داخل روحي
-
رحلة الفقر والموت – قراءة في شعر صلاح شلوان
-
شاعرية اللغة في مجموعة ( غصن يزقزق في رماد ) للشاعر ثامر سعي
...
-
ديوان (سدرة الغروب) للشاعر مجبل المالكي وأشكالية القصيدة الق
...
-
قراءة لديوان (نثار الياقوت) للشاعر الدكتور مجبل المالكي
-
الولد البلوري- قراءه متأنيه في مجموعة الشاعر احمد جاسم محمد
-
الضياع بين دجلة والدانوب - قراءة فى قصائد مجموعة ( أطياف حال
...
-
لماذا يهولون حجم حزب البعث ؟
-
الشعارات والهتافات التى رددتها الجماهير يوم عاشوراء
-
دور المثقف فى عملية التغيير
-
خمس قصص قصيره جدا
-
الحراك السياسى العراقى والولادات الجديده
-
رسالة مفتوحه أسرة وكتاب وقراء الحوار المتمدن
-
هل انتهى شهر عسل حكومة المالكى والأدارة الأمريكيه
-
غرامة 400 الف دولار لصحفية سودانيه بسبب مقال حول لبنى الحسين
-
هل تستبعد الأيادى الأمريكيه عن أنقلاب هندوراس ؟
-
عن(أشرف) مرة أخرى
المزيد.....
-
لماذا أصبح أفضل كازينو على الإنترنت جزءًا من ثقافة اليوم
-
لماذا يتراجع الاهتمام باللغة العربية؟
-
أفلام عربية مشاركة في الدورة الـ75 لمهرجان برلين السينمائي
-
اختيار فيلم فلسطيني بقائمة لترشيحات جوائز الأوسكار
-
شغف المسرح يعيد الأخوين ملص إلى دمشق: تحدينا نظام الأسد في ع
...
-
القائمة القصيرة لترشيحات جوائز الأوسكار 79
-
فيلم صيني بيلاروسي مشترك عن الحرب العالمية الثانية
-
-آثارها الجانبية الرقص-.. شركة تستخدم الموسيقى لعلاج الخرف
-
سوريا.. نقابة الفنانين تعيد 100 نجم فصلوا إبان حكم الأسد (صو
...
-
من برونر النازي معلم حافظ الأسد فنون القمع والتعذيب؟
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|