أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - جدلية العقل والنقل: قراءة في فكر المعتزلة والأشاعرة















المزيد.....


جدلية العقل والنقل: قراءة في فكر المعتزلة والأشاعرة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8195 - 2024 / 12 / 18 - 12:14
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في تاريخ الفكر الإسلامي، تبرز قضية العلاقة بين العقل والنقل كإحدى أهم الجدليات التي أثارت حوارات عميقة وخصومات فكرية بين المدارس الكلامية والفلسفية، خاصة في ظل سعيها لفهم طبيعة الإيمان، وتأويل النصوص، وتفسير العلاقة بين الإنسان والخالق. هذه الجدلية لم تكن مجرد نقاش أكاديمي أو فلسفي، بل كانت انعكاساً لتفاعل العقل المسلم مع أسئلة الوجود الكبرى، ومحاولة للإجابة على تحديات عصرها الفكرية والعلمية والاجتماعية.

لقد جسّدت هذه القضية نقطة التقاء بين الموروث النصي الذي يمثله الوحي (القرآن الكريم والسنة النبوية)، والعقل الذي هو أداة الإنسان لفهم العالم وتأويل النصوص. ومع ظهور مدارس فكرية متعددة في العصر العباسي، برز تياران رئيسيان شكّلا وجهة النظر الإسلامية تجاه هذه العلاقة: المعتزلة، التي أعطت العقل سلطة عليا في فهم النصوص وتأويلها، والأشاعرة، التي تبنّت موقفاً توفيقياً يرى في النقل مصدر المعرفة الأساسي، مع اعتراف مشروط بدور العقل.

المعتزلة، التي اشتهرت بمدرستها العقلانية، قدّمت رؤية تقوم على تقديم العقل باعتباره معياراً نهائياً للحكم على النصوص الشرعية، خاصة عند التعارض الظاهري مع قواعد العقل أو مقتضيات العدل الإلهي. في المقابل، جاءت الأشاعرة بمحاولة لتجاوز صرامة المعتزلة، فعملت على بناء منظومة فكرية تجمع بين التسليم للنقل، والإفادة من العقل كوسيلة لفهم النصوص، ولكن في حدود لا تسمح بتجاوز الوحي أو معارضته.

هذه الجدلية لم تكن محصورة في قضايا العقيدة فحسب، بل امتدت لتشمل مفاهيم فلسفية وشرعية تتعلق بصفات الله، والقضاء والقدر، ومصير الإنسان، وأسئلة الخير والشر، مما جعلها تؤثر في مسار الفكر الإسلامي بأسره. ورغم اختلاف المنهج بين المدرستين، فإنهما تقاسمتا شرف إثراء التراث الفكري الإسلامي وأثارتا قضايا ما زالت محورية حتى يومنا هذا.

إن البحث في جدلية العقل والنقل بين المعتزلة والأشاعرة ليس مجرد استعادة لتراث فكري غني، بل هو محاولة لفهم كيفية استجابة الفكر الإسلامي لتحديات العصور المختلفة. كما أن الخوض في هذا الموضوع يفتح الباب لاستكشاف أبعاد العلاقة بين النصوص المقدسة والعقل الإنساني، ويثير تساؤلات ملحة حول إمكانية الجمع بين النقل والعقل في معالجة قضايا العصر الحديث، في ظل التحديات الفكرية والعلمية التي تواجه الأمة الإسلامية اليوم.

جدلية العقل والنقل بين المعتزلة والأشاعرة

جدلية العقل والنقل بين المعتزلة والأشاعرة تعد واحدة من أبرز القضايا الفكرية التي أثارت نقاشاً واسعاً في تاريخ الفكر الإسلامي، وخاصة في العصر العباسي الذي شهد ازدهاراً ثقافياً وفكرياً. هذه الجدلية تعكس تصورات مختلفة حول العلاقة بين الوحي والعقل، ودورهما في فهم النصوص الشرعية والتعامل مع قضايا العقيدة.

.1 الجذور التاريخية لجدلية العقل والنقل

المعتزلة: تأسست مدرسة المعتزلة في القرن الثاني الهجري، وارتبطت بشخصية واصل بن عطاء. تبنّت المعتزلة موقفاً واضحاً يُعلي من شأن العقل بوصفه أداة أساسية لفهم النصوص الشرعية وتفسيرها. وقد نشأت في سياق سياسي وفكري شهد جدلاً بين الاتجاهات الدينية المختلفة حول قضايا مثل القضاء والقدر وصفات الله.

الأشاعرة: نشأت المدرسة الأشعرية في القرن الثالث الهجري على يد أبي الحسن الأشعري الذي حاول التوفيق بين النقل (الوحي) والعقل، بعد أن خاض تجربة فكرية مع المعتزلة. كان هدفه تقديم عقيدة سنية تعتمد على نصوص الشرع، مع الاستفادة من أدوات العقل دون الاعتماد المفرط عليه.

.2 مرتكزات جدلية العقل والنقل

أ. عند المعتزلة

تقديم العقل: يؤمن المعتزلة بأن العقل هو المصدر الأول لمعرفة الحقائق، لأنه سابق على النقل، وهو الذي يُثبت صحة الوحي ويبرهن على صدقه.
العقل هو المرجع في فهم النصوص وتفسيرها، خاصة إذا بدا التعارض بين النص وظواهر الأمور أو الحقائق العقلية.


التأويل العقلي: تبنّى المعتزلة التأويل الرمزي للنصوص الدينية التي لا تتفق مع العقل، مثل الصفات الإلهية التي تُفهم على ظاهرها.
مثال ذلك تأويلهم لقوله تعالى: "يد الله فوق أيديهم" (الفتح: 10)، بأن "اليد" تعني القدرة أو النعمة، لأن إثبات اليد كصفة حسية يتعارض مع التنزيه.


أسس العقيدة المعتزلية:

التوحيد: تنزيه الله عن كل صفات البشر.
العدل: إنكار الجبر والإيمان بالاختيار البشري الحر.
الوعد والوعيد: الالتزام بمبدأ العدل الإلهي.
المنزلة بين المنزلتين: الموقف من مرتكب الكبيرة.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ب. عند الأشاعرة

التوفيق بين العقل والنقل:

- الأشاعرة رفضوا تقديم العقل على النقل، واعتبروا أن النصوص الشرعية (الوحي) هي المصدر الأول للمعرفة. ومع ذلك، فإن العقل مهم ولكنه تابع للنقل.
- اعتمدوا على مبدأ أن العقل يجب أن يتوقف عند حدود فهم النصوص، دون تجاوزها.

الإثبات والتفويض:

- اعتمد الأشاعرة التفويض أحياناً في فهم بعض الصفات الإلهية، مثل "اليد"، "العين"، و"الوجه"، مع إثباتها على ما يليق بجلال الله دون تشبيه.
- استعملوا التأويل العقلي ولكن بحدود أضيق مقارنة بالمعتزلة، معتبرين أن الوحي يأتي بحقائق تتجاوز قدرة العقل أحياناً.


أسس العقيدة الأشعرية:

التوحيد: إثبات الصفات الإلهية دون تشبيه أو تعطيل.
القدر: الجمع بين الاختيار والجبر من خلال مفهوم الكسب.
إثبات المعجزات: الاعتماد على الوحي لإثبات الأمور الغيبية.

3.نقاط الخلاف الرئيسية

أ. صفات الله

المعتزلة: صفات الله ليست زائدة على ذاته، وتأويلها ضرورة عقلية لتنزيه الله.
الأشاعرة: صفات الله ثابتة ولكنها ليست كصفات المخلوقين، ولا يجوز إنكارها أو تأويلها بشكل مفرط.

ب. القضاء والقدر

المعتزلة: الإنسان مختار تماماً في أفعاله، والله لا يُجبر أحداً على المعصية أو الطاعة.
الأشاعرة: الأفعال مخلوقة من الله، والإنسان يكسبها، وهو ما يجمع بين قدرة الله ومساءلة الإنسان.

ج. الإيمان والعقل

المعتزلة: الإيمان يجب أن يستند إلى قناعة عقلية، والبحث العقلي واجب على كل مسلم.
الأشاعرة: الإيمان بالنقل يكفي، ولا ضرورة للاجتهاد العقلي في الأمور الدينية.

4. التأثيرات الفكرية

المعتزلة: أثّر منهج المعتزلة في الفلسفة الإسلامية، وكان له صدى في التراث الكلامي والفلسفي عند الفلاسفة المسلمين مثل ابن سينا والفارابي.
لعب دوراً مهماً في تأسيس تقاليد عقلانية داخل الفكر الإسلامي.

الأشاعرة: أصبحت المدرسة الأشعرية المذهب الكلامي السائد في العالم الإسلامي، خاصة بعد أن تبنّتها الدول الإسلامية الكبرى مثل الدولة العباسية والدولة الأيوبية.
أثّرت على مدارس فكرية كبرى مثل المدرسة الغزالية، التي حاولت الجمع بين التصوف والعقلانية الشرعية.

5. الجدلية في السياق المعاصر

يستمر النقاش حول العلاقة بين العقل والنقل في الفكر الإسلامي المعاصر، حيث يُنظر إلى المعتزلة كرمز للعقلانية الدينية، بينما يُنظر إلى الأشاعرة كرمز للتقليدية المتوازنة.
النقاش يتناول أسئلة حديثة حول تفسير النصوص في سياق العلوم الحديثة، ومواءمة التراث مع العصر الحديث.

باختصار، فإن جدلية العقل والنقل بين المعتزلة والأشاعرة ليست مجرد خلاف فكري بل هي انعكاس لتحولات كبرى في التاريخ الإسلامي. المعتزلة قدموا مشروعاً عقلياً جريئاً، في حين قدم الأشاعرة رؤية توفيقية تجمع بين الوحي والعقل. استمر تأثير هذا الخلاف في تشكيل الفكر الإسلامي إلى يومنا هذا، حيث يواجه المسلمون قضايا معاصرة تتطلب إعادة النظر في العلاقة بين العقل والوحي ضمن سياقاتهم المتجددة.

في ختام هذا الطرح حول جدلية العقل والنقل بين المعتزلة والأشاعرة، يتبيّن أن هذه القضية ليست مجرد نقاش فكري أو تاريخي محصور في عصر بعينه، بل هي انعكاسٌ لطبيعة العقل الإنساني في سعيه المستمر لفهم العلاقة بين ما يتلقاه من الوحي وما يستنبطه من خلال التفكير الحر. هذا السعي لم يكن إلا محاولة للإجابة عن أسئلة وجودية عميقة ترتبط بمفاهيم التوحيد، والعدل الإلهي، والحرية الإنسانية، والحقائق الغيبية.

لقد كشفت هذه الجدلية عن عمق الفكر الإسلامي وقدرته على مواجهة التحديات الفكرية التي ظهرت في سياقات تاريخية مختلفة، حيث عبّرت المعتزلة عن ذروة المشروع العقلاني داخل الإسلام، بينما مثّلت الأشاعرة صوت التوازن بين الإيمان المطلق بالنصوص واحترام حدود العقل في التعامل مع قضايا الغيب. وبين هذين الاتجاهين، تشكّلت ملامح حوار فكري غني أضاف الكثير إلى التراث الإسلامي.

ومع ذلك، فإن هذه الجدلية ليست مجرد تراث نُطوي صفحاته، بل هي دعوة متجددة للتأمل في كيفية التعامل مع النصوص الشرعية في ظل تعقيدات العصر الحديث، حيث يواجه المسلمون تحديات فكرية وعلمية تجعل من الضروري البحث عن صيغة تجمع بين عقلانية التفكير وعمق الإيمان. هذه الصيغة ليست ترفاً فكرياً، بل حاجة حقيقية لضمان استمرارية الدور الحضاري للإسلام في عالم يتغير بوتيرة سريعة.

إن استحضار هذا النقاش اليوم ليس من أجل الانحياز إلى طرف دون الآخر، بل لفهم كيف يمكن لهذا التراث أن يثري الحاضر، ويمنحنا أدوات فكرية نتعامل بها مع القضايا التي تواجهنا. فالغاية النهائية ليست إثبات صحة المعتزلة أو الأشاعرة، بل تحقيق توازن عميق بين العقل والنقل يثري الإيمان ويؤكد قدرة الإسلام على الإجابة عن أسئلة الزمن الراهن والمستقبل.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفكر الفلسفي كقوة تاريخية: قراءة معمقة لدور الفلاسفة في الث ...
- فيلسوف قرطبة وصانع النهضة: قراءة في تأثير ابن رشد على أوروبا ...
- السياسة عبر الزمن: دراسة معمقة في تطور النظم والنظريات السيا ...
- العلمانية في الواقع العربي: قراءة في الجذور والتداعيات
- أنظمة الاستبداد: قراءة معمقة في تاريخ الديكتاتوريات وآثارها
- جون بولتون والأمن القومي الأمريكي: قراءة في فلسفة القوة وتحد ...
- الاستشراق اليهودي: قراءة نقدية في العلاقات بين الشرق والغرب
- الأبعاد السياسية للاستشراق: قراءة نقدية في تاريخ الهيمنة الا ...
- الإبادة المعرفية في العالم العربي: معركة الذاكرة والهوية في ...
- عبء الرجل الأبيض: استعمار مقنع في ثوب النبل الحضاري
- النضال الإنساني العابر للحدود: إرث راشيل كوري الخالد
- مذبحة القلعة: تشكيل مصر الحديثة على أنقاض الاستبداد
- الديكتاتورية بين الضرورة والاستبداد: قراءة فلسفية في جدلية ا ...
- أزمة المعرفة في الفكر الأوروبي: جذورها الفلسفية وتجلياتها ال ...
- الإبادة المنسية: جرائم الاستعمار الألماني في ناميبيا (1904-1 ...
- إرادة الشعب أساس الحكم العادل: قراءة في فكر جان جاك روسو
- إرادة القوة بين نيتشه وهايدغر: جدلية الوجود والتحرر في الفلس ...
- من حليف استراتيجي إلى عبء سياسي: هل تتخلى روسيا عن نظام بشار ...
- صراع البقاء: نظام الأسد بين القوة العسكرية والتحولات الإقليم ...
- منهج الفينومينولوجيا: استكشاف الحقيقة عبر تجربة الوعي


المزيد.....




- جدّة إيطالية تكشف سرّ تحضير أفضل -باستا بوتانيسكا-
- أحلام تبارك لقطر باليوم الوطني وتهنئ أولادها بهذه المناسبة
- الكرملين يعلق على اغتيال الجنرال كيريلوف رئيس الحماية البيول ...
- مصر.. تسجيلات صوتية تكشف جريمة مروعة
- علييف يضع شرطين لأرمينيا لتوقيع اتفاقية السلام بين البلدين
- حالات مرضية غامضة أثناء عرض في دار أوبرا بألمانيا
- خاص RT: اجتماع بين ضباط الأمن العام اللبناني المسؤولين عن ال ...
- منظمات بيئية تدق ناقوس الخطر وتحذر من مخاطر الفيضانات في بري ...
- اكتشاف نجم -مصاب بالفواق- قد يساعد في فك رموز تطور الكون
- 3 فناجين من القهوة قد تحمي من داء السكري والجلطة الدماغية


المزيد.....

- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - جدلية العقل والنقل: قراءة في فكر المعتزلة والأشاعرة