الطايع الهراغي
الحوار المتمدن-العدد: 8194 - 2024 / 12 / 17 - 17:50
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
"إذا جئناه معتصما وجدناه أبا لهب"
(معيـن بسيسـو)
"ضحكنا وكان الضّحك منّا سفاهة...."
(أبو العلاء المعرّي)
"باع المسيح دمه للملك الحمار
وانهزم الثوّار
وغرق العالم بالأوحال
وسقطت أقنعة المهرّجين في وحل العار"
(عبد الهاب البيّاتي )
"أيُّها النّسَّاجونَ: أريدُ كفنًا واسعًا لأحلامي".
(محمد الماغوط)
01/ عندما تبكي المدن
عندما يتحتّم على مدننا أن تمتحن قدرتها على البقاء في العراء لبعض الشّهر تندب حظّها وتتعطّل الحوّاس .تخذل البرودة تنطّع اللّغة.تتلاشى المفاهيم. تموت شبقا إلى انتماء ما.أمّا أنت فيثقل عليك الحزن.يلفّك الإحساس بالقماءة والدّون.وتبحر في غياهب الشّكّ المستراب.في لحظة ما- لحظة أثقل من أهوال الدّهر- اختلط عليك ما يجزيك بما يبكيك ويدميك ،يومَ جعل من نصّبوا أنفسهم قراصنة الرّحمان من جنّة الأرض جحيما.وحدث أن داهمتك أفكار لا وضوح فيها غير انجلاء الالتباس. وضوح الغموض الواضح وتسلّل اليقين وضياعه في سراديب الشّكّ.خلجات أحاسيس قلقة متداخلة مضطربة تطبق عليك الحصار،والهواجس من كلّ صوب تتدفّق. وليس لك من سبيل إلى ترتيبها ولجمها.دعها تنتظم كيفما اتّفق،دعها فمصيرها أن يستقرّ بها المقام في انتظام ما.ففي لحظة الشّرود القاتل لا تملك الأفكار إلاّ أن تنساب، وليس لها إلاّ أن تتداخل وتشرد. توكّأْ على اليأس الجميل والحزن المدمّر علّك تضمن أن لا تسمل عثرات الطّريق عينك إلاّ بمقدار/الجلاّد أتقن فعلته بمهارة، وبجلده فرّ تاركا الجمل بما حمل/الجراد والمغول، أسراب الغربان والتّتار في جولة استمناء في مخادع حريم السّلطان وجواريه/ طوابير الطّوائف مزهوةّ تهزّها النّشوة إلى ركعة في صحن المسجد الأمويّ.
ويا دمشق مهلا .ولا تنسي أنّ لك أختا إسمها حلب، في محنتها قست على جروحها وبكتك قبل أن تبكي نفسها.في اللاّذقيّة حكاية أخرى كان المعرّي أدرك كنهها منذ قرون: "في اللاّذقيّة فتنة ما بين أحمد والمسيح// هذا بناقوس يدقّ والآخر في صومعته يصيح".
في القلب غصّة وفي الطّريق شلاّل من الدّماء. دمشق وحش غياب، حلم مسروق.حظور في الغياب.
في باب التّحايل على مكر التّاريخ ومروقه (التّاريخ المنمّق بالكذب المقصود والمطرّز بسرديّات اتّفق المنتصرون على أن يخطّوها بتحايل أيضا)أكاد أجزم، وبكثير من الوثقيّة والاطمئنان،أنّ وحشيّا لم يقتل حمزة رغبة في التّحرّر من جحيم الاستعباد.أغلب الظّنّ أنّه كان أسيرا لانفلات رغبة دفينة في اشتهاء سيّدته هند بنت عتبة انتقاما من سيّده أبي سفيان. دمشق من عذابات سجن العائلة إلى أسْـر امبراطوريّة الفوضى.
وسقطت دمشق أسوة بشقيقتها في الضّفّة الأخرى= بغداد.هل حقّا استسلمت دمشق لمصيرها؟؟ لغاية ما اختارت أن ترفع رأية الاستسلام في الأيّام الأخيرة لعام النّحس.ما غتصبها الأعداء، وإنّما نحرها من يدّعون بها نسبا ووصلا.جحافل من الإخوة وأنفار من الأشقّاء وجمع ممّن قيل عنهم أنّهم في عداد الأصدقاء.
هذه المرّة - لسوء حظّك وحظّ عواصم العروبة التّائهة – كُتب عليك من الهمّ أكثر ممّا كُتب على الذين من قبلك.عليك أن تتبصّر بالبصر وبالبصيرة معنى أن يتخلّى عنك وعنها الله وملائكة الرّحمان ويتركوك وحيدا في الرّبع الخالي إلاّ من العراء والشّجن. حين(لسبب ما) يختار الرّسل والأنبياء أن يحموا شريعتهم بأن يصطفّوا مع الطّغاة حينا وأحيانا مع الأعداء،في تلك المعارك الخاسرة والمسيرة الحافلة بما تؤثّثه الهزائم من عجيب الشّنائع،يضيع حقّك في ما يلزمك من نصيب من الأحزان. تموت الرّغبة وهي بعدّ تأبى أن تكتمل وتفقد قدرتها على العويل والبكاء. لهفي على حالي وحالك،ولهفي على مدينة سلبها بنو جلدتها وبعض من أبناء العمومة الخلّص حقّها في نصيب من ملحمة استسلام دراميّ مريع، من يدري لعلّها تحتاجه يوما ما لتتطهّر به من عار ما سيلحقها من أدران. ضنّ عليها أبناء الحلال من قومنا بصمود( وليكن متهوّرا)يشهد لها يوم تستعيد ذاكرتها وتذاكر دروسها أنّها انهزمت وهي بعد واقفة. لم تترك عروس الشّام لعشّاقها والمتيّمين بلوعتهم في التياعها الفرصة ليندبوا كما يجب حظّهم وحظّها في متّسع من الوقت، لم تترك لهم فرصة ليبتسموا ابتسامة يختلط فيه الضّحك الهستيريّ الصّادق ببكاء أكثر صدقا.ابتسامة من عجز عن تشرّب مرارة الهزيمة في موت بطيئ يليق بحجم الفاجعة.لهفي على دمشق.
هول الواقعة(ولها في الذّاكرة حَـفْر وأشباه ونظائر= ليلة سقوط غرناطة وقصيدة رثاء الأندلس نمذوج) يجعل من الباقي محظ تفاصيل، قد تصلح مادّة ثريّة لمن رام كتابة المراثيّ وحنّ إلى تدبيج روايات المآسي.
وينتصب السّؤال كما تنتصب الكارثة،مثقلا بشحنة درامية أكثر هولا من الفاجعة.هل حقّا سقطت عروس الشّام؟؟ آه من لوعة تسوّل الأجوبة. لا جدوى من سؤال الإرباك وتساؤلات الحيرة وأسئلة الالتياع واللّوعة.عليك أوّلا أن تتأسّى بأن لا تضمّد الجرح بالجرح مهما تعفّن،وعليك أوّلا أيضا أن لا تطرد عنه الذّباب، وعليك ثانيا أن لا تداري الأشجان.عليك أن تصدّق كم أنت وحيد في وحدتك،غريب في غربتك،تركوك حيث لا ربّ ليرأف بك ساعة الضّيم فيطعمك من أمن ويأمنك من بطش وخوف،ولا مسيح إلى مملكته تشدّ الرّحال عندما يضيق بك الحال لينصرك على الغزاة وعلى القوم الظّالّين،ولا نبيّ عن نفسك تستأمنه فيواسيك ويشاركك بعضا من أتراحك. لم يتسلّل إليها الأعداء في زمن القحط والفناء من حدودنا ولا من ثغورنا، وإنّما إليها تسرّبوا من عيوننا.كلّ كلام بعد ذلك لن يكون إلاّ مأتما وندبا لحالة من اليتم المميت.
عندما تتباكى المدن تمّحي الأبعاد وتزول.تضرب العواصم مواعيد لتتراثى.يخيّم شبح القحط. يتسربل الموت بلون الموت. ترعد السّماوت غضبا،تنحبس الأنفاس،تفقد الأحزان رونقها. لا طعم لها ولا بهاء،فتكون أشدّ مرارة من العلقم. يلتحف الحزن برداء أصفر ذابل.تخرس الكنائس،كلّ الكنائس. يصيب االوجوم والذّهول كلّ المآذن.يتساوى الضّدّ بضدّه.تسكن البهتة كلّ الأفئدة وتتعطّل الأفهام.تنساب الهزيمة بين الأزقّة القديمة وكقدر محتوم تهيم.
هل أبصرتم حزنا بائسا شاحبا ذليلا ينهشه الخجل،وهو من الخجل مرتعب؟؟.هل اكتويتم ساعةَ بثقل الوجوم الذي يلبس عاصمة وهي رغما عنها تنأى عن نفسها وعن أهلها وذويها وبنيها وكلّ من فيها،ترحل عنهم،وفي البال أن ترحل منهم إليهم؟؟ذلك هو لون المدن وحال المدن لمّا يكون مصيرها أن تتهاوى.
يوم آخر من أيّام القحط والجدب في فيافي العرب العاربة منذ بات لملوك طوائفنا تاريخ مع الهزائم والخيانات.عاصمة أخرى حكموا عليها أن لا تكون في عصمة،في واضحة النّهار،في بهتة تخاتل الزّمن، في لحظة هي الدّهر،لحظة انتقام من عهرنا وعارنا وقبحنا، يلفّها الظّلام، تبحر في رحلة من المجهول إلى المجهول،وفي أحزانها تغوص.
آه يا زمن الفضيحة.كبيرة هي المأساة.وثقيلة هي المحنة لمّا تتيتّم المدن وعن أبنائها تنفصم .في ضرب من المواساة والتّأسّي سنظلّ نعزّي النّفس ونردّد =هي في الذّاكرة رابضة، وفي غيابها ستظلّ أكثر حضورا.
02/ ومن الهزائم ما قتل
أيّها القاتل.قف،لا تكن في عجلة من أمرك. ولا تكن بحِلمك ضنينا.قف حتّى يستردّ القتيل أنفاسه ويعود من بعيد،حتّى تتمكّن القتيلة من إعداد مرثيّة تحتفي بموتها الفجئيّ. قف وتمهّل فقط بما يكفي لضبط اللّحن الملائم لنغم الجنازة.
ولنا مع الهزائم تواريخ ومع المهازل مواعيد/ ولنا مع التّهوين حكايات.
++ 1492 ،من نتائج تهافت المماليك سقوط غرناطة، آخر معاقل العرب في الأندلس. بعد أن حكموها قرابة الثّماني قرون. هول الحدث أسطرته الذاكرة الشّعبيّة واختزلنه في أمرين= مايُروى عن تأنيب عائشة (الملقّبة بعائشة الحرّة) لابنها عبد الله الصّغير أمير غرناطة :"ابكِ مثل النّساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرّجال"، وما يُتناقل عن تسميّة المكان الذي ألقى منه نظرته الأخيرة على غرناطة= زفرة العربيّ الأخيرة.
++1948 = ضاعت فلسطين. ولم يبق لعروش قُـدّت من قصب وتزعم أنّ لها بالهمّ العربيّ نسبا إلاّ الاحتفال السّنويّ بذكرى النّكبة على أنّه حدث قوميّ جلل، الإخلال به يجعلك في خانة الخونة والعملاء.
++ 1967 = داست عصابات آل صهيون على رقابنا وأجهضت حلم استعادة جزء من كرامة مهدورة في أشنع هزيمة عسكريّة وحضاريّة وسياسيّة. في أقلّ من أسبوع احتلّت "دولة إسرائيل" أضعاف ما استوطنته سنة 1948 .وبعقليّة المكابرة اعتبر فرسان أمّة العرب العاربة الأمر مجرد نكسة لا غير، إن هو إلاّ عدوان يتطلّب محو آثاره، ما دمنا خسرنا معركة ولم نخسر حربا(في قاموس الأردن وسوريا: نكسة حزيران،وفي قاموس مصر النّاصرية: نكسة 67).
++ 2003= ذات يوم أغبر مأتميّ مشحون بالرّوائح الكريهة لهزيمة كريهة، بغداد (مدينة السّلام) بدون سابق إعلام تنهار تحت معاول الهدم اليعروبي،ّ وتتباهى أنظمة عروش الخشب وتفاخر بتسليم عاصمة عربيّة لغراة قادمين بعضهم من وراء البحار والبعض الآخر من أدغال التّاريخ في أكثر المشاهد مأساويّة وإذلالا.
++ وماذا عن طرابلس ليبيا وبيروت فخر العروبة؟؟ رجاء لا تنكأ الجراح. تلك حكاية تشيب من هولها الولدان.
دمشق، من حكم طاغية من طائفة بعينها إلى حكم جحافل من الطّوائف متعدّدة الجنسيّات عابرة للقارّات/ من دولة الحاكم بأمره على غرار كلّ الحكّام العرب(حافظ الأسد ثمّ وريثه بشّار)إلى دولة الحاكم بتكليف من غيره.مرسوم رسميّ بأمر عليّ من البيت الأبيض وأحوازه.انهزم الطّاغية، وانتصر التّتار والمغول. فأيّ مصير لدمشق الجميلة؟؟.
من بطش بشّار الأسد سليل التّوريث إلى "بركات" وتعاويذ الجولاني وريث القاعدة وسليل داعش = لا ثورة ولا هم يحزنون/الإطاحة بنظام آل الأسد والاستيلاء على البلاد انتصار موصوف لأمريكا وحلفائها وجنديّها في المنطقة(الكيان الصّهيونيّ)وبدرجة أقل انتصار لتركيا العثمانيّة وأحلامها التّوسّعيّة. أمّا الأنظمة العربية مجتمعة ومنفردة فهي(والمجموعات الإرهابيّة)مجرّد دمى وأدوات تنفيذ،وبعضها يكتفي بأن يمثل حسابا مصرفيا لا أكثر.أهدافها ومخططاتها التي تحلم بإنجازها تتجاوز قدراتها وحجمها السّياسيّ /من حكم القبضة الحديديّة وآفة الاستبداد وبلاويه إلى حكم الملاليّ وأيات الله وغرائبها.
ماذا ستغني فيروز لدمشق ؟؟.فيروز الصّوت الملائكيّ لن تشدو على أنقاض دمشق.
وماذا سينشد ذاك الذي اسمه المتنبّي لو داهمته الحمّى وبُعث حيّـا؟؟ "ما تفلح عرب ملوكها عجم".
وماذا عن شيخ معرّة النّعمان وهو يرى العقل يُسحل؟؟جوابه جاهز:"كذب يقال على المنابر دائما//أفلا يميد لما يقال المنبر؟".
دمشق،سلامي إليك/ سلامي عليك/ كثير من السّلام / كثير من الحبّ/ كثير من العتاب والملام.
ما أروع حزن المدن وما أجلّ قداسته عندما يتسرّب إليها الحقد.
دمشق سنظلّ ننتظر صوتك. فهل سيطول صمتك؟؟ لهفي عليك لو ضاعت يوما ملامحك.
رحم الله شاعر التّرحال والمنافي عبد الوهّاب البيّاتي=
" آه يا قبر حكيم نام بين الفقراء/
قم تحدّث.نحن جيل الموتى بالمجان جيل الصّدقات/
هزمتنا في مقاهي الشّرق حرب الكلمات.".
#الطايع_الهراغي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟