|
في تدبر سورة الشمس
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 8194 - 2024 / 12 / 17 - 03:05
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
سورة الشمس بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ {وٱلشَّمۡسِ وَضُحَىٰهَا (1) وَٱلۡقَمَرِ إِذَا تَلَىٰهَا (2) وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّىٰهَا (3) وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَغۡشَىٰهَا (4)}. التعديد والقسم وٱلشَّمۡسِ إعرابا واو حرف وحرف جر والشمس معطوف على ما قبله تقديرا مجرور بحر الجر علامة جره الكسرة على أخره، وشبه الجملة من الجار والمجرور خبر لمبتدأ محذوف تقديره (أقول أو أبدأ)، وليس الواو هنا واو القسم كما يشاع غالبا، فلو كان هناك قسم فلا يجوز أن يكون أقسم والشمس بل أقسم بالشمس أو لا أقسم بالشمس كما كان في السورة السابقة عندما أقسم الله بصيغة {لَآ أُقۡسِمُ بِهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ}، فالقسم عادة ما يكون بالشيء وليس مع الشيء، ويقول علماء العربية أن القسم من أساليب التوكيد، وهو جملة فعلية أو اسمية تُؤكد بها جملة خبرية موجبة أو منفية، ويُستخدم فيها ألفاظ دالة على القسم أو اليمين، نحو حلفت بالله، أقسمت، آليت، لعمرُك، أمانةُ الله، عليّ عهد الله، أسلوب القسم إذن يتضمن جملتين: أولاهما جملة القسم، وهي الجملة المؤَكَّد بها، والأخرى جملة جواب القسم، وهي المُقْسَم عليها، وأبرز أحرف القسم هي "الباء والواو والتاء" وكلها حروف جر، والباء هي الأصل مثل {لأقسم بالخنس الجواري} وهي أصل حروف القسم لأن أصل معانيها الإلصاق فهي تُلصق فعل القسم بالمقسَم به، ولأنها الحرف الذي تصل به الأفعال القاصرة عن التعدي إلى مفعولاتها، والتقدير في القسم، أقسم بالله كما قال الله تعالى {وأقسموا بالله جهدَ أيمانهم ، وهي تختص دون سائر أحرف القسم بما يلي: • أنها تدخل على الضمير، نحو: أقسم به لأفعلن. • جواز ظهور فعل القسم معها، نحو: أقسم بالله لأساعدنَّ المحتاج. ويجوز حذف الفعل كذلك: بالله لأقولن خيرًا. • جواز استعمالها في الحلف على سبيل الاستعطاف، نحو بالله عليك ساعدني!. والحرف الثاني من أحرف القسم هو الواو وهي أكثر استعمالاً من الباء، ويشترط في استخدامها: • ألا تدخل على الضمير، فلا يُقال "وه" كما قلنا "بِه" أعلاه. • حذف فعل القسم معها بسبب كثرة الاستعمال وعدم الضرورة، فلا يُستساغ أن نقول أقسم والله لأفعلنّ الواجبَ. • عدم جواز استعمالها في القسم على سبيل الاستعطاف، فلا يقال "وحياتِك ساعدْني" كما قلنا مع الباء "بحياتك ساعدني". يقول أبو تمام (فلا وأبيك ما في العيش خير... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء) لاحظنا أن المقسَم به اسم ظاهر، ولم نجد مع الواو فعل القسم، كما نلاحظ أن الواو في شروطها هي نقيض الباء، إذا تكررت الواو في أسلوب القسم فاعلم أن الأولى فقط هي للقسم، وسائر الواوات للعطف كقول الله تعالى {والليل إذا يغشى* والنهار إذا تجلّى، وما خلق الذكر والأنثى} ، ومن هذا نجد أن الواو المذكورة في أفتتاح سورة الشمس لا تنطبق عليها شروط واو القسم التي ذكرها أهل الفن، وبالتالي فالشمس ليس مقسوما به ولا وجود لصيغة القسم المزعومة والتي يجب أن تكون (أقسم والشمس وضحاها) بل الصحيح هو (أقسم بالشمس وضحاها). يبدأ العد والذكر من بعد الشمس بالقمر إذا تلاها {وَٱلۡقَمَرِ إِذَا تَلَىٰهَا} وهنا توجد نكته عقلية لا بد من الأنتباه لها وهي تقديم الشمس على القمر لسببين، الأول وجود الشمس يكون علة وسبب لوجود القمر بموجب نظام الجاذبية الكونية في ما يعرف بقوانين الحركة الكونية والأفلاك، فالأرض تدور في جاذبية الشمس والقمر يدور في جاذبية الأرض وكذلك صعودا ونزولا، أي كل منهم في فلك يسبحون {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، والسبب الأخر مبني على السبب الأول وهو أن الله خلق الشمس أولا كمركز للمجموعة الشمسية وهي نجم مستقل بذاته، والأرض كوكب تابع للنجم في الحركة والسير والقمر تابع للكوكب فيها أيضا، فالتسلسل يكون من الأعظم للأدنى، بنفس الفهم يذكر الله دور الشمس على الإنسان وساكن الأرض، فالنهار ما هو إلا تجلي للشمس وإظهار لوجودها {وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّىٰهَا}، وجلاها الهاء تعود للشمس والتجلي بمعنى (تجلَّى فعل يتجلَّى، تَجَلَّ، تَجَلّيًا، فهو مُتجلٍّ، والمفعول مُتجلًّى للمتعدِّي، بمعنى إنكشف واتّضح، بدا للعيان، ظهر)، أما الليل فهو ليس غيابا للشمس وذهابا الى مكان أخر، بل هو غشاوة وقتية وحجب تجليها عن مكان ما لفترة ما حتى تزول أسباب الحجب بالدوران مرة أخرة والعودة إلى نفس موقع التجلي الأول {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}، فلا يمكن أن يجتمع الليل والنهار معا ولا يمكن أن يغيبا معا بقوله تعالى {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}. هذا الترتيب الكوني للشمس والقمر والليل والنهار هو أساس أو جزء من أساس النظام الكوني الفلكي كله، بموجب ألية بناء الوجود الكلي للوجود ، فلا الشمس خارج هذا البناء الذي يعتمد مثلا على الحركة الدائرية الحلقية أو الحولية أو ما يسمى بالفلك الدوار ولا يخرج من نطاق الجاذبية المتبادلة التي تحكم الوجود أنتظاما وترتيبا وحفظا وأستمرارية في الحركة الدوارة، الأمر غير مقتصر بهذا على السماء والأرض فقط، بل حتى على النفس التي تعمل وفق قاعدة ثنائية أثر التجاذب والدوران بين شر الفجور السلبي والتقوى العمل الإيجابي لتستوي وليس بمعنى سواها أي صنعها، فالأستواء هنا هو نفس دلالة أستواء الوجود {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ}، والتسوية الخلقية هيفي قوله تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، فالله خلق النفس مستوية واحدة معتدلة في كل شيء وما يفسدها هو وجودها في الوجود أثرا متبادلا بينها وبينه {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}، فالوحدة الخلقية هنا تشترط الأستواء والعدالة والتساوي، والتسوية هنا لا تتم إلا بالإلهام لها بما يعني وضع سر الأستواء والتعادل في مكنونها التكويني الأصل الذي تتطور وتتفاعل وتعمل به، أما صلاحها وفسادها وكذلك صلاح الوجود وفساده فهو يخضع لقاعدة الفعل الذاتي ولا يكون للفعل الخارجي دور ما لم يكن الفعل والفاعل الداخلي قادر على التفاعل معه، لذا قال الله تعالى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} {وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَىٰهَا (5) وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا طَحَىٰهَا (6) وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا (7) فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا (8) قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا (9) وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا (10)}. الأستواء والطغيان يظن البعض ممن لا يتعمق كثيرا في فهم البناء الفكري للقرآن وأرتباطاته البينية والدلالات التواصلية بين الآيات فيه، وكأنه يشير إلى اللا نسقية المحدد التي تجمع بينها، ويضرب مثلا هن هذه الآية التي تتحدث عن طغيان ثمود وكذبها وعلاقة ذلك بالنظام الكوني والنفسي الذي كانت تتحدث عنه السورة كأنتقاله غير واضحة الأسباب والعلل {كَذَّبَتۡ ثَمُودُ بِطَغۡوَىٰهَآ (11)}، الحقيقة التي يجب أن نبينها هنا أن الله عندما يتحدث عن الأستواء في الوجود والتسوية اللازمة له، إنما يتحدث عن أسباب البقاء السليم، فطالما الوجود يتحرك بقوانين منضبطة ومحترمة ومرعية لا وجود للفساد فيه، ولكن عندما يتدخل الإنسان في هذا النظام ويحاول الأعتداء عليه وأنتهاكه تحدث الكارثة النسبية التي تزداد مع الإفراط في الفساد وهو الطغيان، فثمود عندما كذبوا نظام الوجود بتكذيبهم رسل ربهم وأعتدوا على آيات الله وطغوا كانت نهايتهم بطغيانهم، وهذا مثل مادي وتاريخي حقيقي للإنسان الذي يجب أن يعي أهمية الأستواء في حياته كما خلقه الله، وأن لا يطغى في وجوده فيكون ذلك سبب لهلاكه، إذا ذكر ثمود وكذبهم وطغيانهم لم يكن خارج السياق التنبيهي الإرشادي الذي يصل إلى مرتبة ودرجة المولوية والإلزام عند من يلقى السمع وهو شهيد {إِذِ ٱنۢبَعَثَ أَشۡقَىٰهَا (12) فَقَالَ لَهُمۡ رَسُولُ ٱللَّهِ نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقۡيَٰهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمۡدَمَ عَلَيۡهِمۡ رَبُّهُم بِذَنۢبِهِمۡ فَسَوَّىٰهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقۡبَٰهَا (15). أنتهت.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عالم ما بعد الأممية
-
رديها
-
الكتاب المبين وكتاب مبين دلالات ومقاصد
-
لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞ¯
...
-
تدبر سورة الزمر
-
اسماعيل الذبيح
-
تدبير سورة يس
-
فاطر السموات والأرض
-
رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ
-
خَلۡقَ ٱلۡإِنسَٰنِ بين النظريات والأراء
...
-
ما معنى الجنة التي كنتم توعدون؟.
-
نوح رسول قومه هل كان واحدامن عدة رسل؟ وما معنى كلمة نوح؟
-
حكاية الثقافة في العراق بعصر الملالي
-
علة التأخر في بناء واقع جديد
-
الخير والشر وخلافات المسلمين على الإصالة فيهم أو الكسب
-
حقيقة معركة بدر من نصوص القرآن الكريم
-
لمذا سميت سورة يونس؟
-
في تدبر سورة الأعراف
-
في معنى رجال الأعراف قرآنيا
-
خمريات... وتريات ... أوهام وأحلام
المزيد.....
-
مقتل مسؤول كبير في الجيش الروسي ونائبه جراء انفجار بموسكو
-
-كان ضابط مخابرات بنظام الأسد-.. سكان محليون يكشفون لـCNN حق
...
-
-هل يعتقد أنه سيعود للسلطة؟!-.. مراسل CNN يعلق على بيان بشار
...
-
وانغ يي: الصين ستساعد سوريا في الدفاع عن سيادتها
-
لأول مرة منذ 8 سنوات.. سفينة أمريكية تزور ميناء في كمبوديا ا
...
-
مقتل قائد قوات الدفاع الإشعاعي والكيميائي والبيولوجي الروسية
...
-
-أكشاك ماهر الأسد- وصلوات الجامعات وأسئلة الشارع السوري (فيد
...
-
مستعينة بروسيا.. إسرائيل تبحث عن رفات الجاسوس إيلي كوهين في
...
-
الولايات المتحدة و-القتل خنقا في الأحضان-!
-
اتهام رجلين بتوريد أسلحة أمريكية لإيران تسببت بمقتل 3 عسكريي
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|