ضيا اسكندر
الحوار المتمدن-العدد: 8193 - 2024 / 12 / 16 - 11:52
المحور:
كتابات ساخرة
في عام 1989، خلال اعتقالي بتهمة الانتماء إلى رابطة العمل الشيوعي (حزب العمل الشيوعي)، رغم أنني كنت حينها عضواً في الحزب الشيوعي السوري المنضوي تحت لواء الجبهة الوطنية التقدمية، كنتُ أعيش وهم الحصانة من الاعتقال والتعذيب، كغيري من الرفاق، بفضل انتمائنا للجبهة.
لكن تلك الحصانة المزعومة لم تصمد طويلاً؛ إذ وجدت نفسي في أروقة فرع أمن الدولة بكفر سوسة، دمشق، محاطاً بأسئلة التحقيق التي لم ترحم. بين عشرات الأسئلة التي انهالت عليّ، وقف المحقق فجأة ليسألني بصوت يقطر اتهاماً:
- تدّعي أنك جبهوي، حسناً، لماذا إذن شطبتَ اسم الرفيق جميل الأسد من قائمة الجبهة في الدورة الانتخابية الأخيرة لمجلس الشعب؟
صعقني السؤال، وكأنّه ضربة غير متوقعة في معركة خاسرة. كيف عرفوا؟ كان اسم جميل الأسد قد طُمس بقلمي، ولكن في غرفة سرية، بعيداً عن الأعين. لحظة إدراكي لقدرتهم على كشف تفاصيل كهذه أشعرتني أنني أواجه منظومة تراقب حتى الهمسات في صدورنا.
تسلحت بالإنكار، وأجبت ببرود مدروس:
"أنا ملتزم تماماً بتعليمات الحزب، التي تحثّنا على انتخاب القائمة كما هي، دون تعديل أو حذف."
لكن داخلي كان يضجّ بالتساؤلات: أي قوة هذه التي تلتقط أثر قلم عابر في غرفة مغلقة؟ وأي نظام هذا الذي يطاردك حتى في اختياراتك الأكثر سرية؟
في تلك اللحظة، لم يكن السؤال عن شطب اسمٍ من قائمة انتخابية فقط؛ كان عن شطب حرية الإنسان في أن يختار، في أن يعبر عن نفسه، في أن يخطّ بيده ما يؤمن به. كان ذلك السؤال إعلاناً بأن الغرفة السرية ليست سرية، وأن النظام لم يكن يكتفي بمراقبة ما نقوله أو نفعله، بل يطارد حتى نبضاتنا التي لم ننطقها.
حين أنهيت إجابتي، كنت أعلم أن كلماتي لم تُقنع المحقق، لكنني أدركت حقيقة أعمق: أن الاعتقال لم يبدأ في تلك الغرفة، بل بدأ يوم استبدلنا قناعاتنا بالخوف، وحريتنا بالصمت. ربما شطبت اسماً يومها، لكنهم شطبوا أشياء أكبر في داخلنا. ويبقى السؤال الأكثر إلحاحاً: كم من الأسماء والأحلام ما زالت بحاجة إلى أن تُعاد إليها الحياة، بعد أن زال الخوف وسقط الطاغية، لتُرفع الأقلام وتُفتح الصحف من جديد؟
#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟