|
الفلسفة الأوروبية في العصور الوسطى، وحديث عن الفيلسوف الإيطالي الانتهازي ميكافيللي
غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني
الحوار المتمدن-العدد: 8192 - 2024 / 12 / 15 - 22:19
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الفلسفة الأوروبية وفلاسفتها منذ القرن الخامس عشر حتى القرن السابع عشر الفلسفة الأوروبية نهاية القرون الوسطى
عصر النهضة والثقافة البورجوازية الجديدة: لقد تفوقت الثقافة البرجوازية المبكرة، سواء بموسوعيتها أو بعمقها وقيمتها، على الثقافة الكنسية – الاقطاعية، وأحرزت انجازات رائعة في ميادين الادب، والمرسم، والنحت، والفن المعماري، والعلم، والفلسفة. وكان من العناصر الرئيسية لهذه الثقافة – الاقرار باهتمامات الشخصية الانسانية وحوقها، ارتباطاً بالتطورات الفكرية العقلانية في إطار الفلسفة الأوروبية الحديثة كتتويج للأوضاع والعلاقات الاقتصادية البورجوازية المتنامية وصولاً إلى عصر النهضة المنبثق من الحداثة الفكرية التي نعني بها "عائلة الخطابات وأساليب التفكير التي انبثقت في عصر النهضة الأوروبية (في القرن السادس عشر تحديداً) في أوروبا الغربية نقيضاً لعائلة الخطابات وأساليب التفكير التقليدية التي كانت سائدة في العصور الوسطى، وقد صاحبت الحداثة الفكرية سيرورة تحديث المجتمع الأوروبي وانتقاله من مجتمع زراعي إقطاعي بدائي إلى مجتمع صناعي رأسمالي تقاني مطور. ولئن برزت هذه العقيدة الجديدة في شكلها الصريح الواعي في فرنسا القرن الثامن عشر، فإنها وصلت أوجها في المادية الثورية الألمانية في منتصف القرن التاسع عشر، وبالتحديد في ماركس وإنغلز، فقد تولدت عقيدة التنوير ونمت وازدهرت في سياق انتقال مجتمع أوروبا الغربية من المجتمع الزراعي الإقطاعي البدائي محدود الأفق إلى المجتمع الصناعي الرأسمالي المتطور لانهائي الأفق، لكن هذا الانتقال لم يكن عملية سهلة ولم يتم دفعة واحدة، وإنما احتاج إلى أربعة قرون على الأقل من المعاناة الممضة على جميع الصعد. وبالتحديد، فقد استلزم ثلاثة أنماط من الثورات الجذرية لكي يكتمل"([1]): الثورات الاقتصادية (الثورة التجارية وما صاحبها من توسع جغرافي، الثورة الزراعية التي بدأت في إنجلترا في منتصف القرن السابع عشر، الثورة الصناعية التي بدأت في إنجلترا في منتصف القرن الثامن عشر)؛ الثورات السياسية البرجوازية التي حققت كثيراً من المهمات الديموقراطية لمجتمعات أوروبا الغربية (الثورة الهولندية في مطلع القرن السابع عشر، الثورة الإنجليزية منذ 1641-1688، الثورة الفرنسية الكبرى من 1789 – 1815، والثورة الألمانية في منتصف القرن التاسع عشر)؛ الثورات الثقافية الكبرى (النهضة الأوروبية والإصلاح الديني في القرن السادس عشر، الثورة العلمية الكبرى في القرن السابع عشر، والثورة الفلسفية التنويرية في القرنين السابع عشر والثامن عشر). بهذه الثورات وغيرها من الشروخ حققت أوروبا الغربية انتقالها التحديثي من مجتمع الطبيعة إلى المجتمع المدني، وبالطبع، فقد أدت هذه الثورات والشروخ جميعاً دوراً في بناء فكر الحداثة. ولعله من الضروري هنا تحديد السمات الرئيسية لعقيدة التنوير هذه والتي تجعل منها تحديا مصيريا لنا ولغيرنا من شعوب الحضارات غير الأوروبية.
أبرز سمات هذه العقيدة الجديدة هي([2]): المادية، أي اعتبار الطبيعة كيانا مادياً مستقلا وقائماً في ذاته، تحكمه مبادىء وقوانين ونظم قابلة لأن تعرف، واعتبار الإنسان جزءاً من الطبيعة، وقوة طبيعة متميزة برزت حصيلة قدم العالم وتنوعه اللانهائي؛ الروح النقدي المتواصل، أي رفض سلطة المألوف وسلطة السلف وسلطة الغيب، ونزع هالة القدسية عن الأشياء والعلاقات، والالتزام بالعقل العلمي سلطة رئيسية للأحكام. الثورية، أي إدراك تاريخية الطبيعة والمجتمع البشري، وإدراك الذات المدركة بصفتها قوة اجتماعية ثورية. اللاغيبية التي تصل أوجها في الإلحاد، إذ سعت عقيدة التنوير إلى إقصاء المفهومات الغيبية من المعرفة والعلم أولاً، ثم من الأخلاق والتاريخ. وفيما كانت هذه المفهومات تشكل محور اهتمام فلسفة العصور الوسطى، فقد أضحت هامشية مهمشة في الفلسفة الحديثة. اعتبار المعرفة العلمية قيمة قائمة في ذاتها ومطلقة الاستقلالية. فهي لا تقبل أي سلطة أو قيد يفرض عليها من خارجها. فقيودها، إن وجدت، تنبع من داخلها، ومن داخلها فقط. إن المعرفة قوة([3]) قائمة في ذاتها، لا تنحني إلا لنفسها، ولا تهدف إلا لذاتها. إنها التجسيد الأكبر لقوة الإنسان وحريته واستقلاله وتاريخيته. الإنسانوية، أي الإيمان بالإنسان وقدرته الخلاقة واستقلاليته وحريته الذاتية واعتباره مصدراً وأساساً لكل قيمة. الانفتاح على اللانهاية المادية الفعلية، ذلك إن فكر التنوير مسكون باللانهاية ويقبل عليها بشره ملحوظ، فهو يرفض أي قيد، أي حد، أي نهاية. وهو يعتبر لانهائية المادة مصدر غبطة طافحة وأساساً لحرية الإنسان وقدرته المتنامية. الروح الاستكشافي، ويتجلى هذا الروح في اعتبار الكون اللامتناهي مسرحاً للفعل البشري وأداة للخلق والإبداع الإنساني. إن صعود البرجوازية الأوروبية المتواصل أعطى دفعة للفلسفة مكنها من الدخول في سيرورة علمنة متواصلة، ترتب عليها فك ارتباط الفلسفة (والعلم) بالدين، بل وتهميش دور الدين في المجتمع واحتواؤه وإلحاقه بالفلسفة. وكانت المعالم الرئيسية في هذه السيرورة –كما يقول المفكر هشام غصيب-: (1) نقل مصدر اليقين المعرفي من الذات الإلهية إلى الذات الإنسانية (ديكارت)؛ (2) نقل مصدر الوجود من الفكرة الإلهية إلى الخبرة البشرية المباشرة (التجريبيون، لوك، هيوم)؛ (3) نقل القدرة على تنظيم العالم المحسوس من الذات الإلهية إلى العقل البشري (كانط)؛ (4) نقل مصدر الخير والأخلاق من النص الإلهي إلى الإرادة البشرية العاقلة (كانط أيضاً)؛ (5) اعتبار الطبيعة والتاريخ تجليا للعقل المطلق، واعتبار الفلسفة والدولة الحديثة نهاية التاريخ وقمته (هيغل)؛ (6) اعتبار عقل هيغل المطلق تعبيراً عن ذات النوع الإنساني، أي اعتباره جوهراً كامنا للفرد البشري (فويرباخ)؛ (7) اعتبار العمل الاجتماعي الهادف (العقلاني) أساس المعرفة والتاريخ والتقدم البشري (ماركس). وهكذا، "فقد أفلحت أوروبا الحديثة في علمنة الفكر تماماً، أي بناء منظومة فكرية علمانية تامة العلمنة تقوم مقام الدين في تنظيم حياة الناس وإرشادهم، أي في بناء عقيدة جديدة (عقيدة التنوير) من نوع جديد يرتكز إلى العلم والواقع المادي وقدرة الإنسان على خلق ذاته وبيئته، وأوج هذه العقيدة الجديدة هو كارل ماركس، الذي تتبلّر فيه روحية تاريخية جديدة تومىء إلى إنسان جديد ومشروع تاريخي جديد، ومما لا شك فيه أن هذا التطور الجديد شكل انتصاراً مدويا للفلسفة على الدين لا مثيل له في التاريخ، حيث إن عقيدة التنوير لم تفلح في تحرير الفلسفة كليا من الدين وفي تهميش الدين في المجتمع الأوروبي حسب، وإنما أفلحت أيضا في تجريد الدين من وظيفته الجماهيرية التقليدية المتمثلة في التحكم في وعي العوام وسلوكهم اليومي، بحيث أضحت المحرك الرئيسي للعوام في سلوكهم الجمعي، على الأقل في المراكز الرأسمالية المتقدمة"([4]). وفي ضوء هذا التطور الذي أصاب كل مناحي الحياة في عصر النهضة، رفع فلاسفة هذا العصر رغم الاختلافات بين مذاهبهم شعار "العلم" من أجل تدعيم سيطرة الإنسان على الطبيعة ورفض شعار العلم من أجل العلم.. لقد أصبحت التجربة هي الصيغة الأساسية للاختراعات والأبحاث العلمية التطبيقية في هذا العصر وأبرزها: صياغة القوانين الأساسية للميكانيك الكلاسيكي بما فيها قانون الجاذبية الذي وضعه نيوتن (1643 –1727). تطوير علوم الرياضيات والهندسة والفيزياء والأحياء_ ديكارت ولايبنتز. اكتشاف الدورة الدموية- هارفي - " تأكيد اكتشاف ابن النفيس" قوانين الميكانيك وتعريف مفهوم العنصر الكيميائي_ بويل. ميزان الحرارة الزئبقي والضغط الجوي_ تورشيللي ( أحد تلامذة جاليليو). لم يكن سهلاً لهذه الاكتشافات العلمية وغيرها أن تكون بدون تطور الفلسفة عموماً والمذهب التجريبي على وجه الخصوص، في سياق الحراك والتناقض والصراع الاجتماعي الدائم والمستمر بوتائر متفاوتة في تسارعها بين القديم والجديد، إذ أنه بدون هذه الحركة والتناقض لم يكن ممكناً بروز الدعوة من أجل التغيير والتقدم التي عبر عنها فلاسفة عصر النهضة في أوروبا أمثال فرنسيس بيكون، ديكارت، هوبس، لايبنتز، سبينوزا، جون لوك، الذين قاموا بدور عظيم في بناء اللبنات الأساسية الأولى لذلك العصر، وتتويج الحداثة بكل مضامينها الفكرية والاقتصادية والسياسية في كوكبنا عموماً، أو في القسم الأكثر تطوراً منه على وجه الخصوص.
أبرز الفلاسفة منذ القرن الخامس عشر حتى القرن السابع عشر نيقولا ميكافيلي ( 1469 م. _ 1527 م ): ولد ميكافيلي في فلورنسا/ إيطاليا، وكان والده محامياً من النبلاء، وعلى الرغم من انه لم يتلقى تعليماً واسعاً لكنه كان قارئاً نهماً لكتب الفلسفة والسياسة، وأظهر ذكاءً حاداً منذ طفولته وطوال حياته، وقد برز كمفكر وفيلسوف وسياسي انتهازي في إيطاليا إبان حياته، لكنه رغم ذلك، أصبح الشخصية الرئيسية والمؤسس للتنظير السياسي الواقعي، والذي اعتبره الكثيرون، عصب دراسات العلم السياسي في تلك المرحلة. يمكن تقسيم فترة حياته إلى ثلاثة أجزاء، كلها تمثل حقبة مهمة من تاريخ فلورنسا، حيث عاصر في شبابه ازدهار فلورنسا، وعظمتها كقوة إيطالية تحت حكم "لورينزو دي ميديشي"، وسقوط عائلة "ميديشي" في عام 1494، وإعلان الجمهورية في "فلورنسا"، التي استمرت لعام 1512م، حيث استرجعت أسرة "آل ميديشي" مقاليد السلطة، واتهمت ميكافيللى بالتآمر ضدها وقامت بسجنه، لكن البابا "ليو العاشر" أفرج عنه فاختار حياة العزلة في الريف حيث ألف العديد من الكتب أهمها كتاب (الأمير)"([5]). اشتُهِرَ ميكافيلي –من خلال كتابه "الأمير"- بدوره المتميز في صناعة علم السياسة وممارستها من خلال الأمير أو الحاكم دونما أي التزام بالأخلاق أو بالتقاليد، بل وفق ضرورات الواقع نفسه، وهي القاعدة التي تنص على أن "الغاية تبرر الوسيلة"، لكنه نصح الأمير على أن يظل حريصاً على إبقاء صورته لدى شعبه، حاملة لمعاني الأخلاق والعدل والاحترام، إلى جانب القسوة الشديدة، في إطار قوة السلطة وخوف الجمهور وهيبته منها. في هذا السياق، أشير إلى أن ميكافيلي يعتبر "من أوائل المنظرين السياسيين البرجوازيين، حاول في مؤلفاته البرهنة على أن البواعث المحركة لنشاط البشر هي الأنانية والمصلحة المادية، وهو صاحب مقولة :" أن الناس ينسون موت آبائهم أسرع من نسيانهم فقد ممتلكاتهم"، إن السمة الفردية والمصلحة عنده هما أساس الطبيعة الإنسانية؛ ومن جانب آخر، فقد رأى أن القوة هي أساس الحق في سياق حديثه عن ضرورة قيام الدولة الزمنية المضادة (البديلة) لدولة الكنيسة؛ ويؤكد على أن ازدهار الدولة القوية المتحررة من الأخلاق، هو القانون الأسمى للسياسة وأن جميع السبل المؤدية لهذا الهدف طبيعية ومشروعة بما فيها السبل اللاأخلاقية (كالرشوة والاغتيال ودس السم والخيانة والغدر)؛ والحاكم عنده يجب أن يتمتع بخصال الأسد والثعلب، وسياساته هي سياسة "السوط والكعكة"؛ هذه هي النزعة الميكافيلية التي تبرر كل شيء للوصول إلى الهدف السياسي، وهي توضح معنى الفردية والإقرار بالاهتمامات الشخصية"([6]). ويذهب الكثير من المفكرين السياسيين بان "لميكيافيلي دور هام في تطور الفكر السياسي، حيث انه أسَّسَ منهجا جديدا في السياسة، بافكار تبشر بمحاولات لتجاوز الفكر الديني، وكانت تلك الأفكار نقطة تحول هامة، لتجاوز السلطة الدينية التي كانت سائدة في الفكر السياسي الأوروبي في القرون الوسطى. أما بالنسبة لموقف ميكافيللي من الدين، فإن المسألة "مرتبطة بمصلحة الأمير مع هذا الدين أو ذاك بما يعزز سيطرته على الناس، فلا بأس من ظهور الأمير بمظهر المتدين حتى لو لم يكن مؤمناً ابداً"، ويقول ميكافيللي أيضاً "الدين ضروري للحكومات، لا من أجل الفضيلة، ولكن لفرض السيطرة على الناس". غني عن القول إن للدين في فكر ميكافيلي منزلة دنيا، فجميع المصالح والأهداف باتت علمانية، ولم يبق من دور للدين سوى توحيد الجماعة. لذلك فَكَّرَ ميكافيلي أنه من المفيد أن يكون الشعب متديناً، وقد يعطي الأمير أيضاً انطباعاً بأنه تقي إذا كان ذلك يساعده على تحقيق شيء ما. قاومت الكنيسة كتاب الأمير ومنعت تداوله في حينه، وفي القرن العشرين اختار موسولويني كتاب الأمير في اعداد اطروحته الجامعة، اما هتلر فكان دائم الاطلاع عليه. نظرية ميكافيلي السياسية، هي عقيدة مختصة بميكانيكا الحكم، ويمكن وصفها بطريقة سطحية إنها "نظرية ألعاب دبلوماسية للأمراء ذوي السلطات المطلقة، وكان الإفتراض الأساسي عند ميكافيلي هو أن الإنسان أناني، فليس هناك من حدود لرغبة الإنسان في الأشياء وفي السلطة، ولما كانت الموارد نادرة، كان الصراع، فتأسست الدولة على حاجة الإنسان للحماية من عدوان الآخرين، فمن دون فرض القانون تكون الفوضى، لذا، لابد من وجود حاكم قوي لتوفير الأمن للشعب، وقد اعتبر ميكافيلي ذلك من المسلمات من دون أن يدخل في تحليل فلسفي لجوهر الإنسان، لذا، على الحاكم أن يفترض أن البشر أشرار، ويجب عليه أن يكون قاسياً ومنطلقاً من أن الإنسان أناني النزعة من أجل أمن الدولة، وبالتالي حياة الشعب وأملاكه"([7]). البشر -عند ميكافيلي- أنانيون دائماً، لكن هناك -كما يقول- درجات مختلفة من الفساد، فقد زعم ميكافيلي أنه درس الدول الجيدة والدول الفاسدة، والمواطنين الصالحين والطالحين، وكان مهتماً بتحديد الشروط الدقيقة للمجتمع الجيد وللمواطنين الصالحين من وجهة نظره!، فالدول الجيدة عنده هي تلك التي تحافظ على توازن بين المصالح الأنانية المختلفة، وبذلك تكون مستقرة، أما الدولة الفاسدة، فهي تلك التي تكون فيها المصالح الأنانية في حرب مفتوحة. والمواطن الصالح هو الوطني والمقاتل. وبكلمات أخرى نقول إن الدولة الجيدة هي الدولة المستقرة. بناءً على طروحاته هذه رأى ميكافيلي أن "غاية السياسة ليست الحياة الجيدة، كما كان الحال في بلاد اليونان القديمة أو في القرون الوسطى، بل هي ببساطة كسب القوة والاحتفاظ بها، وبذلك تثبيت الاستقرار، وكل ما عدا ذلك، إن هو إلا وسيلة، بما في ذلك الأخلاق والدين، لذلك، كان اهتمام ميكافيلي بمشاكل السلطة ليس لا أخلاقياً، أو غير مبال بالأخلاق، إنما هو أخلاقي من حيث إن القصد كان منع الفوضى، فكان الهدف هو الدولة الجيدة، بل الأصح أفضل دولة ممكنة – في ضوء طبيعة الإنسان، فقد رأى ميكافيلي أن القانون والأخلاق الموجودين ليسا بمطلقين وكليين، وإنما هما من صنع الحاكم، وتلك هي النظرية التي تقول إن أساس الدول القومية هو الأمير صاحب السيادة، الدولة هي أنا حسب تعبير لويس الرابع عشر، ولأن الأمير هو مؤسس القانون والأخلاق –كما يقول ميكافيلي- فإنه فوقهما، فلا وجود لمقياس قانوني أو أخلاقي، به يمكن الحكم عليه. ولا يستطيع رعاياه أن يظهروا إلا الطاعة المطلقة لحاكمهم، لأن الحاكم هو الذي يعرف الحق والأخلاق"([8]). غير أن ميكافيلي الذي عُرِفَ عنه إنتهازيته المصلحية الفاقدة للأخلاق والاستقامة، لم يلتزم في دعوته السياسية بالحرص على الأمير أو الحاكم المتنفذ في عهده أو في أي مرحلة من المراحل، بل انه قال "إذا نجح أحد الرعايا في الإمساك بالسلطة، فيجب أن يطيعه الجميع، بمن فيهم الحاكم المخلوع"، وانطلاقاً من ذلك التمييز المتطرف بين الغايات والوسائل أمكن ميكافيلي أن يقول إن الغاية تبرر الوسيلة"([9]). في وقت لاحق، أحرز ميكافيلي شهرة واسعة، إنما رديئة السمعة، بسبب عقيدته التي تقول إن السياسة تلاعب ومناورات بارعة، ولا أخلاقيته السياسية التي أولها كثيرون (مثل موسوليني) بأنها تبرر العرض غير المقيد للسلطة. فلسفته: يقول ول ديورانت "إننا لا نجد عند غير ميكافيلي مثل ما نجده عنده من الاستقلال في الرأي ومن التفكير الجريء المجرد من الخوف في عالم الأخلاق والسياسة، وإن من حق ميكافيلي أن يَدَّعي أنه قد شق طرقاً جديدة في بحار لم يكد يطرقها أحد قبله، فقد تميز برؤاه الفلسفيه التي تكاد تكون فلسفة سياسية خالصة، ليس فيها شيء من فلسفة ما بعد الطبيعة، ولا اللاهوت، ولا الإيمان أو الكفر، ولا بحث في الجبرية أو القدرية، وحتى الفلسفة الأخلاقية نفسها، لا تلبث أن تنحنى جانباً، لأنها بوصفها فلسفة تابعة للسياسة، وتكاد تكون أداةً لها، فهو يفهم السياسة على أنها الفن العالي الذي يُراد به إيجاد دولة، أو الاستيلاء عليها، أو حمايتها، أو تقويتها؛ وهو يهتم بالدولة لا بالإنسانية عامة؛ ولا يرى في الأفراد إلا أنهم أعضاء في دولة، إلا إذا نظر إليهم من حيث أنهم يساعدون على تقرير مصيرها؛ وهو لا يعني قط باستعراض الأفراد على مسرح الزمان"([10]). ميكافيلي يرى أن فلسفة التاريخ، وعلم الحُكْم، أمكن وجودهما لأن الطبيعة البشرية لا تتبدل أبداً، وتاريخ دولة ما، يتبع قوانين عامة، يحددها ما تنطوي عليه طبيعة الناس من خبث وشر، والناس كلهم بطبيعتهم مخادعون، مخاصمون، قساة، فاسدون، وهنا تتجلى بوضوح رؤية ميكافيلي للإنسان التي عبَّر عنها الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، قائلاً: إن "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، وهذه الرؤية هي التي سيطرت على العلاقات الدولية والإنسانية على المستوى العالمي والمحلي منذ ميكافيلي إلى يومنا هذا. في هذا السياق، تقول د.خديجة زنتيلي: "إنّ الغاية تبرّر الوسيلة كما اعترف بذلك نيكولا ميكافيلي في كتابه "الأمير"، فبغرض وصول الحاكم إلى أهدافه السياسيّة، والمحافظة على قوّة دولته، وَجَبَ عليه الفصل بين الأخلاق والسياسة، ولا غضاضة في استخدام الوسائل غير الأخلاقيّة، كالقتل والكذب والنفاق والسلب والنهب، للحفاظ على إمارته وإحكامِ قبضته عليها، فكلّ الطرق تلك تعتبر مشروعة من أجل الوصول إلى المبتغى، فقد مَنَحَ ميكافيلي كلّ الصلاحيّات للحاكم في أن يفعل كلّ ما يراه مناسبا لتسيير أمور الدولة، متحجّجا في ذلك بضمان وحدة إيطاليا وتخليصها من الفساد المستشري فيها. ولعلّ هذه النظريّة وغيرها من النظريّات التي تدور في فلكها، لا يزال صداها اليوم يتردّد في الكثير من الأنظمة المعاصرة التي تستلهم تلك الأفكار وتتّفق معها وتُفعّلها في منظوماتها السياسيّة، ولا شكّ أنّ كتاب "الأمير" كان من بين أهمّ الخلفيّات الفكريّة لمشروع الأمركة فضلا عن مضامين كتاب "التنين" للفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز الذي كرسّ فيه فكرة كون " الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"([11]). وقد جرؤ فرانسيس بيكون فكتب هذه العبارة يصفح بها عن ميكافيلي: "إنا لنشكر لميكافيلي وأمثاله من الكُتَّاب الذين أظهروا لنا صراحةً، وفي غير خداع ما اعتاد الناس أن يفعلوه، لا ما يجب أن يفعلوه"، وأما حُكْم هيجل فكان دلالة على الذكاء والكرم: يقول هيجل: "احتوى كتاب الأمير على الحِكَم والأمثال والنصائح التي تدعو إلى أشد أنواع الاستبداد وأدعاها إلى الاشمئزاز؛ ولكن الحقيقة أن شعور ميكافلي القوي بضرورة قيام دولة موحدة هو الذي دعاه إلى وضع المبادئ التي لا يمكن أن تقوم دول في الظروف المحيطة به وقتئذ إلا على أساسها. فقد كان لابد من القضاء على الأمراء والإمارات القائمة وقتئذ؛ وإنا وإن كان رأينا في ماهية الحرية لا يتفق مع الوسائل التي بَشَّرَ بها.. والتي تشمل أشد أنواع العنف وأكثرها تطرفاً، وجميع صنوف الخداع، والاغتيال، وما إليها – فلا يسعنا إلا أن نقر أن الطغاة الذين لابد من قهرهم لم يكونوا ليغلبوا بغير هذه الوسائل"([12]). ومع هذا، "فإن في صراحة ميكافيلي قوة حافزة دافعة إلى حد ما، ذلك إنا إذا قرأنا كتابه، واجهنا في وضوح لا مثيل له عند غيره من المؤلفين، ذلك السؤال الذي قلما تعرض له غيره من الفلاسفة: هل سياسة الحكم مُقَيَّدة بالمبادئ الأخلاقية؟ وقد نخرج من كتبه بنتيجة واحدة على الأقل: وهي ان الأخلاق الطيبة لا يمكن أن توجد إلا بين أفراد مجتمع مُسَلَّح بالوسائل التي نستطيع تعليمها وإلزام الناس باتباعها، وأن المبادئ الأخلاقية التي يجب أن تتبعها الدول جمعاء، ويكون لها من القوة المادية، وفيها من الرأي العام ما تستطيع بهما المحافظة على القانون الدولي، وإلى أن يحين ذلك الوقت فستظل الأمم كالوحوش في الغاب؛ وأياً كانت المبادئ التي تجهر بها حكوماتها، فإن السنن التي تسيطر عليها هي الواردة في كتاب الأمير، على الرغم -كما يستطرد ديورانت- من أن كثيراً من الحكام ومن الناس، قبل ميكافلي بزمن طويل، مارسوا امتيازات القوة، والغش والخداع – أي المبدأ القائل بأن الغاية تبرر الوسيلة – التي يجيزها ذلك السياسي لحكام الدول"([13]).
من أقواله([14]): الحاكم الناجح للإمارة هو وحشيّ وبربريّ وعند الضرورة لا أخلاقيّ إطلاقًا. إن القائد يجب أن يكون داهية وإذا ما أراد أمير أن يحافظ على حكمه فيجب أن يكون مستعدًا كي لا يكون فاضلًا وأن يستخدم هذا أو لا حسب الحاجة. أيها الأمير: “من الأفضل أن تكون مخيفًا على أن تكون محبوبًا، إذا لم يكن بإمكانك الحصول على الاثنين”. “التجربة تُظهر أن أولئك الذين لا يحافظون على كلمتهم يحصلون على الأفضل من أولئك الذين يفعلون ذلك”. “يجب أن يبدو الأمير دائمًا أخلاقيًا للغاية حتى وإن لم يكن كذلك”. “يجب على القادة ألا يعتمدوا على الحظ، بل يجب أن يشكلوا ثروتهم الخاصة من خلال الكاريزما والمكر والقوة”. "نشر كتاب الأمير في عام 1532م (أي بعد خمس سنوات من وفاة مَكيافيلي)، وفي 1559م تم وضع جميع أعمال مَكيافيلي على فهرس الكتب المحظورة للكنيسة الكاثوليكيّة، وأدانت الكنيسة البروتستانتيّة التي تم تشكيلها مؤخرًا الأمير، وتم حظره في إنجلترا الإليزابيثيّة. ومع ذلك كان الكتاب يُقرأ على نطاق واسع وأصبح اسم المؤلف مرادفًا للمكر والسلوك عديم الضمير. أثر الأمير: احتفظ هتلر بنسخة من الأمير في سريره ليقرأ منه كل ليلة قبل أن ينام، ومن المعروف أن ستالين قد قرأ الكتاب أيضًا، ووصف موسوليني الأمير بأنه “المرشد الأعلى للدولة” على الرغم من أنه وضعه فيما بعد في فهرس الفاشيّة للكتب المحظورة. كما تم العثور على نسخة منه لدى نابليون في ووترلو وقد أطلق على الكتاب اسم “كتاب المافيا” مع رجال العصابات"([15])، ويبدو أن هذا الكتاب مازال في هذه المرحلة من القرن الحادي والعشرين، أحد المراجع لدى حكام العرب (بمختلف أنظمتهم) يسترشدون به في تكريس استبدادهم وحماية مصالحهم الطبقية.
------------------------------------------------------ ([1]) هشام غصيب – نحن وعقيدة التنوير – الحوار المتمدن – 27/4/2011 ([2]) المرجع نفسه . ([3]) "المعرفة قوة" "Knowledge is Power" ، هذا المصطلح –كما يقول د. توفيق شومر- يستلزم الوقوف عنده وتحليل العلاقات التي تربط بين مفهوم المعرفة ومفهوم السلطة. وعند تناول موضوع كموضوع "سلطة المعرفة" لا بد من الانطلاق من ميشيل فوكو وكتاباته حول السلطة والمعرفة، فكلمة "سلطة" لم تعد تنحسر في السلطة السياسية ولكن لها مجموعة من الفضاءات التي تسبح خلالها: سلطة الموروث، سلطة النص، سلطة القانون، وهنا يفتح الباب للتفكير بسلطة المعرفة. وكلما كانت المعرفة متجذرة في الموروث ومتملكة ، أي عندما تكون هذه المعرفة تأسيسية للمعارف اللاحقة تصبح القدرة على التحول عن تأثيرها وسلطتها على البناء المعرفي للذات العارفة أكثر صعوبة، ويصبح الانفكاك من سطوتها وسيطرتها يحتاج إلى ثورة معرفية على الموروث وعلى الأطار المعرفي المتملك له. ([4]) هشام غصيب– مشروعنا الفلسفي – الحوار المتمدن – 18/4/2011 ([5]) موقع ويكيبيديا – الانترنت . ([6]) المرجع نفسه. ([7]) غنارسكيربك و نلز غيلجي – مرجع سبق ذكره - تاريخ الفكر الغربي - ص 381 ([8]) المرجع نفسه - ص 384 ([9]) المرجع نفسه - ص 384 ([10]) ول ديورانت- قصة الحضارة "النهضة/ الإصلاح الديني" – المجلد الحادي عشر (21/22) – الكتاب الخامس – مكتبة الأسرة – القاهرة – 2001 -ص 57. ([11]) د. خديجة زنتيلي – حوار مع فاطمة الفلاحي (بؤرة ضوء) – الحوار المتمدن – 10/11/2017 ([12]) ول ديورانت – مرجع سبق ذكره – قصة الحضارة - المجلد الحادي عشر - ص 72 ([13]) المرجع نفسه– ص 80 ([14]) لمياء عبد السادة - مكيافيلي وكتابه الأمير الذي وصل تأثيره إلى هتلر وستالين – موقع: المحطة –22 سبتمبر 2018. ([15]) المرجع نفسه.
#غازي_الصوراني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
-
دراسة تاريخية لكافة التطورات الفكرية والسياسية للجبهة منذ تأ
...
-
أزمة أحزاب وفصائل اليسار الماركسي العربي وتعددها وسبل الخروج
...
-
عن أهمية الوعي العميق بالنظرية وبكل جوانب الواقع المعاش كشرط
...
-
حديث صريح عن البورجوازية الرثة في مجتمعات الوطن العربي
-
أحمد بهاء الدين شعبان :هكذا تحدّث الرفيق -غازي الصوراني-تشري
...
-
آثار ومخاطر سياسة ترامب في ولايته الثانية على الوضع العربي و
...
-
المجلد التاسع عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2022
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2020
-
107سنوات على وعد بلفور بين نوفمبر 1917و نوفمبر 2024.........
-
المجلد السادس عشر - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2015 و 2
...
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
-
نمو وتطور ولادة الفكرة الصهيونية
-
رسالة الى رفاقي اصدقائي الاعزاء .....التمسك بالماركسية كبوصل
...
-
وفاة إبن رشد وآثارها على توليد ظاهرة الانقطاع المعرفي في الف
...
-
هل تشكل الديمقراطية مفتاحاً لحل مشكلات الواقع العربي؟ حديث ح
...
-
عن الترابط بين المفاهيم والممارسات السياسية والاخلاقية المحت
...
-
عصر التنوير ......
المزيد.....
-
-لم أخطط للهروب من سوريا-.. الأسد يكتب من موسكو تفاصيل الأحد
...
-
ما وراء البوابات: كيف تغيّر إسرائيل ملامح الضفة الغربية؟
-
مقتل شخصين بانفجار في شرق موسكو
-
مصادر إعلامية: مقتل قائد قوات الدفاع الإشعاعي والكيميائي وال
...
-
عشرات العائلات اللبنانية تنقل رفات قتلاها بعدما دفنوا كـ-ودا
...
-
مقبرة جماعية في سوريا تحوي 100 ألف جثة على الأقل
-
-غزل نادر- بين بكين وواشنطن: يمكننا تحقيق أمور عظيمة
-
القبض على إيرانييْن بعد الهجوم على قاعدة أميركية في الأردن
-
مقتل عسكري روسي بارز بانفجار في موسكو
-
الأكراد يكشفون سبب فشل الوساطة الأمريكية للتوصل إلى هدنة بشم
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|