رولا حسينات
(Rula Hessinat)
الحوار المتمدن-العدد: 8192 - 2024 / 12 / 15 - 22:14
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
عندما كنت في الإعدادية لم تفارقني رواية مزرعة الحيوانات لجورج أوريل، فقد كانت إحدى مقررات الصف الثالث الثانوي، لا أفيق إلا على صراخ أخي أو أختي بحثاً عن الرواية المفقودة، لم أستطع إلا بعد جهد جهيد إكمالها، وهي تلوح بخاطري كطيف لا أجيد فيه رسم الحقيقة كاملة، فليس من طبعي قراءة كتاب إلا وأجسد شخصياته واحدة تلو الأخرى وأرسمها أمامي على مسرح كبير بين عيني، وأراني وأنا أدور الحوار بينها...لتكتمل الصورة في النهاية...صورة أن الحرية مبتغى صعب المنال... وصرت في الثالث الثانوي وألغت وزارة التربية والتعليم حينها الروايات الإنجليزية من المنهاج ولم يقدر لي أن أشرحها على مقعد الدرس وأنا أتلذذ بمعرفة لي كانت يوما بمزرعة الحيوانات...
كغيري شاهدت المد الثوري على امتداد الوطن السوري الغائب، لكني لست كغيري في الحديث والإسهاب والبحث في الأصول والاجتهاد والقياس وكلام الشارع، وبقيت أراقب في صمت...سألني أحدهم: لم لا تشاركين في الحديث الدائر هنا وهناك لأول مرة أراك صامتة عن المشهد؟
قلت: مخطئ أنت إن علقت في ذاكرتك الهشة أثرثر هنا وهناك، وكيفما أتى السياق...غير أني أدلي برأيي حين يلتبس الفهم عند البعض ويظن أنه يلم بالحقيقة، ولكني أشرح المشهد كما لو غيب عن السامع كذا وكذا وألملم الخيوط معاً...لكني هنا لست في الضد ولكني اتحفظ كي لا أفسد أمنيتي حين أنبس بها.
قصص الكثيرين كما كتبها الريحاني وغنتها فيروز: تكتب اسمي يا حبيبي ع رمل الطريق...قد ذابت وانمحت وغرقت في دفاتر النسيان العائمة فوق مياه بردى...كم غابوا؟ كم منهم عاد؟ وإن كان أصحاب الكهف قد تسألوا بينهم: كم لبثتم عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض فاسأل العادين؟ ولكن الذين طحنوا ونكلوا تحت أكبر آلة للقتل البشري...لم يعرفوا كم لبثوا فقد اختلطت دماؤهم بمياه بردى يوماً...واطلق السؤل بين أطلالهم فلا يرجع لك سبباً...عندما زرت إسبانيا وبالتحديد غرناطة...وعندما تذاكرت وزوجي التاريخ الأندلسي...والمقاربة بقراءة المشاهد التاريخية، كان يستحضر المشهد مطالبة البرلمان الإسباني بتعويض عمما تسبب به الاحتلال الإسلامي كما يسمونه لإسبانيا...غير أن ما مدى الاستثمار والاستغلال لكل شبر في غرناطة لوحدها قد عوض إسبانيا عن الاحتلال الذي يزعمونه لآلاف السنين...لكن لم يعوض أحد الأندلسيون عن التعذيب التاريخي الذي تكبدوه في محاكم التفتيش...والتي تعتبر من أكبر الفواجع البشرية بالمطلق قبل أن تتكشف الحقيقة عما كان يحدث في سوريا ...في سجونها في طرقاتها في بيوتها...لأولئك الضائعين في الهوية وفي التاريخ...فقد فاقت مجازرهم وتعذيبهم محاكم التفتيش بمئات مئات المرات...
ذكر أحدهم في أحدى المقابلات التلفزيونية على إحدى شبكات التلفزة: إنها إرادة الشعوب التي تحققت اليوم...نحن أمام نصر أراده الشعب.
ضحكت لأول مرة منذ فترة طويلة من أعماق قلبي، ثم بكيت بكاء غسلني بحرقته...هل صدق الشابي حين قال:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة ...فلا بد أن يستجيب القدر.
ليست الجملة الشرطية شرطية التحقق يا أبا القاسم...في علم الإدارة الذي درسناه على مدى سنوات حقيقتان الرغبة والقدرة (willingness and ability) فلا يعني توفر الرغبة أن توازيها القدرة ولا إن توفرت القدرة أن توازيها بالطرف الآخر الرغبة...لكن اجتماعهما معاً يعني تحقيقا للهدف الفرعي ومن ثم الهدف الكلي مع توافر جميع العوامل الأخرى والقدرة على التحكم بها...السؤال الذي يطرح نفسه: هل تأتي الرغبة دون توفر عوامل نفسية بالمحفز والاستجابة، مجتمعية، اقتصادية وغيرها في بيئة ديناميكية متغيرة لا يمكن الاحتكام لسكونها في أي فترة زمنية وإن طالت...؟
فالرغبة بالتعريف: هي شعور الإنسان بافتقاره إلى شيء ما، وتُوصف عادةً كشعورٍ لطيف أو توقع الأمر، وليس من الضروري تحوّل هذا الشعور إلى سلوك وتتمثّل بالأمور التي لا يؤثّر عدم وجودها أو الحصول عليها على الحياة لكنّها تكبر داخل المرء مُجبرةً إيّاه على محاولة تحقيقها، وتُعطي شعوراً بالحزن لافتقارها
بمعنى آخر هي أحد المكامن التي مقرها الداخل التي تتسلل لتكوين شعور غير محدد فعليا وغير جازم لا يرقى لأن يصبح سلوك أو سمة في الشخصية حتى...مفهوم الإجبار هي فعليا محاولة الخروج بهذه الرغبة إلى واقع ما...ولكن يمكن على النقيض تمام لتبقى مجرد شعور يتحقق بالشعور دون السلوك لأن أركان تحقيقه لم تكتمل بعد أو الحاضنة للرغبة غير قادرة على إنضاجه فيبقي على نفسه في جين اسمه الرغبة بشيء ما ولكن إمكانية تحقيقه ترتبط بالقدرة على التحقيق والتي لا تكتمل أيضاً إلا بوجود اكتمالية للمشهد بتحققه وهو بتكوين ما يعرف بالإرادة...لا يعني خروج الناس في الشارع تحت البنادق والقتل بعين البندقية الضريرة معنى للحرية...لا تأتي الحرية بالدماء وحيناً تأتي الحرية بالدماء...ولكنها بالفعل لم تتعدى منطق الرغبة بالخروج إلى شيء اسمه الحرية...إرادة الوطن بساكنيه أن يبلغوا قمم الحرية هي رغبة بالفعل تحترم وحلم يراود الجميع إن لم يكن بصحوتهم فسيكون بمنامهم، ولكنه يبقى رغبة لم تبلغ شهوتها بعد، ولم تصل لأبلغ معاني الكمال والانسجام...فرغبتك بأن تخلع بابك وترمي بكتبك وأوراقك وبوظيفتك ومديرك وووبالكثير وتحققت بتكوين الإرادة وتحققت كل رغباتك...فجيء بك وتلقيت أبشع صنوف العذاب...وجيء بك مهزوماً أمام نفسك أولاً مطارداً لا تقوى على الوقوف تحت إنارة المسرح من الجلد الذاتي أولاً ومن الجلد المجتمعي ثانياً ومن مفهوم العقاب ثالثاً...
إذن متى تصنع الحرية إن لم تكن بإرادتنا؟!
الفرق بسيط فقط عليك بقوة ما...تسمى في علم الفيزياء القوة الضاغطة وفي التعريف: تحدث قوة الضغط (أو القوة الانضغاطية) عندما تضغط قوة فيزيائية على جسم ما إلى الداخل، مما يتسبب في ضغطه، وفي هذه العملية، تتغير المواضع النسبية لذرات وجزيئات الجسم.
وهو ما يحدث في تحقيق إرادة الشعوب في نجاح الثورات وفي قيام ما يسمى الحرية.
راقني ما قاله الناجي في أبياته وجعلني أطيل الصمت وأقلل من الكلام...فلا رغبة هي ولا قدرة كانت لدي، وكلي أمل بأن تجدل الشمس خيوطها بجديلة على مساحة الوطن...وطن الذين قضوا والذين انتظروا على الأطلال يسوقون الشوق في زفرة، وأولئك الذين يقلبون الأرض لإنباتها نباتاً حسناً أصله ثابت وفرعه في السماء...سلام على كل الأحرار...سلام لك بردى سلام لك سوريا
مالَ ركنٌ من السماءِ وأمسى
هلهلَ النسج كلُّ صَرحٍ مُمرَّد
ربِّ عفواً لحيرتي وارتيابي
وسؤالٍ في جانحي يتردّدْ
هو همس الشقاء ما هو شك
لا ولا ثورةٌ فعدلك أخلدْ
أين يا رب أين منقبل حيْني
ألتقي مرةً بحلمي الموحّدْ؟
بخليلٍ ما ردَّه كيدُ نمّامٍ
ولم يَثْنِه وشاةٌ وحُسَّدْ
وحبيبٍ إذا تدفَّق إحساسي
جزاني بزاخرٍ ليس ينفدْ
وعناقٍ أُحِسُّه في ضلوعي
دافقاً في الدماءِ كاليمِّ أزبدْ...
#رولا_حسينات (هاشتاغ)
Rula_Hessinat#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟