|
عن الله- قراءة في فلسفة سبينوزا (2)
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8192 - 2024 / 12 / 15 - 18:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن الشاغل الأعظم والمحوري في صناعة الحُكم يكمن في ترويض الرعايا واستئناسهم، طرد الهلع من قلوبهم، الذي يبقيهم ساكنين وطائعين، بغمامة الدين المُطمئنة، حتى يُقاتل الرجال بنفس الإقدام والبسالة لنصرة العبودية كما السلامة، ولا يحسبونه عاراً بل أعظم شرف أن يضحوا بأرواحهم ودمائهم نصرةً لطاغية؛ مثل هذا لا يمكن أن يحدث بسهولة في الدول الحُرة. حيث تأبى الحريات العامة وتشمئز من حِيَل بغيضة مثل حشو أدمغة الناس بالتفاهات، أو تقييد تفكيرهم، أو استعمال أي من أسلحة الفتنة ذات الذخيرة الدينية؛ في الحقيقة، لا تُولد مثل هذه الفتن إلا عند إقحام القانون المقيد في مجال الفكر التأملي، حين تُقدم الآراء للمحاكمة وتُدان على قدم المساواة مثل الجرائم، بينما يتم التضحية بهؤلاء الذين يدافعون عنها ويعملون بها، ليس من أجل السلامة أو المصلحة العامة، لكن لإشباع غرائز الكراهية والبطش لدى خصومهم. لهذا حين نستطيع أن نجعل من الأفعال فقط حيثيات لتوجيه التُهم الجنائية، ونضمن المرور الحر دائماً للكلمات البريئة، حينئذٍ نستطيع تجريد هذا التحريض ضد حرية الرأي من شُبهة أي مبرر مقبول، وعزله عن النقاشات البريئة بجدار ناري واضح وبات.
الآن بعدما رأينا النعمة النادرة التي يجلبها العيش في دولة حرة، حيث يَملك كل واحد منا قراره الشخصي بحرية ودون قيود، حيث يستطيع كل واحد منا أن يَعبد ربه بالشكل الذي يُمليه عليه ضميره، وحيث تكون الحرية مُقدَّرة قبل وفوق كل الأشياء العزيزة والغالية، أعتقد أنني لا أُهين القيم والمُثل والآداب العامة ولا أتهكم عليها أو أخالفها، أو أبخس الخير العام حقه بمحاولتي تبيان أن منح هذه الحرية لا يمكن أبداً أن يُعكر صفو السلم العام فقط، بل أيضاً، من دون هذه الحرية، لا يمكن أن تُعمر القلوب التقوى من الله ومحبة الخير للناس ولا أن يدوم السلم العام....
إنني أتعجب غالباً من أن الأشخاص الذين نراهم يتباهون بتمسكهم بالدين، لاسيما محبتهم وتسامحهم وسلامهم الداخلي ومودتهم للآخرين ورحمتهم بهم، هم أنفسهم الذين يتناحرون فيما بينهم بوحشية مقيتة، ويبدون يومياً عداوة لا تلين تجاه بعضهم البعض، لدرجة أن ذلك، وليس الفضائل التي يدعون، يمثل المعيار الأصدق لإيمانهم. لقد بلغت هذه الأمور النصاب الذي يستطيع عنده المرء أن يميز بسهولة المسيحي من المسلم أو اليهودي أو الوثني من مظهره العام والحُلة التي يرتديها، من تردده على دار العبادة هذه أو تلك، أو من استعماله المفردات الشائعة في لغة طائفة بعينها- لكن فيما يخص طريقة الحياة، ستجدها هي نفسها في جميع الحالات. ويقودني الاستقصاء في سبب هذه المفارقة ودون تردد لعزوها إلى حقيقة أن عموم المتدينين أصبحوا لا يرون في رجال الدين أكثر من شفعاء ووسطاء بينهم وبين الله، وفي مناصبهم الدينية فرصاً للإثراء الشخصي- باختصار، يمكن تلخيص الدين الشعبي في مجرد الرهبة والتوقير تجاه مالكي مفاتيح الجنة. وقد أعطي تغلغل هذا المفهوم الخاطئ للدين لكل واعظ وداعية تافه رغبة محمومة لتقلد مناصب الوعظ والإفتاء، وبالتالي انحدرت رسالة نشر دين الله إلى وحل الشره والأطماع الشخصية. كل منبر أصبح مسرحاً، حيث يتسابق الجهلاء، بدلاً من أصحاب العلم الرصين المنبوذين، ليس على توعية الناس، لكن على خطف آهاتهم وإعجابهم، والتقليب والتحريض على خصومهم، والوعظ فقط بالبدع والتُرهات التي تُطرب مسامع المغيبين. وقد أثارت هذه الحال بالضرورة قدراً لا بأس به من اللغط والضغائن والكراهية، التي لا يقدر الزمن مهما طال على مداواتها؛ وبالتالي يحق لنا التعجب كيف لم يتبقى شيء من الدين الفطري السمح سوى مظاهره الخارجية (وحتى تلك، كما تخرج من أفواه الحشود، تبدو إساءة للرب أكثر منها عبادة له)، وكيف تحول ذلك الإيمان البسيط الصادق إلى مجرد مركب معقد من السذاجة والحماقة، التي تنحط بالإنسان من كائن عاقل إلى بهيم، ويشل بالكامل قدرته على التمييز بين الصواب والخطأ، الذي يبدو، في الحقيقة، مقصوداً بعناية لغرض إطفاء آخر وميض للعقل! كيف تاه الورع والتقوى والدين، والله نفسه، في دهاليز ألغاز سخيفة؛ وأصبح هؤلاء الذين يحتقرون العقل صراحة، يرفضون الفهم ويصمونه بفساد السليقة، هؤلاء، من دون كل خلق الله، هم الذين يتوفرون على نورانية منزلة من السماء. بينما لو كانوا ينعمون حقاً بأي نورانية من السماء لعرفوا كيف يعبدون الله ويعطونه حق قدره، وامتازوا بحق على من سواهم في المودة والرحمة مثلما يمتازون عليهم الآن في الضغينة والبغضاء؛ ولو كانوا مهتمين حقاً بهداية خصومهم، أكثر من الاهتمام بسمعتهم ومكاسبهم الشخصية، لكانوا أقلعوا عن التحريض ضدهم وطهروا قلوبهم بالمحبة والشفقة والتعاطف والتسامح.
أكثر من ذلك، لو كان ثمة قبس من نور رباني فيهم، لكان تجلى في فكرهم. إنني أراهم لا يسأمون الإعراب عن الإعجاب والدهشة لما تحويه النصوص المقدسة من ألغاز عميقة؛ لكني مع ذلك لا أراهم يضيفون أي جديد لما قد سبقهم إليه الأفلاطونيون والأرسطويون، وأنهم (بحجة نُصرة الدين) يؤولون الآيات حتى تُطابق نظريات هؤلاء؛ وستجدهم لا يكتفون بترديد أقاويل اليونانيين أنفسهم، بل يريدون حتى من الرسل والأنبياء ترديدها من ورائهم؛ وهو ما يجزم بما لا يدع مجالاً للشك أنهم لا يفقهون شيئاً قط عن الطبيعة الإلهية للكتب المقدسة. وستجد في ذات الغرابة التي يفسرون بها الآيات خير دليل على سطحية فهمهم للدين: هذه الحقيقة تتأكد أكثر لا تزال من إقرارهم سلفاً، حتى قبل أن يحاولوا فهم وتفسير الكتاب المقدس، بمبدأ الصواب والصدق المطلق لكل فقرة من فقراته. بينما كان حريٌ بهم ألا يبلغوا هكذا قناعة إلا بعد تمحيص صارم وفهم وافي للآيات (الذي كان سيُبينها للناس بصورة أفضل، لأنها ليست بحاجة إلى تفانين بشرية)، وليس أن تُترك، كما يفعلون، من دون استقصاء جاد.
لما رأيت ما يتعرض له نور العقل من سخرية واستهزاء، ورمي منتوجاته بالكفر والهرطقة من قبل الكثيرين، ورأيت أن المرويات البشرية تُعامل معاملة النصوص المقدسة، وأن التفاهة والسطحية تلقى معاملة الإيمان؛ ورأيت الخلافات العميقة بين الفلاسفة تعصف بكيان الدين والدولة معاً، تُغذي الكراهية والبغضاء في النفوس كافة، وتُستعمل كقنابل موقوته لإشعال الفتن وما لا يحصى من الآفات، فقد عزمت النية على إعادة النظر في المفاهيم والنظريات الدينية المتداولة، بتأنٍ وحيادية، دون رهبة من أحد أو محاباة لأحد، وعدم حبسها في فقه أو تفسير معين، مهما كانت السلطة التي يحظى بها....
_________________ قراءة: عبد المجيد الشهاوي النص الأصلي: https://archive.org/details/in.ernet.dli.2015.274322/page/n3/mode/2up
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في مآلات المشروع العربي الناصري
-
عن الله- قراءة في فلسفة سبينوزا
-
حاسبوا أنفسكم مع بشار
-
هل تُبالي حكومة حماس بحياة الفلسطينيين؟
-
السيد صاحب مفتاح مطبخ الفرح
-
ما ضير الديمقراطية لو انتخب المعاتيه معتوهاً منهم؟
-
عن حاجة الإنسان إلى رَبْ
-
في القانون بين الرذيلة والفضيلة
-
في معرفة الواحد
-
العُقْدَة اليهودية في العقل العربي
-
تمرير ديمقراطية عربية تحت غطاء ديني!
-
رأسمالية روسيا ما بعد الشيوعية
-
باسم العدالة والمساواة حكومات تحتكر الاقتصاد
-
الأنانية في المجتمع والدولة
-
الأمة العربية والإسلامية لكن بزاوية نَظَر حادة
-
الدين سلطان القلوب
-
من الشورى إلى ديمقراطية جهنم
-
بِكمْ تَبِيعُني إلَهَك؟
-
بين الديمقراطية والبَيْعّة والشورى في الواقع العربي
-
نَظْرة ذُكورية
المزيد.....
-
واشنطن: توجيه اتهامات لإيرانيين فيما يتعلق بمقتل 3 جنود أمري
...
-
مباشر: الجولاني يعد بحل الفصائل المسلحة وضم مقاتليها إلى الج
...
-
اليمن: الجيش الأمريكي يستهدف منشأة قيادة للحوثيين في صنعاء
-
8 شهداء في غارة إسرائيلية جديدة على مدينة غزة
-
-قسد-: جاهزون لإبقاء الطريق إلى ضريح سليمان شاه مفتوحا
-
نيبينزيا: روسيا لن تقبل أي تجميد للنزاع في أوكرانيا
-
سويسرا تشدد شروط تصدير الأسلحة لضمان عدم توريدها إلى أوكراني
...
-
إيران تنفي انخفاض صادراتها من النفط الخام
-
السوداني يدعو الدول الأوروبية للعب دور إيجابي لمساعدة السوري
...
-
وزير الخارجية السويسري يؤكد التحضير لمؤتمر ثان حول أوكرانيا
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|