آدم بوث
الحوار المتمدن-العدد: 8192 - 2024 / 12 / 15 - 11:39
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
إن الاقتصاد في الاتحاد السوفياتي من أكثر المسائل تشوشا، حيث لم يتم تناوله بجدية وبالتفصيل منذ كتابات تروتسكي وتيد غرانت، وفي نفس الوقت فقد شهد توصيف الاقتصاد السوفياتي جميع أنواع الالتباسات والتشوهات، ومن هنا تنبع أهمية ذلك المقال للرفيق آدم بوث، حيث يتناول فيه الاقتصاد السوفياتي منذ انتصار الثورة البلشفية وإسقاط الرأسمالية وصولا إلى انحطاط الاتحاد السوفياتي والتشوه البيروقراطي الذي شهده مع الردة الستالينية.
شرح ماركس أن كل نظام اجتماعي يخضع لقوانينه الخاصة: الديناميات الموضوعية والقوى والضغوط التي تحكم حركته وتطوره. وفي هذا المقال، يحلل آدم بوث العقود الأولى للاتحاد السوفياتي، من أجل توفير فهم ملموس للقوانين الاقتصادية التي فرضت نفسها على دولة العمال الفتية، وتسليح جيل جديد بالدروس اللازمة لخوض النضال الناجح من أجل الشيوعية.
قال تروتسكي:
“إن الإنجازات الهائلة في الصناعة، والبدايات الواعدة للغاية في الزراعة، والزيادة السريعة في أعداد العمال، والارتفاع في المستوى الثقافي، هذه هي النتائج التي لا شك فيها لثورة أكتوبر، التي حاول أنبياء العالم القديم أن يروا فيها قبر الحضارة الإنسانية. لم يعد لدينا أي شيء نتجادل حوله مع الاقتصاديين البرجوازيين. لقد أثبتت الاشتراكية حقها في النصر، ليس على صفحات رأس المال، بل في ساحة الصناعة التي تمتد على سدس مساحة سطح الأرض؛ ليس بلغة الديالكتيك، بل بلغة الصلب والإسمنت والكهرباء”[1].
تمثل الثورة الروسية أعظم حدث في تاريخ البشرية. فبقيادة البلاشفة، تمكنت الطبقة العاملة من الاستيلاء على السلطة، ورفعت راية الثورة الاشتراكية الأممية، وقدمت منارة أمل للجماهير المستغَلة والمضطهَدة في جميع أنحاء العالم.
لكنهم فعلوا ذلك في ظل ظروف التخلف الأكثر تطرفا والأقل ملائمة: في بلد متخلف اقتصاديا، دمرته سنوات من الحرب والاضطرابات، ومحاصر من طرف الإمبريالية. وعلاوة على ذلك، فإنهم فعلوا ذلك دون أي خارطة طريق، باستثناء التجربة القصيرة لكومونة باريس، التي غرقت في الدم بعد بضعة أشهر فقط على تأسيسها.
على الرغم من إحراز تقدم هائل في مجال التنمية الاقتصادية، لم ينجح الاتحاد السوفياتي أبدا في بناء مجتمع شيوعي. ومع ذلك، فإن العقود الأولى للاتحاد السوفياتي -من عام 1917 إلى عام 1937- توفر عددا من الدروس المهمة للشيوعيين، والتي من واجبنا دراستها واستيعابها بالكامل.
من خلال دراسة الاقتصاد السوفياتي في تلك الفترة، بجميع عيوبه، ومن خلال تتبع المناقشات النظرية التي ظهرت بين البلاشفة حول المسائل الاقتصادية، يمكننا الحصول على فهم ملموس للقوانين الاقتصادية التي من شأنها أن تعمل في الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية، وإلقاء الضوء على كيف يمكن بناء المجتمع الشيوعي.
النظام الانتقالي
في 07 نوفمبر 1917 (25 أكتوبر في التقويم الروسي القديم)، صعد لينين المنصة في المؤتمر الثاني لعموم روسيا السوفياتية وأعلن: “سنشرع الآن في بناء النظام الاشتراكي!”[2].
ومع ذلك، لم يعتقد لينين ولا أي من البلاشفة أنه سيكون من الممكن بناء ذلك النظام بين عشية وضحاها. ففي نفس العام، قال لينين، في كتابه الدولة والثورة، مستشهدا بماركس:
“توجد بين المجتمع الرأسمالي والشيوعي فترة تحول ثوري من المجتمع الأول إلى المجتمع الثاني. وتقابل ذلك أيضا فترة انتقالية سياسية لا يمكن فيها للدولة أن تكون سوى الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا”[3].
كما أوضح ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي أن الخطوة الأولى التي يجب على الطبقة العاملة اتخاذها في الثورة، هي رفع نفسها إلى موقع الطبقة السائدة.
بعد الاستيلاء على السلطة، ستطبق الطبقة العاملة حكمها الطبقي الثوري في جميع أنحاء العالم، و”ستستخدم تفوقها السياسي لتنتزع، بالتدريج، كل رأس المال من البرجوازية، وتجمع كل وسائل الإنتاج في أيدي الدولة… وتزيد مجموع القوى المنتجة بأسرع ما يمكن”[4].
على هذا الأساس، سيصل المجتمع إلى ما أسماه ماركس “المرحلة الأولى من المجتمع الشيوعي”[5]، والتي يشار إليها عادة باسم “الاشتراكية”. عندها فقط ستبدأ آخر بقايا المجتمع الطبقي -مثل الدولة والمال واللامساواة- في الاضمحلال والموت.
وقد عرف لينين بوضوح الطبيعة الانتقالية للنظام البلشفي في عام 1918، حيث قال:
“يشير مصطلح الجمهورية الاشتراكية السوفياتية إلى إصرار السلطة السوفياتية على تحقيق الانتقال إلى الاشتراكية، وليس إلى أن النظام الاقتصادي الحالي معترف به كنظام اشتراكي”[6].
لقد فهم لينين والبلاشفة أن الظروف في روسيا كانت بعيدة كل البعد عن تلك المطلوبة لبناء الاشتراكية أو الشيوعية.
التطور المركب واللامتكافئ
كانت ظروف الاشتراكية بحلول عام 1917، موجودة بالتأكيد على الصعيد العالمي. فخلال العقود التي سبقت الحرب العالمية الأولى، أصبح الإنتاج الرأسمالي اجتماعيا ومخططا بشكل متزايد. لكن الثروة المنتجة استمرت تحت سيطرة أرباب العمل والمصرفيين.
وكما أوضح لينين في “الإمبريالية: أعلى مراحل الرأسمالية”، فقد أصبح الاقتصاد تحت سيطرة الاحتكارات، التي اندمجت مع رأس المال المالي والدولة، لتشكيل ما أسماه “رأسمالية الدولة الاحتكارية”[7].
وقد كانت آلة الحرب الإمبريالية الألمانية المثال النموذجي عن ذلك. فقد أخذت الدولة الصناديق الصناعية وشبكات النقل في البلاد وبدأت تقوم بالتخطيط للإنتاج بدلا من السوق “الحرة”، وإن كان ذلك في مصلحة الرأسماليين.
ومع ذلك، فقد استولت الطبقة العاملة على السلطة لأول مرة ليس في بلد رأسمالي متقدم، مثل ألمانيا أو بريطانيا، بل في روسيا شبه الإقطاعية، حيث لم تتحقق حتى مهام الثورة البرجوازية، مثل الإصلاح الزراعي.
أشار لينين إلى أن “التاريخ قد أنتج في عام 1918 نصفين منفصلين من الاشتراكية يعيشان جنبا إلى جنب”. وأضاف: “لقد أصبحت ألمانيا وروسيا التجسيد الأكثر بروزا للتحقق المادي للظروف الاقتصادية والإنتاجية والاجتماعية والاقتصادية للاشتراكية من ناحية، وللظروف السياسية من ناحية أخرى”[8].
كان هذا تعبيرا قويا عما أسماه تروتسكي “قانون التطور المركب واللامتكافئ”.
اضطرت روسيا القيصرية، بسبب تخلفها، إلى استيراد رأس المال والآلات والتقنية من الخارج. ونتيجة لذلك، تميزت البلاد، عام 1914، بوجود جزر من الصناعات الحديثة، مع طبقة عاملة نامية، محاطة ببحر من التخلف الاقتصادي والثقافي. سيثبت هذا التناقض أنه كان سبب ولادة الثورة الروسية، وكذلك حفار قبرها في النهاية.
انكسرت سلسلة الرأسمالية العالمية عند أضعف حلقاتها. لقد تم دفع روسيا إلى طريق الثورة الاشتراكية، كما أوضح تروتسكي، “ليس لأن اقتصادها كان أول اقتصاد نضج للتغيير الاشتراكي، بل لأنها لم تستطع التطور أكثر على أساس رأسمالي”[9].
كانت روسيا أضعف القوى الكبرى المشاركة في الحرب العالمية الأولى، وتفتقر للقوات المسلحة الحديثة والصناعة التي كانت عند منافسيها. كان لا بد من تحويل القدرة الصناعية المحدودة للبلد نحو إنتاج الأسلحة، مما أدى إلى تفاقم ندرة السلع الأساسية وتفكك البنية التحتية.
وعلاوة على ذلك، فقد كان النظام يعتمد بشكل خاص على طباعة النقود والديون لتمويل نفقاته العسكرية. ونتيجة لذلك، ارتفعت الأسعار بمقدار ثلاثة أضعاف خلال تلك السنوات[10].
حاول الوزراء القيصريون التخفيف من الجوع بين العمال والجنود من خلال فرض ضريبة الحبوب على الفلاحين. لكن ذلك أثار الغضب في الأرياف.
الانهيار الاقتصادي والتضخم المستشري ونقص السلع؛ والمصادرة القسرية للغذاء من الفلاحين: كل تلك الفظائع التي يتهم المؤرخون البرجوازيون البلاشفة بإحداثها كانت موجودة قبل وقت طويل من تطبيق “شيوعية الحرب”.
كانت تلك الظروف القاسية هي التي أثارت الاحتجاجات الجماهيرية في سان بيترسبورغ التي أدت إلى سقوط القيصر في فبراير 1917، ولاحقا سقوط الحكومة المؤقتة، وأدت إلى ثورة أكتوبر.
لكن نفس الظروف التي مهدت الطريق للثورة الاشتراكية جعلت بناء الاشتراكية حلما غير قابل للتحقيق داخل حدود الإمبراطورية الروسية السابقة.
منذ البداية، شرع لينين والبلاشفة في تحقيق ذلك الهدف الهائل، مسلحين بمنظور أن نجاح الثورة سيتحدد في النهاية من خلال انتشارها أمميا. فبدون ذلك، لن تستطيع الجمهورية السوفياتية الناشئة البقاء، ناهيك عن بناء الاشتراكية.
اعترف لينين بهذه الحقيقة صراحة في عام 1918، عندما قال: “في جميع الأحوال، وتحت أي ظرف من الظروف، إذا لم تأت الثورة الألمانية، فإننا محكوم علينا بالفشل”[11].
الماركسية ضد التسيير الذاتي
لم تكن المهمة المباشرة للبلاشفة -ولم يكن من الممكن أن تكون- هي تطبيق خطة اشتراكية كاملة التكوين، بل مجرد منع الانهيار الكامل، إلى جانب نشر الثورة العالمية.
قاد البلاشفة العمال والفلاحين في روسيا إلى السلطة. لكن في الأشهر التي أعقبت أكتوبر 1917، اجتاحتهم الحركة بشكل كبير، وأجبروا على رد الفعل على الأحداث، بدلا من توجيهها.
لقد حدث الاستيلاء على السلطة في سياق نهوض ثوري هائل في كل من المدن والأرياف. شكل العمال لجان إضراب في المصانع، بينما طرد الفلاحون الفقراء كبار الملاكين من عقاراتهم، وبدأوا في توزيع الأرض بينهم.
حاول لينين والبلاشفة توجيه تلك الموجة نحو الغايات الاشتراكية. لكن الاعتبارات السياسية تفوقت باستمرار على المثل الاقتصادية. ولم يكن جهاز الدولة العمالية الجديدة قويا بما يكفي لترجمة السياسة إلى أفعال.
فلنأخذ مسألة الأرض مثلا: بعد يوم على ثورة أكتوبر، أصدر المؤتمر الثاني لسوفييتات عموم روسيا مرسوما ألغى رسميا الملكية الخاصة للأرض. وبدلا من استخدام الأراضي المصادرة لإنشاء مزارع جماعية واسعة النطاق وتنظيم الزراعة على أسس اشتراكية، اضطر البلاشفة إلى تبني ما سمي برنامج ‘الحزب الاشتراكي الثوري’، الذي أعطى الأرض للفلاحين على أساس فردي.
بتلك الطريقة، تمكن البلاشفة من كسب جماهير الفلاحين. ولكن عندما أصبحوا في الحكومة، سرعان ما ظهرت الاحتكاكات مع تلك الكتلة الجديدة من المالكين الصغار.
وذات الشيء بالنسبة العمال ولجان المصانع، فقد رأى البلاشفة على أنها شكل جنيني للرقابة والإدارة العماليتين، ومكون أساسي من التخطيط الاشتراكي في الصناعة. وبالنظر إلى تخلف البلاد، فقد تصور لينين فترة طويلة من الرقابة العمالية، تتعلم خلالها الطبقة العاملة كيفية إدارة الصناعة من خلال دراسة أساليب الملاكين القدامى وخبرائهم.
كانت الخطوات الأولى في اتجاه نظام الرقابة العمالية خطوات فوضوية، وتم تطبيقها على المصانع المحلية دون أي خطة. نظر العديد من العمال إلى سلطة العمال من منظور نقابي: ليس على شكل سلطة العمال على الإنتاج ككل، بل على شكل تعاونيات للعمال تسير أماكن عملهم الخاصة، بشكل مستقل عن أي شخص أو أي شيء آخر.
عندما احتل العمال المصانع، وهرب الرأسماليون، أصبحت العديد من الشركات في ملكية الدولة. لكن العمال في تلك الشركات غالبا ما افترضوا أنهم هم أنفسهم من صاروا مالكيها.
في تأريخه عن روسيا السوفياتية، أفاد E. H. Carr أنه كانت هناك حالات “استولى فيها العمال على مصنع أو قاموا ببساطة بتخصيص أمواله أو بيع مخزوناته ومعداته لمصلحتهم الخاصة”[12].
كان هذا هو الفرق بين الماركسية وبين التسيير الذاتي (Autonomism)؛ الفرق بين العمال الذين يتصرفون باعتبارهم طبقة ضد الرأسماليين، وبين مجموعات العمال الذين يكافحون ضد أرباب العمل الأفراد؛ بين التخطيط المنسق والمركزي من قبل دولة عمالية، وبين السيطرة المستقلة من قبل مجالس العمال والتعاونيات المتفرقة والمعزولة.
ويخلص كار إلى أن ” الفكرة القائلة بأن مشاكل الإنتاج وعلاقات الطبقات في المجتمع يمكن حلها من خلال العمل المباشر والعفوي لعمال المصانع الفردية لم تكن اشتراكية، بل نقابية”، ويضيف:
“لم تسع الاشتراكية إلى إخضاع المقاول الرأسمالي غير المسؤول للجنة مصنع هي أيضا غير مسؤولة بنفس القدر، وتدعي نفس الحق في الاستقلال الفعلي عن السلطة السياسية؛ هذا لا يمكن إلا أن يديم “فوضى الإنتاج” التي اعتبرها ماركس وصمة عار دامغة للرأسمالية”. [13]
تأميم الصناعة
حاول البلاشفة بوعي السيطرة على الوضع. ففي دجنبر 1917، أنشأت الحكومة السوفياتية المجلس الأعلى للاقتصاد الوطني.
كان المجلس الأعلى للاقتصاد الوطني مسؤولا عن “تنظيم النشاط الاقتصادي للأمة والموارد المالية للحكومة”[14]. كانت مهمته الأولى هي وضع الـ “Glavki” تحت سيطرتها، التي هي صناديق الشركات الكبرى في كل القطاعات، مثل المعادن والنسيج، والتي ظهرت في العهد القيصري، من أجل تخطيط الإنتاج في زمن الحرب.
القطاع الأول الذي تم تأميمه هو قطاع المالية. عند تحليله لدروس كومونة باريس، أكد ماركس أن فشل الكومونيين في الاستيلاء على بنك فرنسا كان خطأ فادحا. وقد استفاد لينين والبلاشفة من هذه الكلمات الحكيمة.
ففي دجنبر 1917، وردا على التخريب من قبل المصرفيين، نشرت الحكومة السوفياتية قواتها وأصدرت مرسوما بدمج البنوك في بنك وطني واحد، مع احتكار العملة وعمليات الائتمان.
كما ألغت جميع الديون العامة التي تراكمت على الحكومات السابقة، وخاصة تلك المستحقة لممولين أجانب. قوبل هذا بعواء احتجاجي من الإمبرياليين، الذين قطعوا بسرعة خطوط الائتمان المتبقية، مما زاد من أهمية سيطرة الدولة على النظام المالي.
في أماكن أخرى، كانت أغلب التأميمات عفوية في البداية، وجاءت رد فعل دفاعي على التخريب من قبل الرأسماليين، أو تأييدا لإجراء مباشر اتخذه العمال. في الأشهر التسعة الأولى، تم تنفيذ أكثر من ثلثي التأميمات كمبادرات من قبل السوفييتات المحلية ومجالس العمال، وليس بأوامر من الأعلى[15].
ما بين ن حوالي ماي إلى يونيو عام 1918، ومع تكثيف عمليات التخريب من قبل الرأسماليين، وتصعيد الإمبرياليين لتدخلهم، اضطر البلاشفة إلى تغيير الاتجاه وتأميم قطاعات كاملة من الصناعة. لكن وحتى في ذلك الحين، كانت عمليات المصادرة تتم بشكل أساسي من خلال ترتيبات خاصة، وليس كجزء من خطة عامة.
من الواضح أن الطبقة العاملة كانت القوة المحركة للثورة. لكن تلك الطاقة كانت بحاجة إلى الاشراف عليها وتوجيهها، بطريقة منظمة ومخططة بوعي.
مع ذلك، وكما أوضح لينين، لم تكن لدى الدولة السوفياتية الفتية القدرة على التخطيط للإنتاج بشكل صحيح. وفي كثير من الحالات، مع افتقار الدولة للموارد، سرعان ما تم تأجير الشركات المؤممة لأصحابها السابقين، مع بقاء نفس المديرين في مكانهم.
من شأن النظام الحقيقي للرقابة والإدارة العماليتين أن يقوم على لجان المصانع والنقابات العمالية والسوفييتات المحلية التي تعمل جنبا إلى جنب، والتي لكي تكون ناجحة، كما أوضح لينين، لا بد من توفر شروط مادية معينة، شروط لم تكن الجمهورية السوفياتية تمتلكها بعد.
ما كان مطلوبا هو طبقة عاملة ذات وقت وثقافة كافيين: مستوى من الإنتاجية يمكن العمال من وقت فراغ كاف للمشاركة في إدارة الإنتاج، إلى جانب التعليم والمهارات اللازمة لأداء المهام الإدارية المعنية.
باختصار، حتى التخطيط الاشتراكي لا يمكن تحقيقه بشكل صحيح دون التطور السريع للقوى المنتجة.
وبدلا من ذلك، دعا لينين إلى الاقتصار على تأميم المفاتيح الرئيسية للاقتصاد، مع ترك المديرين القدامى في مكانهم، لكن تحت إشراف العمال. كان من المقرر أن يكون ذلك مصحوبا بأقصى قدر من المركزية والتنظيم للصناعة، تحت اشراف المجلس الأعلى للاقتصاد الوطني.
في ذلك الوقت ظهرت داخل الحزب البلشفي معارضة ‘شيوعية يسارية’، أثارت خلافات مع هذا الموقف. تبنى هؤلاء اليساريون المتطرفون مفهوم التسيير الذاتي، وفي نفس الوقت دعوا إلى “سياسة تشريك حازمة”.
لم يعرهم لينين اهتماما كبيرا كما لم يهتم بشأن اتهاماتهم للسلطة بأنها كانت تجسد “انحراف البلاشفة نحو اليمين”[16].
لقد أكد لينين: “إن الأعمى وحده من لا يمكنه أن يرى أننا قمنا بتأميم ومصادرة وهزيمة وإخضاع عدد أكبر من [الرأسماليين] بما لا يسمح لنا الوقت بإحصائه”. بينما شدد على أن “المصادرة يمكن أن تتم بـ”الإصرار” وحده، دون مهارة الحساب والتوزيع بشكل صحيح، في حين أن الاشتراكية لا يمكن تحقيقها من دون تلك المهارة”[17].
ترافق تأميم “القطاعات الحيوية” للاقتصاد مع تطبيق احتكار الدولة للتجارة الخارجية، والذي تم تنفيذه رسميا في أبريل 1918.
كان ذلك أمرا حيويا لحماية الاقتصاد السوفياتي الناشئ من ضغوط السوق العالمية الرأسمالية، ولمنع التجار الانتهازيين من تحويل الثروة إلى خارج البلاد، أو مراكمة الأرباح من الاستيراد.
إن السيطرة على التمويل والتجارة الخارجية، إلى جانب تأميم الصناعة الكبيرة، يشكل بالنسبة للمستقبل قاعدة للتخطيط الاشتراكي. وعلى المدى القصير، كانت تلك التحركات ضرورية للدفاع عن الثورة.
كان ذلك ما آلت إليه الأمور في الجمهورية السوفياتية عندما بدأت الحرب الأهلية بالانتشار، مجبرة البلاشفة على إخماد حرائق أكبر.
شيوعية الحرب
كانت الاضطرابات الناجمة عن التتابع السريع للحرب العالمية والحرب الأهلية عميقة.
بين عامي 1918 و1920، أجبر ملايين اللاجئين الداخليين على الفرار من منازلهم، حيث قامت القوات الإمبريالية والجيوش البيضاء بنهب البلدات والقرى. ومات الملايين بسبب الجوع والأوبئة.
جاء ذلك على رأس خسائر محلية فادحة نتيجة لمعاهدة بريست ليتوفسك والنهب الإمبريالي الألماني.
تعطلت المحاصيل بشدة، وانقطعت خطوط النقل، وانخفض عدد سكان المدن، حيث عاد العمال الجائعون إلى قراهم بحثا عن الطعام.
انخفض الإنتاج الصناعي بسبب حرمان المصانع من العمال والمواد الخام والوقود. وبحلول عام 1920، كانت الصناعات الكبرى تعمل بنسبة 13% فقط من مستواها قبل الحرب[18].
كان الهدف الوحيد للحكومة البلشفية في ذلك الوقت هو البقاء. وهكذا بدأت الفترة والبرنامج المعروفين باسم ‘شيوعية الحرب’، التي هي محاولة لتوجيه كل الموارد المتاحة نحو الجيش الأحمر.
خلال القيام بذلك، لم يتبق سوى القليل للعمال والفلاحين. واجه العمال أسعارا متصاعدة ونقصا حادا في المدن، إلى جانب ساعات وظروف عمل مرهقة في المصانع. أما الفلاحون فقد تعرضوا لمصادرة الدولة لحبوبهم ومواشيهم.
حاولت الحكومة حل أزمة الغذاء من خلال شن الحرب على المضاربين والتجار الخاصين والكولاك (الفلاحون الرأسماليون الأثرياء)، الذين كانوا يستفيدون ويخزنون الحبوب. لكن الغارات على القرى والمتاجر لا يمكنها أن تغير الكثير.
كما طلبت الحكومة المركزية المساعدة من التعاونيات، على أمل أن يتمكنوا من الحصول على الطعام وتوزيعه عبر شبكاتهم. ومن المفارقات أنهم أثبتوا أنهم غير متعاونين على الاطلاق.
بحلول عام 1919، طبق البلاشفة الـ prodrazvyorstka، التي هي حصص تسليم إلزامية للحبوب، بأسعار تحددها الدولة. وهو ما كان يعني، في بعض الحالات، مصادرة فوائض الحبوب. أما في الحالات الأخرى فقد كان الوضع أشبه بذلك لأن الأموال المدفوعة في المقابل كانت ضئيلة وقيمتها تتناقص بشكل متزايد بسبب التضخم.
اشترك الآلاف من المتطوعين للمساعدة في حملة المصادرة. وشكلت النقابات ولجان المصانع والسوفييتات ‘ألوية طعام’ مسلحة، كان تستهدف بشكل أساسي الكولاك.
كانت مهمتهم، بالإضافة إلى الكشف عن المخزونات السرية والاستيلاء على الحبوب، هي التحريض السياسي بين الفلاحين الفقراء، حتى يتمكنوا من الانضمام إلى حملة البحث عن الطعام والنضال ضد الفئات الأكثر ثراء في الريف.
كان هدف البلاشفة هو دق إسفين بين الكولاك وبقية الفلاحين. ومع ذلك، فإن الفائض الذي يمكن الحصول عليه من الكولاك لم يكن كافيا، مما أدى إلى توسيع نطاق اختصاص الـ prodrazvyorstka. وفي الوقت نفسه، مال الفلاحون الفقراء إلى التماهي مع أقرانهم من سكان الريف، عوض عمال في المدن.
وبما أنه لم تكن توجد أموال كافية ولا سلع صناعية تقدم للفلاحين مقابل حبوبهم، فقد قوبلت طلبات الشراء بالمقاومة والتخريب، بما في ذلك تخفيض مستويات البذر.
واجه العمال في ألوية الطعام خطر التعرض للمذابح من قبل أتباع الكولاك. وفي العديد من المرات ظهرت جثث الجباة في حظائر، بطونهم مبقورة ومحشوة بالحبوب[19].
وقعت الحكومة في حلقة مميتة. فبدون صناعة كافية، لم يكن في مقدورها تزويد الفلاحين بالسلع التي كانوا يطلبونها مقابل طعامهم. وهذا يعني تفاقم نقص الغذاء للعمال، مما أدى إلى مزيد من الانخفاض في الإنتاج الصناعي. وطوال الوقت، كان لا بد من إطعام الجيش.
تدابير صارمة
أدت الحرب الأهلية إلى تسريع تأميم الصناعة. تطلب المجهود العسكري وجود مركزية صارمة لمكافحة الفوضى المنتشرة في جميع قطاعات الاقتصاد. كان لابد من تركيز الإنتاج في المصانع الأكثر كفاءة. وكان لا بد من توجيه المواد النادرة إلى حيث ستكون أكثر فعالية.
بحلول نوفمبر 1920، كان المجلس الأعلى للاقتصاد الوطني مسؤولا عن الإشراف على حوالي 3800-4500 مؤسسة حكومية[20]، معظمها من الصناعات الكبيرة، ولكن أيضا في الصناعات الأصغر التي لم تكن بالضبط “القطاعات المسيطرة” للاقتصاد.
ارتفع عدد مسؤولي Vesenkha وموظفي glavki من حوالي 300 في مارس 1918 إلى ما مجموعه 6000 في الستة أشهر التالية[21]. وكان العديد منهم قد خدموا في جهاز الدولة القيصرية، مما أدى إلى تأجيج الغضب بين العمال.
حتى في ظل ظروف الحصار تلك، حافظ البلاشفة على النقاش حول القضايا الرئيسية: حول العلاقة بين المخططين المركزيين وبين السوفييتات المحلية، وحول العلاقة بين المركزية والفيدرالية؛ وحول استخدام الخبراء والإداريين البرجوازيين الذين عُرضت عليهم أجور ومكافآت أعلى، وحول دور النقابات العمالية كأدوات لتعبئة العمال.
تعرضت القيادة في كل تلك القضايا لانتقادات لاذعة، وخاصة من جانب ما يسمى ‘المعارضة العمالية’. وكان لينين وتروتسكي أول من اعترف بأن التدابير المتطرفة التي فرضتها الحرب الأهلية كانت بعيدة كل البعد عن المثالية. لكنها كانت ضرورية.
لم يكن من الممكن كسب الحرب من دون أقصى درجات المركزية. ولم يكن من الممكن إدارة الصناعة الحكومية من قِبَل طبقة عاملة عديمة الخبرة ومنهكة، من دون مساعدة الخبراء. وكانت مهمة البقاء، وليس الاشتراكية، هي المهمة الأكثر إلحاحا في تلك اللحظة.
ومع تفاقم الخصاص، عززت الحكومة سيطرتها على التوزيع. وتم تأميم التعاونيات ومنافذ البيع بالتجزئة بشكل فعال. تم تثبيت أسعار مجموعة من المنتجات. وتم إحياء نظام الحصص التموينية، الذي كان قد تم تطبيقه قبل الثورة، مع إعطاء الأولوية للعمال الصناعيين ووضع البرجوازيين السابقين في مؤخرة الطابور.
لكن تلك الحصص لم تكن كافية. ففي عامي 1919 و1920، لم يكن سوى نحو 20% إلى 25% فقط من الغذاء في المدن يأتي من الحصص التموينية[22]. حتى أن عمال المصانع كانوا يزرعون خضرواتهم في حدائق أماكن عملهم. وكان الجوع شديدا إلى الحد الذي جعل من المستحيل العثور على القطط والكلاب والخيول في بتروغراد[23].
كانت حرية السوق قد ألغيت رسميا، لكن القيود الحكومية كانت عاجزة. واستمر قانون العرض والطلب في فرض نفسه. وانتشرت الأسواق السوداء، حيث عرض “المضاربون” السلع النادرة بأسعار مبالغ فيها للغاية.
ولتمويل الإنفاق الحكومي، لجأت الحكومة بشكل متزايد إلى طباعة النقود. وأصبحت قيمة الروبل منخفضة بشكل متزايد. وارتفع معدل التضخم من 600% في عام 1918 إلى 1400% بعد عام واحد[24].
ومع فقدان العملة لقيمتها، بدأ الاقتصاد يكافح من أجل البقاء بدونها. وتم استبدال النقود بالدفع العيني. كانت الشركات المؤممة تتبادل المواد على أساس حسابات المجلس الأعلى للاقتصاد الوطني. وكانت الدولة تقدم الحصص الغذائية والخدمات -مثل المطاعم العامة ووسائل النقل- بالمجان. وبدلا من الأجور، كان عمال المصانع يحصلون على حصة من منتجاتهم الصناعية، التي كان يتم تبادلها عن طريق المقايضة في السوق السوداء.
قانون القيمة
لقد أدت شيوعية الحرب، من خلال الطوارئ و الملائمة، إلى اقتصاد مؤمم بالكامل تقريبا وبلا نقود. لكن هذا لم يكن له سوى القليل من القواسم المشتركة مع المفهوم الماركسي للاشتراكية أو الشيوعية. كانت تلك النتيجة المتناقضة نتاجا للدمار واليأس، وليس للمبدأ أو التخطيط.
حاول المزيد من البلاشفة اليساريين المتطرفين تصوير تلك الضرورة وكأنها فضيلة. وما حدث بشكل غير متوقع وفوضوي، نتيجة للفوضى والانهيار، تم تصويره كخطوة مقصودة نحو الاشتراكية.
في الواقع، استمرت قوانين الرأسمالية في العمل، ليس فقط من الخارج من خلال ضغط السوق العالمية، بل وحتى ضمن حدود الدولة العمالية نفسها.
شرح ماركس أنه بالنسبة لكل نظام اقتصادي، هناك ديناميات موضوعية معينة، قائمة بشكل مستقل عن أي نوايا أو إرادة، تنظم ثروة المجتمع وعمله ووسائل الإنتاج.
وأوضح أنه في ظل الرأسمالية، تأخذ ثروة المجتمع شكل سلع: السلع المنتجة للتبادل، والموزعة عبر السوق.
يتم تبادل السلع، بالمتوسط، وفقا لقيمتها، والتي يحددها وقت العمل الضروري اجتماعيا المتضمن فيها. وقد أطلق ماركس على هذا اسم: قانون القيمة.
ينظم قانون القيمة الاقتصاد الرأسمالي. يحدد النسب التي يتم بها تبادل السلع. وهو الذي يحدد قيمة النقد، “سلعة السلع”، وهو الذي يوجه تدفق رأس المال من قطاع إلى آخر، فيشكل بذلك تقسيم العمل العالمي.
داخل الرأسمالية، كل جزء من الاقتصاد مترابط من خلال ‘اليد الخفية’ للسوق. لكن هذا النظام يعمل بشكل أعمى، خلف ظهور الرأسماليين والعمال على حد سواء.
لذلك يعبر قانون القيمة عن نفسه في ظل الرأسمالية من خلال فوضى قوى السوق وتقلبات إشارات الأسعار، والسعي لتحقيق التوازن من خلال الفوضى والأزمات.
في ظل شيوعية الحرب، على النقيض من ذلك، تمت مصادرة أملاك الطبقة الرأسمالية بأكملها. تم تجاوز علاقات السوق رسميا، حيث تم توزيع السلع والخدمات الأساسية رسميا ليس كسلع، بل عبر الدولة.
هل من الممكن القول إذن إنه تمت الإطاحة بقانون القيمة، وأصبح من الممكن للنقد أن يخرج بسلاسة من مسرح التاريخ؟
لقد أوضح ماركس أن النقد هو في النهاية مقياس للقيمة؛ تمثيل لوقت العمل الضروري اجتماعيا؛ استحقاق لجزء من إجمالي الثروة في المجتمع.
النقد هو أداة اجتماعية، تعمل كوسيلة للتبادل، ووحدة حساب، ومخزن للقيمة. لكن النقد، مثله مثل أي أداة، لا يمكن التخلص منه إلا عندما يصير متجاوزا وغير ضروري.
النقد، مثله مثل الدولة، يجب أن يضمحل خلال الانتقال من المرحلة الأولى من الشيوعية (الاشتراكية) إلى المرحلة العليا من الشيوعية، حيث يتم تطوير القوى المنتجة؛ مع تحول الندرة إلى وفرة فائقة؛ وحيث يستعاض عن إنتاج السلع الأساسية وتبادل الأسواق بتخطيط وتوزيع واعين.
على هذا الأساس فقط يمكن التغلب على قانون القيمة باعتباره المنظم الرئيسي للاقتصاد، إلى جانب أعراضه النقدية والمادية: الأسعار المتقلبة والخصاص.
يوضح تروتسكي أنه: “في المجتمع الشيوعي، ستختفي الدولة والمال”. ويضيف: “يجب أن يبدأ موتهما التدريجي في ظل الاشتراكية”. لكنه يؤكد أنه “لا يمكن” إلغاء “المال بشكل تعسفي”:
“لن يتم توجيه الضربة القاضية إلى صنم النقد إلا في تلك المرحلة التي يجعلنا عندها النمو المطرد للثروة الاجتماعية قادرين على أن ننسى موقفنا البخيل تجاه كل دقيقة زائدة من العمل، وخوفنا المهين بخصوص حجم حصتنا”[25].
كان وجود الأسواق السوداء والخصاص واسع النطاق مؤشرا واضحا على أن الظروف المادية لاختفاء السلع والمال وقانون القيمة -شروط الشيوعية الحقيقية- لم تكن موجودة في ظل شيوعية الحرب.
إنتاجية العمل كانت ضئيلة. وكل “دقيقة زائدة من العمل” كانت ثمينة. وكان “حجم الحصص التموينية” مهينا بالفعل.
في ظل تلك الظروف، لم يضعف قانون القيمة، وإنما أكد نفسه بشكل أكثر حدة، وهو ما اتضح من حقيقة أن العمال اضطروا إلى اللجوء إلى المقايضة، وهي أبسط أشكال التبادل.
لذلك مثلت شيوعية الحرب خطوة إلى الوراء أكثر من كونها خطوة نحو بناء مجتمع شيوعي.
لقد ارتكب اليساريون المتطرفون خطأ نظريا خطيرا بافتراضهم أن الثورة قد قلبت قوانين الرأسمالية بضربة واحدة؛ وأن ملكية الدولة كافية لتجاوز قانون القيمة. هذا الخطأ الجسيم سيتكرر لاحقا من قبل الستالينيين.
السياسة الاقتصادية الجديدة
بحلول نهاية عام 1920، تحول المد لصالح الجيش الأحمر. وفر ذلك بعض المساحة لأخذ النفس: فرصة للبلاشفة لمراجعة سياسات شيوعية الحرب والتخطيط للخطوات التالية.
كانت البلاد بأكملها في حالة خراب. كل قطاعات الاقتصاد -الصناعة والزراعة والنقل- كانت قد تحطمت. كان الجوع والمرض يطاردان البلاد. وكان التضخم خارج نطاق السيطرة.
كان ذاك هو السياق القاتم للمناقشات التي بدأت داخل الحزب في أوائل عام 1921، وبلغت ذروتها فيما أصبح يعرف باسم السياسة الاقتصادية الجديدة.
كانت القضية الأكثر إلحاحا هي نقص الغذاء. وكان يجب الحصول على المزيد من الحبوب من الفلاحين. لكن الـprodrazvyorstka كانت قد استنفذت.
مع انحسار خطر الثورة المضادة البيضاء -ومعها خطر عودة الملاكين العقاريين الكبار- أصبح الفلاحون أقل تسامحا مع عمليات المصادرات التي كانت تقوم بها الدولة. أدى ذلك إلى اندلاع التمرد في الأرياف، والذي تطور مع تمرد كرونشتاد في مارس 1921.
كانت تلك الانتفاضات عبارة عن أعراض تدل على أن الإجراءات المطبقة كانت غير مستدامة؛ وأن التناقضات الطبقية كانت بعيدة عن الحل؛ وأن شيوعية الحرب لم تمثل الأسس لقفزة نحو الاشتراكية، كما تخيل اليساريون المتطرفون الطوباويون.
لذلك غيرت الحكومة المسارات. تم استبدال مصادرة الحبوب بضريبة عينية تصاعدية. وصار يتعين على الفلاحين تسليم جزء من محصولهم، لكن يحق لهم بيع الفائض من خلال قنواتهم الخاصة. وتم استبدال الإكراه بالتحفيز.
لكن تلك الخطوة الصغيرة على ما يبدو اتخذت منطقا خاصا بها، وبدأت كرة الثلج تكبر بطريقة لم يتوقعها أحد بشكل كامل.
أولا، لكي يبيع الفلاحون حبوبهم، كان يجب أن تكون هناك سلع أخرى -الملابس والمنتجات الصناعية والمواد الغذائية الأخرى- يمكنهم إنفاق أموالهم المكتسبة حديثا عليها.
وهذا يعني تكثيف إنتاج السلع الاستهلاكية. لكن الصناعات المملوكة للدولة أصيبت بالشلل. والموارد اللازمة لإصلاحها لا يمكن أن تأتي بطريقة سحرية إلى الوجود.
إن الثورة الناجحة في البلدان الرأسمالية المتقدمة كانت ستحل المشكلة. لكن الرأسمالية نجت من الموجة الثورية الأولى بعد الحرب، والتي بلغت ذروتها في عام 1919.
لذلك اضطرت الحكومة البلشفية إلى الاعتماد على المنتجين الصغار من القطاع الخاص: الحرفيين والتعاونيات والصناعات المنزلية، الذين لم يكونوا يحتاجون إلى استثمارات كبيرة مقدما. وبالمثل فقد تم تأجير الشركات المؤممة في الصناعات الخفيفة لأصحاب المشاريع الخاصة، وسمح لهم بالإنتاج من أجل الربح.
كل ذلك أدى إلى مطلب آخر وهو إزالة ضوابط الأسعار واضفاء الشرعية على الأسواق. كان ذلك ضروريا لتزويد الفلاحين بوسائل لبيع فائض إنتاجهم، ولتوزيع المواد الغذائية من الريف إلى المدن، وجلب السلع المصنعة إلى القرى.
أدى ذلك إلى ظهور أغنياء السياسة الاقتصادية الجديدة سيئي السمعة: التجار والباعة المتجولين -الذين كانوا طلقاء بالفعل في ظل شيوعية الحرب يديرون الأسواق السوداء- والذين صاروا يسهلون تلك الشبكة من التجارة الخاصة، ويحققون أرباح كبيرة من ذلك.
كانت النتيجة المنطقية التالية هي الحاجة إلى استقرار العملة. كيف يمكن أن تكون هناك تجارة خاصة بدون وسيلة موثوقة للتبادل وأسعار ثابتة؟
أثار ذلك المزيد من الأسئلة، والتي تم طرحها خلال المناقشات حول السياسة الاقتصادية الجديدة في المؤتمر العاشر للحزب في مارس 1921. كما طرحها E. H. Carr في تقاريره:
“من الواضح أن [تثبيت العملة] لا يمكن تحقيقه طالما أن المطبعة مستمرة في إنتاج كمية غير محدودة من الروبل؛ وقد كان متعذرا ضبط المطبعة طالما لم تتمكن الحكومة من إيجاد طريقة أخرى لتحقيق الغايتين؛ ومن غير الممكن جعل الإنفاق الحكومي ضمن حدود أي إيرادات يمكن تصورها حتى تعفي الدولة نفسها من التكاليف الباهظة للحفاظ على صناعة الدولة والعاملين فيها”[26].
وخلاصة القول هو أن ذلك النظام الاقتصادي التضخمي كان يحتاج إلى الاستعاضة عنه بنظام النقدية والتقشف.
بحلول يوليوز 1922، وفي محاولة لإخضاع التضخم المفرط المستشري (الذي صار يبلغ أكثر من 7000%[27])، تم استبدال الروبل القديم المخفض رسميا بعملة جديدة مدعومة بالذهب (Chervonets).
بدأت عملية ‘ترشيد’ في صناعة الدولة، والمعروفة باسم “khozraschet”. لم يعد بإمكان مؤسسات الدولة الاعتماد على البنك الوطني. وبدلا من ذلك، كان عليهم أن يعملوا كشركات مكتفية ذاتيا، تعمل على أساس المبادئ التجارية: إدارة حساباتهم الخاصة؛ خفض التكاليف؛ تحسين الكفاءة؛ التعامل مباشرة مع المنتجين والموزعين في الأسواق؛ والسعي لتوليد فائض (لكن ليس من أجل ربح الرأسماليين الأفراد).
تم تأجير المؤسسات الحكومية ‘غير المربحة’ (الصغيرة بشكل أساسي) تحت إدارة خاصة، ودفع إيجار عيني، أو تم دمجها داخل التروستات. لكن جميع الصناعات الأكثر أهمية -القطاعات المسيطرة- إلى جانب البنوك، ظلت تحت سيطرة الدولة، وتوظف الغالبية العظمى من العمال الصناعيين.
لموازنة السجلات المحاسباتية، كان على مؤسسات الدولة خفض تكاليفها. وقد أدى ذلك إلى بيع الأصول بأسعار بخسة. وكانت النتيجة وفرة من السلع الصناعية التي وصلت إلى السوق، في الوقت الذي كان فيه الطلب منخفضا. انخفضت الأسعار مقارنة بالسلع الزراعية، مما أفاد الفلاحين على حساب المنتجين والمستهلكين في المدن.
كما اضطرت تلك الشركات إلى تنفيذ تسريحات جماعية. عاد جيش العمال الاحتياطي للرأسمالية. وعلاوة على ذلك، طالبت “khozraschet” بأن يتم دفع أجور العمال مرة أخرى بأجور نقدية، مع مكافآت لتحفيز العمل الشاق.
كانت تلك صدمة حادة للطبقة العاملة؛ وتغييرا صارخا عن تعبئة العمل التي شوهدت في ظل شيوعية الحرب، عندما كان يتم ضمان التوظيف وأساسيات المعيشة. قال كار (Carr) “تم استبدال ذلك الشكل الخام من الانضباط العمالي بـ’السوط الاقتصادي’ القديم للرأسمالية”.
وأضاف: “العمل كالتزام قانوني جاء بعده العمل كضرورة اقتصادية؛ والخوف من العقوبات القانونية استبدل بالخوف من الجوع كعقوبة”.
وخلص إلى أنه “في أقل من عام، أعادت السياسة الاقتصادية الجديدة إنتاج الأساسيات المميزة للاقتصاد الرأسمالي”[28].
التراكم الاشتراكي الأولي
منذ القرار الأولي بالسماح للفلاحين ببيع فائض الحبوب، حدث تحول في مختلف قطاعات الاقتصاد. ومن خلال شد ذلك الخيط الواحد، تفككت شيوعية الحرب.
ربما كانت التأثيرات الكاملة لإعادة علاقات السوق في الزراعة غير متوقعة، لكنها لم تكن عرضية. فقد عبر انهيار شيوعية الحرب عن ضرورة معينة.
لقد شكلت الأجزاء المختلفة من السياسة الاقتصادية الجديدة كلا مترابطا. وقد أدى اتخاذ الخطوة الأولى في اتجاه السوق إلى دفع الحكومة إلى مسار أبعد كثيرا مما كانت تريده في البداية. فرضت الضغوط الموضوعية نفسها، فتجاهلت الرغبات الذاتية.
لم يفلت الاتحاد السوفياتي من قوانين الرأسمالية ولم يكن بإمكانه ذلك. مع ذلك، وفي الوقت نفسه، لم تكن دولة العمال عاجزة تماما في مواجهة قوى السوق.
أوضح تروتسكي، في عام 1922، أن: “الدولة العمالية، في حين تحول اقتصادها نحو أسس السوق، لا تتخلى عن بدايات الاقتصاد المخطط، حتى خلال الفترة القادمة مباشرة”.
وتابع أن “سيطرة الدولة المركزية على المؤسسات [الصناعية الرئيسية] سيتم دمجها [في إطار السياسة الاقتصادية الجديدة] مع السيطرة التلقائية على السوق”.
كانت مهمة الدولة السوفياتية، وفقا لتروتسكي، هي “المساعدة في القضاء على السوق في أسرع وقت ممكن”.
والأهم من ذلك، كما أكد، هو أن دولة العمال يجب أن تستخدم سيطرتها على الائتمان والتجارة الخارجية والضرائب لتوجيه الموارد نحو القطاع الصناعي العمومي.
كان احتكار الدولة للتجارة الخارجية جزءا أساسيا من ذلك. وقد ناضل كل من لينين وتروتسكي ضد أي اقتراح بضرورة إلغائه أو تخفيفه. وشددا على أن ذلك من شأنه أن يقوي الكولاك وأثرياء النيب، على حساب دولة العمال والاقتصاد المخطط.
وأوضح تروتسكي أن وجود مفاتيح القطاع المالي والتمويل في أيدي الدولة “يوفر الفرصة لامتصاص أجزاء أكبر بشكل متزايد من دخل رأس المال الخاص لصالح الاقتصاد المؤمم، ليس فقط في مجال الزراعة (الضرائب العينية)، بل أيضا في مجال التجارة والصناعة”[29].
وبهذه الطريقة، سيضطر القطاع الخاص إلى “تقديم الجزية” لما أسماه تروتسكي “التراكم الاشتراكي الأولي”، في إشارة إلى مفهوم ماركس للتراكم الأولي لرأس المال.
وهكذا فإن الصراع بين هاتين القوتين الاجتماعيتين -اللتان تعكسان ضغوط إنتاج السلع الأساسية والسوق من جهة، وتخطيط الدولة من جهة أخرى- يمثل سمة أساسية للاقتصاد السوفياتي الانتقالي.
القوانين الاقتصادية وعناصر الرأسمالية (المال، القيمة، فائض القيمة، إلخ.) ستبقى في ظل دولة العمال، لكن بشكل معدل، بحيث تخضع لدرجة أكبر فأكبر من الرقابة الواعية.
التعافي وإعادة البناء
قدمت السياسة الاقتصادية الجديدة، في سنواتها الأولى، بعض الانفراج. فبعد الجفاف الكارثي والمجاعة في منطقة الفولغا في 1921-1922، تحسنت المحاصيل. وانطلاقا من قاعدة منخفضة، بدأت الصناعة في التعافي، بشكل أساسي من خلال ترميم المصانع القديمة، بدلا من بناء مصانع جديدة.
وعلى الرغم من إعادة السوق إلى قطاعي الزراعة والتجارة فإن الصناعات الرئيسية ظلت في أيدي الدولة. واتخذت الحكومة خطوات لتحقيق مزيد من التنظيم والتخطيط فيها.
وبالفعل في عام 1920، أعيد تأسيس ‘مجلس الدفاع’ باسم ‘مجلس العمل والدفاع’، مع مسؤولية وضع خطة اقتصادية للبلد بأكمله.
تبع ذلك في العامين التاليين إنشاء “Gosplan” و”Gosbank”. كان الجهاز الأول مسؤولا عن التخطيط العام طويل الأمد. وشمل ذلك إعداد التوقعات والأهداف والأرصدة والميزانيات للإنتاج والاستهلاك؛ والإشراف على بناء المشاريع الصناعية والبنية التحتية الكبرى؛ وضمان التنسيق بين الإدارات الاقتصادية. أما الجهاز الثاني فقد كان هو البنك المركزي السوفياتي.
استكمل كلاهما عمل Vesenkha، التي استمرت في تخطيط وإدارة صناعة الدولة من خلال glavki (الصناديق الائتمانية).
استمر الانتعاش الاقتصادي على مدى السنوات القليلة المقبلة، وإن مع بعض الانتكاسات الخطيرة على طول الطريق.
كان أبرز تلك الانتكاسات “أزمة المقص” عام 1923، والتي سميت كذلك بسبب اتساع الهوة بين أسعار المنتجات الزراعية والمنتجات الصناعية.
شهدت المرحلة الأولى من السياسة الاقتصادية الجديدة استفادة الفلاحين من ارتفاع أسعار الحبوب وانخفاض أسعار السلع الاستهلاكية. فمع نمو الإنتاج الزراعي بسرعة أكبر من الإنتاج الصناعي، بدلت الأسعار أماكنها من الناحية النسبية. وفي الوقت نفسه، كانت جميع الأسعار ترتفع مقارنة بالدخل، على الرغم من محاولات الحكومة التحكم في التضخم.
تم إدخال ضوابط الأسعار على السلع الصناعية المنتجة من قبل الدولة. لكن ذلك أدى فقط إلى نقص أكبر. وكانت النتيجة توترات متزايدة بين الريف والمدينة، وعداء الفلاحين، الذين شعروا بشكل متزايد أنهم يخسرون.
كشفت تلك الحادثة عن عدم الاستقرار المتأصل في الاقتصاد السوفياتي؛ صعوبة تحقيق نمو متناغم على أساس مستوى منخفض من تطور القوى المنتجة؛ والانفجارات الاجتماعية التي يمكن أن تندلع في أي لحظة. لم يكن الأمر أشبه بحالة “مقص” بقدر ما كان أشبه بمحاولة التوازن على حافة السكين.
بحلول عام 1925-1926، تمت استعادة القدرة الصناعية في أغلبها، وعاد الإنتاج الزراعي والصناعي إلى مستويات ما قبل الحرب.
والحزب الذي لم يعد منشغلا بالنضال المباشر من أجل البقاء، بدأ اهتمامه يتحول نحو “إعادة البناء”، تمهيدا للمرحلة التالية في تطور الاقتصاد. وكان الشكل الذي يجب أن تتخذه تلك المرحلة موضع جدال كبير.
بيد أنه عند تلك النقطة، لم يكن الصراع يقتصر على نقاط صحة وأخطاء السياسة الاقتصادية، بل كان صراعا سياسيا حول مصير الثورة نفسها.
صعود البيروقراطية
كان لينين قد وصف تطبيق السياسة الاقتصادية الجديدة بأنه حل وسط مع البرجوازية الصغيرة؛ على هزيمة وتراجع، لكنه ضروري في النهاية؛ ومحاولة لكسب الوقت في انتظار توفير شريان الحياة بفعل الثورات الناجحة في بلدان أخرى.
ومع اعتمادها على أساليب السوق، كانت للسياسة الاقتصادية الجديدة عواقب سياسية مهمة. لقد أنعشت اقتصاديا الكولاك والعناصر الرأسمالية الأخرى، مما عزز ثقلهم الاجتماعي مقارنة بالطبقة العاملة. ومن المفارقات أن تلك الفئات الطفيلية كانت تستفيد من دولة العمال أكثر من العمال أنفسهم.
وهذا بدوره ساعد في صعود البيروقراطية الستالينية.
بسبب الإرهاق، تم عزل الطبقة العاملة عن دولتها وعن الإنتاج. كان على البلاشفة الاعتماد على طغمة من المسؤولين والإداريين والخبراء القدامى لأجل إدارة المجتمع. وكانت هناك حاجة موضوعية، على حد تعبير تروتسكي، إلى “شرطي للحفاظ على النظام” في ظروف العوز المعمم[30].
أدت تقوية أثرياء السياسة الاقتصادية الجديدة والكولاك إلى تسريع تلك السيرورة، مما أدى إلى الضغط على البيروقراطية للتكيف مع الإطار السوقي الجديد، والاعتماد على النزعات الرأسمالية داخل المجتمع السوفياتي.
لذلك، دعا لينين، وبالتوازي مع السياسة الاقتصادية الجديدة، إلى حملة ضد البيروقراطية والوصولية في الدولة والحزب، وإلى اتخاذ خطوات لتعزيز ديمقراطية العمال. إذا كان سيتم تقديم تنازلات اقتصادية للشرائح الرأسمالية والبرجوازية الصغيرة، فيجب موازنة تلك التنازلات بإجراءات سياسية لتقوية دولة العمال.
في أكتوبر 1923، ومع عجز لينين بسبب اعتلال صحته، أسس تروتسكي وأنصاره المعارضة اليسارية، من أجل النضال ضد الانحطاط البيروقراطي للحزب، والدفاع عن الدولة العمالية باعتبارها دولة عمالية. تضمن برنامجهم انتقادات حادة للسياسة الاقتصادية الجديدة لدورها في تغذية الكولاك والتجار والوسطاء.
وعلى الجانب الآخر كانت المعارضة اليمينية بقيادة بوخارين. كان بوخارين في أيام شيوعية الحرب، أقرب إلى اليساريين المتطرفين. لكنه تأرجح لاحقا بحدة في الاتجاه الآخر، وأصبح مدافعا متحمسا عن تحفيز النمو من خلال وسائل السوق، وهي السياسة التي لخصها في نداءه للفلاحين: “اغتنوا!”.
في الوسط كانت الترويكا (ستالين وزينوفييف وكامينيف)، تمثل مصالح البيروقراطية المتضخمة. وقد وصف تروتسكي ذلك الفصيل بأنه ‘وسطي’، بمعنى أنه يقع بين الماركسية والإصلاحية.
كان موت لينين، في عام 1924، بمثابة ضربة بالتأكيد. لكن وفاته لم تكن العامل الحاسم في انحطاط الحزب البلشفي والدولة السوفياتية. فكما كتبت رفيقته كروبسكايا لاحقا، لو كان لينين قد عاش، لكان قد انتهى به المطاف في أحد معسكرات ستالين للاعتقال.
رسم خطوط المعركة
أصبحت مسألة كيفية التطور الصناعي للاتحاد السوفياتي نقطة ساخنة مهمة في تلك الفترة من الصراع بين الجناح البروليتاري والجناح البرجوازي الصغير داخل الحزب الشيوعي.
كان كلا الجانبين يؤيدان التصنيع. والسؤال هو كيف يمكن تحقيق ذلك، وبأية وتيرة.
دعا تروتسكي وأنصاره إلى وضع خطة صناعية تحويلية وتنفيذها. وقالوا إنه ينبغي إعطاء الأولوية للاستثمار في الصناعة الثقيلة -في المصانع القادرة على إنتاج “وسائل إنتاج وسائل الإنتاج”، أي المعدات الصناعية، والأدوات الآلية، وما إلى ذلك… وليس فقط وسائل الإنتاج (بما في ذلك المواد مثل الصلب والمواد الكيميائية).
ولتحسين إنتاجية الأرض، كان لا بد من مكننة و تحديث الزراعة. تطلب ذلك إنشاء مزارع جماعية واسعة النطاق، لأن الحالة البدائية لإنتاج الفلاحين والتشتت -عبر ما بين 20 و25 مليون أسرة- لم يكن ليتلاءم مع الجرارات والتقنيات الزراعية المتقدمة.
أكد تروتسكي والمعارضة اليسارية أنه يجب تحفيز الفلاحين الفقراء والمتوسطين -وليس إجبارهم- على الانضمام إلى المزارع الجماعية، من خلال إثبات أن ذلك يمكن أن يوفر مستويات معيشية أفضل من الزراعة الصغيرة التقليدية التي تكسر الظهر.
ولتحقيق هذين الهدفين، دعا تروتسكي إلى القيام بأعمال معمارية مهمة. وشمل ذلك بناء سد كهرومائي على نهر دنيبر، لتوفير الطاقة لموجة جديدة من المصانع والمزارع الحديثة.
وعلى أساس تلك التدابير الاقتصادية الشاملة والمنهجية، أكد تروتسكي ومؤيدوه أنه يمكن تحقيق نمو هائل في إطار خطتين خماسيتين، أعلى بكثير من الأهداف المتواضعة للغاية التي وضعها بيروقراطيو “Gosplan”.
سخر الستالينيون من تلك الاقتراحات. اشتهر لينين بتلخيص الشيوعية على أنها “السلطة السوفياتية بالإضافة إلى الكهربة”. ومع ذلك فقد رد ستالين على اقتراح تروتسكي بناء سد دنيبر بأنه سيكون “معادلا لإعطاء الفلاح جهاز غراموفون عوض إعطاءه بقرة”.
تعرضت تلك الدعوات إلى وضع خطة خماسية طموحة لانتقادات لاذعة باعتبارها غير واقعية. وتم اتهام تروتسكي بأنه “نصير متطرف للتصنيع”. وحذر بوخارين على وجه الخصوص من أن تلك السياسات من شأنها أن تؤدي إلى حدوث انقسام مع الفلاحين.
دعا الستالينيون، خوفا من رد فعل الفلاحين على أي إجراءات من شأنها أن تضع ضغوطا اقتصادية على الريف، إلى تمويل التصنيع بالاعتماد بشكل أساسي على القطاع العام، عن طريق خفض التكاليف وتحسين الإنتاجية في المؤسسات المؤممة.
لكن مثل تلك السياسات لا يمكن أن تحرر إلا قدرا ضئيلا من الموارد لإعادة الاستثمار في إنتاج وسائل إنتاج جديدة، ومن هنا جاءت أهداف النمو المحافظة للستالينيين في ذلك الوقت.
وبدلا من ذلك، اقترح بوخارين أنه يجب تحفيز الفلاحين لإنتاج أكبر فائض ممكن من المواد الخام، والذي يمكن بعد ذلك استبداله بالآلات والمعدات الصناعية في السوق العالمية.
يقول المؤرخ الاقتصادي أليك نوف إن: “بوخارين نفسه تحدث عن ركوب موجة الاشتراكية على ظهر فرس فلاح. ولكن هل كان من الممكن إقناع فرس الفلاح بالسير في الاتجاه الصحيح؟ وهل كان الحزب قادراً على السيطرة عليه؟”[31].
كانت تلك هي المعارك القاسية التي دارت حولها مناقشة إعادة البناء في 1925-1927: التمهيد لطرد تروتسكي والمعارضة اليسارية، وتعرجات الستالينيين، والتنفيذ البيروقراطي للخطة الخماسية الأولى.
الصراع النظري
لم يتم شن الصراع بين الأغلبية الستالينية والمعارضة اليسارية على المستوى السياسي فحسب، بل على الصعيد النظري أيضا.
كان كتاب “الاقتصاد الجديد” ليفغيني بريوبراجينسكي أحد الأعمال البارزة في ذلك السياق، وقد كتب في عام 1926 كإجابة على سياسات ستالين وبوخارين، وكانت تلك محاولة لتطوير نظرية الاقتصاد السوفياتي ودليلا للعمل.
كان بريوبراجينسكي يهدف إلى إظهار أن برنامج المعارضة اليسارية كان صحيحا وضروريا، صحيحا في تسليطه الضوء على إمكانات التصنيع السريع؛ وضروريا لإتقان علم التخطيط وتطوير القوى المنتجة على أسس اشتراكية.
وبالمقارنة، جادل بأن بوخارين وستالين -في تلك المرحلة من التحالف- قد تخليا عن الاشتراكية العلمية فيما يتعلق بالسياسة الاقتصادية.
تصرف الستالينيون بمنطق تجريبي، مدفوعين بالبراغماتية والمصالح البيروقراطية الضيقة، وليس على أساسا الاعتبارات النظرية. فهم مثلهم مثل الاقتصاديين البرجوازيين اليوم، لم يكن لديهم فهم حقيقي لنظامهم الخاص.
كانت البيروقراطية وممثليها مدفوعين من خلال الأحداث. وكانوا، دون الاعتراف بذلك، يطبقون سياسات تتوافق تماما مع قانون القيمة، وكانت الخاتمة المنطقية لذلك هي إعادة الإدماج الكامل لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في السوق العالمية الرأسمالية.
أوضح ماركس أنه إذا تم ترك رأس المال دون عوائق في نظام السوق، فإنه سوف يتدفق إلى القطاعات التي توفر أعلى معدل ربح. وفي حالة روسيا كان هذا يعني، في سنوات السياسة الاقتصادية الجديدة، توجيه الاستثمار نحو الزراعة، بالنظر إلى ما يمكن أن يسميه الاقتصاديون البرجوازيون ‘الميزة النسبية’ للبلاد: وفرة العمالة الريفية، مقارنة بندرتها في الصناعة. وهذا، في جوهره، هو ما كان يدعو إليه بوخارين وستالين.
أوضحت المعارضة اليسارية أن اقتراحات الستالينيين لن تؤدي إلى الاشتراكية، بل إلى عودة الرأسمالية. وأن تلك الاستراتيجية عوض أن تؤدي إلى بناء دولة صناعية، فإنها ستجعل الاقتصاد السوفياتي أكثر اعتمادا على تصدير المواد الخام، مثل بلد مستعمر.
وعلاوة على ذلك، فإن الستالينيين من خلال إصرارهم على أن التطور الصناعي يجب أن يكون ممولا ذاتيا من داخل القطاع العام، كانوا يضمنون معدل نمو اقتصادي بطيء، وبالتالي اتساع الفجوة بين الاتحاد السوفياتي والبلدان الرأسمالية المتقدمة.
لم يكن في مقدور روسيا، على ذلك الأساس، أن تصير بلدا صناعيا ، بل كانت ستبقى في حالة تخلف دائم، تحت سيطرة الإمبريالية والسوق العالمية.
وفي الوقت نفسه، من خلال التركيز على الإنتاج الزراعي، كان سيتم تعزيز وضع الفلاحين الأكثر ثراء. وفي نهاية المطاف، سيؤدي ذلك إلى نشوب صراع بين الريف بين الدولة العمالية، حيث سيطالب الفلاحون الأغنياء بالوصول المباشر والحر إلى السوق العالمية بشروطهم الخاصة.
وأكد تروتسكي وبريوبراجينسكي أنه ما لم يتم اتخاذ خطوات فعالة لتقويض تلك السيرورة وحرمان القطاع الخاص من ثروته، فإن المزيد من التراكم سيكون لصالح العناصر الرأسمالية في المجتمع
كان من شأن تلك الضغوط مجتمعة أن تطرح في نهاية المطاف مسألة -وخطر- استعادة الرأسمالية.
وبدلا من ذلك، أكد تروتسكي والمعارضة اليسارية على ضرورة ما أسموه “قانون التراكم الاشتراكي الأولي”.
كما أوضحنا سابقا، رسِم هذا المصطلح تشابها مع المرحلة الأولى للرأسمالية، عندما كان النظام البرجوازي الوليد ما يزال يراكم الثروة والموارد اللازمة لتطوير الصناعة على أساس الربح.
ذلك التطور الرأسمالي الأولي، كما أوضح ماركس في كتابه رأس المال، لم يكن قائما على التبادل المتساوي، أي الالتزام بقانون القيمة، بل قام على السلب والنهب، من خلال الاستعمار والعبودية وقوة الدولة.
وبالمثل، جادلت المعارضة اليسارية بأنه سيتعين على الاتحاد السوفياتي، بسبب تخلفه وعزلته، تجميع الموارد للتصنيع من خلال التبادل غير المتكافئ مع قطاعات الاقتصاد غير الحكومية. وجادلت بأن ذلك كان ضرورة لا مفر منها يجب فهمها وترجمة سياسة الحزب وفقا لذلك.
كان ذلك يعني، من الناحية العملية، تحديد الأسعار وفرض الضرائب واستخدام احتكار الدولة لقطاع التمويل والتجارة الخارجية، بحيث تتدفق الموارد باتجاه دولة العمال، بعيدا عن الفلاحين والتجار في القطاع الخاص.
يمكن، على ذلك الأساس، تسريع التراكم في قطاع الدولة، بشكل أساسي على حساب الكولاك وأثرياء السياسة الاقتصادية الجديدة، ويمكن أن تصبح البلاد قوة صناعية حديثة. وبدون ذلك، سيظل الاقتصاد السوفياتي متخلفا، ويعتمد على كتلة من العمالة منخفضة الإنتاجية.
سيكون التراكم الاشتراكي الأولي ضروريا حتى تتطور القوى المنتجة بشكل كاف وينتصر التخطيط الاشتراكي، حتى يتم الوصول إلى المرحلة الأولى من الشيوعية، ويصير في الإمكان أن تبدأ الدولة والمال والعداوات الطبقية في التلاشي.
في هذا الصدد، كانت متطلبات التراكم الاشتراكي الأولي قانونا موضوعيا للنظام السوفياتي الانتقالي مثل قانون القيمة، الذي جعل نفسه محسوسا أيضا.
ومع ذلك، شدد كل من تروتسكي وبريوبراجينسكي على أن قانون القيمة لم يختف. إن انتشار علاقات السوق، داخليا وخارجيا، وكذلك عدم نضج القوى المنتجة وظروف الندرة المستمرة، كلها عوامل تسببت في الحفاظ على ذلك الضغط.
لقد قيدت تلك العوامل الموضوعية يد واضعي سياسة التخطيط السوفياتي. فلم يكن بوسع الاقتصاد أن ينمو بوتيرة عشوائية ومتهورة. وكان من شأن ذلك أن يؤدي إلى نقص في السلع والتضخم والثورات الاجتماعية، وكلها أعراض لقانون القيمة…
لكن قوة ذلك القانون قد تم تخفيفها بفعل القوة المتزايدة لقطاع الدولة والتخطيط. لم يعد تنظيم توزيع العمل ووسائل الإنتاج يتم ببساطة من طرف قوى السوق العمياء، بل من خلال المحاسبة والتنظيم أيضا.
وكما قال بريوبراجينسكي، فقد كانت هناك “طريقة جديدة لتحقيق التوازن في النظام الاقتصادي، وتتحقق بالدور الكبير جدا الذي تلعبه البصيرة الواعية والحساب العملي للضرورة الاقتصادية”[32].
وقال: “يعمل في نفس الوقت قانونان لهما اتجاهان متعارضان تماما”. ففي قانون القيمة “يثقل ماضينا علينا، ويسعى بعناد إلى البقاء على قيد الحياة وإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء”[33].
وعلى العكس فإنه:
“كلما كان الاقتصاد المؤمم منظما، وكلما كانت روابطه المنفصلة متحدة بشكل وثيق من خلال خطة اقتصادية فعالة… كلما كانت مقاومته لقانون القيمة أقوى، وكلما كان تأثيره النشط على قوانين إنتاج السلع أعظم، وكلما تحول هو نفسه… إلى أهم عامل من عوامل الانتظام في الاقتصاد بأكمله”[34].
وبالمثل، فكما أوضح المنظر الماركسي تيد غرانت، فإنه في مجتمع انتقالي يحاول التحرك نحو الاشتراكية، “تنطبق بعض القوانين الخاصة بالاشتراكية وبعض القوانين الخاصة بالرأسمالية”[35].
هذا، في جوهره، معركة بين نمط الإنتاج القديم وبين المجتمع الجديد الذي يكافح من أجل أن يولد.
اتفق تروتسكي مع تقييم بريوبراجينسكي حول الحاجة إلى “التراكم الاشتراكي الأولي”. لكنه جادل بقوة ضد أي تطبيق بدائي وميكانيكي للمفهوم.
كان التطور المنسجم حيويا -من وجهة نظر سياسية قبل كل شيء- من أجل الحفاظ على الصلة بين الطبقة العاملة الحضرية وبين جماهير الفلاحين الفقراء. لا يمكن أن يكون هناك أي اقتراح بنهب الفلاحين، كما فعلت الرأسمالية الأوروبية عندما دمرت مستعمراتها.
يجب أن يميل الائتمان والضرائب وتحديد الأسعار نحو ‘تبادل غير متكافئ’، كما أوضح تروتسكي، مفضلا المدن والصناعة على الريف. لكن لا ينبغي دفع الأمور إلى نقطة الأزمة، مما يؤدي إلى مواجهة مفتوحة بين الفلاحين وبين الدولة العمالية.
علاوة على ذلك، شدد تروتسكي على أنه يجب عدم التضحية بمستويات المعيشة في سبيل ضمان أسرع معدل ممكن للتصنيع. يجب أن يشعر العمال والفلاحون بأن هناك تقدم يتم إحرازه.
وقبل كل شيء، أكد تروتسكي أن مطلب ‘التراكم الاشتراكي الأولي” يجب ألا يرتبط بمطلب ‘الاشتراكية في بلد واحد’، كما دعا إليه الستالينيون.
فحتى لو تم تبني البرنامج الاقتصادي للمعارضة اليسارية بالجملة، فإن ذلك وحده لم يكن ليؤدي إلى بناء الاشتراكية، طالما بقي الاتحاد السوفياتي معزولا ومحاطا بالسوق الرأسمالية. لم يكن هناك حل بدون ثورة أممية.
التجميع القسري
سرعان ما أصبح خطر النهج التجريبي للستالينيين واضحا. فبعد أن هُزم تروتسكي والمعارضة المتحدة في المؤتمر الخامس عشر للحزب، في دجنبر 1927، بدأ ستالين في ارتداء ملابسها ومال إلى اليسار.
أصبح فجأة مدافعا عن التصنيع السريع، وبدأ في توجيه اللوم إلى بوخارين والمعارضة اليمينية لتكيفها مع الميول البرجوازية.
كانت هناك عوامل اقتصادية توجه ذلك المنعطف. فكما حذرت المعارضة اليسارية، شجعت السياسة الاقتصادية الجديدة الكولاك والفلاحين الأغنياء، وصاروا يقاومون أي محاولات لكبح جماحهم. وكانوا على وجه الخصوص، معاديين لسياسة تشريك الزراعة، التي كانت تهدد مصالحهم.
بدون التجميع، وبالتالي المكننة والكهرباء، كان من المستحيل تحسين الإنتاجية على الأرض. وبدون غلة محاصيل أعلى، لم تكن هناك طريقة لإطعام سكان المدن المتزايدين، وهو الشيء الذي كان ضروريا للتصنيع.
علق كار قائلا: “سيُطلب من الفلاحين توفير كميات متزايدة من المنتجات الزراعية للمدن والصناعات المتنامية”. ومع ذلك، إذا “فرض هذا ضغطا كبيرا على الفلاح”، فسيقلل من شحنات المنتجات الزراعية، ويخزن فوائضه، وسوف يقلل من المزروعات المخصصة للسوق، ويتراجع إلى الاكتفاء الذاتي”.
وخلص إلى أنه: “في هذه القضية الحساسة، كانت العلاقات بين النظام والفلاحين تتحول”[36].
تجاهل الستالينيون، الذين كانوا منشغلين بتصفية اليسار، هذا الصراع المحتدم لفترة من الوقت، لكن تدهور إمدادات الحبوب في نهاية عام 1927 أوصل الأمور إلى ذروتها.
ومع تأكد تحذيرات المعارضة اليسارية، اضطرت البيروقراطية إلى تنفيذ سياسة “التراكم الاشتراكي الأولي”، ولكن بأكثر الطرق غباء ورجعية.
فبعد أن اعتمد ستالين على البرجوازية الصغيرة لتوجيه الضربات ضد اليسار، صار يميل إلى الاستناد على الطبقة العاملة لتوجيه الضربات ضد اليمين، وكان الهدف في كلتا الحالتين هو تعزيز موقعه وسلطته.
أدى ذلك التحول المفاجئ إلى إرباك الكثير ممن تحالفوا مع تروتسكي. وشمل ذلك بريوبراجينسكي، الذي خلص إلى أنه نظرا لكون البيروقراطية بدأت تنفذ نسختها الخاصة من توصياته، فقد حان الوقت “لصنع السلام مع الأغلبية الحزبية على أساس المسار الجديد”[37].
أما تروتسكي، من جانبه، فقد تنبأ بأن الانعطافة التي قام بها الستالينيون لن تؤدي إلى الاشتراكية، بل إلى الكارثة، وإلى زيادة تعزيز البيروقراطية الرجعية.
سرعان ما أكدت الأحداث توقعاته. فبدون السلع المصنعة من أجل تبادلها مع الحبوب، لجأت الحكومة إلى إجراءات قمعية لحل الأزمة الزراعية.
منذ أوائل عام 1928، شنت البيروقراطية الستالينية حملة قمعية متزايدة ضد الكولاك وممارسات الاكتناز والمضاربات التي كانوا يقومون بها. لكن مسؤولي الدولة غالبا ما كانوا لا يميزون كثيرا بين الفئات الأكثر ثراء وبين الفلاحين المتوسطين والفقراء، مما أجبر الأخيرين على الوقوع في أحضان الفلاحين الأكثر ثراءً. خاصة وأن ذكريات شيوعية الحرب كانت ما تزال حية.
بعد ذلك بقليل، دعا ستالين إلى تطبيق التجميع القسري و”تصفية الكولاك كطبقة”. لكن ذلك أدى فقط إلى تفاقم أزمة الغذاء.
مع استيلاء الدولة على كل ما تستطيع من الحبوب، لم يتبق سوى القليل في الريف لإطعام الفلاحين وماشيتهم. وهذا يعني أيضا قدرة أقل للخيول وروثا أقل للحقول، مما أثر بشكل أكبر على الغلة.
وبحلول عام 1932، انخفض الإنتاج الزراعي إلى 73% من مستواه في عام 1928[38]. وانتشرت طوابير الخبز في المدن. وعادت سياسة التقنين. كما عاد المضاربون إلى الظهور مجددا. وتوفي الملايين بسبب سوء التغذية والأمراض.
الأهداف والأزمات
في الكواليس، كان مسؤولو “Gosplan” و”Vesenkha” مشغولين بصياغة الخطة الخماسية الأولى. وبعد أن كانوا قد تعرضوا في السابق لضغوط لكي يخفضوا سقف اقتراحاتهم، أصبحت الأهداف شديدة الطموح هي الشعار الجديد.
وقد دارت مناقشات بين خبراء الاقتصاد السوفييت حول ما إذا كان التخطيط ينبغي أن يكون “جينيا” (Genetic) أم “غائيا” (Teleological). وكان أنصار المقترح الأول يعتقدون أن التخطيط ينبغي أن ينطوي ببساطة على التنبؤ بالتغيرات الاقتصادية العضوية الفوضوية. أما أنصار الاقتراح الثاني فقد أكدوا على الحاجة إلى تحديد الأهداف ثم تشكيل المجتمع وفقا لها من خلال الجهود الواعية.
وبصورة عامة فقد ارتبط “الجينيون” باليمين، واعتمدوا بشكل أكبر على أساليب السوق لتحقيق التوازن الاقتصادي. أما “الغائيون” فقد عكسوا النظرة الذاتية للبيروقراطية الستالينية، أي الاعتقاد بأن تخطيط الإنتاج يتطلب ببساطة قوة الإرادة واليد الحازمة.
كانت آراء الغائيين والستالينيين هي التي صاغت الخطة الخماسية الأولى، التي تم إطلاقها في أكتوبر 1928. لكن أهدافها لم تتم الموافقة عليها بشكل رسمي إلا في ربيع العام التالي، بعد هزيمة المعارضة اليمينية. وهكذا كانت السياسة الاقتصادية الجديدة قد انتهت.
إلا أنه وعلى الرغم من القيود البيروقراطية والتكلفة الاجتماعية العالية، فقد حقق التخطيط السوفياتي تقدما هائلا. حتى التقديرات البرجوازية تشير إلى أن الاقتصاد نما بنحو 62-72 % في إطار الخطط الخماسية الأولى والثانية، بين 1928-1937. وقفز نصيب الفرد من الناتج بنسبة 60%[39].
تم تطوير الصناعة وإعادة تجهيزها بسرعة. وشهدت البلاد تحولات مثيرة للإعجاب من خلال مشاريع مثل سد دنيبر الكهرومائي، الذي بدأ بناؤه في عام 1927، بعد أشهر فقط من رفضه من قبل ستالين. كما شهد التعليم والرعاية الصحية تحسينات كبيرة. خرج الاتحاد السوفياتي من تخلفه، واندفع إلى العصر الحديث.
في تلك الفترة نفسها، كانت الاقتصادات الغربية تعاني من أعمق أزمة في تاريخ الرأسمالية: الكساد الكبير.
لكن إمكانات التخطيط تمت اعاقتها منذ البداية بسبب النهج القيادي غير العلمي للبيروقراطية السوفياتية. ربما يكون ستالين وأتباعه قد غيروا الموقف الذي تبنوه أيام السياسة الاقتصادية الجديدة، لكن كل عيوبهم البيروقراطية ظلت قائمة.
كان بوخارين قد دعا إلى أن يتم تكييف الصناعة مع متطلبات الزراعة، وأن يتم تسخيرها للفلاحين. لكن المخططين البيروقراطيين صاروا يضعون أهدافا دون أي اهتمام بالحدود المادية أو الإنتاجية أو السياسية الحقيقية.
تم تجاهل نصيحة المهندسين والمتخصصين، وكذلك البيانات والنماذج العلمية، لصالح الأهداف القائمة على الهيبة وليس الحقائق. كان الهدف المعلن هو اللحاق بالقوى الإمبريالية في أسرع وقت ممكن وبأي ثمن.
في ذلك الوقت تخلى الستالينيون عن النزعة المحافظة التي ميزتهم في سنوات السياسة الاقتصادية الجديدة، واستبدلوها بسياسة المغامرة. لكن الفلسفة الكامنة وراء كلا النهجين كانت هي نفسها، التجريبية والذاتية: فكرة أن الاقتصاد السوفياتي لم يكن محكوما بقوانين وحدود موضوعية يجب فهمها من أجل توجيه القرارات.
وكما صرح ستانيسلاف ستروميلين، أحد مهندسي الخطة الخماسية الأولى، بصراحة، فإن:
“مهمتنا ليست دراسة الاقتصاد بل تغييره. نحن لسنا ملزمون بأية قوانين. لا توجد حصون لا يستطيع البلاشفة اقتحامها. مسألة وتيرة [التصنيع] تخضع لقرار من قبل البشر”[40].
لكن وعلى الرغم من التصريحات الباطلة للبيروقراطية، فإن تطور الاقتصاد السوفياتي في إطار الخطة الخماسية الأولى كان بعيدا عن أن يكون مسيرة تصاعدية متواصلة. كانت هناك أوقات تعثر عندها النمو. وشهدت الأعوام 1931-1932 تباطؤا حادا.
كان الاتحاد السوفياتي يواجه شيئا حتى البلاشفة لا يستطيعون اقتحامه: القيود التي تفرضها دينامياته الداخلية، والضغط الخارجي للرأسمالية العالمية.
رأى العصبويون السطحيون في ذلك دليلا على أن الاتحاد السوفياتي كان شكلا من أشكال رأسمالية الدولة. لكن الأزمات الاقتصادية في الاتحاد السوفياتي كانت ذات طبيعة مختلفة اختلافا جوهريا عن تلك التي شوهدت في ظل الرأسمالية.
إن الأزمات الاقتصادية في ظل الرأسمالية هي، في الأساس، نتيجة لفائض الإنتاج: أي التراكم المفرط لرأس المال في مختلف أنحاء الاقتصاد؛ وهو تناقض جوهري ينشأ عن قانون القيمة وأصول الربح (القيمة الزائدة)، العمل غير مدفوع الأجر للطبقة العاملة.
وعلى النقيض من ذلك، فقد كانت الأزمات في الاتحاد السوفياتي أزمات نقص الإنتاج، ناشئة عن التخطيط البيروقراطي؛ وبسبب وضع القادة الستالينيين أهدافا غير واقعية، ثم إجهاد الاقتصاد بأكمله لتلبيتها، مما أدى إلى خلق الشقوق والتصدعات والتفاوتات والاختناقات والخصاص والتضخم.
الأزمة في ظل الرأسمالية هي مؤشر على أن القوى المنتجة قد تجاوزت حدود السوق، وأن التراكم الرأسمالي قد ذهب بعيدا، معبرا عنه في وفرة من السلع غير المباعة.
كانت الأزمة في الاقتصاد السوفياتي المخطط بيروقراطيا علامة على أن الأهداف قد تجاوزت حدود القوى المنتجة، وأن التراكم الاشتراكي لم يذهب بعيدا بما فيه الكفاية، معبرا عنه في صفوف من الرفوف الفارغة. كما علق تيد غرانت:
“باتت الدولة الآن قادرة على التنظيم، لكن ليس بشكل تعسفي، بل فقط ضمن حدود قانون القيمة. وأي محاولة لانتهاك وتجاوز الحدود الصارمة التي يضعها تطور قوى الإنتاج نفسه، تؤدي مباشرة إلى إعادة تأكيد هيمنة الإنتاج على المُنتِج. هذا ما كان على ستالين اكتشافه فيما يتعلق بالسعر والمال عندما تعرض الاقتصاد الروسي لأزمة تضخم أدت إلى تشويه الخطة وتعطيلها تماما. قانون القيمة لم يُلغ، بل تم تعديله“[41].
وبعد أن اصطدمت البيروقراطية بقوانين السوق الرأسمالية، وجدت نفسها تعارض قوانين أخرى لم تفهمها. وهو ما سيكون له آثار كبيرة على مصير الاتحاد السوفياتي.
علم التخطيط
مع اقتراب الخطة الخماسية الأولى من نهايتها، كان من الواضح أن المشاكل تتراكم في الاقتصاد السوفياتي. ومع ذلك، فقد غضت البيروقراطية الطرف عن تلك الأمور، وواصلت الخطة الخماسية الثانية، بتحديد أهداف أكثر سخافة، وإسكات كل من يقوم بالاحتجاج.
تصاعد التوتر بين المدن والأرياف. ونمت الاختلالات بين مختلف قطاعات الاقتصاد. كما تدهورت كمية ونوعية البضائع. تم وضع العمال تحت ضغط بدني مفرط، وأجبروا على العمل لساعات طويلة بشكل جنوني والعيش في ظروف سيئة ومتداعية. وأدت عمليات التطهير التي قام بها ستالين إلى تضخيم التناقضات.
لاحظ تروتسكي تلك الكوارث من المنفى، بعد طرده من الاتحاد السوفياتي في عام 1929.
وكتب في عام 1932: “المشكلة برمتها هي أن القفزات الجامحة في التصنيع جعلت العناصر المختلفة للخطة في تناقض حاد مع بعضها البعض”. وأضاف إن “المشكلة هي أن الأدوات الاجتماعية والسياسية لتحديد فعالية الخطة قد تم كسرها أو تشويهها. والمشكلة هي أن التفاوتات المتراكمة تهدد بمفاجآت أعظم”.
وتابع: “جوهر الأمر هو أننا لم نصل إلى الاشتراكية. إننا بعيدون كل البعد عن إتقان أساليب التنظيم المخطط. إننا ننفذ فقط الفرضية التقريبية الأولية، لكننا ننفذها بشكل سيء، ولأن أضواءنا الأمامية ما زالت مطفأة، فإن الأزمات ليست ممكنة فحسب، بل إنها حتمية”[42].
كانت المشكلة تتمثل في النهج البيروقراطي للتخطيط السوفياتي، الناشئ عن حرمان الطبقة العاملة من حقها في إدارة المجتمع؛ وعن الطبيعة المشوهة للدولة العمالية.
أوضح تروتسكي أن التخطيط علم يحتاج إلى الاختبار،. وحذر قائلا: “من المستحيل أن ننشئ مسبقا نظاما كاملا للتناغم الاقتصادي. إن التنظيم المستمر للخطة في سيرورة تحقيقها، وإعادة بنائها جزئيا وكليا، هو وحده القادر على ضمان الفعالية الاقتصادية”.
وأكد أنه لا يوجد “عقل شامل” قادر على “وضع خطة اقتصادية خالية من العيوب وشاملة، بدءا من عدد أفدنة القمح حتى الزر الأخير في بذلة”.
لكن ذلك بالضبط هو ما كانت البيروقراطية تحاول تحقيقه، حيث تحسب الموازنات المادية -المدخلات والمخرجات لجميع المواد الرئيسية والصناعات الحكومية- من أعلى إلى أسفل، ومن راحة مكاتبها في موسكو، مع القليل من الارتباط بالواقع على الأرض. وبدلا من ذلك، تابع تروتسكي:
“يتعين على المشاركين الكثر في الاقتصاد، سواء كانوا من القطاع العام أو الخاص، أو من القطاع الجماعي أو الفردي، أن ينبهوا إلى احتياجاتهم وقوتهم النسبية ليس فقط من خلال التحديدات الإحصائية التي تضعها لجان الخطة، بل وأيضا من خلال الضغط المباشر للعرض والطلب”.
وأكد أنه خلال الفترة الانتقالية: “يتم فحص الخطة، وإلى حد كبير تنفيذها، من خلال السوق… يجب أن تثبت المخططات التي تنتجها الإدارات فعاليتها الاقتصادية من خلال الحساب التجاري”[43].
وبعبارة أخرى، ستحتاج دولة العمال إلى استخدام إشارات الأسعار لاختبار وتأكيد وتحديث أي خطة اقتصادية؛ ولتحديد نقاط الضعف والنقص؛ وبهذا، تخصيص الموارد والاستثمار بوعي من أجل تحقيق التنمية المتناغمة والنمو المتوازن.
لن يكون النظام البروليتاري السليم ضحية عاجزة جاهلة لقانون القيمة، بل سيستخدم هذا القانون كأداة من بين العديد من الأدوات للتخطيط للإنتاج والتوزيع. وكما لاحظ تروتسكي فإن: “المال كوسيلة للمحاسبة الاقتصادية التي طورتها الرأسمالية لا يتم إلقاؤه جانبا، بل يتم تأميمه”[44].
وأكد أن هذا بدوره يتطلب عملة مستقرة. ولكن البيروقراطية كانت تقوض قدرة الشيرفونات (Chervonets) [العملة الجديدة المدعومة بالذهب] على العمل كمقياس نقدي موثوق به من خلال اللجوء إلى طباعة النقود لسد الثغرات في الميزانية.
ومثلما كان البلاشفة اليساريون المتطرفون مخطئون باستهانتهم بخطر التضخم في أوائل العشرينيات، فقد أصبح الستالينيون مخطئين أيضا في تصورهم أنهم أحرار من براثن قانون القيمة وتداول النقد.
قال تروتسكي: “إن وضع خطة اقتصادية على أساس قيمة منزلق، هو نفسه وضع مخطط لآلة ببركار مكسور ومسطرة ملتوية. وهذا هو بالضبط ما يحدث. إن تضخم الشيرفونات هو أحد أكثر العواقب ضررا -وأيضا أداة- للفوضى البيروقراطية للاقتصاد السوفياتي”[45].
وقد لاحظ تروتسكي أن التخطيط ليس علما فحسب، بل هو فن، يجب تعلمه من خلال التجربة.
“إن فن التخطيط الاشتراكي لا ينزل من السماء، ولا يُقدَّم كاملا إلى أيدي المرء بمجرد الاستيلاء على السلطة. لا يمكن إتقان هذا الفن إلا بالنضال، خطوة بخطوة، ليس من قِبل قلة، بل من قِبل الملايين، كجزء مكون من الاقتصاد والثقافة الجديدين”[46].
وهذا يثير مسألة حياة أو موت بالنسبة للجمهورية الاشتراكية، ولقضية بناء الشيوعية في أي مكان: فالأدوات العلمية للتخطيط -مثل التوقعات والإحصاءات، وموازنات المواد، وإشارات الأسعار- لابد وأن تُكمَّل بنظام صحي للديمقراطية العمالية.
وهذا يعني جمع المعلومات عن الإنتاج والاستهلاك من لجان المصانع، والنقابات العمالية، والممثلين المنتخبين؛ والتحقق المستمر من الخطط في ضوء الحقائق، وإجراء التعديلات اللازمة؛ وإشراك الطبقة العاملة المنظمة في إدارة المجتمع.
يقول تروتسكي: “فقط من خلال التفاعل المتبادل بين هذه العناصر الثلاثة -التخطيط الحكومي، والسوق، والديمقراطية السوفياتية- يصير من الممكن تحقيق الاتجاه الصحيح لاقتصاد العصر الانتقالي”.
ويضيف:
“وبهذا فقط يمكن ضمان ليس التغلب الكامل على التناقضات والاختلالات في غضون بضع سنوات (وهذا أمر طوباوي!)، بل التخفيف منها، ومن خلال ذلك تعزيز القواعد المادية لدكتاتورية البروليتاريا حتى اللحظة التي ستعمل فيها ثورة جديدة منتصرة على توسيع ساحة التخطيط الاشتراكي وإعادة بناء النظام”[47].
النضال من أجل الشيوعية
في حين كانت الدولة الستالينية الوحشية تعدم الشيوعيين، وتقضي على الحقوق الديمقراطية، وتخنق الثورة الإسبانية، كانت تعلن بفخر: “إننا لم نكمل الشيوعية بعد، بالطبع… لكننا حققنا بالفعل الاشتراكية، أي أدنى مرحلة من الشيوعية”.
وقد قدم تروتسكي التقييم التالي لذلك الادعاء:
“إذا كان ماركس قد أطلق على المجتمع الذي كان من المقرر أن يتشكل على أساس تأميم القوى الإنتاجية للرأسمالية الأكثر تقدما في عصره، اسم المرحلة الدنيا للشيوعية، فإن هذا الوصف لا ينطبق على الاتحاد السوفياتي، الذي ما يزال اليوم أفقر كثيرا من البلدان الرأسمالية من حيث التقنية والثقافة”.
وأضاف: “من الأصح أن نطلق على النظام السوفياتي الحالي بكل تناقضاته، ليس اسم النظام الاشتراكي، بل اسم النظام التحضيري الانتقالي من الرأسمالية إلى الاشتراكية”[48].
في عام 1959، كرر الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف تأكيدات الستالينيين مرة أخرى. فقد صرح بأن الاتحاد السوفياتي، بعد أن أكمل فترة البناء الاشتراكي، أصبح مستعدا لاتخاذ “خطوته الأولى نحو الشيوعية”[49].
لكن وعلى الرغم من تلك التصريحات، فإن هدف الشيوعية لم يتحقق في الاتحاد السوفياتي بأي شكل من الأشكال.
لقد ظل الاتحاد السوفياتي في جميع الأوقات نظاما انتقاليا بين الرأسمالية والاشتراكية. وفي طبيعة أي نظام من هذا القبيل، تكمن الإمكانية ليس فقط للتقدم نحو الاشتراكية، بل وأيضا للتراجع نحو العودة الكاملة للرأسمالية.
على مدى عقود من الزمان، وعلى أساس التخطيط، كانت هناك تطورات لا تصدق في مجال الصناعة والتعليم. لكن وفي الوقت نفسه، نمت البيروقراطية لتصبح ورما قاتلا، يمتص ببطء كل أشكال الحياة من الاقتصاد والمجتمع.
وفي النهاية لم يؤد ذلك إلى الشيوعية، بل إلى استعادة الرأسمالية. فآنذاك، وكما هو الحال الآن، كان السبيل الوحيد للمضي قدما هو الثورة الاشتراكية الأممية.
اليوم، وعلى أساس تطور القوى الإنتاجية على المستوى العالمي، صارت الظروف المواتية لبناء الاشتراكية أكثر نضجا من أي وقت مضى.
ستكون سيرورة تخطيط الإنتاج أسهل بكثير بفضل التكنولوجيا والتقنيات التي تم تطويرها في ظل الرأسمالية الاحتكارية.
وعلاوة على ذلك فإن حجم وقوة ومستوى الطبقة العاملة -في جميع البلدان- صارت أعلى بكثير من تلك التي كانت موجودة قبل قرن من الزمان في روسيا. فالعمال صاروا اليوم مجهزين بالمهارات والمعرفة الكافيتين لإدارة الاقتصاد.
بعد انتصار الثورة في البلدان الرأسمالية المتقدمة، ومع توفر أحدث العلوم والابتكارات والصناعة، سيصير من الممكن القيام بالقفزة إلى المرحلة الأولى من الشيوعية في غضون جيل واحد.
لكن وحتى في تلك المرحلة، لن تختفي القوانين الاقتصادية تماما. سيتم التحكم في قانون القيمة أولا، ثم سيضمحل تماما. لكننا نظل كائنات مادية. ستظل هناك قوانين موضوعية تحكم المجتمع.
إن الحرية الحقيقية في ظل الشيوعية لن تأتي من تخيل أنفسنا أحرارا من تلك القوانين، بل من فهم الضرورة، وتسخير ذلك الفهم لصالحنا، لتحويل العالم من حولنا.
وكما أوضح تيد غرانت:
“فإن الرقابة والتخطيط سيتمان، في المراحل الأولى، ضمن حدود معينة. وسيتم تحديد تلك الحدود بمستوى التقنية التي سينطلق منها النظام الاجتماعي الجديد. لا يمكن للمجتمع أن يخطو من عالم الضرورة إلى عالم الحرية بين عشية وضحاها”[50].
ويؤكد ماركس: “إن عالم الحرية لا يبدأ حقا إلا عندما ينتهي العمل الذي تحدده الضرورة والمصلحة الخارجية”.
“وكما يجب على المتوحش أن يصارع الطبيعة لتلبية احتياجاته، للحفاظ على حياته وإعادة إنتاجها، كذلك يجب على الإنسان المتحضر، ويجب أن يفعل ذلك في جميع أشكال المجتمع وتحت جميع أنماط الإنتاج الممكنة”[51].
ويخلص إلى انه:
“في مرحلة أعلى من المجتمع الشيوعي … بعد أن يصبح العمل ليس فقط وسيلة للحياة بل الحاجة الأساسية للحياة؛ وبعد أن تتزايد القوى الإنتاجية أيضا مع التطور الشامل للفرد، وتتدفق جميع ينابيع الثروة التعاونية بوفرة أكبر، حينها فقط سيمكن عبور الأفق الضيق للحق البرجوازي بالكامل ويسجل المجتمع على راياته: من كل حسب قدرته، ولكل حسب احتياجاته!”[52].
هذا هو المستقبل الشيوعي الذي يجب أن نتنظم ونناضل من أجل تحقيقه.
آدم بوث
23 أغسطس/آب 2024
الهوامش:
[1] L Trotsky, The Revolution Betrayed, Wellred Books, 2015, pg 3
[2] L Trotsky, History of the Russian Revolution, Vol. 3, Wellred Books, 2022, pg 1168
[3] V I Lenin, State and Revolution, Wellred Books, 2019, pg 85-86
[4] K Marx, F Engels, “The Communist Manifesto”, Classics of Marxism, Vol. 1, Wellred Books, 2013, pg 21-22
[5] K Marx, Critique of the Gotha Programme, Foreign Languages Press, 2021, pg 15
[6] V I Lenin, ‘Left-Wing’ childishness and petty-bourgeois mentality, Progress Publishers, 1968, pg 18
[7] V I Lenin, State and Revolution, Wellred Books, 2019, pg 67
[8] V I Lenin, ‘Left-Wing’ childishness and petty-bourgeois mentality, Progress Publishers, 1968, pg 19
[9] L Trotsky, The Revolution Betrayed, Wellred Books, 2015, pg 1
[10] S M Efremov, The role of inflation in Soviet history: Prices, living standards, and political change, East Tennessee State University, 2012, pg 17
[11] V I Lenin, “Extraordinary Seventh Congress of the R.C.P.(B.)”, Lenin Collected Works, Vol. 27, Progress Publishers, 1965, pg 98
[12] E H Carr, The Bolshevik Revolution, 1917-1923, Vol. 2, Penguin Books, 1952, pg 76
[13] ibid., pg 78
[14] ibid., pg 80
[15] A Nove, An economic history of the USSR, 1917-1991, Penguin Books, 1992, pg 46
[16] V I Lenin, ‘Left-Wing’ childishness and petty-bourgeois mentality, Progress Publishers, 1968, pg 13
[17] ibid.
[18] R W Davies, M Harrison, S G Wheatcroft, The economic transformation of the Soviet Union, 1913-1945, Cambridge University Press, 1994, pg 135
[19] V Serge, Year One of the Russian Revolution, Haymarket Books, 2015, pg 242
[20] E H Carr, The Bolshevik Revolution, 1917-1923, Vol. 2, Penguin Books, 1952, pg 178
[21] ibid., pg 186
[22] ibid., pg 242
[23] V Serge, Year One of the Russian Revolution, Haymarket Books, 2015, pg 213
[24] S M Efremov, The role of inflation in Soviet history: Prices, living standards, and political change, East Tennessee State University, 2012, pg 17
[25] L Trotsky, The Revolution Betrayed, Wellred Books, 2015, pg 46
[26] E H Carr, The Bolshevik Revolution, 1917-1923, Vol. 2, Penguin Books, 1952, pg 344
[27] S M Efremov, The role of inflation in Soviet history: Prices, living standards, and political change, East Tennessee State University, 2012, pg 17
[28] E H Carr, The Bolshevik Revolution, 1917-1923, Vol. 2, Penguin Books, 1952, pg 321-22
[29] L Trotsky, The First Five Years of the Communist International, Wellred Books, 2020, pg 650
[30] L Trotsky, The Revolution Betrayed, Wellred Books, 2015, pg 79
[31] A Nove, An economic history of the USSR, 1917-1991, Penguin Books, 1992, pg 121
[32] E Preobrazhensky, The New Economics, Oxford University Press, 1965, pg 172
[33] ibid., pg 147
[34] ibid., pg 145
[35] T Grant, “Against the Theory of State Capitalism”, The Unbroken Thread, Fortress Books, 1989, pg 210
[36] E H Carr, R W Davies, Foundations of a planned economy, 1926-1929, Vol. 1, Macmillan Press, 1969, pg 26
[37] Trotsky Archives, No. T-1594
[38] R W Davies, M Harrison, S G Wheatcroft, The economic transformation of the Soviet Union, 1913-1945, Cambridge University Press, 1994, pg 106
[39] ibid., pg 44-45
[40] A Katz, The Politics of Economic Reform in the Soviet Union, Praeger, 1978, pg 15
[41] ضد نظرية رأسمالية الدولة
[42] L Trotsky, “The Soviet economy in danger”, Writings of Leon Trotsky (1932), Pathfinder, 1973, pg 278
[43] ibid
[44] L Trotsky, “The Soviet economy in danger”, Writings of Leon Trotsky (1932), Pathfinder Press, 1973, pg 260
[45] ibid
[46] L Trotsky, “The Soviet economy in danger”, Writings of Leon Trotsky (1932), Pathfinder Press, 1973, pg 260
[47] ibid
[48] L Trotsky, The Revolution Betrayed, Wellred Books, 2015, pg 33, emphasis in original
[49] A S Balinky, “The proclaimed emergence of communism in the USSR”, Social Research, Vol. 28, No. 3, 1961, pg 261–82
[50] ضد نظرية رأسمالية الدولة، نفسه.
[51] K Marx, Capital, Vol. 3, Penguin Classics, 1991, pg 958-959
[52] K Marx, Critique of the Gotha Programme, Foreign Languages Press, 2021, pg 16
#آدم_بوث (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟