محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 8191 - 2024 / 12 / 14 - 20:47
المحور:
الادب والفن
تختلط روائح الشاي والقهوة والقرفة، واليانسون في هذه البناية الحديثة المملوءة بالبشر ، تتداخل تكويناتهم وأصواتهم الصاخبة بين الضحك الهادئ، والغضب، والسخرية في المشهد؛ صنعت أرض البناية من الرخام الأسود، وقد نقشت عليها صور للديناصورات الطائرة، وفيلة، وأحصنة تشبه نقوش كهوف ما قبل التاريخ، ولكنها حددت كحواف مفرغة وشبحية، وحينما أنظر إليها أشعر أنها تراقبني، بينما أتحرك فوقها نحو هدف مجهول، البناية تتسع حولي تدريجيا، وتنفتح في حوائطها الرئيسية فجوات مظلمة، وتقل كثافة جسدي مع التدرج في اتساع البناء ووفرة الفجوات المظلمة الافتراضية، أرتفع قليلا في الهواء، ثم أرى طيفا لشخصية أنتيجوني يطير بالقرب من السقف؛ أنتيجوني شديدة البياض، وشعرها أسود كثيف وترتدي فستانا أسود يشبه الأزياء القوطية؛ يبدو أنها تطير نحو فضاء مجهول مثلي.
أشعر بزيادة في مساحات التكوين الهوائي بداخلي، وأطير مع أنتيجوني في الممر المؤدي إلى الصحراء، وتخفت تدريجيا ضحكات البناء، وأصوات الصخب، والضحك الساخر الممزوج بصرخات نسائية عميقة ممتدة بداخلنا؛ يقترب الوقت من الغروب في الأجواء الصحراوية، ونلج كهفا مظلما، ونرى تكوينا طيفيا لثور يخرج من مجاله الفني المنحوت في عصور ما قبل التاريخ، ويبدأ الثور في إلقاء خطاب أذكر منه أنه كان صديقا لماموث، وديناصور، وشاهدا ذات مرة تجسدا ضخما لصياد داخل فجوة مظلمة معلقة وسط عاصفة، وتحيط بحوافها صورة دائرية لعقرب ضخم؛ أرادا أن يبتعدا عن العاصفة، ولكنهما دخلا الدائرة، وقفزا معا من جانب لآخر في دينامية تشبه الرقصة، وشعرا بخفة، وبهجة ثم سقطا على الرمال؛ الثور يبدأ في إعادة القصة بنغمات موسيقية صوتية مجردة، وتشتد النغمات، وتخفت، وتوحي بالضحك الداخلي، والسخرية، ودهشة المشاهدة الأولى لتكوينه الخفيف الآخر، ويبدو أنه يستعد لمعركة افتراضية، أو لتأمل عميق وسط تصارع العواصف الرملية، وبزوغ الفجوات المظلمة في المشهد.
أدور مع أنتيجوني دورات غير منتظمة في فراغات الكهف وتحيطنا أصداء للعاصفة الرملية القديمة، ونستمع إلى أصوات الثور وبعض الفحيح الهادئ القديم، ونتجه نحو مسرح نشعر بوجوده في فضاء مظلم قاتم وواسع؛ راقصات يتحركن فوق خشبة لامرئية ويقمن برقصات تعبيرية تجريدية قد تتشكل في أشكال سداسية، ومثلثات مملوءة بالفراغات، أو في أشكال تشبه النخل المتشابك، وأحيانا تبرز من بين أجسادهن تشكيلات لكلاب وحشية، أو ذئاب، أو دببة، وتخبرنا إحداهن أن المخرجة قد اختفت وسط المقابر، وأن الرقصات سوف تستمر داخل دائرة افتراضية، وسوف تقوم إحدى الراقصات بتمثيل دور آخر لأنتيجوني في هذا الحلم؛ وأن تلك الراقصة لها تكوين هوائي بنفسجي لا نراه ولكن سوف نشعر أنها معنا في ذلك الفضاء.
وتقول الممثلة أيضا:
لن نرى أنتيجوني؛ ولكن الراقصات سوف يمسكن بتكوينات صغيرة من اللهب، وسيصنعن تشكيلات نارية قد تبدو مثل رأس امرأة تتأمل في مخروط مظلم، أو مثل ذئب قوطي، أو ثعبان يمر عبر بطن أنتيجوني الأخرى اللامرئية، وسندخل الآن المشهد، ونغوص أسفل الخشبة، ونعبر سطحها الهوائي، ونقوم بعمل تشكيلات دائرية بالقرب من السقف؛ لنراقب ثلاثة ممثلات أخريات يعدن تمثيل أدوار أخرى لأنتيجوني؛ وسوف يمتلئ تكوين الممثلة الأولى بكرات من اللهب الأحمر الممزوج ببقع بنفسجية داكنة؛ وسوف تمسك بسيف ناري، ونراها تحارب عدوا مجهولا، ثم تدخل السيف تجسدها الناري، وتضحك، ثم ترقص بصورة دائرية فوق السيف، وتمتد إحدى يديها، وإحدى قدميها إلى الأمام بينما تتراجع يدها الأخرى، وقدمها الثانية نحو فجوات معتمة بدأت تتشكل داخل التكوين الناري.
والممثلة الثانية نراها وسط مجموعة من الفتيات اللاتي يرتدين أزياء شبه قوطية، وتحيطهن مجموعة من العظام، والجماجم، ويتحدثن مع أطياف نسائية لا يبدو منها سوى حدود للتجسد الأنثوي باللون الذهبي، وداخل الفراغ، سنلاحظ تشكل أعين بيضاء، أو حمراء داكنة، أو سوداء قاتمة، سوف تظهر، وتراقب الفتيات، وتراقبنا، ثم تختفي؛ تظهر، تختفي داخل التجسد الشبحي، داخل الفتيات، وأحيانا بداخلنا، وقد يظهر داخل الأعين لهيب صغير لشمعة برتقالية؛ ثم نرى أنتيجوني تصنع تمثالين لرجلين أحدهما له رأس دب قديم، والآخر له رأس ديناصور طائر، وسيتصارعان بقوة، ويتداخل مجال كل منهما بالآخر، وسنرى الفتيات يضحكن حولهما ضحكا هستيريا قد يتحول إلى صراخ حلمي أو بكاء آخر متقطع، وسيغمضن أعينهن بهدوء، ويسبحن في الهواء، وفي الفجوات بين التمثالين المتصارعين، ثم يختفين داخل المعركة، وأنتيجوني مازالت تضحك، وترتفع فوق التمثالين، وقد صارا دخانا رماديا داكنا ممزوجا بزهور زرقاء سماوية.
والممثلة الثالثة نراها تصنع فجوة في أرض افتراضية للمسرح، ثم تختفي ويتحول مجالها إلى مخروط تتحرك بداخله مجموعة من الأصوات التي تقول كلمات، وجمل متقطعة؛ نكاد نسمع من بينها:
من أدخلني في هذه اللوحة التي تسبح داخل سحابة سريالية وسط عواصف الرمال، اعبريني وارقصي في مجالي الهوائي الوردي أيتها الفتاة التي لها رأس حية بيضاء مضيئة، ما هذه الفجوات المظلمة بداخلي، ولمن تكون وجوه المهرجين، والمهرجات، والأسود بداخلها، أيها الصوت الأبيض المختلط برؤوس الغربان، لم تدخل كلماتي وصوتي أحيانا، وتمتد بداخلي مثل اسطوانة نارية خفية في حلمي، وتأملاتي.
أعبر الآن مع أنتيجوني نحو فضاء صامت لمجموعة من المقابر وقد تشكلت القباب فيها في الهواء، وقد تتصل القباب بالهياكل أو تبدو معلقة في الفراغ، وكأنها تراقب المشهد في بهجة صامتة؛ نحلم الآن ببطلي المحاكمة، والقلعة لكافكا، ونقيم في فضاء مائي داكن، نعاين فيه صخب أمواج عاصفة شكسبير، ونستمع إلى نغمات أخرى لشبح الجزيرة، وقد يضحك أو يطير حول فضاء المقابر، ثم يلج دائرة المياه، ويعبر نحونا بسفينة تشكلت في صورة بقعة تجريدية من دم التنين؛ ونتأمل ثم تخفت تجسداتنا بينما تتوسع المقابر الصامتة وحدها، ثم نراقب بزوغ شعلة نارية بنفسجية متوهجة في الصمت المظلم؛ إنها ترقص وحدها وسط المقابر وتعبر أطيافنا؛ فأشعر أنها تنمو أيضا بداخلي، وداخل كهوف مملوءة بالتماثيل، ورؤوس الحيوانات، والأشباح، والأقنعة التمثيلية القديمة اللانهائية التي بدأت تحتوي مجالي التكويني في المشهد.
ونعبر الآن نحو منحنى طويل، ومتشابك فيما وراء النيران البنفسجية، وكلما عبرنا أجزاء المنحنى الذي يبدو لانهائيا، تتضاعف الأصوات، والأحلام، وتمثيلات الأشكال المتداخلة التي نواجهها؛ مثل امرأة تخرج من بطنها ثعابين من الدخان، ومهرج مصنوع من الذهب وفوقه أرنب أسود ضخم يمسك بعصا نارية ويرقص، وامرأة لها رأس دب، وبطنها مملوء بصور لجماجم قديمة تضحك بداخلها، وتلقي نحونا بكرات فارغة من اللهب الذي يميل إلى الأخضر الداكن؛ نحاول رؤية المشاهد من أعلى، أو ندخل إلى فضاء يشبه قبر أنتيجوني؛ فنشاهد حركة المنحنى، وأصواته، وأطيافه من موقع سفلي.
وندخل فجوة مظلمة أخرى في المنحنى فنرى تكوينا لرجل له رأس بنفسجي داكن، وتخرج منه ثلاث رؤوس أخرى لقرد، وثعبان، وديناصور، وله خمسة قرون، ويحاول شنق فتاة داخل الفجوة؛ يبدو أنه يشنقها داخل تكوين هوائي - مائي؛ لأننا نراها تظهر من جديد، ثم تخبرنا أنها ممثلة، وأنها جاءت هنا لتؤدي رقصة تشبه نمو الوردة، وحركتها في الحلم، وأن دور الوردة في المسرحية سيكون مصحوبا بتوسع لا نراه لشجرة صفصاف ضخمة تمر عبر سقف الفجوة، وفي منتصف رقصتها، وجدت المسرح قد تحول إلى عواصف صحراوية وظهر تكوين هذا الرجل مصحوبا بعواء الذئاب وفحيح الثعابين في منتصف الحلم وشنقها مرات عديدة، ثم وجدت ضحكا هستيريا يشبه صوتها يخرج من داخلها.
أتأمل قليلا داخل فضاء واسع آخر داخل المنحنى، وأجدني في مسرح مستدير يتوسط دائرة أوسع من المقابر الهادئة، بينما تواجهني مرآة ضخمة بها فجوات أخرى مظلمة تتشكل وتتحرك، وترقص بصورة دينامية وتتبادل الأدوار مع الفراغات، أجد صورة أنتيجوني التي رأيتها من قبل في المبنى الحديث، وهي الآن تحلق فوقي فقط في المرآة بردائها الأسود الداكن القوطي، وتضحك في بهجة مملوءة بالغموض الممزوج بجو الحلم، وتتلاطم في المشهد أمواج تتبادل الأدوار مع ضحكها المتكرر، ثم نراقب معا أصواتنا الأخرى التي بدأت تتشكل مثل بقع بيضاء ممزوجة بأخرى رمادية داكنة، تتراقص في نشوة في المرآة وفي الفضاء الواسع للمسرح، ويتوسطها عمود من الضوء المتوهج.
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟