|
في مآلات المشروع العربي الناصري
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8191 - 2024 / 12 / 14 - 12:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من عادات البشر عدم الاكتفاء بالحاضر والطمع دوماً في مستقبل أكثر إشراقاً وازدهاراً. كل البشرية في كل الدنيا كانت ولا تزال هكذا منذ القِدَم، ولا تُشكل البشرية الناطقة بالعربية استثناءً. حين ينطلق المرء من واقع حاضره ليصنع في ذهنه صورة تقريبية للمستقبل المأمول، ثم يبدأ في وضع الخطط وتنفيذها سعياً إلى بلوغ هذا المستقبل بالذات، نحن نسمي ذلك "مشروعاً". هناك مشاريع كثيرة ومتباينة على امتداد التاريخ البشري الثري، بعضها زال وانقرض من الوجود، بعضها لا يزال قائماً كخُشب مُسندة بين الحياة والموت، وقلة أخرى تحقق نمواً وتقدماً مطردين. وكما هو الحال مع البشر، هناك مقاييس معلومة وواضحة وسهلة الاستخدام للمقارنة فيما بين المشاريع المختلفة من نقطة الفشل إلى النجاح من أبرزها متوسط دخل الفرد والناتج المحلي الإجمالي، درجة استقرار المؤسسات واستمراريتها السلسة، السلم الأهلي، التنمية الاقتصادية، حيوية منظمات المجتمع المدني، استقلالية القضاء، وصون الحريات العامة والخاصة وحرية التعبير...الخ.
تشكل المشروع العربي الناصري من واقع البيئة العربية بعد الاستقلال. ثم أقلع على جناحين أحدهما سوريا والعراق شرقاً والآخر ليبيا والجزائر غرباً، وذيل من اليمن والسودان إلى الجنوب. وجلست في كابينة القيادة مصر عبد الناصر، الذي نجح بالفعل إلى إطلاق المشروع وجعله يرتفع إلى فوق السحاب في عنان السماء. ثم بدا، من واقع كثرة المطبات والخبطات المؤلمة، كما لو كان ناصر تائهاً، لا يملك خريطة أو مساراً ولا يقصد وجهة ممكنة ومعلومة. ثم كانت الطامة الكبرى حين تبين أنه حتى لا يعرف طريقة للهبوط الآمن من مشروعه بعدما تأكدت عواقبه الكارثية عليه هو نفسه قبل جميع الراكبين معه.
في الحقيقة، لم يكن هناك مشروع عربي أصلاً بعد الاستقلال. كان هؤلاء مجرد مجموعة شباب متهورين عديمي الخبرة والحِكْمة، استعدادهم لتحقيق طموحاتهم الشخصية قد يفوق أحلامهم العريضة ودون أساس لأوطانهم. هم فور تمكنهم من الحكم ألغوا الدساتير، حلوا البرلمانات والأحزاب، صفوا الحريات العامة والخاصة، امتصوا دماء منظمات المجتمع المدني، صادروا كل المشاريع الاقتصادية المنتجة، واختزلوا الدولة بأكملها في شخوصهم ذواتهم لكي تضبط الدولة صوتها على مستوى حناجرهم المدوية وحركتها على مقاس أوامرهم الحادة. والحال كذلك- دولة مُجَمَّدة في دولاب حكومات بليدة وفاسدة- من أين يُصاغ مشروعاً، أو من يتولى تخطيطه وتنفيذه بطريقة ناجحة ومجدية؟ في الحقيقة لم يكن هناك مشروع أصلاً، ولا حتى مُغامرة متهورة لكن متفائلة بمستقبل أفضل؛ كانت مُقامرة غير مَحْسوبة العواقب بحاضر ومستقبل شعوبهم. وقد تأكد لهم ذلك ووقر في نفوسهم يقيناً فور اصطدامهم بأرض الواقع فوق الصخرة الإسرائيلية عام 1967. من ساعتها وعبد الناصر وأتباعه يعرفون أن مشروعهم البائس قد فشل وانتهى أمره مرة واحدة وللأبد. رغم ذلك، لم يسلموا أو يرفعوا الراية أو يفقدوا الأمل. لقد بدأ المشروع بهم أنفسهم قبل أوطانهم، ما يعني أن في الإقرار بفشله وزواله حكماً بالإعدام عليهم هم أنفسهم. وكان لابد من مخرج إذا ما أرادوا إنقاذ رقابهم من المحاسبة أمام شعوبهم.
كان هناك طائر منافس آخر يحلق علياً في السماء العربية، جسمه مجلس التعاون الخليجي، وجناحيه يرفرفان من الأردن شرقاً حتى المملكة المغربية في أقصى الغرب. هذا المشروع كان الضد تقريباً لأغلب مرتكزات المشروع العربي الناصري، الذي كان يتلذذ بالسخرية من خصمه ورميه بالتخلف والرجعية مقابل المد الثوري التقدمي بقيادة عبد الناصر ورفاقه. في الحقيقة، هو لم يكن مشروعاً بالمغزى الثوري الناصري بقدر ما كان امتداداً طبيعياً وتلقائياً للحاضر الواقع آنذاك في اتصال تراكمي غير منقطع مع الماضي. وبالتالي قد تفادى المشروع العربي الخليجي الهزات والانكسارات الحادة مع الماضي التي وقع فيها خصمه؛ ولم يرسم لنفسه أحلاماً عريضة تتجاوز إمكانياته الحقيقية، ليجنب نفسه الانتكاسات المدمرة التي وقع فيها غريمه.
لأنها كانت في الأصل مجرد أنظمة حكم عسكري شمولية وديكتاتورية، لا هي ثورية ولا تحديثية ولا تقدمية ولا يحزنون، شغلها الشاغل البقاء في السلطة بأي ثمن، سرعان ما تلقفت هذه الأنظمة المتبرجة بمكياج ثوري وتحديثي حبائل النجاة كما مدتها إليها دول الخليج الشقيقة، لتظل باقية كالخُشب المسندة عقوداً من الزمن، لا هي تسقط ولا تترك الفرصة لشعوبها لكي تعيش حياة طبيعية وصحية. وبقي المشروع الخليجي منفرداً بالساحة العربية، يحلق بحرية في فضائها الرحب ويرمي بطوق النجاة لمن يشاء. بهذا التهجين، تحولت الدول الثورية السابقة إلى مُسوخ مُنَفِّرة، حيث أنظمة الحكم جمهورية اسمياً لكن الرؤساء لا يغادرون مناصبهم ويعملون لتوريثها لأبنائهم، اقتداءً بنظرائهم الملوك من المعسكر الآخر. رغم ذلك، كان السيف قد سبق العذل ومهما كانت جهود الإنقاذ المبذولة قد تؤجل المآل المحتوم، لكنها أبداً لن تُبدل مساره.
لقد مات المشروع العربي الناصري وسقطت أنظمته بالفعل منذ هزيمة 1967. لكن، بمفعول الدعم الخليجي، بقيت رفات هذه الأنظمة تتحلل ببطء طوال العقود الماضية. كان طبيعياً ومتوقعاً أن تنشأ من هذه الرفات، كما تنشأ الديدان من أحشاء الجيف، مجموعات وميليشيات وفصائل وتيارات وحركات وأحزاب عنيفة ومتطرفة وحتى إجرامية، تتنازع فيما بينها أشلاء الجثث الساقطة وتستكمل القضاء على ما بقي من رمتها العفنة. ومن المتوقع أن تنشأ من أحشاء آكلات الجيف الحالية أيضاً ديدان ثورية أخرى، في موجات متلاحقة لا تنضب قبل تطهير المنطقة العربية بالكامل من الرمم من كل الفصائل والأنواع.
القومية العربية حقيقة وليست وهم. هناك الكثير جداً الذي يجمع أكثر مما يفرق بين الشعوب الناطقة بالعربية في الماضي والحاضر والمستقبل، مهما بلغ الاختلاف والتباين في معتقداتهم ومذاهبهم وطوائفهم وانتماءاتهم العرقية والسياسية. فالصوت الجميل يُطرب آذان المنطقة العربية كلها؛ والوجيعة في أي عضو منها تندب قلوب الشعوب العربية جمعاء. وحقيقة أن البعض من أبنائها قد اتجروا لمصالحهم الشخصية بهذه الأصول والمشاعر والأحلام العربية الثمينة والصادقة لا يغير من الحقيقة شيئاً.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن الله- قراءة في فلسفة سبينوزا
-
حاسبوا أنفسكم مع بشار
-
هل تُبالي حكومة حماس بحياة الفلسطينيين؟
-
السيد صاحب مفتاح مطبخ الفرح
-
ما ضير الديمقراطية لو انتخب المعاتيه معتوهاً منهم؟
-
عن حاجة الإنسان إلى رَبْ
-
في القانون بين الرذيلة والفضيلة
-
في معرفة الواحد
-
العُقْدَة اليهودية في العقل العربي
-
تمرير ديمقراطية عربية تحت غطاء ديني!
-
رأسمالية روسيا ما بعد الشيوعية
-
باسم العدالة والمساواة حكومات تحتكر الاقتصاد
-
الأنانية في المجتمع والدولة
-
الأمة العربية والإسلامية لكن بزاوية نَظَر حادة
-
الدين سلطان القلوب
-
من الشورى إلى ديمقراطية جهنم
-
بِكمْ تَبِيعُني إلَهَك؟
-
بين الديمقراطية والبَيْعّة والشورى في الواقع العربي
-
نَظْرة ذُكورية
-
هل التعايش ممكناً بين الديمقراطية والدين؟
المزيد.....
-
-حماس- ردا على ترامب: شعبنا في غزة يرفض اقتلاع جذوره من أرضه
...
-
نتنياهو: خطة ترامب بشأن غزة -قد تغير التاريخ-
-
نيبال تحظر التسلق الفردي لجبل إيفرست والقمم التي يتجاوز ارتف
...
-
إلهام الأحمد: الأكراد جزء لا يتجزأ من سوريا والانتقال السيا
...
-
الصين: سنتعاون مع أعضاء منظمة التجارة العالمية لمواجهة التدا
...
-
لاريجاني: الولايات المتحدة وإسرائيل تعملان على إثارة الفوضى
...
-
مرشحة للكونغرس الأمريكي تسخر من زيلينسكي بعد اقتراحه تزويد أ
...
-
الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية تعلق برامجها حول العالم وت
...
-
كيفو الشمالي إقليم شهد أسوأ الحروب في تاريخ الكونغو الديمقرا
...
-
ترامب يشيد بدور قطر في التوصل لاتفاق غزة
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|