|
الفِتنة غافِية، تحتاج فَقَط لِمَن يُصَحصِحَها
مصطفى القرة داغي
الحوار المتمدن-العدد: 8190 - 2024 / 12 / 13 - 16:14
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
"الِفتنة نائِمة، لعَن الله مَن أيقَضَها" مَقولة يُصِر البَعض على أن يَنسُبَها ويَستشهِد بها كحَديث للنبي محمد، رغم أنها حَديث ضَعيف بإتفاق مُحَققي الحَديث في جَميع المَذاهِب. ما يؤكد ضُعفها أنها أولاً غير مَنطقية. ثانياً أنها تُرَسِّخ ظاهِرة باتَت مِن عِلل مُجتمعاتنا، وأحَد أسباب تخَلفِها، وهي عَدَم الإعتراف بالخَطأ، ومُحاولة تعليقه على شَمّاعة الآخرين. فالحَديث لا يَلعَن الفِتنة، بل مَن أيقَضَها، رَغم أن الفتنة هي العِلة وأُس البَلاء، أما مَن أيقَضَها فقد يَكون مُستطرِق ساقته الظُروف لإيقاظها. لذا فواضِع المثل كَمَن "ساب الحِمار ومِسِك في البَردَعة". ثالثاً إذا كانت الفِتنة نائِمة نومة عَميقة، بمَعنى أن المُجتمَع واعٍ ومُتماسِك، ففي هذه الحالة لا يُمكن للفِتنة أن تصحو، لأن لا أحَد بإمكانه إيقِاضَها. أما إذا كانت غافِية، بمَعنى أن المُجتمَع مَنخور مُنقَسِم، ففي هذه الحالة سَتَصحو بكل الأحوال، عاجلاً أو آجلاً، سَواء قام أحّدهُم بإيقاضَها أو لم يَفعل!
طبعاً لفِتنة مُجتمَعاتنا في كل زمان صَحوة! ففي القرن الماضي، صَحَت مِن غفوتها على الأفكار الثورية الهَدّامة، مُتمَثِّلة بالشيوعية والقومية التي إستوردتها مِن الخارج، الأولى من ستالين، والثانية مِن هتلر وموسوليني، فلَحَسَت عُقولها وحَثّتها على إشاعة الفوضى بأوطانها التي كانت أسِّسَت تواً على أسُس ليبرالية دستورية ديمقراطية تحترم مواطنيها، وفي طَور النهوض والبناء. فتَآمَر العَسكر مَع الأحزاب الثورية وقاموا بإنقلابات هَلّل لها العَوام بوَعي الفِتنة القطيعي، أعادَت بُلدانهم قروناً الى الوَراء، وأفرَزت حُكومات مِن العَسكر والشَقاوات، حَكمَتُهم بالحَديد والنار وإمتَهَنت كرامَتُهم وأضاعَت خَيرات بُلدانهم، حَتى باتَت من أفقر دول العالم الذي باتوا يَملأونه بلاجئيهُم. والتي بدَورها مَهّدَت وأدّت الى الفتنة التالية.
أما الفِتنة التي تنخُر مُجتمَعاتنا العربية مُنذ عقود، فهي فِتنة التدَيّن المُفتعَل، سياسياً وإجتماعياً، الذي بَدَأ في ثمانينات القرن الماضي بصُعود التيّارات الدينية في المُجتمَعات العربية والإسلامية وبين جالياتها. فالتدَيّن الإستِعراضي المُشَوّه، المُتمَثِّل بالتطَرّف في المَلابس، مِن حِجاب ونِقاب وجُبَب تكنُس الأرض لدى النِساء! أو دَشاديش وسَراويل قَصيرة ولِحى مُشعفرة لدى الرجال! وتَحجيب للفتَيات الصَغيرات، وإجبار للأطفال على الصَوم ساعات طويلة بدَرَجات حَرارة مُرتفِعة، والحِج كل سَنة ولو بالدَين والآجِل، والأستِشهاد بالدين والإستعراض بالعِبادات في كل موقِف أو حديث، سياسياً كان أو إقتصادياً أو ثقافياً أو حتى فكاهياً، بات وبائاً كالزومبي مُنتَشِر بين الشعوب العربية والإسلامية كالنار في الهَشيم. كُل جيل يولد أكثر تطَرفاً مِمّن سَبَقه! الشيوعي "سابقاً" باتَ يَتزَوّج مَثنى وثلاث ويُقيم عَزاء ويَلطُم في عاشوراء! الأستاذ الجامعي العُروبي "سابقاً" بات يُصَوّت بالإنتخابات لقائمة مَرجِعية طائِفته، وليس لقائِمة التيار العَلماني الذي ينتمي إليه، لأنها أفتَت بأن مَن لن يُصَوّت لها تَحرُم عليه زوجته ولا ينال شفاعة النبي وأهل بيته! المُلحن الذي كان يوماً "شُيوعياً ثم بَعثياً"، باتَ يَدعو الناس للإحتكام الى رَأي رَجُل دين بقضِيّة قانون الأحوال الشَخصية! وغيرها مِن المَهازل التي باتَت تُصادفنا يومياً!
هذه الفِتنة بَذرَتُها الخبيثة تنظيم الأخوان الذي ظَهر بَعد إنهيار الدولة العُثمانية، وإنتشَر في المُجتمَعات العَربية والإسلامية ونخَرَها على مَدى عُقود. والتي نَبتَتَ نباتاً ساماً شيطانياً هو ثورة الخميني التي كَمّلَت عليها بأن عَمّقَت هذا النَخر، وحَوّلَته الى إلتهاب يُفرز تقَيّحات، مُتَمَثِّلة بمليشيات مُرتزقة إرهابية جَمَعَت حثالات هذه الدول، تَستَخدِمَهم حَطباً في صِراعاتها مَع دولِهِم، وبأسماء رَنّانة كالدعوة، الرَفاه، حزب الله، حماس، العدالة والتنمية، الوفاق، النهضة، الحشد الشعبي. بَقي بَعضها يَعمل في الظلام، ونَجَح البَعض الآخر بأن يُصبِح جُزئاً مِن المَنظومة السياسية لهذه الدول، أو الوصول الى الحُكم فيها، وجَعلَها جُزئاً مِن مِحور إرهابي، كذاك المُسَمّى مِحور المُقاومة العَميل لإيران والمُنَفّذ لمَشروعِها التوَسّعي في المنطقة. لذا ما أن تَتراجَع في بَلد حَتى تنمو ببَلد آخر لأن حاضِنَتَها مَوجودة، وليسَ لأن أمريكا والغَرب والصهيونية والإمبريالية، ولا حَتى إيران وتركيا هي السَبَب، فلو لم تكُن مُجتمَعاتكُم مُفرِزة لهذه التقيّحات، لما تمَكّن أياً كان مِن إستِخدامِها!
لذا ليسَ غريباً أن باتَت هذه المُجتمَعات مَفاقِس تُفَرِّخ الإرهاب في كل ثانية، وليس صَعباً أن تَظهَر فيها كل سَنة تنظيمات مُتطَرّفة تستنسِخ نفسَها، لا يُمَيّزها عَن بَعضها سوى الإسم، أما سَحنات أتباعها الزفرة فواحِدة، ماركتها المُسَجّلة وجوه مُكفَهِّرة ولحى كَثّة مُغبرة، ولأنهم أحياناً نفس الأشخاص، لكن إنتقلوا مِن هذا التنظيم الى ذاك، بعد أن بات وَضعَه وتمويله أفضل. وشِعاراتها أيضاً نفسَها، أساسَها الجِهاد والقتل والجَلد والذَبح، لأنها عَقيدتها المُستنِدة لِخلطة نصوص دينية وتقاليد مُجتمَعية بالية تَرَبّت عليها وَوَرثتها مِن مُجتمعاتها، هي التطرف وإلغاء الآخر! هي تحتاج فقط الى ظُروف مُناسِبة لتُنظِّم نفسَها وتُكشِّر عَن أنيابها. بالتأكيد هناك مَن يُمَوّل هذه التنظيمات ويَدعَمَها بمَرحَلة مُعينة للإستِفادة مِن خَدَماتِها لصالحِه. قد يكون إيرانياً أو تركياً أو روسياً أو قطرياً أو مِرّيخِيّاً. الصُدفة هي مَن جَعَلت تركيا وقطر مُمَوِّلة وداعِمة لأغلب مليشيات الإرهاب السُنية، وإيران مُمَوّلة وداعِمة لجَميع مليشيات الإرهاب الشيعية والسُنية. ولو كانت دُول أخرى مَكانَهُما، وتوَفّر لها هؤلاء المُرتزقة لفَعَلت نفس الشَيء. لذا المُشكِلة ليسَت في الدول الداعِمة قَدَر كونَها في المُرتزق الرَخيص الذي يتَلقّى هذا التَمويل مِن طَرَف خارجي لقتل أبناء شَعبه وتدمير بلاده، بل يُوجِد له تبريراً شَرعِيّاً بإسم الدين والمَذهب! هذا الدُول ما كانت لتَفعَل ذلك لو لم تَجِد قطعاناً مِن أبناء هذه الشُعوب، ساقَها تَطَرّفها الديني والمَذهَبي للإنضِمام الى هذه المليشيات، لتَستخدِمَها وحالما تنتَهي مِنها تَرميها في سَلة المُهمَلات كوَرق التواليت، أو تستخدِمَها كوَرق كوتشينة تلاعِب بهم أعدائها.
لذا الفِتنة صاحية وليسَت نائِمة، بالتالي لا تَحتاج لمَن يوقِضَها، بَل فقط لمَن يُصَحصِحَها. فإذا أرَدتُم أن تلعَنوا أحَداً، فإلعَنوا أنفُسَكم، لأنّكُم أنتُم الفِتنة بِذاتِها، مُتجَسِّدة فيكم كأفراد ومُجتمَعات وشُعوب. أنتُم مَن أوجَدَها، وأنتُم مَن يُصَحصِحَها ومَن يوقِضها إذا غَفلَت أو نامَت، لأنّكُم لا تعرفون العَيش بسَلام.
#مصطفى_القرة_داغي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جاك واوي البَعَث و جاك ذيب يَزيد!
-
ألمانيا في مُفترق طُرُق بَعد عَطَل إشارة المُرور
-
إيران ومُرتزقتها يُخَرّبون والعَرب يُعَمِّرون
-
إيران وستراتيجية البَدائل لإستعمار الدول العربية!
-
ظاهرة اليَسار الإسلاموي والرهان على العمامة!
-
جِئنا لنُخَلّصكُم مِن صَدام، فخَلّصناه مِنكم!
-
طُرُق تحرير فلسطين التي تمُر بغَيرها ولا تؤدي إليها!
-
محوَر الشَر وسياسة -ضَرَبني وبَكى، وسَبَقني وإشتكى-
-
الموسيقار رخمانينوف.. وَجه روسيا المُشرِق الحَزين
-
عنتريّات السوداني بإخراج الأمريكان صَدى لرَغَبات إيران
-
طوفان الأقصى أم طوفان سليماني؟
-
ماريا كالاس وأرسطو أوناسيس، ومِن الحُب ما قَتَل!
-
إيران تُخطِّط وتُوَجِّه، والحوثي يُنَفِّذ ويَستَعرض
-
بوتين وإستثماره في حَرب غزّة!
-
رَحَل رايان أونيل تاركاً أروَع -قصة حُب- عَرَفها تأريخ السين
...
-
ألمانيا في مواجهة تحديات حَرب غزة
-
مليشيات إيران وسَعيها لتوريط العراق في حرب غزة
-
مزاد مقاطعة المنتجات الغربية في الدول العربية والإسلامية
-
حرب غزة.. الماريونيتات حَمساوية والأصابع إيرانية روسية
-
لماذا تُكرِّر مَأساة الإمام الحسين نفسها عِراقياً؟
المزيد.....
-
-خطة مجنونة-.. تركي الفيصل يصف لـCNN اقتراح ترامب بشأن -السي
...
-
قطر: الدول العربية لديها خطط لإعادة إعمار غزة مع بقاء الفلسط
...
-
هل لا يزال تطبيع السعودية وإسرائيل ممكنًا بظل ما قاله ترامب
...
-
هل سيرسل ترامب قوات أمريكية إلى غزة؟.. البيت الأبيض يرد
-
العاهل الأردني يلتقي عباس في عمّان
-
إعلام عبري يكشف وجهات جديدة مطروحة في سياق مقترح ترامب لتهجي
...
-
الجيش الإسرائيلي يقتل 3 أشخاص بينهم طفل في رفح جنوبي قطاع غز
...
-
التعاون الخليجي: موقف دولنا ثابت في دعم سيادة الشعب الفلسطين
...
-
موسكو وواشنطن.. علاقات سمتها الاختلاف
-
السعودية.. وزارة الصحة تتحرك بعد تصريحات أُثارت ضجة في الممل
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|