|
عن الله- قراءة في فلسفة سبينوزا
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8189 - 2024 / 12 / 12 - 12:07
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
"تميل العامة دوماً إلى تصديق الخرافات وتقديم سُنن الأولين على الحقائق الأزلية، والإعلاء من أهمية كلمات الكتب المقدسة فوق آيات الله الكونية." سبينوزا
الفصل الأول: في الخرافة
لماذا كان البشر دائماً كائنات خُرافية، تؤمن وتحيا في خُرافات من صنع خيالها الخصب؟ لأنهم، ببساطة، يفتقرون إلى القواعد التي يحكمون بها لمصلحتهم ظروفهم المعيشية، ولأن الحظ ليس حليفاً لهم على الدوام؛ بل هم يجدون أنفسهم باستمرار في مواقف لا تُجدي فيها القواعد نفعاً وتتجاذبهم مشاعر الخوف والرجاء خشية وطمعاً فيما تُخبئه لهم الأقدار. لذلك، في أوقات الريبة والشك، وحين يحتدم في نفوسهم الصراع بين الخوف والرجاء، يجنح الناس إلى إسكات عقولهم وتغليب انفعالاتهم التي مهما تكن صادقة وقوية وجياشة لكنها في جميع الأحوال ضحلة وساذجة وعقيمة.
أفترض أن هذه حقيقة عامة يعرفها حق المعرفة كل واحد منا، رغم أن قلة فقط هم من يعرفون أصلها. جميعنا يعرف من خلال ملاحظاته اليومية أن أغلب الناس حين يصيبون قسطاً من الثراء يميلون إلى التجمل بالحكمة والموعظة الحسنة (حتى رغم افتقارهم إليها) لدرجة تجعلهم يعتبرون كل نصيحة تُعرض عليهم إهانة شخصية لهم، بينما تجدهم في وقت الشدة لا يتركون باباً إلا وطرقوه التماساً وتوسلاً للمشورة ولو من شخص غريب لا تربطهم به سابق معرفة. وستجدهم في وقت المحنة على استعداد لتصديق أي خطة مهما كانت تافهة، مهما كانت سخيفة، أو مهما كانت مضللة؛ وأن أتفه الأسباب تبعث في نفوسهم الأمل والرجاء، أو تهوي بهم إلى اليأس والقنوط- إذا حل بهم أثناء ضائقتهم ما يذكرهم بخير أو سوء وقع لهم في الماضي، حسبوا في ذلك إشارة لحدث سعيد أو حزين في انتظارهم، وبالتالي (رغم ثبوت خطأهم مئات المرات من قبل) فسروه بشير خير أو نذير سوء. كل ما يبعث في نفوسهم الرهبة حسبوه إشارة عن غضب الآلهة أو الإله الأكبر، يحسبون الخرافة ديناً ويعتقدون أن من الكبائر عدم اتقاء فواجع الأقدار بالصلوات والأضاحي. إنهم دائماً وأبداً يتوهمون ويترقبون علامات وعجائب من هذا النوع لدرجة تجعل المرء يظن أن الطبيعة مجنونة مثلهم، لأنهم يفسرونها بهذه الطريقة الخُرافية.
هكذا يتضح لنا بجلاء تام، أن من أوائل ضحايا الخُرافة هم هؤلاء الطامعون في جني مكاسب ومغانم دنيوية؛ هؤلاء الذين (خاصة حين تباغتهم الأهوال ولا يستطيعون نجدة أنفسهم) يلتجئون إلى التضرع بالصلوات والأدعية، والنحيب والبكاء مثل النساء توسلاً لرفع الغُمْة وطلب الغوث من الله: ساعتئذٍ يرجمون العقل بالعمى، لعجزه عن هدايتهم إلى سُبل النجاة حتى يسلكوها، ويسخرون من الحكمة البشرية لعدم فائدتها؛ لكنهم يصدقون في أوهام خيالاتهم وأحلامهم وسخافاتهم الطفولية الأخرى، ويحسبونها كوحي مُنزَّل من السماء. كما لو كان الله قد أدار ظهره عن الحكماء، وسطر تعاليمه، ليس في عقل الإنسان لكن في مصارين البهائم، أو أودع مكنون أسراره العَلِيَة في كروش البُلهاء والحمقى والمجاذيب. أرأيتم إلى أي حد من الحماقة والتفاهة يستطيع الخوف والهلع أن يدفعا بالبشرية؟!
الخرافة، إذن، هي ابنة الخوف وربيبته وقرينته. إذا كنتم تريدون مثالاً، انظروا الإسكندر الأكبر، الذي لم يؤمن بالخرافات ولم يطلب الإرشاد من العرافين وقارئي الغيب إلا بعدما تسرب الخوف من الأقدار إلى قلبه لأول مرة وهو محاصر مع جنوده داخل ممرات سيسيس (Sysis)؛ لكنه بعد انتصاره على داريوس لم يعد بحاجة إلى استشارة العرافين، حتى اضطره مأزق آخر إلى العودة لطرق بابهم مرة ثانية. حين كان السكوثيون يقرعون طبول الحرب، والباكتريانيون قد خذلوه، وكان هو نفسه يرقد مريضاً بجروحه، سعى مرة أخرى في طلب الخرافة، نقيض الحكمة البشرية. هناك أمثلة كثيرة من هذه الشاكلة، تبين بوضوح حقيقة أن المرء حين يتملك منه الخوف يقع فريسة سهلة للخرافة؛ أن جميع الادعاءات التي تتدثر بلباس الدين والقدسية هي مجرد أضغاث أحلام وأماني وأوهام من بنات عقول خائفة، منكوبة، مذعورة ومرتعدة؛ لهذا يكون نفوذ وتأثير الأنبياء والكهنوت والعرافين هو الأقوى وسط الناس العاديين، والأكثر تحدياً للحُكام، وتحديداً في تلك الأوقات بالذات التي تكون فيها الدولة معرضة لخطر محدق. أظن هذا واضح بما فيه الكفاية للكافة، وبالتالي لن أُسهب أكثر في هذا الموضوع.
يعطينا منشأ الخرافة المقدم أعلاه أرضية ثابتة لحقيقة أن الناس بطبيعتهم يؤمنون بالخرافة، رغم أن البعض يحيلون الأمر إلى تصورٍ مُبهم عن الله، يشترك فيه كل البشر، والذي لا يقل هو الآخر في مفارقاته وشطحاته الوجدانية عن سائر هلوساتهم العقلية ونوازعهم الانفعالية، لكونه أيضاً لا يحيا إلا على الأمل والكراهية والغضب والمكر؛ ولكونه ينبثق، ليس من العقل، لكن وبشكل حصري من الأطوار الوجدانية الأشد تطرفاً وجيشاناً. علاوة على ذلك، هناك صعوبة بالغة في تدجين وتهذيب وحشية أناس ميالون بطبيعتهم إلى التصديق بكل صنوف السذاجات والحماقات. فطالما بقيت الغالبية الساحقة من البشرية دائماً عند نفس المستوى تقريباً من البؤس والجهالة، ستجدهم لا يقبلون بعلاج واحد لفترة طويلة، بل ستدفعهم النشوة دائماً إلى احتضان الدخيل والغريب حتى لو لم تكن لهم سابق دراية به.
لقد كان عنصر المفارقة ذلك سبباً للعديد من الحروب والثورات المُرعبة؛ حيث، كما يقول عن حق كورتيوس (lib. Iv. cha. 10): "لا حاكم للغوغاء أقوى من الخرافة،" التي تَسوقهم كالقطيع، من وراء ستار الدين، إلى تبجيل ملوكهم كعبادتهم للآلهة في لحظة ما، ثم لعنهم والكفر بهم كطغاة وعار على البشرية في أخرى. لذلك قد بُذلت مجهودات ضخمة لموازنة وتلجيم هذا الشر عبر إلباس الدين، سواء صادق أو كاذب، رداء الفخامة والمراسيم، للارتقاء به أعلى من الصدمات، ومراعاته دوماً برهبة وسواسية قهرية من الناس كافة- وهو النظام الذي قد حقق درجة مذهلة من الكمال لدى الأتراك العثمانيين، الذين يعتبرون مجرد النقاش في الدين كُفر، ومن ثم يحاصرون عقول الناس بأحكام فقهية متزمتة لا تترك متسعاً للعقل السليم، ولا حتى ما يكفي لكي يَسئل ويَشُك به. _________________ قراءة: عبد المجيد الشهاوي النص الأصلي: https://archive.org/details/in.ernet.dli.2015.274322/page/n3/mode/2up
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حاسبوا أنفسكم مع بشار
-
هل تُبالي حكومة حماس بحياة الفلسطينيين؟
-
السيد صاحب مفتاح مطبخ الفرح
-
ما ضير الديمقراطية لو انتخب المعاتيه معتوهاً منهم؟
-
عن حاجة الإنسان إلى رَبْ
-
في القانون بين الرذيلة والفضيلة
-
في معرفة الواحد
-
العُقْدَة اليهودية في العقل العربي
-
تمرير ديمقراطية عربية تحت غطاء ديني!
-
رأسمالية روسيا ما بعد الشيوعية
-
باسم العدالة والمساواة حكومات تحتكر الاقتصاد
-
الأنانية في المجتمع والدولة
-
الأمة العربية والإسلامية لكن بزاوية نَظَر حادة
-
الدين سلطان القلوب
-
من الشورى إلى ديمقراطية جهنم
-
بِكمْ تَبِيعُني إلَهَك؟
-
بين الديمقراطية والبَيْعّة والشورى في الواقع العربي
-
نَظْرة ذُكورية
-
هل التعايش ممكناً بين الديمقراطية والدين؟
-
التناقض بين الديمقراطية والدين
المزيد.....
-
الأكراد يكشفون سبب فشل الوساطة الأمريكية للتوصل إلى هدنة بشم
...
-
العراق يعلق على أنباء وجود ماهر الأسد على أراضيه
-
قتيلان وجرحى بانقلاب حافلة ركاب في شرق روسيا (فيديو)
-
إنزال إسرائيلي قرب دمشق استمر 20 دقيقة
-
روسيا.. خوذة جديدة لطياري مقاتلات Su-57
-
روسيا تجهّز لإطلاق قمر جديد لرصد الأرض
-
هل يساعد المغنيسيوم في مكافحة الإجهاد؟
-
كوكب غريب يملك ذيلا بطول يفوق 40 ضعفا عرض الأرض!
-
روسيا تسلم طائرة برمائية مطورة للجزائر
-
لاعب كرة قدم يفوز برئاسة جورجيا
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|