|
الوطن العربي وتعاقب الثورات (1916- 2011)
خميس بن محمد عرفاوي
(Arfaoui Khemais)
الحوار المتمدن-العدد: 8189 - 2024 / 12 / 12 - 04:54
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ليست الثورات العربية الّتي اندلعت في عدّة بلدان في الأشهر الأولى من سنة 2011 الثورات الأولى في تاريخ العرب المعاصر. فقد شهدت المنطقة العربيّة الممتدة من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي عديد الثورات منذ 1916 تاريخ اندلاع ما يعرف ب » الثورة العربية الكبرى« إلى سنة 2011 التّي جرت فيها بعض الثورات العربية ذات الطابع الديمقراطي. ولقد تعدّدت أطراف المواجهة في هذه الثورات وتنوّعت أشكال النّضال المتّبعة ولكن أهدافها الأساسية بقيت نفسها تقريبا وهي مقاومة الاستبداد والتخلّف في مختلف مظاهره والتحرّر من السيطرة الأجنبية. وبذلك تتأكّد حقيقة مفادها أنّ الشرق وخاصّة البلدان العربية توجد في منطقة زوابع ثورية مثلما ذهب إلى ذلك المفكّر سمير أمين ) Le --print--emps arabe (. وقد واجهت هذه الثّورات، في بعض الأحيان، عدوّين اثنين في آن واحد هما سيطرة الامبريالية العالمية وتسلّط الرجعية العربية. وتجدر الإشارة إلى أنّ الإمبريالية العالمية تتربّص بكلّ ثورة تحدث في المنطقة العربية وتناهض كلّ نفس تحرّري. وهي مازالت تتربّص كأشدّ ما يكون التّربّص بالثورات الّتي تصنع ربيع العرب الآن نظرا إلى أهمية المنطقة العربيّة التّي سنبيّنها لاحقا. ولذلك يجدر التساؤل حول كيفية تعامل القوى الامبريالية مع الثورات في الوطن العربي وحول مدى نجاح الشعوب العربية في التخلّص من السيطرة الأجنبية. وللإجابة عن هذين السؤالين ارتأينا تقسيم الفترة الممتدة من 1916 إلى 2011 إلى ثلاث مراحل: أوّلا- » الثورة العربية الكبرى« ثانيا- ثورات التحرّر الوطني ثالثا- الثورات الديمقراطية
1. » الثورة العربية الكبرى« (1916)
أطلق هذا الاسم على الحركة الانفصالية التّي قامت سنة 1916 في الولايات العربية التابعة للإمبراطورية العثمانية وقادها الشريف حسين أمير مكّة (1856- 1931). وقد تظافرت عديد الأسباب لحدوثها ومرّت بأكثر من طور. هناك أسباب أساسية أدّت إلى الثورة العربية الكبرى تتلخّص في اضطهاد العثمانيين للشعوب العربية. فقد سيطر العثمانيون على البلدان العربية منذ القرن السادس عشر وفرضوا أنظمة إدارية عسكرية اتّسم سلوكها تجاه السكان بالقمع الوحشي والنهب الممنهج. وفي القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين سقطت العديد من الولايات العثمانية بين أيدي الدول الاستعمارية الأوروبية. فقد احتلت فرنسا الجزائر (1830) وتونس (1881) وسيطرت أنقلترا على عدن (1838) وحضرموت ومنطقة الخليج العربي ومصر (1882) والسودان (1896). ولم تحتفظ الإمبراطورية العثمانية في سنة 1914 إلاّ ببعض الولايات في المشرق العربي مثل الحجاز وسوريا وفلسطين ولبنان والعراق. وقد اشتد الاضطهاد العثماني للعرب وأخذ طابعا قوميا شوفينيا بعد ثورة 1908 التّي قادتها جمعية الاتّحاد والترقي وأسّست نظاما ملكيا دستوريا في تركيا. إلاّ أنّ العرب لم يستفيدوا من هذا الانتقال في نظام الحكم. فقد انتهجت الحكومة الجديدة سياسة قومية تركية معادية للعرب وقامت باعتقال العناصر النشيطة وازدادت أوضاع العرب في الإمبراطورية العثمانية تدهورا أثناء الحرب العالمية الأولى. فقد انتهج جمال باشا والي سوريا سياسة دموية بإعدام العشرات واعتقال المئات ونفي الكثير من العائلات في مناطق نائية بالأناضول وتدهورت خلال ولايته الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في سوريا بشكل فظيع زادت من حدّته الكوارث الطبيعية. لم يقف العرب مكتوفي الأيدي أمام هذه الأوضاع وظهرت في صفوف نخبهم المثقفة منذ القرن التاسع عشر أفكار دعت في مرحلة أولى إلى إصلاح الأوضاع داخل الإمبراطورية وذلك بمنح العرب حكما إداريا ذاتيا ونادت في مرحلة ثانية بانفصال العرب عن الأتراك. وفي سنة 1905 نشر نجيب عازوري (؟- 1916) وهو أحد رواد الفكر القومي العربي كتاب "يقظة الأمة العربية في آسيا التركية" (بالفرنسية) دعا فيه إلى الانفصال وإلى تشكيل دولة عربية مستقلة. وقد أيّد العرب ثورة 1908 في البداية اعتقادا منهم أنّها ستفضي إلى تكريس المساواة بين شعوب الإمبراطورية. غير أنّ الحكومة الاتحادية انقلبت على وعودها مثلما رأينا فاتّجه العرب إلى بعث النوادي والجمعيات العربية وعقدوا المؤتمر العربي الأوّل في باريس سنة 1913 طالبوا فيه بإقرار نظام لا مركزي. إلاّ أنّ ردود الفعل السلبية للأتراك جعلتهم يعدلون عن هذا المطلب الإصلاحي ويرفعون مطلب الاستقلال (الزين، زين نور الدّين زين، 1972 والتيمومي، 2002). وقد وجدت المطالب القومية العربية صدى لدى الطبقة الأرستقراطية العربية الحليف التقليدي للعثمانيين. وكان حسين بن علي شريف مكّة وأبرز رموز هذه الطبقة نظرا إلى مركزه الديني وانتسابه إلى الأسرة الهاشمية قد ساند مطلب القوميين العرب في تكوين دولة عربية بهدف تركيز نظام ملكي ووراثي في أسرته. وعلاوة على ذلك هناك أسباب ظرفية سرّعت اندلاع » الثورة العربية الكبرى« . فقد لعبت انجلترا دورا حاسما في جرّ المنطقة إلى الحرب ضدّ تركيا. وكانت الدولتان الأنجليزية والتركية طرفين في الحلفين المتحاربين: الحلف الثلاثي (ألمانيا والنمسا-المجر وتركيا) والوفاق الثلاثي (أنجلترا وفرنسا وروسيا). ولا يجب أن ننسى أنّ أنجلترا كانت لها مصالح كبيرة في المنطقة بالنظر إلى موقعها الاستراتيجي الذي يربط الغرب بالشرق وإلى أهميتها الاقتصادية من حيث هي مصدر هام للثروات الطبيعية وخاصة موارد الطاقة وسوق للبضائع المصنّعة ولرؤوس الأموال. وفضلا عن ذلك كانت انجلترا تسعى إلى خلق مشاكل لتركيا داخل إمبراطوريتها. ومن ثمّ اقتضت مصالحها التحالف مع قادة الحركة الاستقلالية العربية. وقد دفع الاتحاديون القادة العرب إلى عقد هذا التحالف بحكم رفضهم مقترحات الشريف حسين الّذي عرض عليهم مشاركة العرب في الحرب إلى جانب تركيا مقابل تحقيق بعض المطالب من قبيل إعلان العفو العام والقبول بنظام لامركزي في سوريا وجعل إمارة مكّة وراثية في أبنائه. ويبرز سلوك الاتحاديين هذا مدى الغطرسة والتعنّت اللذين ميّزا السياسة العثمانية في بداية الحرب العالمية الأولى. وكان هذا الرفض سببا في انطلاق مفاوضات بين أنجلترا والشريف حسين أفضت إلى إعلان »الثورة« في 10 جوان 1916 رغم أنّ تلك المفاوضات لم تفض إلى تعهّدات ملزمة لإنجلترا التّي قدّمت وعودا فضفاضة تتمثّل في المساعدة على تكوين دولة عربية مستقلة والاعتراف بالشريف حسين خليفة. وتجدر الإشارة إلى أنّ انجلترا دعّمت بقوّة » الثورة العربية الكبرى« من الناحية اللوجستية والتسليح فساعد ذلك التّدعيم العرب على تحقيق انتصارات متتالية على الجيوش العثمانية توّجت بدخول القوّات الانجليزية والعربية إلى دمشق في غرّة سبتمبر 1918. وتمّت إثر ذلك تصفية الإدارة التركية في كافة البلدان العربية التّي كانت واقعة تحت السيطرة العثمانية. غير أنّ الثورة العربية الكبرى لم تحقق أهدافها المتمثّلة في استقلال بلدان المشرق العربي وتكوين دولة عربية ومن ثمّ سهل على الإمبريالية الإنجليزية إجهاضها واحتواء قيادتها. ووقعت تلك البلدان بين براثن الاستعمار الرأسمالي الغربي. وقد مهّدت لهذا الاستعمار اتّفاقية سايكس بيكو. وهي اتّفاقية سريّة تضمنتها االمذكّرات الّتي تمّ تبادلها بين انجلترا وفرنسا خلال شهر ماي 1916 وكشفت عنها الدولة الاشتراكية في روسيا إثر ثورة أكتوبر 1917. وقد قسّمت الاتفاقية المشرق العربي بين القوتين الأوروبيتين وقرّرت وضع فلسطين تحت إدارة دولية. غير أنّ مصير فلسطين سيتقرّر وفق ما جاء في وثيقة أخرى تعرف بوعد بلفور (2 نوفمبر 1917). فقد جاء في هذا البيان مايلي: «إنّ حكومة جلالته (ملك إنجلترا) تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية ...» وبالتالي قطعت خطوة حاسمة في ارتباط الصهيونية بالإمبريالية وفي تحقيق أطماعها الاستعمارية في فلسطين. وقد توّجت هذه المرحلة بوضع البلاد العربية الواقعة سابقا تحت السيطرة العثمانية تحت نظام الانتداب ومنح مؤتمر سان ريمو المنعقد في أفريل 1920 العراق والأردن وفلسطين لإنجلترا بينما منح سوريا ولبنان لفرنسا. ولكن في نفس الوقت خلقت الحرب العالمية الأولى وضعا عالميا جديدا كان من بين إفرازاته نهوض عارم للحركات المعادية للإمبريالية. وقد شملت هذه الموجة أغلب البلدان العربية. 2. حركات التحرّر الوطني
خيّم الاستعمار الأوروبي على كامل الوطن العربي غداة الحرب العالمية الأولى وسيطرت الامبريالية الإنجليزية بصفة مباشرة على مصر والسودان والبحرين والإمارات العربية وعمان والكويت والعراق والأردن وفلسطين وجزء من الصومال في حين استعمرت الامبريالية الفرنسية الجزائر وتونس والمغرب ولبنان وسوريا وموريتانية وجيبوتي (حاليا). أمّا إسبانيا فقد أخضعت الريف بالمغرب الأقصى والصحراء الغربية لنفوذها وأخيرا احتلّت بريطانيا ليبيا واريتريا وجزءا من الصومال. وخضعت بقية الأراضي العربية الأخرى في شبه الجزيرة العربية للاستعمار غير المباشر أو ما يسمى شبه الاستعمار وتأسّست بها المملكة العربية السعودية في أواسط العشرينات بدعم من الامبريالية الإنجليزية التّي خذلت حليفها السابق الشريف حسين وتحالفت مع آل سعود المدعومين من الإخوان. وقد اختلف شكل الاستعمار المباشر من بلد عربي إلى آخر. فنجد شكل الإلحاق أو الاستعمار الاستيطاني مثلما حصل للجزائر ونجد نظام الحماية في تونس ومصر وغيرهما وأخيرا نظام الانتداب في سوريا وفلسطين والعراق. وتجدر الإشارة إلى أنّ الاستعمار الأوروبي أدخل إلى البلدان العربية نمط الإنتاج الرأسمالي على نحو أدّى إلى تراجع أهمية التشكيلات الاجتماعية ما قبل الرأسمالية وإلى نشوء طبقات اجتماعية جديدة أهمها الطبقة البورجوازية بمختلف فئاتها والطبقة العاملة. ولئن مثّلت طبقة الملاكين العقاريين الحليف الأساسي للاستعمار في المجتمعات العربية المستعمَرة فإنّ التطوّر الاجتماعي أفرز ما يعرف بالبورجوازية الكمبرادورية التّي ارتبطت بالمصالح الأجنبية وظهرت في التجارة الكبرى وخاصة في مجالي التصدير والتوريد. وفي المقابل مثّلت الفئات الوسطى في المدن والأرياف وخاصّة الطبقة العاملة وطبقة المزارعين القاعدة الاجتماعية للحركات الوطنية. وقد مثّلت الأحزاب السياسية الأطر الأساسية التّي نظمت الجماهير الشعبية وأمسكت بقيادتها عناصر من البورجوازية الصغيرة وتبنّى أغلبها إيديولوجيا وطنية محافظة وذات توجّه ليبرالي. ولكن وجدت أيضا أحزاب تنتسب إلى الحركة الشيوعية لم تتمكّن من التحوّل إلى قوى أساسية في الحركات الوطنية وعجزت عن توحيد مكوّناتها في جبهات وطنية ذات قيادة ثورية واعية بالمهام التّي تطرحها المرحلة وقادرة علي إنجازها كاملة (علّوش، ناجي، 1973). وممّا لاشكّ فيه أنّ غياب مثل هذه القيادة فسح المجال للبورجوازية الكمبرادورية التّي التحقت بالحركات الوطنية عشية انسحاب الاستعمار المباشر لاحتوائها والتسلط على مصائر الشعوب العربية بدعم من الدول الإمبريالية. وبالإضافة إلى الأحزاب السياسية فقد تكوّنت منظمات نقابية في الكثير من البلدان العربية ضمّ بعضها العمال والبعض الآخر الأعراف والفلاحين. ويمكن القول إنّ الحركات النقابية العربية تذيّلت بحكم طبيعة قيادتها للأحزاب الوطنية البورجوازية وتغذّت بالأفكار الإصلاحية والنقابوية. ولم يقتصر النشاط الوطني المعارض للاستعمار على الجوانب المذكورة فقط بل شمل مختلف المجالات الأخرى كالثقافة والفنّ. وظهرت حركات مقاومة مسلّحة في الكثير من البلدان العربية بل بعث في بعضها جيش تحرير وطني (الجزائر). وقد تفاوتت أهميّة التنازلات التّي فرضت على الاستعمار المباشر بتفاوت تجذّر الحركات الوطنية العربية. ومهما يكن من أمر فإنّ أغلبية الكتاب يعتبرون أنّ البلدان العربية حقّقت استقلالها الوطني ويتحدثون عن دول وطنية ناشئة عن ذلك الاستقلال. وفي الحقيقة فإنّ هذا الرأي ليس محلّ إجماع إذ يرى كتاب آخرون أنّ انسحاب الاستعمار المباشر فسح المجال لمرحلة جديدة هي مرحلة الاستعمار الجديد إذ حافظت الدول الامبريالية على نفوذها على البلدان المولّى عليها وهو نفوذ سياسي وخاصة اقتصادي وثقافي (Ziegler (J), 1980 والهمامي، حمة، 1989). ولم تعد هذه البلدان خاضعة للاستغلال الحصري من قبل مستعمِريها بل إنّها أصبحت مجالا لاستغلال مشترك من قبل كافة الدول والشركات الرأسمالية على قاعدة التنافس الشديد بينها. وبالتالي يمكن القول إنّ حركات التحرّر الوطني العربية أخفقت في تحقيق الاستقلال الوطني وفي وضع الشعوب العربية على سكّة التقدّم والديمقراطية والوحدة، وأجهضت الإمبريالية الرأسمالية العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدّة الأمريكية مرّة أخرى هذا المسار وازداد الأمر تعقيدا لعدّة أسباب. فقد أصبح العالم يخضع، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لسيطرة قطب واحد هو القطب الامبريالي الرأسمالي وازدادت غطرسة الامبريالية الأمريكية فأصبحت تشن الحروب الاستعمارية في مختلف أنحاء العالم وتمارس أشكالا من السيطرة المباشرة مثلما هو حاصل في العراق وأفغانستان. وفرضت الامبريالية قيام كيان استعماري استيطاني وعنصري في قلب الوطن العربي وهو بمثابة قلعة عسكرية مدجّجة بالأسلحة. وقد قطع هذا الكيان شوطا متقدّما في إضعاف الثورة الفلسطينية واختراق الأنظمة العربية الرجعية وامتلاك قدرة عسكرية لا طاقة لهذه الأنظمة عليها. ومن ناحية أخرى فإنّ السيطرة الامبريالية ليست ظاهرة للعيان خاصة بالنسبة إلى الأوساط الشعبية. فالدول الاستعمارية الجديدة تتسلّط على الشعوب العربية عن طريق أنظمة دكتاتورية ورجعية تتظاهر بالوطنية. وفضلا عن ذلك عمّقت الأنظمة العربية الرجعية كافة مظاهر التخلّف والنُّكوص وزادت في تمزيق الوطن العربي وتقسيمه على أساس قطري وطائفي وجهوي وقبلي واستعمل بعضها ثروة البترودولار لاستعباد الشعوب العربية وبقية شعوب العالم أيضا.
3. الثورات الديمقراطية
اندلعت هذه الثورات في الكثير من البلدان العربية (تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن الخ)، وكانت مرشّحة للاشتعال في كامل المنطقة العربية. ومن البديهي أن نقول إنّها اندلعت نتيجة أسباب عديدة تبرز نقاط تشابه كثيرة بين البلدان العربية تتلخّص في التخلّف على جميع المستويات والتبعية للقوى الامبريالية والصهيونية. فالتطوّر الاقتصادي للبلدان العربية في ظلّ أنظمة الاستبداد والعمالة زاد في تعميق الاختيارات اللاوطنية واللاشعبية والاختلالات الهيكلية الموروثة من العهود السابقة: عهد الاستعمار المباشر بالنسبة للبعض وعهد الاستعمار غير المباشر أو شبه الاستعمار بالنسبة للبعض الآخر. وقد ازدادت هذه الاختيارات استفحالا في ظلّ العولمة التّي كرّست الهيمنة الأمريكية في شكلها المتوحش. ويبرز ذلك في الفلاحة الّتي لا تلبي الاكتفاء الغذائي الذاتي بحيث تفاقم العجز الغذائي باستمرار، ولم يقع إحداث نسيج صناعي من شأنه أن يقطع الصّلة بالتبعية المشطّة للخارج وأغرقت الأسواق العربية بشتّى السلع القادمة من البلدان الامبريالية ومن البلدان الصناعية الجديدة. وفتح الباب على مصراعيه للاستثمار الأجنبي وللتداين من المؤسسات المالية العالمية والبنوك الكبرى. ومن ناحية أخرى شهد قطاع الخدمات تضخما مفرطا على حساب القطاعات المنتجة وبشكل يعرقل تطوّرها. ونتيجة لذلك لم تتحسّن أوضاع الفلاحين بل ازدادت تكاليف إنتاجهم وتعقّدت مسالك ترويج منتوجاتهم وتضاعف ابتزازهم من قبل المؤسسات البنكية والحكومية، وتضرّر الصناعيون من تعقّد الإجراءات الإدارية والمحاباة ومن منافسة الاستثمارات الأجنبية في البلدان العربية وغزو البضائع الأجنبية للأسواق المحليّة كما تضرّر التجار الصغار من منافسة المغازات الكبرى ومن تدهور المقدرة الشرائية لأوسع الفئات الشعبية. أمّا العمال فتهددهم البطالة وإجراءات الطرد ويعانون من تدهور ظروف العمل وضعف الأجور. يضاف إلى كلّ ذلك التهميش الذي شمل أغلب الشباب في مجال العمل كما شمل الثقافة والمرأة والمناطق الداخلية والأرياف واستفحلت مظاهر البطالة والفقر والجهل والتمييز الجنسي والتفاوت بين الجهات وبين المدينة والريف. وفي المقابل استفادت مجموعات قليلة العدد من هذا الوضع إن لم نقل عائلات متنفّذة وجشعة استعملت السلطة لفرض سطوتها على الجميع ولتكريس اختيارات لا وطنية ولا شعبية. فقلّة قليلة تتصرّف في مقدرات البلدان العربية بشكل غير محدود وتتميّز بإسرافها الشديد في البذخ وتبذيرها اللامحدود للأموال التّي تنهبها على حساب الشعب والوطن. وتجدر الإشارة إلى أنّ أغلب البلدان النفطية كبلدان الخليج وليبيا لم تشهد تطوّرا أفضل من غيرها وأفرزت الطفرة النفطية فيها اقتصاديات استهلاكية غيّبت فيها قيم العمل والابتكار وكبحت إمكانيات التطوّر. وتبرز حالة البلدان العربية ما للنظام السياسي من تأثير سلبي في تعميق التخلّف والارتباط بالقوى الامبريالية والصهيونية. وتوجد بها أنظمة جمهورية وأخرى ملكية لا يوجد اختلاف حقيقي بينها. فجميعها تخضع لحكم يخدم مصالح تحالف طبقي إمبريالي رجعي ويتميّز بطابعه المطلق والفردي والعميل. هو حكم مطلق ليس فيه فصل حقيقي بين السلط. فالسلطة التنفيذية تهيمن على السلطتين التشريعية والقضائية وتخضع السلطة التنفيذية بدورها لسيطرة فرد واحد يحيط نفسه بعائلات قليلة العدد من الأقرباء والأتباع يتصرفون في البلاد كما تتصرّف العصابات. وتقوم السلطة التشريعية إن وجدت على أساس انتخابات صورية وعلى أساس الخضوع الكامل للحاكم بأمره. ولم يكن القضاء أفضل حالا إذ عرف بفساده وسيره حسب تعليمات أجهزة الحكم الفردي. وفي مثل هذه الأنظمة انعدمت الحريات الفردية والعامة وساد القمع الذي شمل أحزاب اليمين وأحزاب اليسار على حدّ السواء باستثناء الأحزاب الموالية للسلطة. ولم تسلم الحياة الثقافية من تخريب أنظمة الحكم. فوجّه التعليم في اتجاه إعادة إنتاج إنسان سلبي وطيّع وأفرغ من مضامينه النقدية والتقدمية وكرّست ثقافة استهلاكية تغيّب الوعي وتعمّق الجهل من خلال تركيزها على الفكر السلفي الرجعي وعلى ثقافة التفسّخ والميوعة في نفس الوقت. وقد خلقت هذه العوامل حالة من الاحتقان والغضب وولّدت الكثير من الانفجارات والحركات الاجتماعية الاحتجاجية التّي سرعان ما وقع إخمادها أو الحدّ من انتشارها مثلما حدث خلال السنوات الأخيرة في الحوض المنجمي والسخيرة وبن قردان وجبنيانة في تونس ومدينة سيدي افني بالمغرب الأقصى والإضرابات العمالية العارمة في مصر. كما أنّها أفرزت حركات سياسية معارضة مثل حركة 18 أكتوبر للحقوق والحريّات في تونس وحركة كفاية بمصر. وبالتالي فإنّ ثورات 2011 لم تنشأ من فراغ أو كانت وليدة الصدفة أوهي حادث عارض بل إنّها كانت وليدة تراكمات. كما أنّ الثورات الّتي اكتسحت البلدان العربيّة ليست عفوية تماما. فلا يجب أن يغيب عن أذهاننا وجود أحزاب وتيارات ثورية تنشط في السريّة وتدعّم المطالب الشعبية والديمقراطية التّي يمكن حوصلتها في إرساء نظام الحريّة السياسية وانتهاج اختيارات اقتصادية واجتماعية تخدم الطبقات الشعبية وسياسة خارجية مستقلة عن الدوائر الامبريالية والصهيونية. كما أنّ الهياكل النقابية القاعدية والوسطى في بعض البلدان مثل تونس كان لها تأثير في استمرار جذوة النضال الاجتماعي. لكن عندما اندلعت الثورات لم تكن هناك قيادة موحّدة لتأطيرها والارتقاء بأدائها. وبالرغم من ذلك يمكن القول إنّ اليسار الثوري في تونس لعب دورا هاما في رسم معالم الطريق للثورة في تونس وبشكل غير مباشر للثورة في بقية البلدان من خلال الدعوة إلى رحيل الدكتاتور وإلى تكوين حكومة مؤقتة ومؤسّسات حكم انتقالي على أساس التوافق وأيضا إلى تشكيل مجلس تأسيسي على قاعدة الاقتراع العام. غير أنّ مسار الثورة بقي متعطّلا بعد التخلّص من الحكّام واستمرّت الأنظمة القديمة في تونس ومصر برموزها ومؤسّساتها وقوانينها. ولا تعدو الأنظمة الجديدة التّي قد تتشكّل أن تكون إعادة ترتيب للبيت تتقاسم الأدوار فيه الفئات البورجوازية الكبيرة وأجهزة الحكم والدول الإمبريالية المؤثرة في المنطقة والأحزاب السياسية المعادية للثورة أو التّي سايرت الثورة ثمّ التفت عليها. ومرّة أخرى تسعى الدول الإمبريالية إلى احتواء الثورات العربية وذلك بحصرها في أضيق الحدود السياسية وتوجيهها عن طريق وسائل عديدة كالأموال والدعاية وعقد الاتفاقات مع الأحزاب الليبرالية والإسلامية التّي تدافع عن نظام اقتصادي مبني على حريّة السوق ومرتبط بالخارج. ويمثّل التدخّل العسكري الأطلسي في ليبيا مدخلا إلى فرض الوصاية الامبريالية على ليبيا وسيفضي لا محالة إلى استباحة الثروات الليبية وإقامة نظام لا وطني وبناء قواعد عسكرية أجنبية. أمّا التحرّكات في البحرين فقد وقع سحقها بواسطة الآلة العسكرية السعودية. وبالتالي يقتضي البرنامج الامبريالي الرجعي الإبقاء على الوطن العربي في حالة تخلّف وتبعية وانقسام. وهو ما يؤكّد أنّ الثورات العربية لازالت في بداية الطريق المؤدّي إلى تحقيق الاستقلال الوطني بمختلف أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية وإلى إقامة الجمهورية الديمقراطية الشعبية التّي تكرّس الديمقراطية في المجالين السياسي والاجتماعي. وممّا لاشكّ فيه أنّ الثورات العربية بتحريرها الشعوب العربية من نير الاستبداد وإدماجها في الحياة العامة ستساهم في توفير شروط أفضل لتحقيق الوحدة العربية. وهذه الوحدة ستكون المرحلة الحاسمة في بناء الأمة العربية المتحرّرة من نير الامبريالية والمرشحّة للتقدّم على كافة المستويات واحتلال المكان الذي يليق بها على مستوى عالمي. تونس صيف 2011
مراجع
Lénine, L’impérialisme stade suprême du capitalisme, Paris, Editions sociales Moscou, Editions du Progrès, 1975. Pierre Ndoumaï, Indépendance et néocolonialisme en Afrique Bilan d’un courant dévastateur, L’Harmattan, 2011. Sahli (M. C.), Décoloniser l histoire Introduction à l’histoire du Maghreb, Ed. François Maspero, 1965. Samir Amin, 2011, « Le --print--emps arabe », Mouvements, 1.06.2011. http://www.mouvements.info/2011-le---print--emps-arabe.html. Ziegler (J), Main basse sur l’Afrique La recolonisation, Paris, Editions du Seuil, 1980. التيمومي: - الهادي، مفهوم الامبريالية من عصر الاستعمار العسكري إلى العولمة، تونس، دار محمد علي الحامي، 2004. - في أصول الحركة القومية العربية : 1839- 1920، تونس، دار محمد علي للنشر، 2002. الجماعي، تاريخ الأقطار العربية المعاصر 1917-1970، جزءان، موسكو، دار التقدّم، 1975 و1976. الزين، زين نور الدّين زين، نشوء الحركة القومية مع دراسة تاريخية في العلاقات العربية التركية، بيروت، دار النهار للنشر، 1972. علّوش، ناجي، الثورة والجماهير مراحل النضال العربي 1948-1961 ودور الحركة الثورية، بيروت، دار الطليعة، 1973. لينين، فلاديمير، استيقاظ آسيا، موسكو، دار التقدّم، 1970. المحجوبي، علي، جذور الاستعمار الصهيوني بفلسطين، تونس، سراس للنشر، 1999. الهمامي، حمّة، المجتمع التونسي دراسة اقتصادية اجتماعية، صفاقس، صامد للنشر والتوزيع، 1989.
#خميس_بن_محمد_عرفاوي (هاشتاغ)
Arfaoui_Khemais#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاتحاد العام التونسي للشغل: استفحال أزمة القيادة
-
الأخطبوط الاستيطاني يلتهم أراضي الضفة الغربية ويهدد البدو ال
...
-
الإستعمار الفرنسي والأعيان المحليين في سنوات 1920: استراتيجي
...
-
الحركة النقابيّة التونسيّة وثورة 14 جانفي 2011 تجربة «اللّقا
...
-
دور الاتحاد العام التونسي للشغل في الثورة وفي الانتقال الديم
...
-
الحركة النقابية للشغيلة في تونس وتلازم البعدين الوطني والاجت
...
-
تقديم كتاب -كتابات ومعارك من أجل تونس عادلة ومستقلة-
-
اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956
-
عودة الديني أم توظيف الدين؟ المستفيدون والمتضررون
-
اليسار الجديد في تونس في مرآة الثورة البلشفية
-
نَفْحةٌ من الاقتراع التفضيلي في القانون الانتخابي التونسي
-
ماذا يبقى من الثورة التونسيّة؟ دراسة آنية واستشرافية
المزيد.....
-
مصادر لـCNN: قوات كردية في سوريا أسقطت مسيرة أمريكية -عن طري
...
-
-وضع معقد بشكل غير عادي-.. كيف تحاول أمريكا منع عودة -داعش-
...
-
جدل بين السياسيين الألمان حول مستقبل مليون لاجئ سوري، قبيل ا
...
-
إسرائيل: تفكيك شبكة تجسس تعمل لصالح إيران هي الأكبر منذ عقود
...
-
مباشر: الطيران الإسرائيلي يشن غارات على مواقع عسكرية في اللا
...
-
بيستوريوس: لا يجوز أن نكون في موقف المتفرج تجاه ما يحدث في س
...
-
أردوغان يعلن -مصالحة تاريخية- بين الصومال وإثيوبيا
-
الرئيس التركي أردوغان: اتخذنا الخطوة الأولى لبداية جديدة بين
...
-
قوات -قسد- تسقط طائرة أمريكية مسيرة
-
-CBS NEWS-: ترامب يوجه دعوة إلى شي جين بينغ لحضور حفل تنصيبه
...
المزيد.....
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
المزيد.....
|