|
هل الإنسان مسيّر أم مخيّر؟
ادم عربي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8187 - 2024 / 12 / 10 - 16:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بقلم : د . ادم عربي سؤال التسيير والتخيير لم ينشأ عبثاَ؛ بل فرضته حاجة الإنسان لفهم حدود إرادته الحرة وتعامله مع القوى التي تشكّل واقعه. إن إدراك الإنسان لعجزه عن تحقيق كل ما يريده دفعه للتساؤل عن طبيعة حرية الإرادة. فالعجز المتكرر عن منع حدوث المصائب أو تحقيق الرغبات يجعل الفرد يبرر ذلك بالقول: "كان قضاءً وقدرا".
ومع ذلك، فإن التعمق في هذا السؤال لا يتعلق فقط بفهم "ما الذي يسيّرنا؟" بل أيضاً بـ"كيف يمكننا استثمار إرادتنا لتغيير مجرى حياتنا ضمن إطار القيود التي نعيش فيها؟". الحرية ليست مُطلقة؛ بل هي نتاج وعي الإنسان بالضرورة الطبيعية وقوانينها الموضوعية . فمن دون هذا الوعي، تصبح الحرية فكرة مجردة بعيدة عن التطبيق ،فليس بمقدوركَ القول " أنا حرٌّ أفعلُ ما أُريد ". على سبيل المثال، حين يسأل الإنسان: "هل أنا حر في تحضير كوب من القهوة؟"، الجواب يعتمد على الظروف ، وبعبارة أخرى نعم ولا ، يمكنني تحضير كوب القهوة إذا استوفيت شروطه الطبيعية: كغلي الماء وانحلال القهوة فيه. لكن إذا رفض الماء الغليان أو امتنعت مادة القهوة عن الذوبان، فإن حريتي تصبح معدومة.
الفعل الإنساني يتطلب توافقاً بين الإرادة الذاتية والقوانين الموضوعية. إذا لم يدرك الإنسان ضرورة هذا التوافق، فقد تذهب توقعاته أدراج الرياح، ويبوء سعيه بالفشل. إدراك الضرورة لا يعني الاستسلام والإستحذاء لها، بل يعني معرفة كيف يمكن توظيفها لتحقيق الأهداف المرجوة. هذا الفهم يحوّل ولا بدَّ أنْ يحوّل النقاش من "هل أنا مخيّر أم مسيّر؟" إلى سؤال عملي أكثر: "كيف أحقق هدفي ضمن الشروط الموضوعية؟". ولا بدَّ من ذكر المنظور الديني لهذه المسألة ، أفعال الإنسان تقع ضمن علم الله وإرادته. إذا أتى الإنسان بفعلٍ ما، فإن هذا الفعل كان معلوماً لله منذ الأزل، لأن الله هو العليم بكل شيء. لذلك، لا يمكن للإنسان أن يفعل شيئاً يناقض علم الله أو إرادته ، هل باستطاعتي فعل أمر ما بما يتنافى مع إرادة وعلم الله؟ .
لكن هذا لا يعني أن الإنسان بلا إرادة حسب الفقهاء . يرى بعض الفقهاء أن الله وهب الإنسان حرية الاختيار ضمن الإطار الذي رسمه له. فالإرادة الإنسانية جزء من الإرادة الإلهية الشاملة، لكنها ليست مطلقة أو منفصلة عنها ، وهذا لهو لغو الكلام بعينه ،ما دمت لا استطيع القيام بعمل يخالف مشيئة الله ، فانا مُسيّر ولست مُخيّر وليس باستطاعتي أن اكون مُخيّر . بعيداً عن الدين ولتوضيح الأمر من منظور الطبيعة بقوانينها ، تخيّل أن لدينا ذرات الأكسجين "تفكر" وترغب هذه الذرات في تكوين جزيء ماء. لن يتحقق هذا الهدف إلا إذا اجتمعت مع ذرتي هيدروجين وفق القوانين الطبيعية. إذا حاولت ذرات الأكسجين وحدها دون الهيدروجين تكوين الماء، ستفشل.
هذا المثال يوضح أن الحرية ليست القدرة على تحقيق كل شيء، بل هي القدرة على العمل بفعالية ضمن القوانين الموضوعية التي تحكم الكون. الحرية تعني أن تأتي نتائج الفعل متوافقة مع توقعات الفاعل. لكنها لا تتحقق إلا إذا وعى الإنسان القوانين الطبيعية والموضوعية وعمل بما يتفق معها. إرادة الإنسان وحدها لا تكفي لتحقيق الأهداف، بل يجب أن تترافق مع فهم عميق للواقع الموضوعي والالتزام بالشروط التي يتطلبها النجاح. عباس بن فرناس أراد الطيران، لكنه فشل لأن محاولته لم تأخذ في الحسبان قوانين الطيران. لم ينجح البشر في تحقيق هذا الحلم إلا بعد اكتشاف القوانين الطبيعية للطيران والعمل بما يتوافق معها.
الإنسان مُسيّر لأنه يخضع لقوانين الطبيعة التي لا يمكنه تجاوزها. فمثلاً، لا يستطيع الإنسان أن يتنفس تحت الماء دون أدوات مساعدة، أو يطير دون وسائل متوافقة مع قوانين الفيزياء ، لكنه في الوقت ذاته مخيّر ضمن حدود هذه القوانين. يستطيع استخدام معرفته بالقوانين لتحقيق أهدافه، كابتكار الغواصات أو الطائرات.
من حيث الإرادة الذاتية ، فالإنسان يمتلك إرادة حرة تخوله اتخاذ قرارات واختيار أفعاله، لكنه ليس مطلق الحرية. خياراته تتأثر بمجموعة من العوامل مثل التربية، الثقافة، البيئة، والظروف المحيطة.
أما الحرية الحقيقية فهي ليست قدرة مطلقة على فعل كل شيء ما ، بل هي وعي الإنسان بحدود الضرورة الطبيعية والاجتماعية، واستخدامه لهذه المعرفة لتحقيق الأهداف الممكنة. الإنسان مسيّر ومخيّر في نفس الوقت. هو مخيّر في حدود ما يتيحه له الواقع، ومسيّر ضمن الإطار العام للقوانين الطبيعية والضرورات التي تحكم حياته. الإجابة ليست ثنائية مطلقة؛ بل تعكس تداخلاً بين إرادة الإنسان الذاتية والقيود التي تحكم وجوده ، لكنه بالمعنى المطلق وكإرادة مهو مسيّر مهما تكن نتائج ما يقوم به ، سواء كانت فاشلة أو ناجحة.
#ادم_عربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأعمى!
-
ماذا يحدث في سوريا؟ ولماذا الآن؟
-
في الثورة السورية !
-
تناقضات الذات!
-
تعارض النتائج مع التوقعات!
-
الفسادُ الطبيُّ!
-
العبثُ!
-
الطائفية في فكر مهدي عامل!
-
مشاكل تربوية وأخلاقية!
-
سلاسل الشمس!
-
هرَمُ نظامنا التعليمي!
-
أنا أُفَكِّر لأنِّي موجود!
-
أسباب فوز ترامب في انتخابات 2024!
-
عالمٌ من شظايا!
-
انفجارُ الصمت!
-
ببساطة...تباطؤ الزمن!
-
الأزمة في تعريف الحقيقة!
-
في الشعر!
-
الفلسفة: العلم الشامل لفهم الواقع وقوانين الكون
-
لصوص الزمن!
المزيد.....
-
زيلينسكي يعلن وفاة جنود كوريين شماليين أسرتهم أوكرانيا متأثر
...
-
ترامب يحث المحكمة العليا على وقف حظر تيك توك.. ويوضح السبب
-
خبير تغذية: صفاء الذهن يعتمد بنسبة 50 بالمئة على صحة الأمعاء
...
-
علماء الفلك الروس يبحثون عن -نجوم مضادة- في مجرة درب التبانة
...
-
أزمة المناخ عرضت سكان العالم لـ6 أسابيع إضافية من الحرارة ال
...
-
-بيرانيا-.. روبوتات تنقل حقائب المسافرين في مطار -بولكوفو- ب
...
-
ابتلاع كندا يحطم الصورة النمطية للسياسة الدولية
-
التوقعات حول إبرام سلام في أوكرانيا سنة 2025
-
نائبة أمريكية تدعو الديمقراطيين إلى التوقف عن تمويل الصراعات
...
-
بيدرسن: التصعيد في عدد من المناطق السورية مثير للقلق
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|