تُراودني ذكريات الطفولة بكل براءَتها، وأحلام الحب الجميل الملئ بإبتسامات الأب بكل حقيقتها. أبتاه! كنتُ أجري في حديقة البيت وأنتَ تَرمُقني بنظراتِك، وتُراقبني في حركاتي، فتلتقي تلك النظرات بهذه الحركات، وتتفاعل البسمات، لتلتقي براءة طفل لا يعرف معنى الموت، بحب أب لا يفكر بالرحيل.
حين كان الربيعُ يتقدم نحونا، كنُا نسير بين الطُرُقات الضيقة المليئة بأوراق شجرة التفاح الصفراء بجانب بابنا، والتي حكمت عليها الرياح العاتية بالتساقط، ويهتز جدران بيتنا الكبير من الشيخوخة، وحب طفولة لأب عجوز، يحمل قلبا كبيرا يسع جمال الطبيعة اليانعة بورد الجوري وقرنفل الباحة الخضراء وهي تحتضن تغريد البلابل التي ترضع فراخها مع ضوء الشمس. كنا نسير يا أبي نحو الأشجار، فتحملني بين أضلاعك، وتتفتح البراعم مع قُبلتك على خدي الصغير الذي غمره التراب الساخر، لأقرأ على أوراق فؤادك عطف الأبوة، وأجد صورة الحنان واللطف بين أزهارها، فتتحول إلى ثمار. مَن يُقَبل خدّي اليوم بعد تجاعيد الدهر، وظُلم القهر يا أبتاه؟ ما لي أراك في خاطري، وأنا أبحث عن دفئ الإطمتنان في ليلة الهجر وقد رحلت السعادة إلى الفناء! فلا حلاوة الأمس في الفقر، ولا عذابات اليوم في الغِِني ترضيان باللقاء، ولا الفراق يأوى الأمل في سراديب النفي الراقد في مغارات الغُربة، فلا عهد بقى، والترقب في عيون لا تُجيد لحن البكاء. أين أنا أيها الصوت القادم من العَدَم في رحلة تاريخ لم يُكتَب إسمه في سجل التسجيل، فضاع الرَسمُ، وبقيت ذكرى القبلة، وهي تُغني أنشودة الطفولة في عالم تخلى عنه عطف آدم وحنان حوّاء؟
أوبسالا 15 ديسمبر 1998
عراقي مقيم في السويد