آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 8182 - 2024 / 12 / 5 - 21:34
المحور:
الادب والفن
عندما زارت أختي بيتنا في الحسكة، ونامت فيه ليلة واحدة برفقة عائلتها لحمايته من اقتحام البعض له أو مصادرته.
قالت:
لو أنك تأتي وترى بيتنا، وتشم رائحة الأرض المنعشة، والأشجار الباسقة الواقفة على قدميها تتحدى الزمن لكنت سندت قامتها بقلبك.
هذه المخلوقات الجميلة أصبحت إلى جوار الله، وتلك النافذة المطلة عليها شيء مثل الخيال، والمشهد ساحر ورقيق.
يمكنك أن تمسك الأوراق والدفئ والحميمية في كل ورقة، وسترى أنهم يبتسمون لك ويكلموك بمنتهى الحب والفرح والحزن.
من المؤسف أنه فارغ ولا حياة فيه في غيابكم، وتبكي الفراق والبعد والزمن الراحل.
وتابعت:
لا زالت الأرض والأشجار دافئة في بلادنا بالرغم من هوس البعض في قتل الحياة.
عن الحداثة والغربة والوطن
الحداثة لم تترك الآخر (نحن) يصنع غده، وإنما أبقته مزعزع الحاضر والجذور والانتماء.. أبقته خائفًا على بقائه، مصيره؛ فيستبدل المكان بالهرب إلى الأمام، إلى اللامكان، تجسيدًا للهزيمة الداخلية برافعة خارجية:
“لم تبق إلا ساعات وأغادر أرض الوطن.. نعم أغادر الوطن، وربما إلى الأبد. لن أرجع، سوف أنسى كل أبيات الشعر التي تعلمتها في المدرسة، أنسى الحنين والمشاوير والقمر في الصحراء”.
يمكننا القول إننا ولدنا غرباء في ظل الحداثة، بفعل فاعل، لم يسمحوا لنا بهضمها وتمثلها. جرى الحجْر علينا، لم يسمحوا لنا في تبنيها؛ لهذا بقينا منفصلين عنها كأنها نبتة غريبة عنّا، وغريبة عن شرط زماننا ومكاننا. كنا نراهن على القيمة الجمالية والأخلاقية الكامنة في جذور أرضنا، بيد أن هذا كان وهمًا.
كانت الحداثة المسماة، الحرية، كذبًا، أقوى منّا، دفعتنا بعيدًا، وضعتنا في مكان، وجذورنا في مكان آخر.
إلياس نخلة، أحد الشخصيات المهمة في رواية عبد الرحمن منيوف، يمثل هذا الصراع بين هذا الوطن، الوجود، والآخر. وهذا الصراع بين المدينة والريف، العميق عمق التاريخ، بيد أن الحداثة غيرت المعايير كلها؛ حولت ابن الريف، ابن الأرض الطيبة، الأرض القابعة في الذات، إلى زمن آفل، إلى لا ذات، إلى مجرد هروب. بل تحول إلى مهرب، هارب من الحدود الداخلية والخارجية، والغربة الذاتية تلاحقه وتمزقه.
إنها مزدوجة متنافرة، من زارع للأرض والسماء، إلى قاطع طريق، قاتل ومخرب. وكل ذلك جاء بعد عمر طويل، قابعًا في مكانه عشرات الآلاف من السنين، ماكثًا في الطيبة، أرض الجمال، التي ماتت أمام أنظارنا
**
تحولت الغربة إلى حذاء قديم، شوكة مدببة، مغبرة اللون، تأكل الذات والذات.
هناك، على الحدود، ودعت نفسي دون وداع، وزرعت حسرة على بوابات الوطن المكسور.
كان هذا الوطن قد تحول إلى عبء، قدر، ماض ثقيل. أريد أن يخرج مني، أن يحررني من نفسه، ويتركني أسابق الزمن في الركض إلى الزمن الآخر المجهول.
كنت أعلم أن كل الأبواب مغلقة، وأنني أهرب أو هارب من باب إلى باب، ومن غربة إلى غربة، إلى تلك الذات التي لم تعد تركن الذات، إلى زمن ومكان متعارف عليهما، وقلت:
وهل تعيش النبتة الغريبة في مكان مألوف؟
إن إلياس نخلة في رواية (الأشجار واغتيال مرزوق) يمثل الإنسان الشرقي، بل الشرق برمته.. في قلقه، تأرجحه، توتره وعدم استقراره.
إن إلياس نخلة وقرية الطيبة، كائنان متقاطعان مترابطان متلازمان منفصلان.
الطيبة، تلك الأرض الوادعة، الخضراء تتحول إلى أرض مملحة، مزعزعة، قلقة.. جفت ينابيعها وقطعت أشجارها وقتلت مواشيها.
إنها الحداثة، جاءت على حين غرة، وقبضت على زمن الطيبة، وعومت حياتنا، وحولتنا إلى مجرد رهينة لديها.
بان هذا الرهن -بادئ ذي بدء- على الريف، على الإنسان ابن الأرض، ابن الجذور. جاءته كالجراد وقلعته من مكانه، ثم دمرت المدن الواحدة تلو الأخرى على نحو ممنهج، إلى أن أصبحنا دولًا فاشلة.
***
منذ كنت في ريعان الشباب، كانت رواية، الأشجار واغتيال مرزوق، صديقًا لي. وكان الياس نخلة والطيبة جزء من ذاكرتي الجميلة. تركت أثرًا بالغًا في داخلي لم تبارحه إلى اليوم. وعندما كتبت عنها مقالة يتيمة بناء على تلك الذاكرة القديمة، شعرت بالفرح أنني استطعت ان اتغلغل في داخلي وأخرج الياس نخلة من داخل قلبي وأضعه أمامي وأقبله، وأقبل الطيبة، الارض العربية الخضراء الذي قتلها النظام العربي.
يسأل ابن الطيبة نفسه كما سأل كل واحد منّا نفسه السؤال ذاته، بعد أن غدر بنا الغدار:
“ما هو الوطن؟”
“هل هو الأرض؟ التلال الجرداء؟ يجب أن أجبر نفسي أن أبول هناك، لا أريد أن أحمل شيئًا معي”.
إلى هذه الدرجة أصبح التاريخ والتراث والشرق برمته عبئًا ثقيلًا على الذات المسحوقة.
بين الاستقرار والهرب، يكمن صراع داخلي بين الأنا، الذات المرتبطة بالمكان التاريخ، بالوطن، وبين إلغائه من الذاكرة. إنه صراع بين ضحيتين، جاء إليهما من خارجهما، فرض عليهما التمزق والانكسار الأبدي:
“زالت من ذاكرتي الأفكار الحالمة عن الوطن؛ أصبحت لها دلالات صلبة، حارة.. ما هو الوطن؟ أن يجوع الإنسان؟ أن يتيه؟ باحثًا عن موطأ قدم ليبقى على قيد الحياة؟”
إنه قتل للاوعي الذاتي واللاوعي الجمعي، للبناء المشيد، التاريخ الذي امتد على هذه المساحات الكبيرة.. لهذا الرحم الذي أنتج وقدم وأعطى وأخذ، واليوم يتحول إلى أسئلة: من نحن؟
هذا الانفصال صهر الذات وردمها:
“بعد أن بعت الأرض التي ورثتها عن أبي؛ لم أعد أطيق أن أمد يدي إلى الأرض، وأحفر ذراعًا واحدًا”.
وبعد أن فقد كل شيء:
“أصبحت في الجبل قاطع طريق، مشردًا، حيوانًا”.
ويدخل الإنسان المكسور في نفق عميق يطرح أسئلة وجودية عميقة:
“ما هي الحياة؟”
الإنسان في بلادنا في حالة هروب.. هروب دائم من المكان، كأن الأرض التي يعيش عليها، نافرة، منكرة له.. ترفضه.
إنه في حالة لهاث:
عندما قلت لن أعود إلى الوطن مرة ثانية، كانت الغربة قد سبقتني إلى الحدود، ومكثت هناك تنتظرني
الفارق بين المانيا الهتلرية التوسعية، والولايات المتحدة الامريكية، أن الأولى أرادت توحيد العالم تحت راية قوتها العسكرية، ونفوذها، وسيطرتها.
أما الثانية، فإنها تريد تفكيك العالم وإبقاءه تحت راية قوتها العسكرية، ونفوذها وهيمنتها وسيطرتها.
الفارق بين الأولى والثانية، كمثل تلك الأفعى التي تقول للضحية، سألدغك، بيد أن لك الخيار في مكان اللدغة.
كنت في مدينة دير الزور أثناء الخدمة الإلزامية في بداية الثمانينات.
كنت أذهب مرات كثيرة برفقة أصدقاء لي في الخدمة إلى بيوتهم, نأكل معاً وأنام في بيوتهم, بالمختصر. كنت أخًا وصديقًا للكثير منهم.
إحدى المرات كنت سهراناً في بيت صديقي المرحوم تراك عليوي في مدينة الميادين، كان معنا بحدود خمسة عشرة شابًا من الثكنة ذاتها وبعض الأصدقاء.
وضع الطعام والمازة والسلطة. رأيت شيئا غريبًا يدور في الخفاء وبسرية تامة أثناء جلوسنا في هذه السهرة الجميلة.
سألت صديقي وليدي مهيدي الجالس إلى جانبي:
ـ وليد، ماذا يحدث هنا؟
قال:
ـ طول بالك، هناك مشروب؟
ـ ولماذا هذه السرية في هذا الموضوع؟
ـ الكثير من الناس يشربون في هذا البلد, لكنه عرف وتقاليد ودين, لا يمكننا المجاهرة به.
انتقلت قنينة الجن من يد إلى أخرى, قلت:
ـ ولماذا الجن؟
ـ لا رائحة له. إنه أقل ضررا من أي مشروب.
وعندما جاء الدور لي, اعتذرت بأدب.
سألني أحد الأصدقاء:
ـ لما لا تشرب؟ قلت:
ـ أنا أكره المشروب بكل أنواعه, لا أطيقه.
قال المرحوم تراك:
ـ هذا الجلسة احتفاءً بك يا آرام، يا صديقي, كيف لا تشرب معنا؟
ضحكت, قلت:
ـ سأخذ شفة من أجل استمرار هذه الجلسة الجميلة.
ما أجملك يا سورية, متى تعودين إلى رشدك, ويعاد ألقك, وناسك وروحك التي نعرفها بشعبنا وأهلنا الطيبين.
الدولة التي لا تقبض على السياسة الداخلية والخارجية والتحكم بمجالها الحيوي، ليست دولة، سمها ما شئت، إدارة شركة، مدرسة، خان، بنك، نادي رياضي، كنيسة أو جامع.
تحدثت عن سيكولوجية السجين. الموضوع لا يتعلق فيني أنا تحديدًا، أنه موضوع عام. عندما عرى ميشيل فوكو السجن، وفوكو المفكر لم يسجن، بيد أنه ربط السجن بالجلاد، بالقصاص، ومقدار الألم الذي يوقعه بالضحية وما فعله الانفصال بين الدولة والمجتمع من أمراض حلت بالمجتمع، وغرب الدولة
الخلاء المفتوح يخيف الإنسان الذي عاش مدة طويلة داخل أسوار السجن وجدرانه العالية.
من لا يدرك هذه الحالة، الحقيقة، لا يعرف سيكولوجية السجين الذي قبع مدة طويلة فيه.
ولا يدرك ما يقاسيه من آلام نتيجة بعده عن الناس والمجتمع والحياة.
إن السجن يلبس المسجون، يغلفه بذاته، يحوله إلى مثله، إلى غريب دائم.
عندما كنا في سجن عدرا كانت الكتب الأكثر قراءة تتناول التراث العربي والإسلامي وما قبلهما.
وأغلب السياسيين كانوا يقرأون هذا الجانب لمعرفة أين يكمن الخلل:
ـ هل هو في حاضرنا أو ماضينا في تراثنا أم فينا؟
كما هو معروف، إن تاريخ هذه المنطقة عاش تحولات عميقة أو محطات قاسية. حالة انفصال أو انقطاع ثم وصل.
ووجود كتل بشرية هائلة عاشت فيه ثم ذابت أو رحلت أو رُحلت.
ربما هذا الوضع شكل انقسامًا في البنية النفسية والعقلية لإنساننا المعاصر. فهناك الآموريون والآراميون فالحثيين والهكسوس فالفراعنة والأشوريون والفينقيين، الاغريق، الرومان، فالعرب المسلمين.
إن الإنقسام الهائل في البنية الاجتماعية السياسية ضمن الدولة على طول مراحل التاريخ. وعدم قدرتها على هضم المجتمع والتصالح معه ترك الأثار القاسية عليه.
ثم جاءت الغزوات القاسية عليه كالمغول والتتر والصليبيين.
ثم التشرذم وقيام دويلات متفرقة كالحمدانية والطولونية والاخشيدية والفاطمية والأيوبية ثم المماليك فالاتراك فالفرنسيين.
وربما هناك الكثير الذي لم أذكره أو لم يمر في خاطري.
إن حالة الضياع والتشتت الذي نعيشها هي نتاج تعدد الانتماءات في اللاوعي الجمعي لإنساننا
وبرغم قسوة الزمن وفرض شروطه علينا، بيد أننا ما زلنا نقاوم لتأكيد هويتنا المبعثرة.
ـ نحن من؟
إنه السؤال الأقسى الذي نواجهه. وربما يطول كثيرًا ونذوب فيه بالكامل قبل أن نستيقظ. ونعرف أن الطوفان جرفنا.
هل سيموت التاريخ، تاريخ الإنسان ونضاله من أجل الحرية والسعادة والفرح؟
هل سيموت تاريخ الشعوب، ذاكرتهم الجمعية، صراعاتهم الذاتية والبينية؟
ما هي الذاكرة البشرية القادمة في ظل الرأسمالية في مرحلة الأمبرطورية؟
هل مات التاريخ السياسي للدولة والشعوب؟
هل ماتت الدولة؟
من الذي يحكم هذا العالم، ودوله، ويدير صراعاته الخفية؟
من هي القوى الخفية التي تتحكم بمصائر البشرية وتقبض على أنفاسها؟
كل يوم وساعة ودقيقة يتم تشيء الإنسان، وتمزيقه من الداخل وانفصاله عن عالمه، ويحول بقوة الأمر الواقع إلى مجرد كائن منفصل عن ذاته.
هل سيموت الإنسان، الرغبات والأحلام وتبقى الآلة؟
هل يريدون الإنسان اللإنسان؟
إلى أين يريدون أن يصلوا؟
كنت أقول للأخوة الأكراد في فترة السجن، سعيد من ليس له وطن في هذا العصر، على الأقل يحلم به. فالحمولات السياسية الثقيلة للدول الكبيرة تفرغ في البلدان الصغيرة.
كانوا ينظرون إلي باستغراب.
وكان ذلك قبل أكثر من عشرين سنة
الإنسانية مغتربة، مقهورة، مبعثرة، منفصلة عن ذاتها، وفي حالة ضياع، بيد أنها تتوق للحرية والجمال والعدالة.
تبقى روحها عالقة على العاصفة، تبحث عن الأمل.
في غياب المفاهيم الجادة حول الجمال والحرية، والبحث الجاد عن الذات العاقلة، سيبقى كل شيء على حاله إلى أن ينفجر في وجه الجميع.
كان نبيل يقرأ لي الأشعار عن حبيبة ما, امرأة ما, لها نعومة السماء والمساء, لها رائحة الأشجار المتجذرة في التراب. يتأوه من الصمت البعيد, عندما يلقي قصائده المجنونة عن امرأة ما. عن امرأة ذات لون, ذات شعر متناثر فوق اصداغ. امرأة ألقت عليه تحية عابرة وهو في معبر الحياة, تحية غامزة, وربما هامزة, وربما ساخرة, وربما مابين الثلاثة يسكنها نسغ جف ونائم. وربما تلفها البراءة والحياء, بيد أنها كانت تعني الكثير الكثير لشاب في مقتبل العمر, في وقت فيضان الروح والجسد.
كان نبتة خضراء طافحة بالاندفاع, ولد على صدر الحياة من أجل أن يبقى ويحيا ويعشق.
يمص كأس المتة شفة وراء شفة, يقرأ ويغيب, مثل مد البحر وجزره, يتخيل النداء القادم إليه في صحوه ومنامه. نداء مرمري اللون, ضارب إلى لون الضياء والماء. نداء يتلبسه كما يتلبس كل الكائنات في لحظة توحدها بهذا الهياج الغامض, في لهفة البقاء على صدر الحياة وديمومتها. يدخن, ومع كل مجة يتابع قراءة ما تجود عليه الكلمات. بضعة أبيات حنونات عن امرأة بعيدة, عن ملائكة تلبس النور الأبيض البهي في لحظة إشراق بديع. يتكلم ويرسم شكل الجمر الأحمر المتوهج الذي يزداد لمعاناً في كل نبض من دفق القلب. يغيب ثم يعود باحثاً عن أزاهير تنمو على ضفاف الأنهار, يسرح مع مرح البقاء, في ذلك المكان الشائك, يتجندل على قارب الشفق الحنون ويغيب في القراءة برقة وهمس حتى لا يوقظ النيام.
كنت أسمع وأرحل معه, نقطع الدروب الطويلة, ندون بقايا أنفاسنا على ورقة الانتظار الطويل كبراعم تهفو وتنمو برقة وهدوء. ثم نذهب في حديث بعيد, نحكي عن آخر الأخبار. ونتكلم في السياسية. ونختلف في مكان ونتفق في مكان آخر. ثم نضع السماعات على أذاننا كي نسمع أغنية لفيروز أو نجاة الصغيرة أو غيرهم, إلى أن يطل الصباح بحركته الرتيبة والمتعبة.
ما أجملك يا بلد, يا خيول الريح, حامل آلهة البحر والمراكب العتيقة. إليك, بين يديك الجميلتين اغني واسرح.
تمكن الزمن من التوقف هنا, هناك, بين يديك للحظات, عند أشجار ليمونك الاخضر. وأشجار الخرنوب والصخور النائمة على صفحات جبالك. بحرك, أنهارك, وينابيع الزمن. وذلك التراب, الكائن الشجاع الذي لا يكف عن ضرب الزمن بالزمن, ليسهر عند تخوم بابك.
في تلك الظلال المنسية, كنت أسير برفقة السهول, والروائح التي تنبعث من الأرض.
قادة العالم أشبه بأحجار الشطرنج، مجرد بيادق في سوق النخاسة.
تصريح من اي واحد منهم يجعلني اشعر بالإقياء والقرف.
لا كلامهم كلام ولا رأيهم رأي.
وتشعر كأنهم تخرجوا من مأخور واحد, نتن بمقاس واحد.
لم يعد يصدقهم الا السذج وقليلو البصر والبصيرة.
صدق ذلك الطفل عندما قال:
ـ الامبرطور عاري. إنه عاري.
إذا أردت أن يحبك الناس عليك أن تمجد إلههم. مدخلك إلى قلوبهم يمر من هناك.
امتدت يدها إلى النافذة، وأشارت.
ـ انظروا إلى ذلك الطفل, في يده باقة زهور، يبدو أنه سرقها من جنازة أبيه.
ـ يا ليتنا نجنب الأطفال هذه الصور الكريهة.
ـ ماذا نقدم لهم؟
ـ نرسم لهم، نغني ونعزف الموسيقا!
ـ أنت بطران، لم يحن ذلك الزمن بعد.
اذكر ثلاثة عائلات كبيرة في رأس العين, الباشات, الرزة, شلاح.
لقد همش الاصلاح الزراعي الكثير من المزارعين الكبار باستيلائه على أراضيهم وتوزيعها على القرويين والعمال الزراعيين. كان تمو اسماعيل باشا يقول مرات كثيرة:
ـ كنا نمسك المئة ليرة ونلفها مثل السيكارة ونحرقها. أما اليوم فأن مصروفي الصباحي لا يتجاوز ال75 قرشًا وفي السماء 50 قرشًا. راحت تلك الأيام التي كنا فيها سادة هذا البلد. وقريتنا ام الصون ت
شهد بملكيتنا لها ولمن يجاورها. آه لو يفتح شباك القدر بابه مرة ثانية ويعيد الزمن للوراء وتعود أراضينا لنا.
في الصيف, كنت أقف مع تمو ومعمو وقيس ومحمود وأحمد تحت قبة السماء وعيوننا نحو الأعلى, يقول أحدهم:
لو نجمتا القدر تتقابلان وتطلبان منا ما نريد, سنقول لهما أن يعيدا لنا ما أخذ منا من أراض.
في المساء كنت أقول لوالدي هذا الكلام. يضحك كثيرًا. يقول:
ـ قصتهم مثل ذلك الرجل الذي اضاع مسلة بين ثنايا شقوق الأرض. وضع أذنه على الأرض وقال:
ـ أنني اسمع صوت المسلة وهي تدخل الأرض. وبعد سبعة أعوام عاد إلى المكان ذاته ووضع أذنه وقال الجملة ذاتها. أنهم يحلمون, ولن يتخلى العمال عن أراضيهم ويعطوها للتنابل.
عندما قام حافظ الأسد بانقلابه الظالم رأيت الفرحة على وجوه أصدقائي, ولسان حالهم يقول:
ـ حافظ الأسد رجلنا, أنه يميني, سيعيد لنا الأرض, والتاريخ والزمن إلى الوراء. سيقضى على هؤلاء الذين أخذوا ثروتنا.
لم أكن أعرف كلمة يميني أو يساري في ذلك الوقت. سألت والدي عن معنى هذا الكلام لكنه لم يجب
كانت سيارة عبد الرزاق باشا, نوع ديزوتو, ملونة بالاخضر والابيض على الضفة اليسرى من الشارع واقفة طوال وجودنا، أربعة أعوام, في رأس العين, لم تتحرك سم. لم يكن لديه ثمن البنزين ليملئ الخزان. ولكنهم كان معتدًا بأنفسه إلى أبعد الحدود. يخجل من العمل اليدوي. أو يعمل مثل بقية الناس. اعتمد مثل غيره من المزارعين على تاريخهم وبعض المدخرات القديمة لمصروفهم اليومي.
كان هناك مصاهرة بين عبد الرزاق باشا المبستم دائمًا وزوجته الشيشانية من بيت الرزة العابسة دائمًا.
وكان لدى بيت الباشات بعض العبيد, بقوا على دونيتهم واحتقارهم لانفسهم وعبوديتهم لأصحابهم. اذكر مرات مثيرة كانوا يصفعون على وجوهمهم. ويتقبلون الأمر بطبية خاطر, وكأنه امر الله أن يطيعوا أوليائهم
أذكر أن هناك خلافًا حدث بين تمو اسماعيل باشا واحد أبناء الرزة. مسكت العبدة, الطفل تمو الذي كان اكبر مني بالعمر واتجهت إلى بيتهم القريب من وسط المدينة, وبعد ملاسنة بينها وبين والد احدهم, قال لها:
اذهبي من هنا, نحن أغنى منكم. أنتم لا شيء. فقراء.
بقت المرأة تبكي بحرقة لهذا الكلام الجارح. وعندما عادت أدراجها سألتها أم اسماعيل:
ـ ماذا حدث
ـ قالوا انهم أغنى منكم.
كلاهما لم يكن يملك مالًا. ووضعهما كان في الحضيض.
والأكثر غرابة أن أولاد الرزة والشيشان بالعموم كانوا منغلقين على أنفسهم ومتعصبين دينيًا ولا يتزوجون إلا من بعضهم وتكثر بينهم الأمراض الوراثية وخاصة السل. ويسكن أغلبهم في قرية السفح.
من أين للحشيش الرقيق, اللطيف والناعم القدرة على حمل الثلج الكثيف واحتضانه طوال فترة الشتاء الباردة
الحياة لا تحترم الضعفاء ولا تشفق عليهم. كن قوياً.
الشك أولًا،
إن الشك هو المدخل لمعرفة الكون والوجود والإنسان، والطرق على الأبواب لفك رموز الحياة، والشغل عليها من موقع الإنسان العاقل المفكر اليقظ الذي يبحث عن ما وراء الطبيعة.
أما الذي لا يشك فهو البليد اليائس المستسلم لقدره، والقدر العابر.
الشك هو المفتاح للولوج في سيمياء الوجود، مهمته تأمين التناسق والتناغم بين العقل والكون.
هناك بتر عاطفي وجنسي للإنسان في بلادنا منذ اللحظة الأولى لبدء حياته.
أول مهامنا هو إزاحة القيد أو القيود عن حياتنا، أن نعطي أجسادنا حقها في الجمال والحرية.
إن يتصالح الجسد مع الذات حتى يتصالح مع الحياة.
منذ كنت في ريعان الشباب، كانت رواية، الأشجار واغتيال مرزوق، صديقًا لي. وكان الياس نخلة والطيبة جزء من ذاكرتي الجميلة. تركت أثرًا بالغًا في داخلي لم تبارحه إلى اليوم. وعندما كتبت عنها مقالة يتيمة بناء على تلك الذاكرة القديمة، شعرت بالفرح أنني استطعت ان اتغلغل في داخلي وأخرج الياس نخلة من داخل قلبي وأضعه أمامي وأقبله، وأقبل الطيبة، الارض العربية الخضراء الذي قتلها النظام العربي.
يسأل ابن الطيبة نفسه كما سأل كل واحد منّا نفسه السؤال ذاته، بعد أن غدر بنا الغدار:
“ما هو الوطن؟”
“هل هو الأرض؟ التلال الجرداء؟ يجب أن أجبر نفسي أن أبول هناك، لا أريد أن أحمل شيئًا معي”.
إلى هذه الدرجة أصبح التاريخ والتراث والشرق برمته عبئًا ثقيلًا على الذات المسحوقة.
بين الاستقرار والهرب، يكمن صراع داخلي بين الأنا، الذات المرتبطة بالمكان التاريخ، بالوطن، وبين إلغائه من الذاكرة. إنه صراع بين ضحيتين، جاء إليهما من خارجهما، فرض عليهما التمزق والانكسار الأبدي:
“زالت من ذاكرتي الأفكار الحالمة عن الوطن؛ أصبحت لها دلالات صلبة، حارة.. ما هو الوطن؟ أن يجوع الإنسان؟ أن يتيه؟ باحثًا عن موطأ قدم ليبقى على قيد الحياة؟”
إنه قتل للاوعي الذاتي واللاوعي الجمعي، للبناء المشيد، التاريخ الذي امتد على هذه المساحات الكبيرة.. لهذا الرحم الذي أنتج وقدم وأعطى وأخذ، واليوم يتحول إلى أسئلة: من نحن؟
هذا الانفصال صهر الذات وردمها:
“بعد أن بعت الأرض التي ورثتها عن أبي؛ لم أعد أطيق أن أمد يدي إلى الأرض، وأحفر ذراعًا واحدًا”.
وبعد أن فقد كل شيء:
“أصبحت في الجبل قاطع طريق، مشردًا، حيوانًا”.
ويدخل الإنسان المكسور في نفق عميق يطرح أسئلة وجودية عميقة:
“ما هي الحياة؟”
الإنسان في بلادنا في حالة هروب.. هروب دائم من المكان، كأن الأرض التي يعيش عليها، نافرة، منكرة له.. ترفضه.
إنه في حالة لهاث:
عندما قلت لن أعود إلى الوطن مرة ثانية، كانت الغربة قد سبقتني إلى الحدود، ومكثت هناك تنتظرني.
الدين بحد ذاته أزمة، وإذا لا ينزع نحو التطرف يموت. والإسلام في الغرب يعيش أقسى أزمة، هي الغربة الذاتية، البحث عن هوية، عن وجوده. لم تعد أفكاره وقيمه الذاتية تريد الذات المسكونة بالفراغ، يريد تأكيد حضوره ولو وهميًا.
كاراباخ، أقليم أرمني منحه ستالين لاذربيجان في العام 1922، سكانه أرمن، منح جورًا لأذربيجان، وتعاون مع هذه الأخيرة دولة تركيا وروسيا وإسرائيل وأوكرانيا، والأربعة عملوا تصفية سياسية وإنسانية واجتماعية للأرمن العزل. عدد الأرمن مئة وخمسين ألف وبرعاية دولية.
ادنتُ روسيا واحتقرت بوتين ولينين وأردوغان تركيا وإسرائيل الوسخة، بل فرحت على المستوى العاطفي لأن الفلسطينيين شربوا إسرائيل الكأس المر الذي شربوها للعرب والأرمن.
في موضوع أوكرانيا وقفت ضد الولايات المتحدة لأنها صاحبة قرار الحرب بين روسيا واوكرانيا.
راهنت على المعادلة الدولية وتغيراتها من خلال هذا الحدث، وقلت أن الخاسر الاكبر هي أوكرانيا ثم أوروبا، والربح هي الولايات المتحدة.
اليوم سيفرطون بأوكرانيا لإنهاء الحرب لأنها أدت مهامها.
نريد اسلام منفتح على العصر، لا نريد إسلام نمطي، مرتهن لهذا الجانب أو ذاك.
واعتبر أن إسلام محمد انتهى.
اليوم من يمثل الاسلام ويسوقه هم الاخوان المسلمين. اريد واتمنى أن أرى إسلام معاصر يعود بنا إلى الإسلام المكي المتسامح الإنساني.
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟