أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد دوير - تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين















المزيد.....



تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين


محمد دوير

الحوار المتمدن-العدد: 8179 - 2024 / 12 / 2 - 16:47
المحور: الادب والفن
    


صدرت منذ سنوات المجموعة القصصية الأولي للكاتبة السورية فاطمة ياسين بعنوان" ميج 21" ومن خلالها تقف بنا على حافة الصدمة، فتكتب بمفردات من الوجع النقي الخالص، حينما أرادت أن تسجل لحظة دهشتها تجاه أحداث الثورة السورية 2011 إبداعا أدبيا، وكأن الأدب هنا المتمثل في مجموعتها القصصية" ميج 21” هو المنقذ لها من هاوية وجدت نفسها تنزلق إليها فجعلت من قلمها أداة المقاومة الممكنة لواقع أفسده الطغاة، وعبث به اللا منتمون للإنسانية.
تلك الكاتبة التي جاءت من قلب الثورة السورية، فاستقلت قطار الصحافة وكتبت بشرايين الدماء، لعل النزيف العقلي الذي تملأ به صفحات الصحف والمواقع يعوضها نزيف الدماء الذي يروي أرض سوريا من تلك الأجساد الرافضة لكل صور الاستكانة والخضوع. لذلك نراها وقد استباحت فض بكارة الخوف المنفجر في داخلها، ومواجهته عبر بوح الكلمات. إنها لحظة النصر الغائبة، التي استحضرتها فسجلتها بعين دامعة، وروح طفلة تلهو فوق رمال شاطئ اللاذقية، فحررت موضوعاتها الصحفية وقصصها الأدبية بقدر من الجرأة الممتزجة بالحزن، والحلم المختلط بالدموع، عن بلاد انتحرت فيها الأشجار وغابت عنها الأقمار التي يتعبد في ضوئها العاشقون.
تحمل "ميج 21 " محاولتها الأولي في الكتابة الأدبية، بكارة الأشياء، وتشبه أول خيط في ضوء النهار، الذي ربما لا تكون فيه ملامح الأشياء واضحة، ولكن يظل لنسمات الفجر سحرها وعشقها وتجلياتها فوق وجوه أرهقتها المسافات البعيدة، والقلوب العنيدة، والمشاعر المتدفقة فوق طريق طويل نحو قلعة الحرية.
تكتب فاطمة ياسين وكأن الكتابة فعلا انتحاريا، وكأن القلم سيف يطعن الزيف بإرادة حملت في جنابتها خصومة قلبها مع الواقع المرير. ويبدو لي أنها حينما قررت أن تبدأ الكتابة في مجموعتها القصصية تلك كانت تحاول رسم صورتها الشخصية بقلم رصاص تفصل به بين الأبيض والأسود عبر وضعهما في تجاور مزمن وتاريخي. فجاءت تجربة طغت فيها القيم على الحبكة، وتجاوزت فيها المشاعر السائلة حدود التراكيب الأدبية التي يفتعلها ذوي التجارب الأدبية الكبيرة.. كتبت فاطمة كطفل يتعلم المشي، كشهاب يمخر عباب السماء بحثا عن منتهي، كضمير ضاقت عليه الطرقات حتى كادت أن تختزله في مجرد هتاف أجوف للحرية.. كتبت بأنف من الكبرياء، ونطقت بلسان من فولاذ يحاول أن ينحت صخر الاستبداد، فقدمت لنا تجربة موجعة. وفي ظني أنها نجحت في أن تصدر لنا مساحات غير قليلة من الألم المرصع بجماليات الصورة الأدبية وتفاصيل تشبه منمنمات الأرابيسك. فأن تقرأ لفاطمة ياسين في كتابتها الصحفية أو الأدبية يعني أن تظل في حالة يقظة دائمة تشبه تلك الحالة التي يشعر بها فتاة حينما تنهال عليها نظرات المحبين كشفرة معبرة عن دفقات القلوب.
***
تبدأ فاطمة مجموعتها بقصة بعنوان "انشقاق عازف كلارينيت من فرقة موسيقي الجيش" تتناول فيها تلك العلاقة بين العازف في فرقة موسيقي الجيش محمود الحاج وآلة الكلارينيت، التي تصل إلى حد الاندماج بينهما، في خدمة الجيش/ الوطن. وحينما تتحول التوابيت إلى طقس يومي تصبح الكلارينيت وعازفها أيضا جزءا من مسار يومي. هكذا رسمت هذا المشهد الرتيب الملل والتقليدي الذي ورثته البشرية من العصور الاقطاعية تمجيدا لشهداء" الوطن " منذ اسخيلوس في مسرحياته التي مجّد فيها الجنود اليونانيين وحتى أصغر جيش في العالم المعاصر.. إنها الموسيقي، تلك التي تصاحب العروسين، كما تصاحب صور الشهداء المثبتة فوق النعوش.
لم يكن محمود الحاج سوي هذا المتوحد مع آلته، ومع طقسه اليومي، ومع دوره الروتيني، ومع التوابيت الخشبية المرصعة بالورود وبأصوات الزغاريد. وكأن كل شيء في هذا الوطن تحول إلى مرثية أمام شاشات التلفزيون.
بيد أن الكاتبة تكسر هذا الروتين، وذلك الطقس حينما يصطدم العازف والآلة بحدث مختلف، وشهيد من نوع آخر، بمواطن ملقي على قارعة الطريق، وليس على سرير المستشفى العسكري.. تلك المسافة بين الشارع المجهول وغرفة العناية في مستشفى عسكري مجهزة بأحدث الأجهزة، هي نفسها المسافة بين وطن مزيف ووطن حقيقي، جسد مغطي بعلم الوطن، وجسد مغطي باللا شيء. تلك هي اللحظة التي أطلقتها الكاتبة في وجوهنا لكي ندرك أن أرواح البشر هي الوطن المحايد، وأن الموت – كل موت في سبيل قضية عادلة – هو الذي يستحق عزف آلة الكلارينيت. وهذا ما فعله محمود الحاج، حينما استسلمت الآلة لأصابعه وعزفت ذات اللحن الجنازي لذلك الشاب مجهول النسب إلا إلى سوريا الثورة، بعد أن فاضت روحه أثناء البحث عن وطن.
***
في قصة" سهرة " تبدو فاطمة ياسين أقرب إلى الحكي السيكولوجي الذي لا يخلو من الدلالات الفلسفية، حينما رصدت تحولات البشر من خلال نموذج رجل متزوج على علاقة بأخرى، كاشفة في تلك العلاقة الثلاثية بين رجل وامرأتين "زوجة وعشيقة" عن الحضور كثيف الألم لمعني الحب حينما يتخلى عن منطقه ويسكن في حرم الجمال الشكلي، أو الاكتفاء بالحالة الأنثوية ويهمل إلى حد كبير تلك المعاني العميقة في الحضور الإنساني. فهذا هو الزوج الذي يجلس إلى جوار زوجته، ويفكر في عشيقته، وحينما يتلقى اتصالا هاتفيا من تلك العشيقة بأنها وجدت رجلا آخرا، يغلق خط التليفون ويتحول في لحظة يصعب تفسيرها، من رجل ثنائي الغواية إلى رجل يري زوجته " أم أبنه" بصورة مختلفة، فتري هي أيضا نفسها بصورة مغايرة.. تكشف الكاتبة هنا أن الاهتمام والواحدية العاطفية إنما تعبر عنها تلك النظرات الصادقة التي شعرت بها الزوجة من زوجها بعدما انقطعت علاقته بالخارج المشوه. فيما تؤكد أيضا على أن الرجل حينما تتخلي لعبته عنه لا يجد أمامه سوي أن يكون واقعيا.. فهل يستطيع الحب الصادق أن يحيا في ظل مشاعر مزيفة؟ هكذا تطرح الكاتبة إشكالية سيكو- فلسفية.
***
في "نهاود" تلك التجربة التي تطرح فيها سؤال "المعني " تواصل فاطمة ياسين تجليات الحرية في أدق معانيها ألما ووجعا، من خلال تلك الفتاة التي وقفت أمام جدار مقهى تتأمل صورا ذات خيط رفيع واصل بينها، ولكنها تنحاز إلى صورة واحدة بالذات تاركة صورا أخري لجيفارا ومحمد الماغوط وغيرها. لتقف أمام صورة لجمع من الناس وظل بلا جسد، في ايحاء بأن ظلالنا تبقي أخر ما يعبر عنا كحالات وجودية، وربما كتعبير أيضا عن أن الأجساد قد تذهب ولكن يتبقي منها ظلها أي دعوتها إلي الحرية- هكذا اعتادت فاطمة ياسين أن تحفز في قارئها لتجعله في حالة يقظة دائمة أمام كل كلمة تكتبها- فهذا ماضيها حسان الذي غرس بأحشائها مشاعر الحب، كما غرس في أصبعها خاتم الخطبة، ليمتزج بأصبعها وكأنها شيئا واحدا. تلك هي القطعة الذهبية التي تصل بين قلبين، وتعبر عن رمزية لطالما أغمضت الفتاة عينيها لكي تري هذا الحب المتدفق من عيني خطيبها حسان. وفي لحظة شرود تري أمامها شخص يشبهه في ضحكة عيني حسان الذي رحل عن الدنيا بعد أن دفع ثمن بحثه عن الحرية، ذلك الشخص الذي حاول أن يحل محل حسان تحدث بطلاقة، ويحمل قدرا من الوسامة، وعيناه تضحك كما حسان تماما، ولكن يظل الخاتم الذهبي كمعني وقيمة وذكري هو الشيء الذي لا يمكن أن يمنحه لها أي شخص آخر. إن الكاتبة تطرح سؤالها الأصعب: ما الحب؟ ربما كانت ذكري جميلة يعبر عنها خاتم صار جزءا من الأصبع؛ هو البديل الدائم لنا عن صاحبه، فالإنسان هو القيمة الباقية لنا بعد أن ترحل الأجساد في رحلة صعود وارتقاء من أجل الحرية.
***
في ثنائية المواطن/ الوطن أو بالأدق الفرد/ الدولة، وانقباض عضلة القلب تلبية لصوت سيارة شرطة. والخوف من خطوات شخص يمشي خلفه.. وفي سلسلة من تجليات الخوف وأشكاله التي تناولتها فاطمة ياسين حتى يكاد القارئ أيضا أن يتمثل تلك الحالة التي تنوعت وابدعت في رصدها تدور وقائع قصتها " خوف" حيث حاولت الاقتراب من البنية النفسية للأفراد حينما يتحول الرعب تدريجيا ليصبح عائقا أمام التعامل مع الحياة بشكل طبيعي، فيضطر هذا الشخص – التي تعمدت عدم إطلاق اسم محدد له – لأن يصبح زبونا دائما عند الأطباء النفسيين عسى أن يجد عندهم ما يخفف عنه وطأة الشعور بالخوف من كل شيء حوله - حتى الصمت أصبح يخيفه !!- ، عندما تتحول الأوطان إلى سجون واسعة باتساع حدود الدولة. ولم يجد عند الأطباء النفسيين علاجا فلجأ إلي شيخ مغربي جاء إلى بلده لكي ليقاتل فيها مع أنصاره، فقدم له الحل في أن جنا ما يسكنه وعليه إخراجه بوسيلة واحدة فقط وهي قطع أذنيه بسيف أحضره المجاهدون. والغريب أن حالة الخوف تراجعت كثيرا. وفي تلك القصة تكاد الكاتبة أن تقترب بنا من نظرية الاعتقاد التي قال بها الفلاسفة، فالاستسلام لقناعات معينة تجعل من الأفراد أداة طيعة بين أيدي النصابين، فتجعلهم – كمرضي – يعتقدون في أشياء تبدو غير علمية. ونتيجة هذا الاعتقاد الذي يسيطر عليهم حتى النخاع يصبحوا مؤهلين تماما للتحول من حال إلى حال. هكذا يفعل بنا الخوف كل شيء حتى لو فقدنا حواسنا الخمس لكي نشعر أننا على ما يرام.
***
في " رجل حبيب" تطرق بابا لطالما تكرر مرات في علاقات عاطفية بين ثنائيات عدة، فهذه سحر التي تعشق عدنان بملامحه المميزة وشاربه الموغل في شعر ذقنه الكثيف وملامحه الحادة، وهذا حبيب الذي يحب سحر ولكنها مسلوبة باتجاه عدنان. وحينما تتعرض سحر لمحنة السجن بتهمة التخابر مع المسلحين لم تجد زائرا وحيدا لها إلا حبيب، الذي ظل يواظب على زيارتها في كل مناسبة ممكنة حتى خرجت من السجن واصطحبها إلى بيتها، ثم في يوم تال استل وردة كسيف محب إلي بيتها لكي يطلب يديها، وإذا به يجدها مع عدنان مرة أخري.. بقيت سحر بين يدي عدنان وظلت الوردة بين يدي حبيب. تلك هي فاطمة ياسين القادرة دائما على رصد تناقضات النفس البشرية وانفعالاتها، والمنشغلة دوما بذلك التداخل بين الأبيض والأسود، بين الحقيقي والمزيف، بين حب ناجم عن سيطرة وخضوع أقرب إلى حالة العبودية، وحب أراد المساواة في كل شيء حتى اقتسام الوردة.. واقتسام أيام السجن بالتضامن والزيارة الدائمة التي كانت تنتظرها سحر بكل شغف. فما الذي تغير بعد أن تحررت من قيود السجن؟ تحاول أن تجيب الكاتبة هنا، بأن قيود سحر الحقيقية ليست قضبان الأبواب المغلقة بل وقوعها أسيرة أو إحدى سبايا العلاقة المرضية اللعينة.
***
في" طائفية" تبدع فاطمة ياسين في توظيف التجربة الزوجية بين شخصين لكل منهما طائفة مختلفة عن الآخر، تلك التجربة التي أنتجت طفلة في منتهي الجمال كما تصفها الكاتبة، في ايحاء منها بأن العلاقات الصحية بين طائفتين أو مذهبين مؤهلة لأن تؤدي إلى مسار أكثر نضجا وتحضرا. بيد أن تلك التجربة الناجحة فشلت أمام أقرب تحدي صعب وكبير كالثورة السورية التي كانت بمثابة المنحدر الذي كشف عن العقل الطائفي المتطرف تحت غطاء رقيق من التحضر، الأمر الذي انعكس على الطفلة، فتبدل الخوف والهلع بعد اطمئنان وسكينة، والبكاء بعد الضحك والسرور. حتى شعر الأم الذي يداعب خديها كان يزعج الزوج، فكل ما هو جميل صار بفعل الطائفية قبيحا، بل وصار التواصل مستحيلا على الصعيد المذهبي وعلى الصعيد الإنساني، وانتهي الأمر بالطلاق لتبقي الطفلة الجميلة بلا حضن أسري دافئ.
***
تبدو قصتها " حقبة سفر" أقرب إلي حياة كل فتاة فرضت عليها الظروف القهرية أن تنخلع من أرضها بيد مغتصب لأرض زرعها أخضر وثمارها ناضجة، فجمانة ابنة الأعوام الثمانية والعشرين التي تبدو كفاكهة نضجت بخبرات الحياة تضطر لأن تعبئ حقيبة سفرها بكل ما تستطيع حمله من بقايا وطن لم يعد مناسبا لها، لا سيما بعدما ماتت أمها نتيجة تفجير في احدي أسواق دمشق مما حال دون دفنها في مقابر العائلة، الأمر الذي جعل أمر زيارتها في قبرها مستحيلا، وهذا ربما ما عمق من شعور جمانة بالاغتراب عن بلدها، بالإضافة إلي اعتقال حبيبها " جميل".. كل شيء يدعوها لأن تواصل إعداد حقيبة سفرها. وعندما جاء دور اختيار الكتب المؤهلة لأن ترحل معها لم تجد سوي هذا النوع القادر علي بث روح التفاؤل والسعادة بها، وكأنها لم تجد ما يدعوها للتفاؤل سوي الفكر والأدب، وكأن الواقع عجز عن تصدير أي قيمة إيجابية لها. ولكن في لحظة وأثناء تأملها إحدى الروايات تشعر بصوت قوي من أعلي وهزة عنيفة من الأرض.. فتغمض عينيها من الخوف لتفتحهما علي حياة أكثر سعادة!! هكذا.. لا تجد جمانة – كما صورت لنا الكاتبة- من حياة سعيدة على هذه الأرض.
***
في قصة " رمضان" تقترب فاطمة ياسين أكثر من تقاليد لطاما شعرت بها في طفولتها كحالة روحانية، وإذا بالواقع يتحول إلى قتل ودمار وأصوات قذائف. كل شيء تغير بعد الثورة/ الحرب حتى الطقس الرمضاني. وانتقلت سريعا إلي غازي عنتاب حيث بها خليط من الاتراك والسوريين، وأطفال يلعبون وجو رمضاني مختلف وإن تداخلت فيه اللهجات واللكنات حتى صوت المؤذن كان مختلفا عن صوت نظيره وطنها، الجو العام مشحون بالطقس الرمضاني، واختفت إلى حد كبير أصوات أزيز الطائرات وطلقات المدافع، ولكن شيئا ما كان ناقصا، هو رائحة دمشق، ورمضان دمشق. ولكنها ظلت ممسكة بذكرياتها القريبة في وسط هذا المناخ المختلف، ظلت تري الغبار الذي أمامها وكأنه غبار الحرب، أو غبار دخان سيجارة أبيها، جميعهم دخان الحرب ودخان السيجارة والغبار الذي حولها صاروا شيئا واحدا، أحيانا نري الأمور في ترابطها، وأحيانا نكتشف أننا لا نبرح ذكرياتنا بإرادتنا، فنري كل شيء حولنا بلا اختلاف كبير.. لم يخترق تلك الذكريات سوي رجل فرض نفسها على فتاة حقيبة السفر، ورغم محاولتها اظهار تململها منه إلا أنه ظل على حال اختراق خصوصيتها. ثم تبدلت حالتها لما هو أسوأ من هذا الرجل حينما وجدت طفلا بلا ذراع.. أخذتها منه الحرب، دفع ضريبة حرب لم يكن شريكا فيها، حرب سرقت منه طفولته السوية، فكان عليه أن يعيش بقية حياته يقاوم نظرات الشفقة في عيون الناس.
***
في قصة" شكرا على القهوة" تقول فاطمة: "في الغربة أهمية الصديق كأهمية المال" ولذلك اعتقدت أنها بمجرد أن تعرفت شخصية القصة على فتاتين من نفس ضيعتها كان بمثابة كنز حقيقي، فحاولت الاقتراب منهما، وإن كانت تفضل الأقل جمالا، ولكنها تدريجيا بدأت تشعر بتلك الهوة العميقة بين الصديقتين نانا وتسنيم رغم صداقتهما القديمة، ثم مع انشغال نانا بعمل ما اقتربت أكثر من تسنيم التي كانت تفضلها قليلا منذ البداية. ولكن الاختلاف صار حاضرا بينهما فشخصية القصة كان لديها عمل وخطيب وفيما لا تملك تسنيم هذا أو ذاك لذلك كانت تفضل دائما أن تتحدث عن مساوئ نانا لأن ليس لديها شيء آخر تتحدث فيه أو عنه. كان هذا النوع من الأحاديث يزعج شخصية القصة. ولم تجد تسنيم من أمر آخر سوي أن تحاول التواصل سرا مع خطيب صديقتها تلك، الذي أخبرها بأن تنسيم تتواصل معه، فكان قرارها الابتعاد عن تنسيم. ولكن السؤال الذي ظل يشغلها هو لماذا تأخر خطيبها في ابلاغها بأمر تنسيم عدة أسابيع؟ لكن المفاجأة أن جاءت لها تنسيم وأخبرتها بأن خطيبها يعرف نانا وعلى علاقة بها. صدمت، وأوقف الصدمة طلب جارتها " حشورة خانم" بأن تأتي لها وتشرب معها فنجان قهوة تحكي لها عن أبعاد القصة وأصلها. ورغم كراهيتها لتلك السيدة إلا أنها لم تجد بديلا سوي أن تدخل إلى بيتها في استسلام تام. ولم تكن سعيدة بهذا الجو الذي وجدت نفسها في منزل تلك السيدة وخاصة عندما طلبت من ابنها أن يحكي لها قصة خطيبها مع نانا وكان الكل يعلم بتلك القصة إلا هي، فخرجت فورا من البيت شاكرة للسيدة تلك القهوة التي لم تشربها.
***
وفي " حقل فسيح يحده الأفق.. زاحموا الجدار كأنهم يحاولون الدخول إليه.. هكذا تصف الكاتبة حالة خوف المعتقلين من السجان الذي لم يعرف لماذا هو هنا ؟ لماذا فرضت عله هذه المساحات الضيقة وهو من أتي من الريف واعتاد الأماكن الفسيحة التي يحدها الأفق؟ إنه نوع أخر من السجون، الانتقال من البراح الي الضيق، من انتظام وجمال الطبيعة الي فوضي واختناق تلك الأماكن التي تحبس فيه الأنفاس ويحبس فيه البشر؟ كل شيء هنا ضيق، النافذة، الحذاء، الممر، الغرفة، ثقب الباب، الباب ذاته، العيون.. الخ حتى هو نفسه بدأ في الشعور بأن شرايينه تضيق أكثر فأكثر. وبعد برهة من الزمن لا يعرف مقدارها أتي أحدهم ببعض المقبوض عليهم وطلب منه أن يضعهم في الغرفة، ليزداد ضيقها أكثر فأكثر، فكان بها ثلاثة الأن أصبحوا ثمانية، ثم صاروا بعد ثلاثة أيام ثمانية عشر بعد أن أضيف عليهم عشرة معتقلين آخرين، والغرفة بذات الصفات من الضيق والكأبة والخوف، وكلما ضاقة الغرفة تذكر الحقول الفسيحة التي تربي بين أحضانها. لم تتوقف حركة المعتقلين إلى الغرفة وكل الغرف الأخرى، وكلما اكتظت بالمساجين كلما استفحل الضيق ونمي الخوف أكثر، وانطلقت كعوب البنادق على أجسادهم، وارتفع صوت الصراخ وتراكم الركل على الأجساد. وفي لحظة هدوء نادرة اختلس نظرة من شباب الباب الصغير والضيق جدا لم تري عيناه شيئا، الصمت الذي يشبه الموت يخيم على الغرفة، فتطلع برأسه أكثر حتى اصطدمت عيناه بشباك الغرفة الصغير، وما بين شباك الباب وشباك الغرفة استطاع أن يتجاوز من في الغرفة ليصبح مرة أخري قادرا على رؤية البراح الفسيح خارج الغرفة / السجن.. تلك هي اللحظة التي أفلت منها من اعتقاله هو شخصيا رغم أنه السجان، كان اعتقاله هو حرمانه من هذا الحقل الفسيح الذي يحده الأفق، فتخلص من هذا السجن المعنوي بمجرد نظرة تجاوز فيها كل شيء ضيق في هذه الحياة الجديدة عليه.
***
مداهمة: " يفتح أبي الباب بابتسامة عريضة أجزم أنها أكبر من تلك التي كانت على وجهه يوم بشروه بولادة أمي بأخي الوحيد " هكذا تصف شخصية القصة ومشهد اقتحام منزلهم في الخامسة صباحا من قبل قوة أمنية مسلحة، معبرة عن مدي الرعب التي يحيط بسماء المنزل، حتى التعقيب على ما حدث بعد انصرافهم غير مسموح به، حدث هذا في منزلها ، وفي بيوت الجيران أيضا بحثا عن مطلوبين، وبعد ساعات من حملة التفتيش هذه تبدأ التساؤلات بين الجيران تحل محل الصمت المطبق الناجم عن الخوف المتردد عليهم في كل لحظة.
***
في " الطريق إلى تركيا" حيث عمار صحفي يعمل بمحطة تلفزيونية خاضعة للنظام السوري، فلا يري سوي مصلحة هذا النظام، ونتيجة لظروف مرض والده اضطر لزيارته في ضيعتهم، ولكنه لم يستطيع العودة مرة أخري إلى دمشق بسبب قطع الطريق بين ضيعته والشام، فظل عالقا في القرية، حتى اضطر أهلها للهجرة إلى تركيا، فهاجر معهم، إذ لا بديل له عن ذلك، فالقصف يهدد القرية كل لحظة. وعندما انتقل مع بقية أهل قريته إلى تركيا وجد هناك الكثير من أصدقائه ومعارفه، والتقي أيضا بصديق قديم يعمل بالإعلام، ودار بينهما حوار حول إعلام النظام والاعلام الحر، وفجأة اكتشف هذا الصديق أن عمار داعم للمقاومة وليس للنظام كما كان يعلن في السنوات السابقة، وكان هذا التحول مصدر تعجب صديقه الذي يعرف عمار جيدا وأنه من أنصار السلطة التي تقتل شعبها كل يوم. ولكن عمار كان مباشرا في انتهازيته قائلا لصديقه: " مبلي. هادا رأيي من الأول. بس مين بيقدر يحكي رأيو في بلدنا يا حسرة؟ " هكذا يستطيع المثقف في أي صيغة كانت مفكرا أو عالما أو صحفيا.. الخ أن يبرر الانتهازية، ويتحول من خندق إلى آخر بكل سهولة ويسر، بل والأخطر أن هؤلاء غالبا ما يتصدرون المشهد سواء في المعارضة أو المولاة. إن الكاتبة هنا تلقي الضوء على تلك الحالة الإنسانية ذات الطابع الطفيلي في تعامله مع رسالة الاعلام وفي رؤيته لوطنه أو لثورته، فإذا كانت المصلحة تستلزم الدفاع عن النظام فعل، والعكس صحيح.. فهذا الانتهازي يعرف كيف يكون وطنيا ابن النظام أو ثوريا ابن الثورة، وفي الحالتين هو خطر على قيم الصدق والإخلاص والموقف المبدئي الذي لا يقف في قلب الوضاعة.
***
عروس: " نعم سيدي أقبل" هكذا تنهي فاطمة ياسين حكايتها بتلك الصدمة التي لم تهيئ القارئ لها طوال سطور القصة التي تحمل عنوان " عروس"، فالعنوان في ذاته يحمل دلالة واضحة أن العروس هي بطلة المشهد التي استعرضته، وذلك المسار الذي يؤكد رفضها المتنامي في كل لحظة منذ أن تأخر عن موعده، ثم تضاعف عندما تجاهلها أثناء وجودهما بالسيارة التي تنقلهما إلي القاضي لعقد قرانهما ، ثم تضاعف أكثر لما رأته يجادل مع السائق علي الأجرة، ثم يبدو لنا أنها حسمت قرارها عندما تعامل معها بفظاظة أثناء الاتجاه نحو غرفة القاضي، ولكن عندما سألها القاضي هل تقبل الزواج منه ؟ قالت " نعم.. وكأنها في لحظة انعدام وعي، وغيبوبة ستجعل من حياتها الزوجية سلسلة من صور الجحيم المتناثر فوق أيامها. وكأن الكاتبة هنا تطرح سؤالا مزدوجا، كيف نختار بأنفسنا المتسلطين علينا، وكيف نختار بأنفسنا أيضا المستبدين؟ هكذا نصنع الطغاة حينما نقبل في أول الأمر مقدمات خاطئة وننتظر أن تأتي النتائج بخلاف المنطق. إن حكاية سوسن هي نفسها حكاية كل سيدة أو رجل أو شعب قبل الظلم رغم أن بوادره كانت واضحة منذ البداية.
***
تواصل فاطمة ابداعها السخي والتلقائي في قصة " فيسبوك" تلك التي استجمعت فيها كثير من سماتها في الحكي وفي استدعاء الصور البلاغية الموحية حتى يخيل إليك أن السياق ما كان له أن يكتمل دون تلك العبارات المؤسسة لمضمون حكايتها. فهذه فتاة تراقب وتتابع كل ما يكتبه شاب على الفيسبوك يحمل صفات لطالما أعجبتها شكلا ومضمونا. ظلت تلاحقه باللايكات ثم بالتعليقات، إلى أن سنحت الفرصة للحديث الثنائي المباشر على الفيسبوك، وسرعان ما انتقل مستوي الحوار إلى ضرب موعد بينهما، وكان هذا أمرا طبيعيا نتيجة لتلك الحميمية التي أغرقتها في بحر من التمني والمشاعر المتدفقة، وما أن التقيا حتى تحدثا حديثا باهتا ومملا. وفور الانتهاء من الموعد وذهاب كل منهما إلى شأنه الخاص، حتى حذفت اسمه من قوائم الأصدقاء علي فيسبوك، وحذف هو رقم هاتفها من ذاكرة جواله. هنا تضع الكاتبة مفارقة العلاقات الشخصية والعاطفية التي تنشأ عبر العالم الافتراضي ومدي قدرتها على التعبير عن ذواتنا بشكل حقيقي وصادق. إن الحقيقة في نظر فاطمة ياسين تأتي من المعايشة الحسية المباشرة، فالوجود الفيزيقي هو الأكثر تعبيرا عن حقيقتنا كبشر، إنه الحضور الحي المؤسس للمعرفة اليقينية.
***
مكالمة هاتفية: تلك المكالمة التي استقبلها حسام من صديقه عامر، وما بين مقدمة المكاملة ونهايتها يغفو حسام علي حلم خاطف يري فيه مجموعة الأصدقاء وهم يصعدون قمة جبل لرؤية الشوارع اللبنانية من أعلي الجبل بمناظرها الرائعة. وكان من بين هؤلاء الأصدقاء " إياد" ذلك المعتقل منذ شهور في سجون النظام. يندهش حسام من وجود إياد بينهم، وبعد سلسلة من التفاعلات والأحاديث التي يدور معظمها حول الحب والمشاعر كعادة الطقوس الشبابية، يصحو حسام من تلك التجربة علي صوت عامر في التليفون، وينقطع الحلم ليسأل مرة أخري عن إياد، أين هو ؟، فيقولون له أننا لا نعرف أين أراضيه بعد، فليس لدينا معلومات جديدة عنه. هكذا تؤسس الكاتبة لفكرة الحلم المشروع بالحرية، وأن الطبيعية البشرية تهفو دائما إلى التأكيد على أن الناس في حياتهم الطبيعية هم أحرار يستطيعون في أي لحظة تسلق قمة جبل لرؤية ابداعات الطبيعة، والحديث عن الحب وتبادل النظرات.. إنه الحلم الذي يستطيع أن يقتحمك في لحظة تغفو فيها حتى أثناء مكالمة تليفونية بسيطة.
***
قبة قميص: في تلك القصة تبدو فاطمة ياسين في أكثر تجلياتها من حيث الاندفاع التعبيري الرومانسي المنفجر من بين شرايين حالة ثورية. هو مشهد وحيد فقط تضعه في نهاية السرد، ولكنها ظلت تجهز له طوال سطور القصة، حيث تتصاعد بنا بدءا من فوهة بارودة مرورا بسيارة تمرق بين عمليات تفتيش صعبة ومرهقة، في حين يحتضن صدر أميرة ورقة مكتوب فيها طلبات جرحي الثورة لتوصيلها إلي الطبيب باسل في الهلال الأحمر والذي يعمل سرا مع الثوار. وكان عليه أن ينقل ما يطلبه الثوار من خامات لتضميد الجراح بطريقة ما، وعندما سنحت الفرصة بذلك ركبا سيارة اسعاف" أميرة وباسل" ومدت أناملها نحو قميصه لترتب له ياقة القميص. تلك هي اللحظة التي اختلط فيها الوريد بالشريان، الثورة بالحب، وكان على الكاتبة أن تختزل كل لحظات الجمال في هذه العبارة الرائعة " شعرت أميرة أن ما مضي من حياتها ما عاد له معني بعد الآن".
***
طقس بارد ونهار طويل: نحن نبحث عن الحياة، فقط لأننا نريد أن نعيش. والعيش هو لحظة أمان وقنطار من الصدق، هكذا حاولت شخصية تلك القصة أن تتعامد فوق تلال من الأمل بحثا عن قطعة أرض تحت هذه السماء حتى لو كان طقسها باردا ونهارها قصيرا. فقط ظلت طوال السنوات الماضية تبحث عن حياة تلقائية محاصرة بالأمان فلم تجدها، تبحث عن طفل ولو عن طريق التجريب الأنبوبي، وفشلت، بحثت عن حقها في أخ لها ولكن الرصاصة استهدفت حنجرته، بحثت عن اليقين في وجوه الناس بعد أن تركت بلدها وهاجرت إلى الحدود بحثا عن هجرة إلى بلاد بعيدة.. ولكننا لم نعرف بالضبط ما مصيرها، بل ما مصير كل الذين عاشوا نفس تجربتها من ملايين البشر الذين لفظهم الوطن على حافة العبث.. حاولت فاطمة ياسين هنا أن تنكأ جرحا لم ترد له أن يندمل.. تركته مفتوحا لاستقبال كل مساحات الوجع، رافضة بكل قوة أن تنهي الأمر بما يطمئن قارئها.. إنها على أية حال كاتبة مشبعة بقدر كبير من الألم.
***
خاتم: تقدم لنا الكاتبة معني جديدا لفكرة الارتباط ورمزية الخاتم، فهو هنا يعني الشرف، وليس مجرد الارتباط بين شخصين، فحينما وجدت ريم أن سامر فقد شرفه حينما ساعد رجال الأمن على القبض علي أحد الهاربين، مستخدما لأجل ذلك كل مواهبه وقدراته؛ حتى انهت علاقتها به تماما، ورحلت هي وبقي خاتمة الذي أهداه لها في خطبتها، على المنضدة. كان الرحيل قرارا اتخذته لحظة أن كشفت تناقض شخصيته بين القول والفعل، فدائما ما كان يحدثها عن بطولاته ضد رجال الشرطة وثوريته التي سرعان ما انكشف زيفها في أول امتحان تعرض له حينما أثبت قدرات غير عادية على السمع والطاعة حتى لو كانت على حساب شرفه الإنساني وليس الثوري فقط.. إن فاطمة ياسين هنا تحاول أن تضع العناوين الصحيحة للقيم والمعاني، ولا تكتفي برصد العلاقات العاطفية في حدودها المتعارف عليها كالخلاف على موعد الزفاف أو تذكر عيد ميلاد خطيبته أو خطيبها، بل ذهبت بنا إلى ما هو أكثر عمقا من ذلك بكثير جدا، حيث الارتباط العاطفي يجب أن يمتحن جيدا في ميدان القيم والمبادئ لا في سوق الذهب.
***
السجين: تدخل فاطمة ياسين في حياة الجلاد العائلية، وكيف أنه يعيش تناقضا حادا بين سلوكه تجاه أعداء سيده، وسلوكه بين أفراد أسرته، في الأولي يدافع عن وجوده الوظيفي والثانية يؤدي دوره الأسري، وما بين هذا وذاك نبدو أمام وجهين لعملة واحدة. وجه يشعر بالسعادة عندما يمارس التعذيب والمحسوبية أيضا عن طريق توظيف أحد أبناء جيرانه رغم أن هناك من هم أكثر منه كفاءة ووجه يشعر بالسعادة أيضا وهو يتابع حياة أفراد أسرته. ومن هاتين الصفتين التعذيب والمحسوبية تتغذي قناعته كل يوم بأن البلد بلدهم. وتستمر الكاتبة في رصد مكونات شخصية الجلاد حتى تقف عند حادثة محددة، حينما جاء صالح – الرجل الذي أكرمه ذات يوم – بين مجموعة من المقبوض عليهم في المظاهرات، ولكن سوط الجلاد لا يعرف سوي النكران فينهال الجلاد علي صالح حتى يغمي عليه ويموت. لقد تغلبت عليه طباعه التي ورثها عن الوظيفة على كل مشاعر إنسانية وضعها الله في عباده.
***
ميج 21: أخطأ قائد الطائرة ميج 21 التابعة للنظام فأسقطت صاروخا فوق مقبرة لصيدلي بدلا من اسقاطها على تجمع للثوار. كان " سين صاد " أحد الصيادلة الفاسدين الذين يرسلون تقارير أمنية بحق زملائه الصيادلة، وكان رجل ذو سمعة سيئة، جشع، انتهازي، لا يهتم سوي بكسب المال بطرق غير مشروعة. ورغم أنه كان يكره الحاكم، إلا أن الجهر بحبه والدفاع عنه لم يكن الهدف منه إلا تحقيق ثروة لم ترحمه من التخلص من قبره بعد وفاته. وكأن القدر أراد أن يصفي معه خطايا تاريخه القذر. هذا القدر الذي كان عادلا جدا حينما جعل قذيفة طيار الميج 21 تخطيء مسارها وتذهب إلى المسار الصحيح والهدف الحقيقي الذي يجب التخلص منه.
***
دفء: تسلط فاطمة ياسين الضوء الساطع على سيدة تبيع زهورا في إشارة مرور، وبينما هي تتبع المارة لتبيع لهم شيئا مما لديها، تجد سيارة فارهة يجلس فيها رجل وفتاة تصغره كثيرا ، وبمجرد أن تقبل بائعة الورد على السيارة حتى تظهر عليهما علامات الضجر والضيق بل والاحتقار. ويبدو أن هذا المشهد يتكرر مع معظم بائعات الزهور في إشارات المرور، ولكن ما حاولت أن تكشف عنه الكاتبة هنا هو أن السيارة كان في مقعدها الخلفي باقة ورود سخية في تنوعها وقيمتها، في مقابل مجموعة من النرجس بين يدي تلك السيدة التي تقف تحت سياط الطقس البارد بحثا عن مقابل مادي يسد جوعها. كما حاولت أن تكشف أيضا عن مقارنة بين دفء السيارة وبرودة الشارع الذي تقف فيه السيدة. بين الدفء الزائف والفقر الحقيقي، وبين الرفاهية التي تمنع عن البشر الإحساس بالآخرين وصدمة بائعة الورد بحالة التدني لتلك الفئة من البشر.. بين هذا وذاك تفقد القدرة على الكلام ولو بحرف، ربما لو نطقت ولعنت هذا العالم المشوهة لاستطاعت أن تشعر بدفء حقيقي.
***
قناص: بين أن تعمل طبيبا لدي الجلاد والمستبد والظالم أو تقتل برصاصه زبانيته، هذه هي المعادلة. فالطبيب المحاصر في منزله يريد أن يتواصل مع زوجته ولكن التغطية منقطعة عن تليفونه فيصعد إلى سطح المنزل ليبحث عن تغطية أفضل، إذ يشاهد القناص على مقربة منه موجها فوهة سلاحه إلى أي شيء متحرك.. يعود مرة أخري إلى المنزل ثم يجازف بالبحث عن طعام فيخرج ويعود مرة أخري بلا خبز، إلا أنه يجد وسيلة للتوصل إلى زوجته مرام، وحينما تذهب إليه بالمنزل يبدأ القناص في توجيه بندقيته إليها، فيهرع إلى تنبيهها بذلك، ولكن القناص يتدارك الأمر ويقوم بتعديل هدف الفوهة لتقصد رأسه بدلا من رأس زوجته. ليدفع ثمن محاولة الهروب من القيام بدور مداواة وعلاج القاتل، هذا الثمن لم يكن سوي حياته ليموت بين الأموات كما كان يتنبأ من قبل.
***
سكن الليل: لعل هذه القصة واحدة من بين أفضل ما كتبت فاطمة ياسين، ففيها تحولات الوعي وعلاقته بالمتغيرات على أرض الصراع، والقصة تطرح سؤالا على درجة كبيرة من الدقة والأهمية، هل يغير الواقع قناعاتنا نحو الوعي الحقيقي أم الوعي الزائف؟ تطرح الكاتبة موضوعها الذي يؤدي بالقارئ لأن يطرح نفس السؤال، فعمر الذي يؤمن بالقضية الوطنية والحرية والثورة يتحول إلي مجاهد يفهم الصراع بوصفه بين دار الكفر ودار الإسلام، ولكنه حينما يتلقى رصاصة تودي بحياته، تطفو على سطح أنفاسه الأخيرة صورة سارة خطيبته السابقة التي كانت تعبيرا عن الحالة الحداثية والنموذج الوطني المستقل عن كل أيديولوجيا دينية، في انتصار واضح لقيم المدنية التي كانت هي الحالة الأخيرة قبل موت عمر. أرادت الكاتبة هنا الكشف عن مساحات الزيف في الصراع، بل وعن أزمة الثورة السورية ذاتها التي تحولت في لحظات ما إلي جهاد ديني رغم أنها انطلقت كثورة ترفع شعار دولة سورية مدنية حديثة عمادها الحرية..
***
ساميا: هذه الفتاة التي توفي زوجها وتنفق علي ابنها الوحيد من أعمال الدعارة مع جنود الطرفين المتنازعين في سوريا، تعيش في قرية صغيرة محل نزاع وتجاذب، وفجأة تدخل القرية ضمن المناطق التي سيطبق عليها الحظر الجوي، أي أنها ستتحول إلي سيدة بلا عمل تقريبا، وتعود مرة أخري لسنوات الفقر المدقع ، ولكن تطبيق الحظر لا ينفذ ويعود الصراع من جديد، بما يعني عودة ساميا إلي حياتها الثرية بالمال والغنية بالرجال من الجبهتين، وبما يجعلها قادرة علي الانفاق علي ابنها الوحيد الذي اعتاد حياة الترف، وكذلك عدم ترك قريتها لمكان آخر لا تعرف مصيرها فيه. هكذا الحروب تنتج دائما أغنياء الحرب بطرق مختلفة ودروب شتي.. وهكذا هي الحروب أيضا تؤدي إلى بتر أعضاء أناس كثر، ولكنها في الغالب تؤدي أيضا إلى بتر إنسانية كثير من الناس الذين يضطرون إلى بيع كل شيء لأجل أن يستمروا في الحياة.
***
رحلة علاج: هذا الرجل الخمسيني الذي يحتاج لغسيل كلوي ثلاث مرات أسبوعيا يقرر نتيجة لسوء الأوضاع التي تشكل خطرا على حياته وصحته أن يغادر الرقة إلى تركيا، وعبر رحلة هجرة مؤلمة وموجعة تتضاءل مستويات الخطر والتفتيش والزحام والخوف كلما اقترب أكثر من تركيا. وبعد المرور بالكثير من الحواجز التي تسيطر عليها تنظيمات إسلامية وعلى رأسها تنظيم داعش، يقترب أخيرا من تركيا، وبعد أن فقد زجاجة المياة التي كانت تمثل العلاج المؤقت له في تلك الرحلة، يجد نفسه على مشارف الموت لأسباب كثيرة من أهمها فقدان أهم عامل من عوامل البقاء على قيد الحياة وهو المياة، ولكنه يجد مكانا لبيع الماء، فيأخذ زجاجة ويحاول دفع ثمنها ولكن صاحب المحل يرفض أخذ ثمنها.. هكذا تتجلي روح الإنسانية بين بشر لا يعرفون بعضهم بعضا، فيما كان الدواعش غير رحماء على كل من يمر أمامهم سواء من المرضي أو النساء..
***
قسم أبقراط: هل نستطيع التخلي عن قيما تعلمناها إذا كانت ستؤول في مصلحة الظالم؟ هكذا حاولت فاطمة ياسين مناقشة فكرة جوهرية وإنسانية وهي مدي قداسة قسم أبقراط، فالطبيب الذي كان يعالج مصابي الثورة اقتحمت المستشفى المتواضع قوة من النظام وضربت الجميع واعتقلت الطبيب ووضعوه مع غيره في السجن، سرعان ما تعرض هذا السجن إلى الهجوم بالقنابل أثناء التحقيق مع المقبوض عليهم، مما نجم عنه إصابات كثيرة في صفوف قوات النظام، وهذا ما جعل قائدهم يسأل هل من طبيب هنا؟ هل من طبيب هنا؟ ولكن الطبيب لم يلتزم بقسم أبقراط القاضي بعلاج المريض مهما كان موقعه الديني أو العرقي منك.. تجاهل قسم أبقراط لأنه لم ير أن هؤلاء يستحقون الوفاء بقسم أبقراط.. إلى هذا الحد قد يصل بنا الظلم المبرح إلى النكوص عن قوانين إنسانية أطاعها الجميع في كل العصور.. ومن هنا تأتي بشاعة ما حدث للسوريين من كل أطراف النزاع في ثورتهم من أجل الحرية.



#محمد_دوير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العولمة والهوية الثقافية.. قراءة في كتاب صلاح السروي
- -تَحَوُّل- باهر عادل - مجموعة قصصية-
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
- عندما أنقذتني الشيوعية
- ماركس: فصول من حياته و أعماله
- ما بعد الحداثة (خريطة مبسطة )3-3
- ما بعد الحداثة (خريطة مبسطة ) 2-3
- ما بعد الحداثة (خريطة مبسطة ) 1-3
- هل العلمانية مفهوم نظري أم شرط تاريخي ؟
- الموناليزا ومارلين مونرو
- نظريات المعني بين التصور والاستخدام
- رعب يناير: عشر سنوات من الثورة المضادة
- الله .. في الفلسفة (3 )
- الله... في الفلسفة (2)
- الله .. في الفلسفة (1)
- مقدمة في فلسفة اللغة
- الحلاج وأزمة العقل الديني
- العرب.. وسؤال الحداثة
- في فقه الهزيمة
- وهج اللاوعي في رواية -التاج- لعبير قورة


المزيد.....




- زاعما سرقة فكرته.. المخرج المصري البنداري يحذر من التعامل مع ...
- جرأة محفوفة بالمخاطر.. شهادات علنية لضحايا اعتداء جنسي تتحدى ...
- الفرانكو- جزائري يخرج عن صمته ويعلق بشأن -فضيحة حوريات-
- نافذة جديدة على العالم.. مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة ا ...
- شون بين يتحدث في مراكش عن قناعاته وتجربته في السينما
- تكريم مؤثر للفنانة المغربية الراحلة نعيمة المشرقي في مهرجان ...
- بوتين يتذكر مناسبة مع شرودر ويعلق على رجل أعمال ألماني سأله ...
- على طريقة أفلام الأكشن.. فرار 9 سجناء من مركز اعتقال في نيس ...
- -الجائزة الكبرى للشعر الأجنبي- في فرنسا لنجوان درويش
- الخنجر.. فيلم من إنتاج RT يعرض في مسقط


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد دوير - تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين