محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)
الحوار المتمدن-العدد: 8179 - 2024 / 12 / 2 - 00:50
المحور:
القضية الفلسطينية
كنتُ خبيراً في إعدادِ الخُبّيزةِ مع الشُّومَرِ، أتقنتُ مزجَ نكهاتِها وسبرتُ أغوارَ أسرارِها. كانت وصفتي الخاصّة أشبهَ بلحنٍ مُتقنٍ يعزفُ على أوتارِ الذّائقةِ، ومع كلِّ مرّةٍ أطبخُها، كنتُ أشعرُ بالفخرِ، وكأنّني أستعيدُ جزءاً من ذاكرتي الجمعيّةِ، حيثُ تتداخلُ روائحُ الماضي مع دفءِ الحاضرِ.
الخُبّيزةُ، هذه النبتةُ التي تنبُتُ في تُرْبةِ الجليلِ الخصبةِ شمالَ فلسطينَ، تحمِلُ في أوراقِها عبقَ الأرضِ التي أنجبتْها.
تُعتبَرُ الخُبّيزةُ أكلةَ الفُقراءِ وغذاءَهمُ المُفضَّلَ الذي يُقاوِمُ الجوعَ ويحتضِنُهم في مواسمِ القَحطِ. أوراقُها الخضراءُ كانت كفّاً حنوناً يُطعِمُ العائلاتِ الفقيرةَ، والشُّومَرُ الذي يُضافُ إليها يُضفي عليها نكهةً غنيّةً تُشبِهُ رائحةَ الحقولِ.
الخُبّيزةُ خدمتِ الشعبَ الفلسطينيَّ أكثرَ من جميعِ الدولِ العربيّةِ والإسلاميّةِ، فلم تخذلْهم يوماً، ولم تقفْ مكتوفةً أمامَ حاجتِهم. كانت دائماً إلى جانبِهم في أوقاتِ القحطِ والحربِ والحصارِ، تسدُّ رَمَقَهم حين عزَّ الغذاءُ وشحَّتِ المواردُ، كأنّها قطعةٌ من ترابِ الوطنِ، تمدُّ جذورَها في أعماقِ الأرضِ وتُعلّمُ أبناءَها الصمودَ.
لكنَّ اليومَ، أشعرُ وكأنَّ الذاكرةَ تخونُني، وكأنَّ سنواتِ الخبرةِ تتبخَّرُ أمامَ عينيَّ. أقفُ في المطبخِ حائراً، أنظرُ إلى الخُبّيزةِ والشُّومَرِ وكأنّهما غريبانِ عني. أينَ ذهبتْ تلكَ البراعةُ؟ كيفَ لي أن أنسى ما كنتُ أُبرِعُ فيه يوماً؟
أشعرُ كأنَّني لم أطبخْها في حياتي قطُّ، وكأنَّ تلكَ الأطباقَ التي صنعتُها بحبٍّ وشغفٍ أصبحتْ أطيافاً منسيّةً في زاويةِ النسيانِ.
إنَّه خذلانٌ من نوعٍ خاصٍّ، خذلانُ الذاكرةِ التي كنتُ أستندُ إليها في الغربة، خذلانُ التفاصيلِ الصغيرةِ التي كانت تربطُني بماضٍ أعتزُّ به.
#محمود_كلّم (هاشتاغ)
Mahmoud_Kallam#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟