|
يوم في هلسنكي
محمود كرم
الحوار المتمدن-العدد: 1784 - 2007 / 1 / 3 - 11:42
المحور:
الادب والفن
في أحد أيام شهر ديسمبر من العام 2003 ، كنتُ على متن باخرة عملاقة في رحلة بحرية امتدت سبع عشرة ساعة متواصلة من ستوكهولم إلى العاصمة الفنلندية هلسنكي ..
لم أستطع أن أخلد إلى النوم طوال تلك الرحلة سوى ساعتين ، حيث كنتُ أقضي معظم الوقت جالساً في صالةٍ كبيرة مجهزة بمقاعدَ مريحة في مقدمة الباخرة ، أشاهد البحر مباشرة عبر حاجز زجاجي ، مستمتعاً بزرقةٍ باهرة ، انفردت السماء والبحر بصناعتها في تلاحم ٍ حميميٍّ رائع ، وكانت تجلس على بُعد أربعة مقاعد مني فتاة شقراء ، غارقة بكل كيانها في وحدتها العميقة ، كأنها تنهلُ من ملكوت التأمل صمتاً مقدساً ، ولم أكن أمتلك الجرأة الكافية لكي أسألها عن سبب تعرضها الدائم للبحر والوحدة ..
أحسستُ أني بحاجةٍ إلى بضع ساعاتٍ من الاسترخاء فتوجهتُ إلى أعلى الباخرة حيث يقع حمام السباحة والجاكوزي والسونا والبخار ، ومن حسن حظي أن المسبح كان يخلو من ( الشقراوات ) لأني لم أكن في وضع ٍ يسمح لي بالتعرض لمزيدٍ من الجبهات القاتلة التي تتقن إنشاءها النسوة الغربيات من حولنا نحن معشر الرجال على الرغم من أني أتسلّح بأخلاق الرجل الشريف الذي يكبتُ أية ( بصبصةٍ ) شهوانية قد تبرز تجاههن ..
الناس في هذه الباخرة العملاقة جداً ، كأنهم في مدينةٍ صغيرة يعرفون بعضهم بعضاً ، يرقصون ويغنون ويشربون ويأكلون ويتسامرون ويضحكون ويلعبون ويتبضّعون ..
وحينما دخلت الباخرة طقوس الليل ، كان هناك في المسرح الضخم استعراض فني غنائي في غاية الروعة للأطفال ، تابعتُ عرض الأطفال بمتعةٍ كبيرة وكنتُ ( أدندن ) معهم كلمات الأغاني وإن كنتُ أجهل معظم معانيها وقد تلمستُ عمق المحبة التي كانت تلف الحاضرين تجاه الأطفال ..
بعد ذلك العرض التلقائي الجميل للأطفال بدأت الموسيقى الكلاسيكية تملأ أرجاء المسرح بنغماتٍ حيّة تبعث في النفوس صفاءً ورونقاً أخّاذاً ، وبدأ العشاق والمحبّون والمتيّمون والحالمون بالنزول إلى أرضية المسرح ، وبالتواطؤ مع الموسيقى الأخّاذة ، دارت حلقات الرقص الكلاسيكي والذي يعتبر من أسعد اللحظات الرومانسية في سهرات أهل الغرب ..
مكثتُ قليلاً ، فلم أكن أستطيع تحمل جرعات الموسيقى الرومانسية التي كانت تتدفق بعذوبة ورقة ، تملأ صدور العشاق بالآهات والوله والذكريات والعذابات المنسيّة ، ففضّلتُ العودة مجدداً إلى مكاني المحبب في مقدمة الباخرة ، وهذه المرة كان الليل يغرسُ في البحر حلكته البهيّة ليمارسا في ثنائيةٍ فريدة جمالية اللهو البري .. وأخيراً رست الباخرة في ميناء هلسنكي في تمام العاشرة صباحاً حسب التوقيت المحلي لفنلندا ، وأعترفُ بأني لا أعرفُ عن هذه المدينة شيئاً سوى إنها تصدر للعالم هواتف الـ ( نوكيا ) ومشهورة بالسمك ونساؤها في غاية الجمال ..
ما أن خرجتُ من الباخرة حتى رأيت مدينةً تنام تحت البياض ، حيث الثلوج كانت تتساقط بكثافة ، وتصورتُ للحظة أن الناس في هذه المدينة المتورطة بالثلوج الغزيرة لا يخرجون من بيوتهم ولا يزاولون أعمالهم ولن أشاهد في شوارعها سوى الأشباح ، فعلى العكس تماماً مما كنتُ أتصور ، كانت الحياة وسط تواتر الثلوج تضج بحركة الناس والسيارات وكل شيء ، وكنتُ في طريقي للباص المخصص لنقل السواح في جولة سياحية حول أهم المعالم السياحية والتاريخية لمدينة هلسنكي ، استقبلتني المرشدة السياحية عند مدخل الباص بحفاوة فنلندية وسألتني عن اللغة المتداولة في بلدي ، فقلتُ لها : العربية ، علت شفتيها ابتسامة مهذبة ثم قالت : أوكيه يا سيدي ، نتفق على الإنجليزية إذن ، فقلتُ في نفسي : سأحاول التركيز لكي أفهم ( القليل ) من كلامها ..
لم يكن في الباص سوى أربعة أشخاص غيري ، رجل من السويد مع زوجته ورجل من كندا مع زوجته ، وكانت المرشدة تتحدث بحماس وطني عن مدينتها ، تارةً باللغة الفنلندية فكما يبدو أن الاثنين من السويد يفهمان لغتها ، وتارةً أخرى تتحدث بالانجليزية لي وللزوجين من كندا ..
مررنا بالقرب من إحدى رياض الأطفال ، رأيناهم يلعبون ويمرحون في ساحة الروضة غير مبالين بحالة الطقس ..!! فقالت المرشدة في نبرةٍ تنمُّ عن تصميم عميق لحب الحياة : لا نكترث بالثلوج ولن تعيق حركتنا وحياتنا بل نتصالح معها .. في بلدي ولو افتراضاً ، من سابع المستحيلات أن أشاهد أطفالنا يذهبون إلى مدارسهم وسط هذا الكم الهائل من تساقط الثلوج ، فكان المشهد بالنسبة لي على المستوى الشخصي ، استثنائياً وفريداً من نوعه ..
بعدها توقف بنا الباص عند جبل ضخم فقالت المرشدة : في جوف هذا الجبل ترقد ( كنيسة ) تاريخية وهي فرصة جميلة لمشاهدتها والتقاط الصور الفوتغرافية ..
نزلنا جميعاً ، فقلتُ للرجل الكندي على سبيل المزاح والذي كان ودوداً معي للغاية : أفهمُ أن الناس تنحت من الجبال بيوتاً ولكن أن ينحتوا من الجبال كنائسَ ، فهذا أمر عجيب ..!! ضحكَ الكندي ثم قال لي : هيا يا صديقي لنرَ ما في الداخل ونلتقط الصور التذكارية ، وحينما عرفَ أني قادمٌ من هجير الصحراء ، سألتني زوجته بتودد : ماذا تفعلون مع طقس تصعد الدرجة فيه إلى الخمسين مئوية ..؟؟
فقلتُ لها مبتسماً : بالضبط كما تفعلون أنتم مع درجة تهبط إلى الثلاثين تحت الصفر ، فضحكنا جميعاً ..
وانطلق الباص بنا مجدداً وكنتُ أشاهد ( الجرافات ) وهي تكنس الثلوج المتراكمة فوق الأرصفة وفي الشوارع وأمام المنازل ، فكل شيء يجب أن يكون مهيئاً للناس ، لذلك كانت الجرافات تعمل على مدار الساعة ..
نزلنا بالقرب من أحد النصب التذكارية لأحد فلاسفتهم ولا أتذكر اسمه ولكني فهمتُ من المرشدة أنه أحد أهم الفلاسفة في تاريخ فنلندا ، فطلبتُ من الرجل الكندي أن يلتقط لي صورة بجانب التمثال المعدني لهذا الفيلسوف الفنلندي لعلّ بركاته الفلسفية تنزل عليّ في يوم من الأيام وتسارع الحكومة الكويتية بعد ذلك بصنع تمثال لي وتضعه في ساحة الصفاة ، ومررنا بعد ذلك بجانب مبنى البرلمان ومبنى مجلس الوزراء ، وتوقفنا طويلاً بالقرب من ( قاعة فنلنديا ) المبنى الرمزي ، وبناه المعماري الفنلندي الفذ ( الفار التو ) في الستينيات من القرن المنصرم ويشاهده الآلاف من الأوروبيين والسواح كل عام كتحفة فنية باهرة التصميم وهو مغطى بالكامل بألواح رخامية إيطالية ناصعة البياض ، وفهمتُ من المرشدة إن المبنى حالياً يدور حوله جدل معماري طويل من حيث أن الرخام لا يناسب طقس فنلندا القارس البرودة فيصيبه التقوس والتشقق ، على العكس من الحجر الجرانيتي الأبيض الذي يصمد أعواماً طويلة جداً في وجه البرودة الشديدة ، ثم قالت : لم يتوصل المعماريون الفنلنديون إلى حل بخصوص هذا الجدل إلى الآن ، بسبب أن البعض من المعماريين يقولون أن المبنى يجب أن يظل كما أراد له ( الفار التو ) أن يبقى ، فقلتُ في سرّي : والله الجدل سيبقى قرناً آخر مادامَ الأمر يتعلق بروح فنلندا المعمارية ، وانتهينا مجدداً بعد تلك الجولةٍ الجميلة إلى قلب مدينة هلسنكي حيث كانت انطلاقتنا الأولى ، فقالت لنا المرشدة : الآن أنتم أحرار ، بإمكانكم التجول في مركز المدينة ، ومَن منكم يفضّل العودة إلى الباخرة فنحن في خدمته ، قلتُ في نفسي التجول متعة كبيرة وخاصة أني بحاجة ملحّة لكوب من ( الكابتشينو ) الدافيء ، والتعرف عن قرب على أحوال الفنلنديين ، ولكن في الوقت نفسه ، السير وسط هذه الثلوج الكثيفة ضرب من الجنون ، خاصةً لواحدٍ مثلي لم يعتد في حياته مطلقاً ، المشي فوق الثلوج وتحتها ..
البقية عقدوا العزم على النزول من الباص والتجول وكان صاحبنا الكندي أكثرنا تحمساً فتحمستُ معه للفكرة ، وبمجرد أن نزلنا من الباص حتى تفرقت بنا الطرق وكل واحد منّا اتخذ جهة معينة ، وبينما أنا أمشي كنتُ أزيح الثلج الذي كان يتكوّم بسرعة فائقة وبكثافة فوق شعري ، وما أن أنتهي من ذلك حتى أجدني منصرفاً إلى وجهي وإلى معطفي وإلى الشيء الذي أحيط به عنقي ولا أعرف ماذا يُطلقون عليه في اللغة العربية ..
أما ما كانت تفعله ندف الثلج المتساقطة بكثافة في حذائي الثمين ، فكارثة ٌ أخرى ، وهكذا كلما كنتُ أمشي بضع خطوات كنتُ أقوم بعمل ( الجرافة ) على كامل جسدي ، والمشكلة أن الثلوج لم تكن تهدأ لحظةً واحدة ولا تترك لي مجالاً لالتقاط الأنفاس ، لذلك كنتُ أحتمي بين كل مسافةٍ وأخرى بأحد المجمعات التجارية ، وعلى الرغم من أن الثلوج الفنلندية كانت ( تعفسني ) وتلحق أضراراً فادحة بأناقتي و( وسامتي ) إلا أني كنتُ أجد فيها متعة لا توصف وذكرى جميلة استحضرها كلما أردتُ التحدث لعائلتي وأصدقائي عن ( بطولتي ) المطلقة في ذلك الفيلم الهلسنكي المثير ..
لم أتوقف عن السير وتابعتُ ( تألقي ) في التجول ووصلتُ إلى ساحةٍ وسط مركز المدينة ضمّت أكشاكاً صغيرة متلاصقة يباع فيها كل ما يتعلق بالفن الفنلندي ، كان المكان جميلاً يتّسم بالطابع الشعبي والفلكلوري ويشبه كرنفالاً مصغراً للفن والتراث والأطعمة الفنلندية المتنوعة ، توقفتُ عند بائعةٍ سمراء اللون تبيع مجسمات صغيرة من النوع الذي يتم وضعها فوق الأثاث المنزلي ، فقلتُ وجدتها ، هذه ( صوغة ) جميلة لزوجتي من هلسنكي فهي مغرمة بهذه الأشياء ، فناولتني البائعة أجمل ما لديها من تلك القطع وسألتني على الفور بروح رياضية : السيد من أين ؟؟
أجبتها : من الكويت ، استغربتُ من إنها عرفت أين تقع ( الكويت ) الصغيرة في خارطة العالم ، ولكي تبدد حيرتي من أمر معرفتها السريعة بالكويت ، قالت : يا سيدي تعرفتُ عليها ، كونها كانت نقطة ساخنة في حرب الخليج الثالثة وكانت حديث نشرات الأخبار العالمية ..
وسألتني مجدداً : هل الأوضاع عندكم الآن بخير ؟؟ فقلتُ لها : بخير ، وشكرتها للطفها ، وقبل أن أنصرف كان هناك شيء في صدري ( يقرقع ) وكان عليَّ أن أفضفض عنه ، فما كان يحيرني كونها سمراء ـ طبعاً مع تقديسي الكامل للون الأسمر وبقية الألوان ـ فيستحيل إنها فنلندية ، وحتى لو كانت فنلندية المولد ، فكيف لم تفلح كل هذه الثلوج والطقس البارد من إعطائها لون فتيات فنلندا ..؟!
فسألتها بدوري : يبدو أنكِ لستِ من فنلندا ، فقالت سريعاً وهي تطلق في وجهي نظرة رشيقة : أنا من المكسيك وأعيش هنا منذ زمن بعيد ، فبادلتها ذات النظرة قائلاً لها : اللون الأسمر وسط تظاهرة البياض تعددٌ ساحر لصالح الجمال الأنثوي بصورة عامة ، وغادرتها متمنّياً لها أوقاتاً سعيدة في ربوع فنلندا ..
وبينما كنت أستمتع بالتجول في هذه السوق الصغيرة ، توقفتُ رغماً عني وبطلب عاجل من معدتي التي كانت تتضور جوعاً عند كشكٍ صغير يبيع سمكاً مقلياً ، كان السمك من النوع الصغير جداً يشبه سمك ( الزوري ) كالذي عندنا في الكويت ، فقلتُ في نفسي لا بأس من تجربته وخاصةً أن شكله في الزيت كان يشي باللذة ، طلبتُ على وجه السرعة طبقاً واحداً من البائع الوسيم جداً ، وتمنيتُ أنه يعمل في مجال عروض الأزياء الرجالية بدلاً من بيع السمك ..
وأنا أطلبُ من البائع وجبتي ، فكرتُ أين سأضعها تمهيداً لتناولها بمزاج فنلندي ، فالرجل لا يملك في كشكهِ سوى طاولتين لا يظهر من ملامحهما شيئاً على الإطلاق بسبب أكوام الثلج المتراكمة عليهما ، فطلبتُ من البائع أن يسمح لي بتناول وجبتي واقفاً تحت مظلة كشكه بعد أن أوضحت له عدم تمكني من الأكل فوق طاولةٍ مدفونة تحت الثلج ، أطلقَ ضحكةً عذبة قائلاً : طبعاً تستطيع أن تتناول وجبتك أينما تشاء ، أنت في هلسنكي ..
للأمانة كانت وجبة السمك الصغير لذيذة جداً ولم أتذوق في حياتي سمكاً بهذه اللذة على الرغم من إننا أكثر شعوب الأرض تناولاً للأسماك ..
وكان يقف بجانبي رجلٌ فنلندي كبير في السن ، هو الآخر فضّل أن يتناول وجبته تحت مظلة الكشك ، أحببتُ أن أفتح معه حواراً ( سمكياً ) بينما نحن نستمتع بـ ( قرمشة ) السمك الصغير ، اعتذرَ مني لعدم تمكنه من التحدث بالإنجليزية ، حيث كان بودي أن أقول له أن ثمة إيقاع بيولوجي بيننا وبينكم وهو حبنا الأبدي للأسماك ، ولكننا في الكويت لم نألف تناول هذا النوع الصغير جداً من الأسماك ، ولن يلتفت إليه أحد من ( ربعنا ) بسبب التسيّد المطلق للـ ( النقرور والسبيطي والهامور والزبيدي ) على موائدنا منذ أن وجدت الكويت ..
كانت متعة كبيرة أن أتناول طبق السمك في الهواء الطلق وفي درجة حرارة تقترب من الثلاثين تحت الصفر ووسط تقاطر الثلوج ..
ناولتُ البائع الوسيم قيمة الوجبة ولكنه فاجأني برفضه أخذ المبلغ ، أصررتُ عليه ولكنه أبدى رفضاً قاطعاً وقال لي : أنتَ ضيفنا في هلسنكي وودعني بتحية : ( هابي نايس كرسمس ) ، وكان قد بقيَ على احتفالهم بالكرسمس أسبوعان حسب ما أتذكر ..
بعد تلك الوجبة السمكية اللذيذة رحتُ أبحثُ عن مقهى هاديء طلباً للدفء والراحة والمشروب الساخن ، اهتديتُ في طريقي لمقهى صغير ، دخلته متخذاً طاولة قرب النافذة الكبيرة لكي أستمتع بمشاهدة مهرجان الثلج في الخارج وهو يمارس إبداعاته في أبجدية البياض ..
طلبتُ من النادلة الشابة ( كابتشينو ) وكانت فرصة مناسبة لكي أتحرر قليلاً من معطفي وذاك الشيء الذي يلف عنقي وقفازتيَّ الجلديتين ، ولو كان بإمكاني لتحررت أيضاً من حذائي وجواربي لأتفقد قدميَّ اللتين كانتا تمرحان طويلاً في الثلج ، كان ثمة أفراد قلائل في المقهى ، فمنهم مَن كان يتصفح مجلة وآخر يقرأ كتاباً واثنان كان يبدو عليهما إنهما يتفقان على أين سيقضيان ( الويك إند ) ، واثنان على طاولة خلفي يتهامسان ويضحكان ويخططان لغد أجمل ، هكذا تخيّلتهم بحكم طبيعة المجتمع الأوروبي الذي اعتاد على الاستمتاع بلحظات يومه بعيداً عن النكد والغم وتتبّع أخبار السياسة وترديد شعارات ( المجاهدين والمناضلين ) واقتفاء إرشادات ( السلف الصالح ) ..
شكرتُ في داخلي ( شركة الإتصالات ) الكويتية لأنها جعلتني على إتصال دائم بالعالم ، حيث كان هاتفي المحمول مشحوناً بخدمة الشبكة التلقائية أينما ذهبت ، أدرت الهاتف على رقم منزلي فكانت زوجتي على الخط ، أبلغتها تحياتي الفنلندية الثلجية وروعة السمك الهلسنكي ووسامة بائعي السمك ولطف الفتيات الفنلنديات وحماسة الرجل الكندي وثرثرة المرشدة السياحية ومرح الأطفال الفنلنديين في روضتهم ..
لم يبقَ على موعد الإبحار إلى ( ستوكهولم ) في رحلة العودة سوى ثلاث ساعات ، خرجتُ من المقهى بعد أن أحكمتُ جيداً إغلاق كافة الاستحكامات الدفاعية التي تلف جسدي للتصدي لضربات البرد الشديد ، وتساءلتُ مع نفسي هل كان الأوروبيون يرتدون الثياب الثقيلة طوال الوقت قبل أن يخترعوا وسائل التدفئة الحديثة ؟؟!!
كانت المسافة التي يجب أن أقطعها بين المقهى والميناء حيث ترسو الباخرة العملاقة ليست بالقصيرة بالنسبة لي على الأقل ، لأنه كان عليَّ أن أمشي طوال تلك المسافة وقدمايَ تغوصان في الثلوج إلى مسافة عشرين أو ثلاثين سنتمتر ، فكرتُ أن أستقل إحدى سيارات الأجرة ولكني تذكرتُ فجأةً حماسة الرجل الكندي ، مستلهماً منه روح المغامرة والإقدام فعقدتُ العزم على الإبحار وسط الثلوج ملوّحاً بقول الشاعر : أنا الغريق فما خوفي من البلل ِ، وطلبتُ من السماء ، أن تكون الثلوج معي أليفة ودافئة ، ولا أدري لماذا تذكرتُ في تلك اللحظة ، حادثة حصلت لي قبل أكثر من عشرين عاماً ، هي على النقيض تماماً من حالتي هذه ، يوم كنتُ على جبل ( عرفة ) في موسم الحج وكان الحر شديداً لا يُطاق ، يسد علينا عبور أية نسمة هواء منعشة ، اقتربَ مني أحد أصدقائي حينما وجدني متسربلاً بهالةٍ ( عرفانية ) نادرة ، لم يعتد أن رآني هكذا من قبل ، فسألني : يا محمود ما هي أمنيتك من الله في هذه اللحظة النورانية ؟!! فقلتُ له سريعاً : أن يُنهيَ الله علينا سريعاً حرَّ هذا اليوم القائظ بخير ..
صادفتُ في طريقي الثلجي مجمعاً تجارياً صغيراً وكان على الطراز الأوروبي القديم جداً ، يشبه كوخاً تراثياً ، يداعبُ في لقطةٍ آسرة صفاء اللون الأبيض ، كان المجمّع يحوي بضعة محلات متخصصة في بيع الأطعمة والأغذية الفنلندية المتنوعة ، فقلتُ أثانيةً طعام ُ ..!! كان الهدوء يهيمن على المكان ، هيمنة تامة وكأنه يتناغم بلغةٍ ساحرية مع مهابة البوح الثلجي ، ولفتَ نظري في تجولي السريع أن مَن يتولى أمور البيع في تلك المحلات نساء ، بينما الرجال لا يزيدون على اثنين أو ثلاثة ، وكن يستقبلن الزبائن بابتسامة رقيقة وروح خلابة ، ولكني لم أفهم لماذا محلات الأجبان بكافة أشكالها وأنواعها تتولى البيع فيها نساء بدينات ، وفكرتُ أن الاستفسار عن هذا الأمر يعتبر تدخلاً سافراً في خصوصية الفرد الأوروبي ..
خرجتُ من المجمّع الصغير مصحوباً ببعض المعلومات العامة عن الأطعمة الفنلندية واستأنفت السير إلى الباخرة وحينما وصلتها ، كنتُ أحمل معي في ثيابي ما يعادل حمولة عربة صغيرة من الثلج المتناثر ، وكان في رأسي شيء واحد وأنا أدخل الباخرة ، أن أسأل صديقي الكندي حين ألتقيه : عن سر العلاقة بين الأجبان والبائعات البدينات ..
#محمود_كرم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التخلف .. إرث الماضويات المهيمنة
-
الهاربون إلى الأوهام
-
تفتحات الذاكرة الآجلة
-
اليوتوبيا الدينية
-
السويد تنتصر إنسانياً
-
رمضان وفاتنتي التبغية
-
أن تكون نفسك
-
الممشى وصناعة الأفكار
-
ماذا لو حضر الحب وغابت الكراهية
-
المجتمعات وهيمنة الموروث الثقافي
-
المنتصرون بثقافة الموت
-
الإصلاح والثقافة الصنمية
-
لبنان .. حلمنا المضرّج
-
الجميلون لا يغيبون
-
كيف نفسّر للأطفال بشاعة الحرب
-
هل يعشق اللبنانيون الحرب
-
الوعد الخادع
-
إيطاليا ملَكت العالم
-
الصومال في المأزق الديني
-
الثقافة صانعة الحياة
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|