|
أمراض الأمة إياها
عادل صوما
الحوار المتمدن-العدد: 8175 - 2024 / 11 / 28 - 07:52
المحور:
كتابات ساخرة
كان الرئيس اللبناني فؤاد شهاب يختصر الطريق على كمال جنبلاط السياسي زعيم طائفة الدروز ويقول له: "هات م الآخر يا كمال بيك". كان شهاب لديه الجرأة ليواجه جنبلاط بعيوبه وهي التسويف والمخادعة ومحبة سماع صوته وهو يتكلم بمراوغة وإسهاب ممل. سأبدأ من الآخر وأقول أن أمراض الأمة إياها ثلاثة: التعامل مع الواقع على انه كلمات، والاستعلاء بالدين، والشيزوفرانيا. أعني الأمة بأصلها وفروعه المختلفة والمسحوقين الذين تماهوا معها من أربعة عشر قرناً ونيف، وأصبحوا يفكرون ويتحدثون مثل الغزاة الفاتحين وبلغتهم. ولن أذهب بعيدا في التاريخ لشرح الأمراض، فيكفي تذوّق ملعقة لمعرفة مدى نجاح أو فشل وصفة الطبّاخ. هادر وثائر بشكل عام تعاملت النظم الناقطة بالعربية سياسياً بمنطق سليمان العيسى في أغنيته المشهورة التي جمعت أمراض الأمة إياها وقال فيها: "مِن المحيطِ الهادرِ إلى الخليجِ الثائرِ لبيكَ .. عبد الناصر تفَجّري يا أرضُ باللّهَبْ وأشرقي يا دولة العرب مواكباً مواكباً نسير كالرعودُ للشعب للقوافل السمر لنا الخلودُ إلى الجحيم هذه الأسوارُ والحدود" عبد الناصر كان عبد الناصر يحارب ويتعامل مع الاستعمار وإسرائيل بحماسياته وصوت عبد الحليم حافظ مطرب الإنقلاب؛ كلمات.. كلمات. غير مفهوم لماذا حارب الزعيم المُلهم طواحين الهواء، فالاستعمار بناء على بند "حق الشعوب في تقرير مصيرها"، بدأ ينسحب تدريجياً من منطقة الهادر والثائر، وهو أحد بنود الرئيس الأميركي ويلسون الأربعة عشرة بعد الحرب العالمية الأولى، عندما كان عبد الناصر طفلا. هكذا تعامى المستعمر البريطاني في مصر عن انقلاب يوليو ولم يتدخل لصالح ملك البلاد الشرعي، فالشعوب تقرر مصيرها، وانسحب البريطانيون لاحقاً من مصر طواعية بناء على اتفاقية سنة 1954 وليس بعد معارك طواحين الهواء. تعامل عبد الناصر والأمة بمنطق كلامي حماسي ديني استعلائي منفصل عن الواقع، واعتبروا أن إسرائيل كيان، أو كيان لقيط كما قال منظرو الزعماء في مقاهى السياسة، وحارب عبد الناصر لتحرير فلسطين وإلقاء اليهود في البحر، وصدّقه أبناء الأمة السكارى بالحماسيات والغيبيات الغائبين عن الواقع السياسي والدولي، لدرجة أن أم كلثوم قالت في حديث مع الاعلام انها ستغني حفلتها القادمة في تل أبيب قبل حرب 1967! لن أكرر الكلام عن الانتصار الإسرائيلي العسكري الساحق غير المعقول على أغاني عبد الحليم حافظ وإذاعات عبد الناصر التي حاربت بالكلمات والشعارات وتخوين كل الأنظمة ما عداه، ورغم ذلك لم يفق السكارى سجناء كهف الاوهام من مرض ادمان الكلمات. أهل الكهف رغم انه كان أسير تشدده الديني، وأدخل في دستور مصر بنداً يجعل الشريعة الإسلامية مصدر التشريع، أدرك الرئيس السادات أن منطقة الهادر والثائر حبيسة كهف التاريخ، وترى الحاضر من منظور سجل تاريخي مُلفق غير واقعي، فخرج من كهف التاريخ، وحاول كتابة المستقبل مستعينا بالواقع وليس الكلمات أو الغيبيات، فأفتى أصحاب عمائم أهل الكهف بهدر دمه، لأنه خرج عن اجماع أوهام الأمة، وأهان أصحاب العمائم، وبادر بأفعال وليس كلمات، وهكذا عادت المنطقة إياها إلى كهفها وخرج منها الآتي ذكرهم، وهم بعض من سلسلة طويلة. السنوار/الحية قال السنوار في نوفمبر 2018 "على موعد قريب بإذن الله أن نصلي في الأقصى مُحررا مُطهرا مُعززا مُشرفا". وفي أعقاب شن إسرائيل غارة جوية اغتالت خلالها قادة لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة في نوفمبر 2019، توعد السنوار إسرائيل بحماسيات لا علاقة لها بالواقع: "سندك تل أبيب ونجعل صفارات الإنذار تدوي فيها صباحا ومساء وليلا ستة أشهر كاملة، وقد وفقنا الله خلال السنوات الماضية إلى بناء قوة عسكرية يحق لنا أن نفتخر بها". في خطاب في يونيو سنة 2021 بعد معركة سيف القدس (لاحظ قوة الشعار وعدم معقوليته) التي شنتها الحركة على إسرائيل رفضاً لاقتحامات المسجد الأقصى وترحيل سكان حيّ الشيح جرّاح في القدس، قال السنوار "المقاومة فرضت نفسها، وأثارت المنطقة والإقليم، وأجهزة المخابرات الأميركية والدولية ومراكز الدراسات الاستراتيجية وجدت أن هناك خطورة حقيقية على حالة الاستقرار". ماذا بقي من غزة بعد "طوفان الأقصى" وهدير كلماته؟ كيف كانت نهاية السنوار وهو يحاول الهرب إلى مصر عن طريق رفح؟ كيف تجوّل نتنياهو أخيرا سيراً على الأقدام في غزة وخلفه بقايا بيوت، بينما لصوص المساعدات الحمساويين يسرقون ما أُرسل لأناس يعيشون في العراء، بعدما باعوا مساعدات سابقة في غزة بالشيكل الإسرائيلي، وفي هذه الصور الساخرة خرج المقاوم الإسلامي خليل الحيّة يؤكد أن الحركة تبحث "في كافة الأوباب والمسارات لوقف الحرب في غزة". ابتلع الحية ما قيل بعد 7 أكتوبر واستدعاء الامة لتحارب حربها المقدسة ضد الكيان اللقيط، ولم يفق المساطيل (لأن الخمر ممنوعة في غزة) من أعراض وأمراض تعاطي أوهام الشعارات والكلمات الدينية ذات السجع. نصر الله كان الاستعلاء بالدين أكثر وضوحا في كلمات حسن نصر الله، فقد خرج في يوم القدس العالمي في خطاب مؤكدا خلاله أنّ القضّية الفلسطينية "مهما تكالب عليها صهاينة العرب، ستبقى قضية المسلمين الأولى ولا يحق لا للفلسطينيين ولا للعرب ولا لأيٍّ كان أن يتنازل عنها أو يُسلّم صك مُلكيتها لليهود". هكذا صادر حسن نصر الله ملكية فلسطين للأمة إياها، بينما "الارض المقدسة" كما وصفها القرآن وأعطى حقوق ملكيتها لليهود بدون أي التباس، وبنصوص عدة يمكن لأي متحمس لا يقرأ الرجوع إليها. كما يبدو أن حسن نصر الله قد تناسى عن سابق اصرار وتصميم أن المسيح أيضاً من هذه الأرض. خاطب نصر الله أميركا بعد 7 أكتوبر 2023 وقال بمنطق الكلمات الهادرة التي تعمي البصيرة عن الواقع: "من يريد أن يمنع اندلاع حرب إقليمية يجب أن يسارع لوقف العدوان على غزة". "إذا اندلعت حرب إقليمية فأساطيلكم والحرب من الجو لن تنفع وجنودكم سيدفعون الثمن". "أساطيلكم في البحر المتوسط لا تخيفنا ولم تخفنا في يوم من الأيام وأعددنا لها عدتها أيضا". وعن جهوزية الحزب الإلهي في لبنان قال: "كل الاحتمالات في جبهتنا اللبنانية مفتوحة وكل الخيارات مطروحة وممكن أن نذهب إليها في أي وقت". "تطور وتصاعد هذه الجبهة مرهون بأمرين، أولهما مسار وتطور الأحداث في غزة وثانيهما هو سلوك إسرائيل تجاه لبنان". "عملياتنا على الحدود تساهم في ردع إسرائيل وتقول لها إن الاعتداء على لبنان سيكون أكبر حماقة في تاريخها". مع عدم نسيان أن نصر الله اقتبس من القرآن وطالما قال: "إسرائيل أوهى من بيت العنكبوت". ماذا يحدث للبنان؟ أين ذهبت كلمات نصر الله وتهديداته؟ هل بدأ السكارى يفيقون من الكلمات التي أصابت عقولهم بالشلل؟ تعريف القاموس الحرب ومواجهة الحياة ضمناً بالكلمات، والشيزوفرانيا، والاستعلاء بنصوص سياسية/دينية كُتبت في ظروف سياسية تختلف تماماً عن عالمنا، أمراض واضحة في ملعقة التاريخ السابق ذكرها، لمن يريد أن يفهم ويستعمل عقله. شيزوفرانيا منطقة الهادر والثائر بيئية/جينية، فقد أثر مرض البيئة الثقافية طوال أربعة عشر قرناً ونيف على الجينات، لأن الأجيال توّرث بعضها بعضاً، ليس فقط اللون والمزاج لكن الأمراض النفسية والسلوكيات أيضاً، وقد أثبت العلم بتجارب وملاحظات طويلة أن الديدان التي تدربت على السير في متاهات، أورثت ابناءها هذه الخبرة، فأصبحت أجيال الديدان الجديدة تعرف طريق المتاهات أسرع من الاجيال السابقة. هل ينطبق شيء على منطقة الهادر والثائر من التعريف التالي في القاموس النفسي للشيزوفرانيا؟ "الفصام مرض عقلي خطير يؤثر في طريقة تفكير الأشخاص وشعورهم وتصرفاتهم، ويمكن أن يؤدي إلى مزيج من الهلوسة والتوهم والتفكير والسلوك غير المنظم. وتشمل الهلوسة رؤية أشياء أو سماع أصوات لا يلاحظها الآخرون. وتشمل التوهمات الإيمان بشكل يقيني بأشياء غير صحيحة. وقد يبدو أن المصابين بالفصام يفقدون الاتصال بالواقع، ما قد يجعل الحياة اليومية صعبة للغاية عليهم. يحتاج المصابون بالفصام إلى علاج مدى الحياة، ويشمل هذا الطب والمعالجة بالمحادثة والمساعدة على تعلم كيفية إدارة أنشطة الحياة اليومية". تتمة الفكرة ما تقدم كان من القاموس النفسي، لكن هناك قاموس آخر لدى منطقة الهادر والثائر، وقراءة الفصام فيه قد تعطي فكرة أفضل. أعراض الفصام تدفع أسرة المصاب إلى الظن أو اليقين أنه "ملبوس بالجن" أو عفريت من الجن، لذلك يعرضوه على علمائهم أو مشايخهم أو أولياء الله الصالحين، ومن ثمة يزيد اضطراب المريض في التفكير، لأن العلاج بالبخور والأدعية أو ذبح الحيوانات يقوده إلى يقين بأنه مضطهد، وهناك أفراد أو منظمات سرية تستهدفه، ويحيكون المؤامرات ضده، ويجعله وهم الاضطهاد يتصرف بعنف شديد مع من حوله، ليحمي نفسه من المؤامرة التي تحاك ضده.
#عادل_صوما (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أميركا تستعيد وعيها وهيبتها
-
صباح في ذاكرة ثقافة البحر المتوسط
-
التكاذب منهجهم والغيبيات واقعهم
-
الدنيا لا تقع ولن تنتهي
-
أسئلة للمؤمنين والذميين الجدد
-
سياسة أو دين أو شعوذة
-
فشل الدين كمنظومة سياسية
-
عواقب تعامي الحكومات الغربية
-
اليوبيل الماسي لفيلم -غَزَل البنات-
-
استهداف إلهام شاهين
-
مات لبنان لتحيا ولاية الفقيه
-
أقوى سياسي على الكوكب
-
مبادئ مخفية في إنقلاب يوليو 1952
-
الفرار من عدالة المؤمنين
-
خدعة إرهابية وخدع بصرية
-
فواجع الافراط في التسامح
-
-حديث وتعليق- و-حقوق الحب-
-
صكوك غفران سياسية
-
إدارة الصراعات بالأدعية والغيبيات
-
أسماء سقطت من لائحة المتصهينين العرب
المزيد.....
-
افتتاح مهرجان -أوراسيا- السينمائي الدولي في كازاخستان
-
“مالهون تنقذ بالا ونهاية كونجا“.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة
...
-
دانيال كريغ يبهر الجمهور بفيلم -كوير-.. اختبار لحدود الحب وا
...
-
الأديب المغربي ياسين كني.. مغامرة الانتقال من الدراسات العلم
...
-
“عيش الاثارة والرعب في بيتك” نزل تردد قناة mbc 2 علي القمر ا
...
-
وفاة الفنان المصري خالد جمال الدين بشكل مفاجئ
-
ميليسا باريرا: عروض التمثيل توقفت 10 أشهر بعد دعمي لغزة
-
-بانيبال- الإسبانية تسلط الضوء على الأدب الفلسطيني وكوارث غز
...
-
كي لا يكون مصيرها سلة المهملات.. فنان يحوّل حبال الصيد إلى ل
...
-
هل يكتب الذكاء الاصطناعي نهاية صناعة النشر؟
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|