سلام عبود
الحوار المتمدن-العدد: 1784 - 2007 / 1 / 3 - 12:06
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
لا أحد مثلي أقام علاقة وطيدة مع صدام. فقد درست كتاباته جملة جملة, بل أكاد أجزم فأقول كلمة كلمة وحرفا حرفا, حتى أنني كنت أسهر أياما وأنا أفكر في مغزى كلمة ما, أو بارتباطات هذا التعبير أو ذاك بتداع ما. من أين جاءت كلمة " ترعة", ولماذا قال " كَرم", ولم يقل "عنب"؟ من أين جاءت هاتان الكلمتان غير المتداولتين في العامية العراقية؟ لماذا جعل امرأة متهمة بالخيانة الزوجية رمزا للكفاح الوطني, وهو المدافع الأصيل عن شرف الماجدات؟ مثل هذه الأمور التافهة شغلتني كثيرا, وسرقت جزءا ثمينا من عمري, وأنا على أعتاب الشيخوخة. حقيقة أنا لم أره حيا أبدا. المرة الوحيدة التي كنت قريبا منه كانت أثناء دراستي في كلية الآداب. كان ذلك عام 1967 على ما أظن. كان مناخ الكلية متوترا. كانت الكلية في اضراب. حدث توتر ملحوظ في الكلية, حينما وصلنا الى الممر الداخلي. أخبرنا بعض الطلاب, بأن مشادة سياسية عابرة حدثت قبل قليل. ذكر الرواة أن بعض البعثيين المسلحين كانوا هنا, جاؤوا من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية المقابلة لكليتنا, منهم شخص اسمه صدام التكريتي وآخر اسمه عبد الخالق السامرائي ( أعدمه صدام لاحقا), وأن القضية انتهت بسلام, لأن صداما أخذ رفاقه وخرج من الكلية غاضبا, متوعدا.
أما كيف خرج ولماذا, فهذا أمر سمعته فيما بعد من بعض الذين يدّعون أنهم شهدوا الحدث. قالوا: سحب عبد الخالق السامرائي مقعدا صغيرا, جاعلا منه منصة للخطابة. وضع صدام كتبه, التي كانت في يده, على حافة المقعد وصعد مناديا بصوت عال, طالبا من الطلاب التجمع لسماع ما يود قوله. بعض الطلبة المشاكسين تسللوا خفية وسرقوا كتبه. نظر صدام بين قدميه فلم يجد كتبه, فما كان منه إلا أن صاح بصوت غاضب: "يا بن قحبة باق كتبي؟", أي (أي ابن قحبة هذا الذي سرق كتبي؟), فعجّت عاصفة من الضحك بين القلة الذين دفعهم الفضول فجاؤوا للفرجة على أحد الأسماء المشهورة في الوسط الطلابي بالبلطجة. كانت تلك هي الحادثة الوحيدة التي اقتربت فيها من مكان مرّ به صدام. وظللنا نتذكر مروره الفكاهي, حتى اليوم الذي أطل فيه علينا, بعد عام من الحادث, كنائب لرئيس الدولة العراقية العظيمة, فمات فينا حس الدعابة الى الأبد!
لكن صداما مرّ على رقبتي مرارا.
ففي يوم كالح من عام 1988 أرسلت مديرة الاستخبارات العسكرية, رسالة مقتضبة الى أمي تزف اليها نبأ القبض عليّ, وتنفيذ حكم الإعدام بي. مما لا شك فيه, أنهم, كالعادة, أعدموا شخصا ما, سهوا, بدلا عني, فقد كنت خارج العراق حينذاك. حينما صعد صدام الى المشنقة كنت أفكر في أمر واحد: من كان ذلك الشخص الذي وضعوا الحبل في عنقه بدلا مني؟ وفي حقيقة الأمر لم يكن الإعدام آنذاك يجري شنقا. فلم يكن لديهم مزاج, كمزاج حكام اليوم, للتفنن في تصوير الموت. كان الموت يتم على عجل, بإطلاق الرصاص, وأحيانا يتم الإعدام بالمتفجرات, حينما يكون مزاجهم رائقا.
ماذا كانت مشاعر ذلك الإنسان البرئ وهو يواجه قدرا غاشما اسمه نظام صدام حسين؟ هذا السؤال أوجهه الى كل الذين يريدون أن يقيموا صلاة الشهادة على رجل استباح دم الناس.
ولكن, هل يحق لنا أن نعيد تاريخ القتل بقتول جديدة؟ وهل يحق لنا أن نتفنن في قتل الناس, مهما كانت جرائمهم؟
يوم أمس قرأت خبرا عن صحيفة أميركية يقول: بهذه النهاية وضع العراق نقطة في نهاية صفحة العنف الدموي. قرأت العبارة مرارا وتكرارا, وفي كل مرة لم أكن أرى نقطة في نهاية السطر. كنت أرى مشنقة وجثة تتدلى. أحقا أن صفحات التاريخ السعيدة تختتم بمثل هذه النقاط البشعة؟
لا أعلم. فمشاعري مختلطة, ولا أستطيع الحكم على شيء, لكنني سأكون أكثر مقدرة على الحكم, أعني أكثر خبرة, حينما يُلف حبل المشنقة حول رقبة موفق الربيعي, وحينما تصوره عدسات التصوير يسير مرفوع الرأس, ساخرا من الموت, كما فعل صدام. عندئذ سأكون واثقا من أن أحكامي, وسأكون عادلا في تقييم مشاهد الموت, وأيها أكثر مهانة واستهتارا بحرمة الإنسان. ولكن ذلك يتعلق بالسؤال الهام: متى سيعتلي موفق الربيعي أو غيره منصة الإعدام؟ والأهم: هل سيحذو الآخرون حذو صدام ويرفضون لبس قناع الشنق وتناول حبوب التهدئة ؟ لا أدري, لقد رأينا الكثير, وما علينا سوى أن نعيش لنرى فنون القتل المنسوبة الى الزمن السعيد القادم!
أذكر هذا, وأخص به موفق الربيعي, مستشار الأمن القومي, في بلاد خالية من الأمن والقومية والمستشارين, أخصه بذلك لأنه علق هازئا, شامتا, على طريقة صدام " المتخاذلة" في اعتلاء المشنقة!
وبمناسبة المشانق, أحب أن أذكر الشهيدين صدام وموفق بحادثة مسلية وطريفة تتعلق بالإعدام أيضا. كم هي مسلية طرائف الإعدام في العراق! في بداية حكم البعث, أراد البعثيون تحقيق خبطة العمر السياسية القومية فقاموا باعتقال شبكة, اسموها شبكة التجسس الإسرائيلية. وقاموا بتنفيذ حكم الإعدام على أعضاء الشبكة في ساحة " التحرير", وتم تحشيد الناس ليوم كامل للتمتع برؤية الجثث وهي تتدلى في الهواء. كان بين المحكومين شاب يافع. كان أصغرهم سنا, لكنه كان خلافا للجميع, أكثرهم استهزاء بالموت, حتى أن عبثه وسخرياته الصبيانية ضايقت أعضاء الشبكة جميعا. فلم يكن مسليا أبدا, أن يبدي المرء مثل هذا الاستخفاف بالموت, حتى لو جاء على يد بوش أو موفق أو صدام, أو حتى لو نفذ بهم! لكن الشاب المرح, المشاكس, ظل على تلك الحال لعدة أسابيع, حتى اللحظة الأخيرة, التي نودي فيها عليهم لملاقاة وجه ربهم. حقيقة, لم ير أحد منهم وجه ربه, لأن رؤوسهم كانت مستورة بأقنعة, حالهم كحال جلادي صدام اليوم. في تلك اللحظة العصيبة, التي سار فيها الجميع نحو ساحة التحرير, للنحر الوطني, مشى الجميع واحدا إثر الآخر, عدا الشاب المرح, الذي حالما سمع باسمه حتى خر مغشيا عليه. جاء في الروايات أنهم حاولوا إنعاشه, لكنه لم يفق من غيبوبته, فتم الاتصال بالقيادة, أي بصدام, فمكان منه إلا أن أخبرهم: احملوه مثل الجلب (الكلب) وعلقوا الحبل في رقبته!
لا أعرف لماذا تخطر على بالي مثل هذه الخواطر في لحظة قاسية كهذه؟ أهو الإدمان على الموت؟
لكنني لا أزال أذكر جيدا أن موقع جثة الشاب كان في وسط لوحة المشانق. لا أزال حتى هذه اللحظة أميز جثة ذلك الفتى. فقد كانت, الوحيدة, من بين الجثث, تبكي وهي ميتة, متسائلة بطفلية وإلحاح الصبية المشاكسين: لماذا يبدو المتفرجون, السائرون تحت قدميه, أكثر ضآلة منه حجما؟
حقا, لماذا يبدو المشنوقون أعلى قامة من شانقيهم؟
يوم أمس كتب أحد محبي صدام كلمة يثبت فيها للعرب أن المالكي أصر على الأميركان أن يتم تنفيفذ حكم الإعدام في يوم العيد, بينما كان رأي الأميركان أن يتم ذلك بعد أسبوعين. محب صدام هذا يلوم المسلمين الذين اعترضوا على التنفيذ في يوم العيد, ويراه إهانة للأمة, فكان الواجب الاعتراض على مبدأ الإعدام, وليس على يوم الإعدام. لكنه, رغم ذلك, كان مزهوا وهو يستعرض الكرم الأميركي بتأجيل الإعدام لأسبوعين, ناسيا أن القضية لا ترتبط بيوم الإعدام, وإنما بمبدأ الإعدام نفسه.
محب صدام, الذي طالما نعت ممثلي الحكومة العراقية بأنهم خدم أذلاء ومطايا للأجنبي, لم يستفسر, ولو للحظة واحدة, عن سبب تسليم الأميركيين شخصا على هذا القدر من الخطورة الى أعدائه " الطائفيين", بما أنهم لا يحبذون أعدامه؟ لماذا سلموه, ولماذا سلموه في تلك الساعة؟ أما كان بمقدورهم أن يبقوه عندهم الى ما بعد العيد؟ أم أن موفق الربيعي أرعب جورج بوش بنظراته الوطنية الفتاكة؟
أمر آخر له صلة بصراع الطوائف. خبر الإعدام أرفق بثلاث إشارات, ذات الدلالة الخاصة: ان الإعدام تم في منطقة الكاظمية, أي في أقدس مكان شيعي في بغداد, يبعد عن أقوى حي سكني سني بمئات الأمتار فحسب. وثانيا: ان من بين من حضروا توقيع استلام صدام لم يذكر سوى اسم عبد الكريم العنزي, أحد رموز حزب ثأر الله الشيعي, الحليف الخفي لمقتدى الصدر. وثالثا: أن رئيس الجمهورية السني لم يوقع على قرار الإعدام. مرّ الخبر لعدة ساعات ولم يتمكن أحد, ربما بسبب المفاجأة, من فك رموزة. وحينما مرّ الخبر, بإشاراته المفضوحة, لعدة ساعات أخرى, ولم يقم أحد بتلقفها والتعليق عليها بالإتجاه الذي أراده مصممو الحدث والخبر, ظهرت فجأة " الكاميرة العراقية الخفية".
وللكاميرة العراقية الخفية قصة خاصة, مسلية أيضا, كأخبار الإعدام. ففي بقاع العالم كله اعتادت هذه الكاميرة تسجيل الطرائف والتسالي, لكنها في العراق وحده تسجل أكثر لحظات الذبح دموية ووحشية وسرية وخفاء: انتهاكات سجن أبو غريب, التعذيب في سجن وزارة الداخلية في الجادرية, لحظة إعدام صدام!
أليس غريبا أن توجد "كاميرات" أمينة, تسجل كل هذه البشاعات المرعبة, صوتا وصورة, ولكنها لا تظهر إلا في هيئة كاميرات خفية, حينما تعجز عدسات التصوير العلنية والرسائل المصاحبة لها من تأدية مهامها السياسية؟!
هذا ما سها عنه محبو صدام, وما لم يتنبهوا اليه وهم يناضلون من أجل إعادة التاريخ الى الوراء.
ولكن, في الوقت نفسه, كشف الإعدام للآخرين, الذين يريدون أن يدفعوا التاريخ الى الأمام بفن القتل وبأقنعة المنتقمين وبمساعدة المحتلين, كشف الإعدام لهم أنهم بفضل حماقاتهم, وبفضل أنانيتهم وشهوتهم الى الدم, جعلوا صداما يخرج من حفرته القذرة, ويصعد الى منصة الأعدام, ليسقط صريعا, ولكن...
كم حيرتني كلمة يصعد وينزل باللغة السويدية! فالسويديون يقولون تسلق الى الأعلى وتسلق الى الأسفل. أما كلمة سقط العربية, فإنها تعني بعربية القتلة, بعربية المتبارين في فن القتل, أن سقوطا لطاغية ما, قد يغدو, لبشاعتهم, سقوطا, ولكن باتجاه السماء!
هذا درس للجميع, للسابقين واللاحقين, لعشاق الدم كافة!
ولكنه درس بشع, ككل المشاركين فيه.
#سلام_عبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟