خيري فرجاني
الحوار المتمدن-العدد: 8174 - 2024 / 11 / 27 - 02:34
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
الحداثة أو العصرنة تعنى ببساطة تحديث وتجديد ما هو قديم، وهو مصطلح يبرز بالأساس في المجال الثقافي والفكري التاريخي؛ ليدل على مرحلة التطور التي طبعت أوروبا بشكل خاص في مرحلة العصور الحديثة. هذا، ويمكن تقسيم التاريخ إلى خمسة أجزاء رئيسية، وهي: ما قبل التاريخ، والتاريخ القديم، والعصور الوسطى، والعصر الحديث، وأخيرا عصر ما بعد الحديث أو مايعرف بالحداثة.
والحداثة كما عرفها كانط هي خروج الإنسان من حالة الوصاية التي تسبب فيها بنفسه، والتي تتمثل في عجزه عن استخدام فكره دون توجيه من غيره، وكان شعارها هو أقدم على استعمال استخدام فكرك.
ويعرف كل من "جوش ماكدويل" و "بوب هوستيتلير"، ما بعد الحداثة بأنها النظرة إلى العالم التي تتميز بالاعتقاد بأن الحقيقة لا وجود لها في أي معنى. بل، هي تُخلقُ ولم يتم اكتشافها. فالحقيقة التي أوجدتها ثقافةٌ معينةٌ لا توجد إلا في تلك الثقافة. ولذلك، فإن أي نظام يحاول الاتصال بالحقيقة هو لعبة سلطة، ومحاولةٌ للهيمنة على الثقافات الأخرى.
وقد تغزت الحياة الحديثة من مصادر متعددة لعل أهمها: الاكتشافات العلمية المذهلة، وكذلك المعلومات الخاصة بموقعنا في الفضاء وتصورنا عنه، وأيضا ميكنة الصناعة التي حولت المعرفة بالعلوم إلى تكنولوجيا، وغيرها من الأمور التى يصعب حصرها. كل هذا ساهم بشكل كبير في خلق بيئات جديدة للبشر، ويعجل من حركة الحياة وتطورها، ويبلور أفكارا واتجاهات اجتماعية وسياسية ودينية، ويكًون قوى وسلطات جديدة، ويعقّد العلاقات بين الناس وبعضهم وبين الناس والمؤسسات المختلفة، ويزيد أو يغير اتجاهات الصراعات الطبقية، ويفصل الملايين من البشر عن تاريخهم وعاداتهم الموروثة منذ الأزل.
(مارشال، بيرمان: "كل ما هو صلد يذوب في الهواء: اختبار الحداثة")
تاريخ نشأة الحداثة:
بدأت الحداثة في أوروبا في أواخر القرن الخامس عشر، أوبداية القرن السادس عشر. إذ أن، بعض المفكرين يؤرخون بداية الحداثة عام 1436م، مع اختراع الطباعة المتحركة. فيما يرى البعض الآخر أنها تبدأ في العام 1520م، مع "مارتن لوثر"، والثورة اللوثرية ضد سلطة الكنيسة. ومجموعة أخرى تتقدم بها إلى العام 1648م، مع نهاية حرب الثلاثين عام، ومجموعة خامسة تربط بينها وبين الثورة الفرنسية عام 1789م، أو الثورة الأمريكية عام 1776م، وقلة من المفكرين يظنون أنها لم تبدأ حتى عام 1895م مع كتاب فرويد الشهير "تفسير الأحلام". وقد بدأت حركة الحداثة في الفنون والآداب.
وتشمل الحداثة مجموعة هامة من التغييرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى اعتبار تلك التغييرات على أنها حديثة وعصرية. والجدل حول الحداثة يتناول هذه التغييرات التي يبدو أنها ظهرت في أوروبا، وبالرغم من أن الحداثة ترتبط عادة بالتقدم التكنولوجى، إلا أن التغييرات الفكرية كانت الأكثر تأثيرا، وتشمل التغييرات الفكرية السياسة والاقتصاد والدين وعلم الاجتماع.
الحداثة وظهور علم الاجتماع:
بالرغم من أن ابن خلدون هو من وضع أسس علم الاجتماع، إلا أن الحديث عنه لم يأخذ منحنى مؤثراً في المجتمعات، حتى ظهر المفكرون الحداثيون. حيث أن فكرة ديكارت عن "كوسموبولس"، مثالية ألهبت خيال المفكرين في القرون الثلاثة التالية وأنجبت العديد من رواد العدالة الاجتماعية والمدن المثالية نسجاً على منوال "المدينة الفاضلة" لتوماس مور". (ستيفن تولمن: "كوسموبولس: الأجندة المخفية للحداثة")
كانت الأفكار تميل إلى البحث عن العدالة الاجتماعية ورفض الإقطاع والطبقية، التي كانت سائدة في أوروبا في ذلك الوقت، وتدعو إلى مجتمع فاضل يحصل فيه الجميع على حقوق متساوية. وقد أدت هذه المدارس الفكرية إلى ظهور العديد من المدارس السياسية والاقتصادية القائمة عليها، مثل: الشيوعية، والاشتراكية، والماركسية وغيرها، وأدت تلك بدورها إلى تغيير النظم الحاكمة في أوروبا، وحدوث الثورات الاجتماعية والسياسية، مثل: الثورة الفرنسية والثورة البلشفية. ومن المفكرين الحداثيين الذين أثروا في علم الاجتماع "فرديناند تونيز، وإميل دوركهيم، وماكس فيبر".
الحداثة وعلم الاقتصاد:
بالرغم من المثالية في علم الاجتماع وبالرغم من غلبة العدالة الاجتماعية، إلا أن خطين رئيسيين ظهرا في الاقتصاد الحداثي، الرأسمالية، والتجارة الحرة بقيادة "آدم سميث"، والماركسية والشيوعية التي دعا إليها "كارل ماركس". وكانا هذين الرائدين أول من نظرا للاقتصاد السياسي.
(tephen 1992 Cosmopolis: The Hidden Agenda of Modernity, University of Chicago Press : Chicago)
الحداثة وعلم السياسة:
معظم الفلاسفة السياسيين يعتبرون: "ميكافيللي، وهوبز، وبودين"، والبعض قد يضيف "مارتن لوثر" أيضا، كمفكرين نظروا للتغيرات في الواقع السياسي، ومهدوا الطريق للدراسات السياسية. وقد استوعب هؤلاء حقيقة القوى الفاعلة في إيطاليا، ألمانيا، بريطانيا، وفرنسا وفسروا السياسة بجدلية فرقت بينها وبين القوى السياسية في العصور الوسطى والعصور القديمة. بصورة عامة، ورؤوا أن السياسة هي ميدان القوة والأنانية والسيطرة. ولكنهم أيضا اعترفوا بدور السلطة في الحفاظ على النظام والأمن.
فقد أثر" نيكولو ميكافيلي"، من خلال كتابه الشهير "الأمير"، وفكره الواقعي تأثيرا بالغا على الفكر السياسي في الغرب، إلى الحد الذي يمكن فيه أن يقال أنه أساس الفكر السياسي الحديث. وفيما بعد قام "توماس هوبز"، بتطوير وتوسيع أفكار ميكافيللي في فلسفته السياسية التي نبع منها الفكر الليبرالي الغربي الحالي.
الحداثة وتأسيس قوانين الفيزياء الحركية:
لم يكن السخط على رجال الدين والتبرم من سيطرة روما على الدول هو التغيير الوحيد، وإن كان هو التغيير الأهم في تاريخ أوروبا. ففي نهاية العصور الوسطى وبداية عصر التنوير كانت التفسيرات حول العالم وما فيه تدور في حيز الدين، أي أن الله هو الخالق وهو الذي سوف ينهي الكون، وأن للتاريخ نهاية واضحة...الخ.
ولكن في بداية القرن السابع عشر الميلادي أسس "إسحق نيوتن"، قوانين الفيزياء الحركية أو (الميكانيا)، وقد أوحت هذه القوانين للناس أن العالم يمكن فهمه دون العودة إلى الدين. وكان نيوتن يؤمن بأن الله خالق الكون، وأنه هو الذي خلق هذه القوانين. إلا أن فهمها أو دراستها يمكن أن تتطور دون العودة إلى الإنجيل.
الحداثة والفصل بين الدين والعلم:
فيما بعد، قام آخرون بدراسة مجالات أخرى من الحياة بمنأى عن الدين في المجالات المختلفة، مثل: الاقتصاد، السياسة، الأخلاق.. إلخ. كل هذه أعطت إمكانية إخراج الدين من دائرة الحوار وجعل الحوار - في رأيهم - عقلانياً، منطقياً، ويمكن التكهن به. وأن الإنسان يمكنه أن يستوعب كيفية عمل الأشياء، ويمكنه أن يغيرها. هذه الطريقة في التفكير أدت -في النهاية- إلى تحول مجموعة من المفكرين الراديكاليين إلى الربوبية التي ترفض الأديان المنظمة وتدعو إلى التمسك بالعلم والمنطق.
وكانت العلمانية والإلحاد هما الخطوات التالية المتوقعة لهذه الأفكار. ومع تطور العلم وما حدث من تعارض العلم مع الدين، ما أدى إلى ظهور طبقة من العلماء رفضوا كافة الأديان، واعتنقوا الإلحاد، وبدؤوا الدعوة إلى أنظمة حكم علمانية لا تسمح للدين بالتدخل في أمور الحياة العامة.
الحداثة ونظرية التطور:
لقد أدى ظهور نظرية التطور عند "تشارلز دارون"، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عزز هذه الظاهرة، وشجع الكثير على الإلحاد معتمدين في ذلك على نظرية التطور، التي تتعارض مع الفكر الديني الذي يؤكد أن الناس جميعا من نسل آدم، ويبقى أن في الحداثة بعد "سوسيونفسي"، يتمثل في الرغبة في الجديد، وتكسير القديم.
الحداثة ونظرية العقد الإجتماعي:
وفي عصر التنوير ظهرت نظريات سياسية جديدة من أهمها فكرة "العقد الاجتماعي" المبنية على فكر "جان جاك روسو"، والتي نظر لها أيضا "مونتسكيو" و "جون لوك"، والتي تفرق بين الدولة والحكومة وتقول بأن على الشعب أن يتنازل عن بعض الحقوق للحكومة في مقابل الحفاظ على الأمان والنظام، إلا أن هذا التنازل يجب أن يكون بموافقة الشعب، فيما أسماه روسو "العقد الاجتماعي". وهذه النظرية ألهمت الثورة الفرنسية.
الحداثة والحركات السياسية:
مع انتشار الثورة الصناعية تزايد التطور العمراني وظهرت الرأسمالية بقوة، مما غير المجتمع بشكل ملحوظ. وخلال هذه الفترة بدأ "الفكر الاشتراكي"، بالتكون وحازت الماركسية على دعم الشعوب، خصوصا من قبل الطبقة العاملة. ومن قياديي هذا الفكر "كارل ماركس" و "فريدرك إنكلز"، وفي نفس الوقت بدأت حركات سياسية أخرى بالتكون، منها "اللاسلطوية "و "النقابية "والحركات التي تدعو إلى تعدد الأحزاب وسيطرة الطبقة العاملة على السياسة والاقتصاد. (جين بورتر: "الحداثة: طبيعتها وأسباب نموها")
الحداثة والأدب والفن وقيم الجمال:
أعطت فترة الحداثة نوع من التجديد للادب والفنون وقيم الجمال المختلفة، حيث بدأت تتغير قيم الجمال في العصر الحديث، فقد انتصرت جماليات الآلة على أساس أنها امتداد لليد الإنسانية, وبدا العالم الغربي يقدر القيمة الجمالية لمنتجات الآلة، وظهرت مصطلحات ومبادئ جديدة في عالم القيم الجمالية, مثل: الدقة، البساطة، الاقتصاد، وأزيحت قيم أخرى كانت سائدة قبل ذلك، مثل :الندرة، الغلو.
فقد قدم عصر التكنولوجيا والإنتاج الاقتصادي مبادئ وقيم الآلة، التي أصبحت توجه الذوق، وفي ضوء الاعتقاد في القيم الجديدة، ظهرت أخلاقيات وجماليات جديدة انسجمت مع عصر الآلة، تلك الآلة التي وفرت كثيرا من العناء الذي ارتبط بالحياة، في اعتمادها على الجهد الإنسانى.
المصادر
1- مارشال بيرمان 1981: "كل ما هو صلد يذوب في الهواء: اختبار الحداثة". Berman, Marshall 1981 All That is Solid melts into Air: The Experience of Modernity.
2- ستيفن تولمن 1992: "كوسموبولس: الأجندة المخفية للحداثة"، مطبعة جامعة شيكاغو: شيكاغو. Toulmin, Stephen 1992 Cosmopolis: The Hidden Agenda of Modernity, University of Chicago Press : Chicago.
3- جين بورتر، 2002، "الحداثة: طبيعتها وأسباب نموها". Porter, Jene M., (2002), Modernity: Its Nature and The Causes Of Its Growth. دونالد جينيل، 1969 "إعادة التنظيم الفضائي: موديل وفكرة". Janelle, Donald 1969: ‘Spatial reorganization: a model and concept Annals Assoc. Amer. Geog.
4- أنتوني جيدنز، 1990، "تبعات الحداثة". Giddens, Anthony 1990: The Consequences of Modernity
5- عد الحاج بن جخدل، 2011، "البعد السوسيونفسي للحداثة" مجلة اديبات لبنان، مطبعة الفلق، بيروت.
6- دايفد هارفي، 1989، "حالة ما بعد الحداثة". Harvey, David 1989: The Condition of Postmodernity (1989)
1. - tephen 1992 Cosmopolis: The Hidden Agenda of Modernity, University of Chicago Press : Chicago.
#خيري_فرجاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟