حفريات السعادة في رؤى الفلاسفة

سعاد سعيد نوح

الحوار المتمدن-العدد: 8169 - 2024 / 11 / 22 - 22:43
المحور: الادب والفن
    

التاريخ السري للسعادة
ما الذي يطلبه الناس من الحياة, ويريدون تحقيقه فيها؟ إن هذا السؤال على قدر بديهيته وبساطته إلا أنه تطلب رحلة بحث شاقة واستقصاء عميق من قبل الفيلسوف والباحث نيكولاس وايت في كتابه الذي صدر عن عالم المعرفة بالكويت بعنوان" السعادة موجز تاريخي" وقام بترجمته الأكاديمي المصري سعيد توفيق.
والإجابة عن هذا السؤال رغم بساطتها إلا أنها تبدو معقدة وتحتاج إلى عميق الرؤى، فالناس يكافحون من أجل سعادتهم, إنهم يريدون أن يكونوا سعداء وأن يبقوا على هذا النحو.
منذ البدء يؤكد وايت على أن تاريخ السعادة ليس بالتاريخ العادي, ففكرة السعادة توجهنا إلى تقييم شامل لمجمل مواقفنا في الحياة، وأن نضع في حسباننا كل الاعتبارات المتعلقة بما يكون مرغوبا فيه و جديراً بالاهتمام!.
حاول وايت أن يستقصي العقبات الكثيرة التي أزاحها العقل البشري وهو يسعى لحلم تحقيق تلك السعادة كل حسبما يراها ويعتقد في وجودها وكيفية تحقيقها. إنها محاولة جادة ودءوبة لاستقصاء حفريات السعادة في رؤى الفلاسفة في محاولة للوصول إلى مفهوم شامل لها.
ويرى وايت أن أي فيلسوف ينجح في إيضاح طبيعة السعادة يتوجب عليه إن يضع مجددا توصيفه في مواجهة ذلك التاريخ السري الطويل الذي قطعته البشرية للبحث عن السعادة.
يتتبع الكتاب معنى السعادة في كتابات الفلاسفة القدماء والمحدثين، حيث يبرز مدى التضارب في المواقف والآراء حول الأهداف والرغبات التي تتعلق بالسعادة: هل السعادة هي اللذة؟ أم حالة من الانسجام بين الأهداف والرغبات؟ هل هي تكمن في فضيلة التأمل العقلي التي هي أكمل فضائل النفس الإنسانية؟ أم أنها تكمن في حالة السكينة الروحية؟ أم هي شىء غير ذلك كله؟
إن المؤلف يتتبع هذه النظريات وغيرها بإيجاز بدءًا من أفلاطون وأرسطو والأبيقوريين والرواقيين، حتى الفلاسفة النفعيين في العصر الحديث، بل إنه يعرج على نيتشه الذي يقف على مشارف الفكر المعاصر، وهو يشير بشكل عابر إلى من جاء بعده من المعاصرين.
و يقسم وايت الكتاب إلى سبعة فصول تبدأ من "عرض المفهوم" وتنتهي بـ"التصرف من دون مفهوم". وبينهما تاريخ يقدر بعشرات القرون من بحث العقل الإنساني عن السعادة، ليس للوصول إليها فقط، ولكن لتعريفها. فربما لو وصلنا إلى التعريف يمكننا أن نصل إليها، وربما لو تمكنا من الوصول إليها فلن يشغلنا وقئتذ أبدا أن نصل إلى تعريف لها!
لكن الكاتب لا يقدم تاريخا شاملا لفكرة السعادة البشرية كما تظهر في ميادين وأشكال وتجليات كثيرة، في الفن أو في الواقع والتاريخ، لكنه يقدم موجزا تاريخيا لها كما ظهرت من خلال مدارس العقل الكبرى في الفكر الأوربي، وخلال عصرين زاهيين من عصور الفلسفة هما العصر اليوناني والعصر الحديث بدء من القرن السابع والثامن عشر.
ويلخص الكتاب اتجاهات الفكر خلال التاريخ الفلسفي في التعامل مع فكرة السعادة في ثلاثة اتجاهات كبرى:
ـ الأول هو اتجاه "جورجياس" – فيلسوف سوفسطائي - والذي خرج منه فيما بعد، بشكل أكثر نضجا وتعقيدا بالطبع، "مذهب اللذة الكمية" في القرن الثامن عشر والذي يعني بتبسيط مفهوم السعادة في كونه تحقيق الرغبات، كل الرغبات بغض النظر عن ماهيتها أو تضاربها، ويضم هذا الاتجاه العام أراء أخرى كثيرة متباعدة مثل أراء الفيلسوف الألماني "نيتشه" وغيره.
ـ والثاني الاتجاه الأفلاطوني الذي طرح السعادة بوصفها بنية من الرغبات المتداخلة والمتضاربة، وتتحق السعادة عندما يضم تحقيق كل هذا الأهداف داخل بنية واحدة في تناسق وانسجام، ويمكن تحقيق ذلك من خلال التأمل.
ـ أما الثالث فيجسده موقف "أرسطو" الذي يرى أنه على الإنسان أن يعظم من رغبة واحدة من رغباته الكثيرة باعتبارها الرغبة الأسمى الكبرى الواحدة من بين رغباته الكثيرة التي يتوقف على إشباعها.
يطرح الكاتب مفهوما مغايرا لفكرة اللذة التي تحقق السعادة، يطرح مفهوم :"مفارقة مذهب اللذة" حيث يرى أنه لكي نحقق السعادة يجب ألا نستهلك الكثير من الوقت في التفكير فيها ،فمن الأسهل أحيانا بلوغ السعادة حينما لا يسعى المرء إليها بطريقة مباشرة، مثل من يحاول النوم، يجب أن يذهب بذهنه بعيدا عن محاولته للنوم، ساعتها سيأتي النوم فعلا، ويضرب الكاتب مثلا لتقريب هذا المفهوم للقارئ فيرى أن "الناس الذين يحتاجون إلى الراحة، أو الذين يحتاجون إلى النوم، فإنهم يعرفون أنه من الأفضل عدم إمعان النظر في هذا الأمر، إذا ما أرادوا النجاح في مهمتهم".
وهذه الخاصية المدهشة من الأمور البدهية في حياة الإنسان، فهو لو فكر في الطريقة التي يؤدي بها الأشياء سوف لن يؤديها أصلا، فحتما "ترجع إلى حقيقة تتعلق بطبيعة الموجودات البشرية : فهي لا يمكن أن تستمتع على الفور حينما تفكر في الكيفية التي يمكن بها أن تستمتع"!. لكنها أيضا تعود إلى سبب مباشر أكثر بساطة من هذا التعقيد البشري، وهو أن من يتطلع إلى الحصول على السعادة أو على قدر كبير من متعة ما داخل حيز سعادته الشاملة سوف يكون بالتأكيد واعيا بالكلفة التي تترتب على ذلك أثناء تفكيره فيه.
يقدم المؤلف تعريفا محددا لإشكالية السعادة في الفكر الفلسفي. هذه الإشكالية التي تظهر من جراء وجود العديد من الأهداف لدى كل إنسان، وكلها أهداف يتوقف على تحقيقها، تحقيق السعادة. ولا يمكن تطوير مفهوم ما عن السعادة إلا من خلال الوعي بهذه الأهداف. ولا يتحقق مفهومنا عن السعادة إلا من خلال الإقرار بواقع تضارب هذه الأهداف وتداخلها المعقد.وكما هو الحال عادة في الفلسفة، فالخطوة الأولى في الإشكالية وطرح المفهوم تبدأ من عند "أفلاطون" في محاورتيه "جورجياس" و"الجمهورية".
وعندما يناقش أفلاطون فكرة جورجياس عن السعادة التي تعني أن يحقق الإنسان كل ما يريد، فإنه يجلو له كل جوانب التعقيد الماثلة في هذه القضية،فمثلا، إذا سلمنا بأن السعادة هي "تحقيق أكبر إشباع ممكن لأي رغبة كانت، فما هو التقدير الذي يجب أن نضعه في اعتبارنا لتحقيق الرغبات التي نراها مخزية أو تافهة أو مخزية وتافهة؟ يقول له أفلاطون طارحا الأعماق المعقدة للقضية".
ينتهي "نيكولاس وايت"خلال بحثه الموجز هذا في التاريخ الفلسفي لمعنى السعادة، إلى أنه لا وجود لمعنى عام يمكن أن نسترشد به في كل موقف، وأننا يمكن أن نحيا السعادة ونتصرف بما يكفل لنا تحقيقها من دون أن نكون موجهين بمفهوم عام للسعادة ينطبق على كل حالة أو موقف، فحتما"تاريخ مفهوم السعادة كان بمنزلة بحث عن شيء ما لا يمكن الحصول عليه". وربما كان يقصد أنه شيء لا يمكن الحصول عليه بالعقل أو بالمنهج فقط، وفي هذه الحالة علينا أن نواصل بحثنا بطرق أخرى أقرب للحصول على الإجابة. وقد يكون قصد ببساطة أننا بصدد أمر لا يمكن الحصول عليه نهائيا لا بطريق العقل والمنهج ولا بأي طريقة أخرى.وفي النهاية يخبرنا الكاتب أنه "يمكننا تأكيد أننا قد توصلنا إلى معنى مهم، وهو أن تاريخ مفهوم السعادة كان بمنزلة بحث عن شيء ما لا يمكن الحصول عليه".

#سعاد_سعيد_نوح (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات