أبوبكر المساوي
...
(Aboubakr El Moussaoui)
الحوار المتمدن-العدد: 8169 - 2024 / 11 / 22 - 02:51
المحور:
قضايا ثقافية
تائه بين أمواج متلاطمة مصرة على عدم الحسم في مصيري، تتلذذ برؤية وضعي معلقا بين الحياة والموت، تصيبني بالغثيان المستدام وتحرمني من الغرق والذوبان في بركة الوحل التي نحت المجتمع أركانها وحدد زواياها وحدودها وملأها قيحا وصديدا فكريا يمتد عفنه في عمق التاريخ، لكنها تمدني بجرعات هواء نقي من حين لآخر من خارج البركة وببصيص أمل أو بومضة نور من بعيد، لا تكاد تظهر حتى تخفت وتتلاشى بين درجات من الرمادي الداكن والأسود الحالك...
ملقى بين أحضان الكتابة والقراءة والموسيقى سماعا وعزفا، أراوغها كي لا أصاب بصدام الحواس وتداخل بعضها في بعض، أسيرٌ، حائرٌ بين صراع الذات الفردية التي تسعى للتحرر وبين قهر القوالب ومعايير المجتمع التي نحتت على مر المئات من السنين، الممانعة، التي تأبى أن تلين في وجه كل راغب في التحرر من أغلال وسلطة السلف والماضي...
بين موسيقى شوبان صاحب الألحان الرقيقة، براهامس وآخرين، و فاغنر، صديق نيتشه، سيد الألحان الجريئة المتطرفة الممتدة من أقصى أنواع الرقة والهدوء، إلى أشد ضروب الصخب والسرعة والتداخل في الأحاسيس، وكأن مطرقة نيتشه النقدية قد تسللت إلى ألحانه فتلبستها، وجعلتها تدك الأرض بقوة وعنف شديدين لتشي بميلاد ما بشر به زرادشت نيتشه، الإنسان الأعلى وإرادة القوة، بدلا من الاكتفاء بإرادة الحياة أو بمجرد البقاء على قيد الحياة دون الاكتراث بالكيف...
أصوات رقيقة ناعمة وأخرى مزعجة للغاية، إيقاعات بطيئة وأخرى سريعة إلى حد إصابة المستمع بالدوار والغثيان...
صخب موسيقى الروك من حين لآخر يروي شيئا ما في دواخلي، أم أنه يوقد شعلة حنين إلى زمن مضى قبل ولادتي تمنيت لو عشته، وأحيانا أخرى تؤثث الزمن نغمات البلوز الحزينة، حيث تنزل على مسامعي بكل ثقلها وتملأ جوفي بكل أنواع الغم والحزن، وتسحب مني كل ما يمت للأمل في غد أفضل بصلة، أو ربما العكس، فيض من أمل في كل لحظة من لحظات الحياة، وتعطش للنهل من كل ما لذ وطاب، وسعي لكل ما قد يوصل للفضيلة بمعناها المطلق، أو قد يكون تمردا على طغيان القهر والاستبداد وعلى كل أنواع السلطة، ومحاولة التحايل على العقل الباطن لإقناعه بقدرته على السيطرة على القيود التي تملأ جوف الإنسان، والتي قد تؤثر عل القيود المادية الواقعية لتؤول بها إلى الاندثار والتلاشي.
أما الغوص في اليم الواسع العميق لقراءة الأدب والفكر الذي يتشابه إلى حد كبير مع الموسيقى استماعا وتأليفا، فقد يشعر القارئ بركام من الأحاسيس المتضادة والمتكاملة في الآن ذاته، والتي قد تمتد من أقسى أنواع الألم واليأس إلى أقصى حدود السعادة والفرح، من تشاؤم شوبنهاور وسوداوية سيوران، إلى تفاؤل الرواقيين الجدد أصحاب التنمية الذاتية، أولئك المسطحين الدراويش، الباحثين عن فرص الانتقال من السيء إلى الحسن ومن الحسن إلى الأحسن استنادا على التفاؤل وتبني ما يسمى بالطاقة الإيجابية، إضافة إلى وصفات جاهزة لتجاوز العقبات والعراقيل بتحويرها لصالح الإنسان واعتبارها فرصا للتعلم والتطور وتنمية الذات، وباقة الآمال التي قد تصطبغ في أحيان كثيرة بصبغة الأحلام الوردية البعيدة عن كل ما هو واقعي والخالية من كل إمكانية للتحقق والحدوث، والذين يسبحون ضد تيار الطبيعة البشرية، المندفع دائما، ببحثهم عما يسمى بالسلام الداخلي والتوازن النفسي، والتحكم في الأحاسيس وفي ردود الأفعال حيث تنعدم القدرة على التحكم وحيث لا سلام ولا توازن البتة، عبر باقة من التعاليم والممارسات الحياتية التي تحاول صقل الإنسان صقلا، وكأنها نوع من الحدادة أو النحت على مقاس ما، أو أنها عقيدة من العقائد الواضحة الأركان التي تسعى لتثبيت مبادئها وغرسها في أكبر عدد من الناس على وجه الأرض، أو ضربا من ضروب التصوف السطحي البعيد عن كل ما هو فكري أصيل، والقائم على بعض الطقوس والممارسات الجماعية من غناء ورقص وهلوسة وربما أشياء أخرى...
مرورا بدوستويفسكي وواقعية الأدباء الروس، وجرأة وعقلانية مفكري عصر الأنوار ممزوجة بعبثية بعض الفلاسفة والأدباء الذين عاشوا ويلات الحربين بين بداية وأواسط القرن العشرين، وحتى لا أطيل في سرد التيارات الفكرية والأدبية التي قد تمتد في عمق التاريخ إلى ما قبل ثلاثة آلاف سنة، سأختم بذكر أصحاب الفضل المجتهدين العظماء من المترجمين العرب الذين تحملوا عناء نقل الإنتاج الفكري والأدبي من اللغات الأخرى إلى القراء الذين لا يعرفون غير اللغة العربية -رغم قلتهم وعلاتهم- لكن الإنتاج الفكري الخاص بالمفكرين العرب بقي محتشما لعقود طويلة وخاليا من الجرأة التي يجب أن يتحلى بها المفكر الأصيل، وحبيس الجغرافيا والإقليم، وحبيس القضايا المتعلقة بالسؤال الواحد الأحد الذي يتمحور حول أسباب تخلف العرب وكل من أصيب بمس الثقافة العربية أو تعرض لعوامل التعرية والتصحر التي يتميز به فكرها، في مقابل العوامل التي ساعدت على تقدم الآخرين، ممزوج ببعض الأسئلة المحشوة حشوا، والتي يمكن اعتبارها توابل، منتهية الصلاحية، يتوهم مستعملها أنها تساعد على إعطاء السؤال المركزي طعما خاصا، رغم انعدام الطعم والمذاق في أغلب الأسئلة المطروحة في القيء اللغوي العربي، مثل سؤال الهوية والخصوصية المحلية للقضايا الفكرية المطروحة... سؤال يمر بين ممرات السطور في صفحات الكتب والمقالات بخرق مهلهلة وأسمال بالية يتناثر منها غبار الزمن، يوحي بنوع من الترهل والتآكل على مستوى العقل الممسوس بجن الثقافة العربية، هي أسئلة في مجملها ارتجاع فكري ناتج عن الإفراط في استهلاك الفكر الغربي الذي ولد في ظل المعاناة والألم والمطاردات ومحاكم التفتيش وداخل جدران السجون، هذا الفكر الأصيل الذي يشعر أشباه المفكرين العرب والمعربين بالخزي والعار لكونهم لا يملكون الجرأة لطرح الأسئلة المناسبة في التوقيت المناسب، وتبني القضايا التي قد تغير الأوضاع المخزية التي تسبح فيها مجتمعاتهم، والوقوف في وجه القوالب والمعايير الفكرية السائدة، وفي وجه السلطتين السياسية والدينية المستفيدة من الوضع القائم والعاشقة للصيد في المياه المتقيحة...
#أبوبكر_المساوي (هاشتاغ)
Aboubakr_El_Moussaoui#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟