صلاح زنكنه
الحوار المتمدن-العدد: 8167 - 2024 / 11 / 20 - 22:49
المحور:
الادب والفن
القاص صلاح زنكنه للزمان 26 / 8 / 1998
لا أحفل بالتراث ولست مغرما بالسلف
حاوره / عدنان حسين أحمد
انقطع القاص صلاح زنكنه منذ أوائل الثمانينات الى كتابة القصة القصيرة التي تتخذ من المذهب السوريالي بؤرة واخزة تنطلق من خلالها أفكاره ورؤاه الى مدارات الادهاش والتغريب ليمسخ شخوصه وأبطاله القصصيين, غير أنه يدعي دائما بأنهم ممسوخون أصلا جراء ثقل الواقع الطاحن، وكل الذي يفعله هو أن يقدمهم الى الواجهة ليلاقوا مصيرهم الوجودي المحتوم، ومن خلال دراستنا المعمقة لتجربته القصصية في مجموعته الأولى (كائنات صغيرة) ومجموعته الثانية قيد الطبع (صوب سماء الأحلام) اكتشفنا أن تجريبه يطال المضمون كثيرا, لكنه لم يلامس الجانب اللغوي الذي يعد الركيزة الأساسية للشكل بوصفه وعاء لتشظيات المضمون, ومع ذلك فأن لغته التي لم تجرح أفق الحساسية السائدة والمكرورة خلفت خدوشا بسيطة فيها من التموج والايحاء والدلالة أكثر مما فيها من المستهلك والجاهز والمستنفد، غير أننا - أبناء جيله - كنا نطمح جميعا لأن يرتقي هذا القاص المثابر والمنشغل بهاجس الحداثة والاتيان بالجديد الى مستوى مضامينه المتألقة التي خلفت بصماتها الواضحة على جدار المشهد الثمانيني في العراق.
ولتسليط الضوء على تجربته القصصية التي تمتد بداياتها إلى أواسط السبعينات، وما رافقها من ارهاصات وتداخلات نقدية متشابكة ومن أجل توضيح التباس القصد التقته الف ياء وكان هذا الحوار الذي ينطوي على قدر من الاستفزاز والمشاكسة الإبداعية المستحبة.
س - تدور مجمل نصوصك القصصية في الفلك الفنتازي, متى يتحرر القاص صلاح زنكنه من هيمنة هذا الحس الغرائبي ليخوض تجربة الكتابة في عوالم جديدة قد تكون ملئ بالغرابة والدهشة والغموض المستحب؟
ج - يرد في قاموس المورد إن من معاني الفانتازيا الخيال والوهم والنزوة والهوى، وفي معجم مصطلحات الأدب، هي المخيلة وكل عمل أدبي يتحرر من قيود المنطق والشكل، ويعرفها (ت. بي. أبتر) في كتابه المهم (أدب الفانتازيا - مدخل الى الواقع) بأنها الأدب الذي يحمل صفة العمليات اللاواعية واللازمنية والتهشيم والتعارض والتهويل, إن كل هذه التعريفات تنطبق بشكل أو بأخر على مجمل نصوصي التي اتخذت طابعا خاصا ميزني عن سواي، فكيف تريدني أن أتحرر مما يميزني ويؤكد خصوصيتي لأخوض في عوالم جديدة، أية عوالم جديدة ؟ عوالمنا خربت وأحلامنا اجهضت، ورغباتنا ماتت، وحيواتنا بلدت، وكل أشيائنا الجميلة الطازجة فقدت طراوتها وحلاوتها، ولم يتبق سوى العوالم المفترضة، نشيدها في المخيلة، نلهو فيه مكتئبين، لأنها عوالم من ورق وكلمات.
اؤكد لك يا صديقي أنا كاتب فنطازي، وسأبقى فنطازيا ما دام العالم الذي أراه وأعايشه هو عالم فنطازي.
س - كتب القاص صلاح زنكنه ما يقارب الخمسين نصا قصصيا، غير أن هذه النصوص تميزت بنفسها (البرقي) القصير الذي لا يتجاوز الصفحة الواحدة في أغلب الأحيان - باستثناء قصة الواقعة - كيف تفسر هذا التركيز والاقتصاد الملحوظ في تجربتك القصصية التي حرضت القاص عبد الستار ناصر لأن يصرح غير مرة بأن صلاح زنكنه غير قادر على كتابة نص قصصي طويل.
ج - أشعر دائما أن العمر قصير جدا, وأن الحياة فرصة لن تتكرر، لذا أحاول دائما أن أكتب بتركيز متقن. فـ (الكتابة عندي فعل كينونة) لأنني أعيش في عصر الفضاء والانترنت, والناس صاروا يتفاهمون بالإشارة, فلم الثرثرة والإسهاب والإطناب ووجع الرأس؟ لا أريد ان أكون نسخة مكررة من الآخرين، وأجاهد أن أصوغ نصي الخاص في زمن لا يشبه أزمان الآخرين، زمن يسير ويسيل ويهرب حسب تعبير باشلار، ولا تنس إن التركيز والكثافة والاقتصاد من سمات الحداثة في القصة الجديدة.
س - انتبه القاص سعد محمد رحيم مبكرا إلى أن تجريبك كان مقتصرا على المضمون دون الشكل، وهذا استنتاج صحيح لأنك لم تشتغل على اللغة، ولم تحاول أن تفجرها، بل أن هناك صياغات لغوية كثيرة يمكن لنا أن ترجعها إلى السائد من البنى والتعابير اللغوية الدارجة.
ج - أجزم بأن استنتاج القاص سعد محمد ليس صحيحا، لأنه من المستحيل فصل الشكل عن المضمون وأن مضموني هو الذي خلق (شكلي) لأن المضمون يكتسب واقعه من البنية، وما يسمى بالشكل ليس سوى تشكيل هذه البنية، كما يقول شتراوس، وثمة قصص مثل (البقرة عاطلة) و(العالم كله مشغول) و(بقينا نحن) لا يعدها الصديق سعد محمد رحيم قصصا، وهذا من حقه لأنها تجاوزت صيغة القصة التقليدية.
وأعتقد إذا كان الانزياح في الشعر يتم عبر اللغة، ففي القصة يتم عبر الحدث, أعترف أن لغتي بسيطة لكنها سلسة وصافية ودالة وموحية.
س - هل تخلص القاص صلاح زنكنه من سطوة قراءاته السابقة، وهل أنتج نصوصا جديدة غير مهجنة لا نستطيع أن نشم فيها رائحة مميزة لكتاب عرب أعجبتك تجاربهم أو سحرتك اجوائهم أو اشتركت معهم بمناخ واحد ؟ وهل تعتقد أنك غادرت نهائيا ظلال القاص السوري المبدع زكريا تامر الذي يكتب بنفس عجائبي غريب ؟
ج - أعلن دون مبالغة أو تبجح بأنني في العراق صاحب امتياز في كتابة نص مغاير له نكهة خاصة وماركة مسجلة باسم صلاح زنكنه, وهناك العديد من الكتاب الشباب يقلدون طريقتي في الكتابة، بل إن كتابا هم أكبر مني سناً واقدم تجربة كتبوا قصصا على منوال قصصي، أما عن ظلال زكريا تامر, فأعتقد جازما إنها تهمة مجانية الصقت بي نتيجة القراءة المشوشة، والفحص غير الدقيق رغم اعجابي بهذا المبدع الفذ، وهذا ما حصل مع القاص (جليل القيسي) حين أصدر مجموعته الأولى (صهيل المارة حول العالم) فانبرى له النقاد وقالوا أنه متأثر بكافكا، وتبين فيما بعد أنه لم يكن يعرف كافكا البتة، ولم يقرأ له حتى ساعة صدور مجموعته الأولى, لنقرأ ما يقوله محمد خضير في كتابه (الحكاية الجديدة) - يحدث أن يقترب مؤلف في فلكه الوجودي من جرم مؤلف آخر أكبر منه, زمن يكون الجرمان سابحين في سديم فكرة واحدة - أن لي عوالمي وأجوائي، وقد تقترب من عوالم وأجواء زكريا تامر لأننا أبناء محنة واحدة، ومأساة واحدة، والمأساة متشابهة في كل مكان, حسب ما يذهب غابريل مارسيل.
س- لقد افدت من الموروث الكردي في قصتي (الوهم) و(الواقعة) ما الجديد الذي أضفاه القاص صلاح زنكنه على نصوص استنفدت نفسها ؟
ج - أنا إنسان كردي، وأعتز بكرديتي, لكنني ككاتب همي شمولي، كوني, إنساني، وباختصار شديد كاتب لا قومي، لذا أصر على الكتابة بالعربية التي هي قدري مثلما اللغة التركية هي قدر يشار كمال, مبدئيا أنا ضد فكرة الأخذ من التراث والموروث الشعبي وقولبتها بشكل معاصر كما يحلو للبعض أن يفعل، وقد كتبت في شهادتي المعنوية الأدب والفعل الإنساني (مساكين أولئك الذين يلجئون الى الأساطير والحكايات وينبشون بطون التاريخ بحثا عن مادة تلهيهم عن صخب وعنف ما يحيط بهم) وقد علل غابريل مارسيل لجوء البعض إلى الأسطورة كنوع من القصور وعجز في الخيال, شخصيا لا أحفل كثيرا بالتراث, ولست مغرما بالسلف, أنا معنيّ بالحاضر مثلما أنا معنىّ بالإنسان.
س - يكاد يكون فاضل ثامر هو الناقد الوحيد الذي أصطف الى جانب تجربتك الفتنازية في القصة القصيرة ودافع عنها بقوة, كيف تؤول هذا الاهتمام الذي أولاه إياك ؟
ج - لا تأويل لديّ حول اهتمام الناقد فاضل ثامر بتجربتي الفنتازية ودفاعه عنها، سوى أن أقول .. إنه ناقد ذكي لماح وصاحب منهج نقدي يستقي أصوله من البنيوية التكوينية لـ (لوسيان غولدمان) وقد يقترب هذا المنهج من تركيبتي الفكرية، وبالتالي يتواءم مع المتن الكتابي الذي أمارسه, ثم أن فاضل ثامر ليس هو الناقد الوحيد الذي دافع عن تجربتي، إنما هو الأول، هناك سليمان البكري وجاسم عاصي ولواء الفواز ومحمد درويش على وصباح الأنباري والدكتور محمد صابر عبيد الذي أدخل قصة (الواقعة) في منهاج طلبة الدراسات العليا لجامعة صلاح الدين، اضافة الى القاصين عبد الستار ناصر وأحمد خلف وجهاد مجيد وشوقي كريم وعلي السوداني وسعد محمد رحيم وحمدي الحديثي وصادق الربيعي والشعراء حسن النواب وعلي الطائي وعصمت شاهين وابراهيم النصراوي والخ. ترى كيف أؤول وأعلل كتابات هؤلاء، وجميعهم اصطفوا الى جانب تجربتي، إنه الحب والحرص الأكيد، علما أن النقد عندنا قد بات في سبات عميق بعد رحيل وهجرة النقاد الكبار تباعا.
س - تدور مجمل أحداثك القصصية في منطقة الحلم، لماذا يقاطع القاص صلاح زنكنه حيز الواقع العراقي الذي غدا أكثر غرائبية من أحلامنا السوريالية ؟
ج - أجل يا عدنان مرجعية قصصي هي أحلامي, وأحلامي هي مصادري الحقيقية في عملية الكتابة, ومنطقة الحلم هي مكان آمن للهروب وملجأ نحتمي به من جور وخشونة الواقع, يقول نيتشه (ما من شيء يعبر عن ذواتكم أكثر من أحلامكم أنتم فيها الممثلون والمتفرجون) والحلم عند سارتر هو فرضية للعمل، ووسيلة مؤقتة لتوحيد الذات, والحلم عندي كنز ثمين لا ينضب أحاول استغلاله وقصتي "صوب سماء الاحلام" التي نشرت في صحيفة «الجمهورية هي تجسيد لما تقول، ولا تنسى أن الأدب الفنتازي وثيق الصلة بالأحلام كما يؤكد أبتر, ومن خلالها نحقق رغباتنا المكبوتة، ونحلق عاليا بآمالنا. أنا لا اقاطع الواقع، بل أفترض واقعا آخر يناظر هذا الواقع ويتقاطع معه، وهذا هو ديدني الكتابي.
س- ثمة أجواء كافكوية في بعض قصصك, فرأس المفوض في «الكابوس» يتحول الى بالون رملي منتفخ، وفكري عبد الخالق يلد كائنا صغيرا من رأسه والسيد وديع يتحول الى خروف, ما الذي تبغيه من مسخ أبطالك في متون عوالمك القصصية ؟
ج - أقسم لك بفرانز كافكا الذي أجله وأبجله كثيرا, أن هذه الأجواء التي تقول عنها كافكوية هي أجواء عراقية مئة في المئة. أنا لا أمسخ شخوصي، هم ممسوخون، والواقع البشع المدمر حطمهم ومسخهم، أما أنا فقد قدمتهم للواجهة كي يلاقوا مصيرهم، وأن ما أبغيه من كل هذا, ببساطة تامة هو أن أسجل موقفا ازاء الطغيان، وأن أقول (لا) بغضب عارم.
س - كيف تقيم المشهد القصصي في العراق، ومن هم أبرز الأسماء الذين خلفوا بصماتهم الحقيقية على لائحة الجدار الثمانيني إن صح التعبير؟
ج - شخصيا أنا لا أومن بمصطلح الأجيال العقدية, فبعد عامين سوف يطلقون علينا جميعا مصطلح أدباء القرن العشرين, المشهد القصصي في العراق مشهد صاخب ومتناقض وحيوي. وفي العراق كتاب كبار لا يقلون شأنا عن الأدباء الكبار في العالم، فؤاد التكرلي، عبد الستار ناصر، محمود جنداري, أحمد خلف, محمد خضير، عبد الرحمن الربيعي، زعيم الطائي، حاتم حسن، ومن جيلي وارد بدر السالم وسعد محمد رحيم، لؤي حمزة عباس، وقصي الخفاجي، ومن الكاتبات لطفية الدليمي, بثينة الناصري، هدية حسين, ميسلون هادي، ولكل هؤلاء وغيرهم بصماتهم, والزمن القادم كفيل بفرزها.
س- أنا أعرف جيدا أن همك الحداثوي هو أكبر بكثير من منجزك الإبداعي الذي تحقق جزء منه في (كائنات صغيرة) كيف سيتدبر القاص صلاح زكنه نفسه كي يواصل الحياة بين تجارب مهمة في العراق لكتاب معروفين من أبناء جيله أبرزهم سعد محمد رحيم ولؤي حمزة عباس وارد بدر سالم وسواهم من المبدعين في الداخل.
ج - أنا من جيل ولد وفي فمه ملعقة بارود. أنا من جيل الحرب، بل قل جيل الحروب، جيل المحنة والخراب, ما زال الغبار عالقا بثيابنا والدم يشخب من جراحنا، وما زال دوي القنابل يؤرق ليالينا، وها هو الجوع يفتك بنا وبأطفالنا، والعوز يذلنا، وما زلنا صامدين نحيا ونقرأ، ونكتب نصوصا أكثر أهمية من القوات الصاروخية، والدفاعات الجوية والمفاعلات النووية. هذه هي حداثتنا, حداثة الألم، وحداثة الإنسان كيف أن يكون ويتحدى, حداثتنا ليست ترفا فكريا أو نوعا من الهرطقة والفذلكة أو الهذيان, إنها رؤية ثاقبة للعصر, وحدس للمستقبل حيث لا مستقبل. وهذه هي المفارقة الكبرى, إنها حداثة عراقية قائمة على استقراء الواقع وأسطرته.
نحن أدباء الداخل كما يحلو لكم أن تسموننا, نتلظى ونتشظى يوميا ولحظويا في فرن الداخل, في جحيمه الذي هو أهون من جنان الغربة والمنفى، والنار تنضج النيء وتجعله مستساغا. أعدك يا صديقي بأننا سنصدر نصوصنا الى العالم كأسمى وأرقى صناعة عراقية، وهذا هو امتيازنا.
#صلاح_زنكنه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟