|
الصوفية السياسية: مسارات التكيف والتحدي بين تركيا والعالم العربي
حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8169 - 2024 / 11 / 22 - 08:05
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كانت الصوفية دومًا حجر الزاوية في النسيج الروحي والثقافي للعالم الإسلامي، تجسد روحانية عميقة تمزج بين التوجهات الدينية والتفاعل مع الواقع الاجتماعي والسياسي. ومع مرور الزمن، تطورت الصوفية لتأخذ مسارات متعددة، حتى أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الهوية السياسية في بعض الدول، خاصة في تركيا والعالم العربي. رغم أن الصوفية تاريخيًا كانت تُعد حركة روحية في المقام الأول، إلا أن القرن العشرين شهد تحولات جوهرية جعلت منها فاعلًا سياسيًا في بعض السياقات. وفيما يخص تركيا والعالم العربي، تتباين المسارات التي سلكتها الصوفية السياسية في هذين السياقين، وهو ما يفتح المجال للتساؤل: لماذا تطورت الصوفية السياسية في تركيا بينما تعثرت في العالم العربي؟
لطالما ارتبطت الصوفية بالدعوة إلى الوحدة الروحية والسمو الأخلاقي، وكانت تشكل في بعض الأحيان بديلاً عن التيارات الفكرية والسياسية الأكثر تطرفًا. في تركيا، التي شهدت تحولات سياسية كبرى منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية، لم تقتصر الصوفية على البقاء في الزوايا المعزولة أو الممارسات الدينية الفردية، بل شاركت بشكل فاعل في الحياة الاجتماعية والسياسية. حركة "غولن" على سبيل المثال، جمعت بين الفكر الصوفي والعمل الاجتماعي والاقتصادي، لتصبح قوة مؤثرة في المجتمع التركي. لكن هذا النموذج لم يكن سهلًا، إذ أنه واجه تحديات كبيرة من الدولة العلمانية القوية، حيث كانت الصوفية تعتبر في كثير من الأحيان مهددة لأسس النظام الجديد، لكنه مع ذلك، تمكنت بعض الطرق الصوفية التركية من الحفاظ على مكانتها السياسية بفضل قدرتها على التكيف مع التحولات السياسية وتوظيف شبكة من المؤسسات الاجتماعية والتعليمية.
أما في العالم العربي، فقد واجهت الصوفية تحديات مغايرة. بعد الاستقلال، انطلقت العديد من الأنظمة السياسية القومية والعسكرية التي سعت لتقليص دور الدين في السياسة، بل واعتبرت الصوفية في كثير من الأحيان منافسًا ضعيفًا للحركات الإسلامية الحركية مثل الإخوان المسلمين أو السلفيين. بالإضافة إلى ذلك، تراجعت الزعامات الصوفية التقليدية التي كانت قد حافظت على تأثيرها في المجتمع لقرون، مما ساهم في تفشي الانقسام داخل التيارات الدينية نفسها. هذا التراجع كان مرتبطًا بصعوبة التوفيق بين الروحانية التقليدية والصراعات السياسية المعاصرة، حيث فضل كثير من الصوفيين البقاء في منطقة الحياد الروحي بعيدًا عن التدخل المباشر في الشؤون السياسية.
لكن رغم ذلك، كانت الصوفية في بعض البلدان العربية تمثل معقلًا هامًا للتماسك الاجتماعي والروحي، محاربةً التشدد الفكري، وساعية لتقريب القلوب بين مختلف التيارات السياسية. وقد أظهرت بعض الطرق الصوفية في مراحل مختلفة من التاريخ العربي قدرتها على التفاعل مع القضايا المجتمعية والسياسية، إلا أن ظهور تيارات إسلامية أكثر نشاطًا سياسيًا ظل يهيمن على المشهد.
إن المقارنة بين الصوفية السياسية في تركيا والعالم العربي تفتح لنا أفقًا واسعًا لفهم كيف يمكن للدين أن يتداخل مع السياسة بطرق تتراوح بين التكيف والتمرد، بين الاستجابة للضغوط الاجتماعية والتمسك بالهوية الروحية التقليدية. فهل يمكن للصوفية أن تلعب دورًا مؤثرًا في إحداث التغيير الاجتماعي والسياسي في العالم العربي كما فعلت في تركيا؟ أم أن هذا الدور سيظل محصورًا في مناطق ضيقة من العمل الاجتماعي والروحي؟ إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب منا دراسة عميقة للأبعاد الثقافية والسياسية التي تحدد تطور الصوفية في مختلف السياقات، والبحث في أسباب نجاحها أو تعثرها في مساراتها السياسية.
الصوفيه السياسية لماذا تعثرت في العالم العربي؟
الصوفية السياسية هي مفهوم يعبر عن استخدام الفكر والممارسات الصوفية في سياقات سياسية، حيث يسعى بعض الجماعات أو الأفراد إلى دمج الروحانية الصوفية مع العمل السياسي لتحقيق أهداف معينة، سواء على مستوى السلطة أو الإصلاح الاجتماعي والسياسي.
في العالم العربي، تطورت الصوفية على مدار التاريخ، وكان لها تأثير ملحوظ في تشكيل الهويات الدينية والاجتماعية. لكن، حينما يتم الحديث عن الصوفية السياسية، يجب أن نميز بين عدد من العوامل التي ساهمت في تعثرها في السياق العربي المعاصر:
التحديات السياسية والعسكرية: شهد العالم العربي خلال القرن العشرين مجموعة من التحولات السياسية الكبرى مثل الاستعمار، ثورات الاستقلال، وتأسيس الدول الوطنية. هذه التحولات جلبت معها أنظمة سياسية تُركّز على السلطة المباشرة والواقعية السياسية بدلًا من الصوفية الروحية، مما جعل فكر الصوفية خارج دائرة الاهتمام السياسي.
المنافسة مع الحركات الإسلامية السنية: في معظم الأحيان، كان فكر الصوفية يتناقض مع الحركات السلفية والجماعات الإسلامية الحركية، مثل الإخوان المسلمين، التي رأت في الصوفية عائقًا أمام الجهاد السياسي والعمل الحركي المباشر. أدى هذا إلى تقليل التأثير السياسي للصوفية مقارنة بالأيديولوجيات الأكثر نشاطًا.
الهيمنة على المساجد والمؤسسات الدينية: مع نشوء الدولة الحديثة في العالم العربي، كانت الحكومات تدير العديد من المؤسسات الدينية والمشاريع الإصلاحية. في بعض الأحيان، كانت الصوفية قد تمت marginalizing (إقصاؤها أو تحجيمها) لصالح تيارات أكثر توافقًا مع السلطة السياسية، مما قلل من دورها في السياسة.
تضاؤل تأثير الزعامات الصوفية: في الماضي، كانت الزعامات الصوفية تتمتع بنفوذ كبير في المجتمعات المحلية، حيث كان يُنظر إلى مشايخها كمرشدين روحانيين وقادة اجتماعيين. لكن مع تطور الدولة الحديثة، ضعفت هذه الروابط التقليدية بين الزعامات الدينية والسلطة السياسية.
النظرة الاجتماعية المتغيرة: في العالم العربي، أصبح فكر السياسة والدين أكثر تداخلًا مع النظريات السياسية الحديثة مثل القومية والاشتراكية والإسلاموية. هذه النظريات قد ترى في الصوفية نوعًا من الجمود الفكري أو الركود مقارنة بالحركات التي تسعى للتغيير الجذري.
بالتالي، يمكن القول إن الصوفية السياسية في العالم العربي قد تعثرت بسبب المنافسة مع الحركات الإسلامية الأكثر نشاطًا في السياسة، وضغوط الدولة الحديثة التي غالبًا ما كانت تحاول تحجيم دور الجماعات الدينية التقليدية. رغم ذلك، لا يزال للصوفية تأثير في بعض المناطق على المستوى الاجتماعي والثقافي.
لماذا نجحت الصوفية السياسية في تركيا ؟
نجاح الصوفية السياسية في تركيا يعود إلى مجموعة من العوامل التاريخية، الثقافية، والسياسية التي مكنت الصوفية من التكيف مع السياق التركي المعاصر، بما في ذلك الظروف الاجتماعية والسياسية التي سادت خلال القرن العشرين وحتى اليوم. أبرز هذه العوامل تشمل:
التاريخ الطويل للصوفية في تركيا: تركيا تمثل قلب العالم الإسلامي العثماني، الذي كان يحتوي على العديد من الطرق الصوفية المؤثرة. الصوفية كانت جزءًا أساسيًا من هوية الأمة العثمانية، حيث كانت الزوايا الصوفية تعتبر مراكز تعليمية وروحية، ولها دور في الحياة الاجتماعية والسياسية. بعد انهيار الدولة العثمانية، تمكنت بعض الطرق الصوفية من الحفاظ على تأثيرها الثقافي والديني في تركيا الحديثة.
الهوية الدينية التركية والحداثة: بعد تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، سعى مصطفى كمال أتاتورك إلى فصل الدين عن السياسة ضمن مشروع "العلمانية التركية". لكن الصوفية كانت أكثر مرونة من الحركات الإسلامية السلفية، إذ نجحت في التكيف مع العلمانية التركية من خلال الحفاظ على طابعها الروحي بينما ابتعدت عن السياسة المباشرة. هذا جعلها أكثر قبولًا في المجتمع التركي، حيث لم تُنظر إليها كمنافس مباشر للأنظمة السياسية العلمانية.
دور الطرق الصوفية في التعليم والتنظيم الاجتماعي: الطرق الصوفية مثل "النعمانية" و"السلطانية" كانت تملك شبكات اجتماعية وثقافية واسعة في تركيا. كانت هذه الشبكات توفر التعليم الديني، الرعاية الاجتماعية، والتوجيه الروحي، مما جعلها قادرة على التفاعل مع الشرائح الاجتماعية المختلفة. بعض الطرق الصوفية، مثل الطريقة "الفتحوية" (التي أسسها فتح الله غولن)، نجحت في إقامة مؤسسات تعليمية وتربوية، وبالتالي تعزيز نفوذها في المجتمع التركي.
دور جماعة غولن (فتح الله غولن): واحدة من أبرز الأمثلة على نجاح الصوفية السياسية في تركيا هي جماعة غولن. فغولن كان يشتهر بقدرته على دمج الفكر الصوفي مع الأبعاد السياسية والاجتماعية الحديثة. عملت حركة غولن على تأسيس شبكة واسعة من المدارس، الجامعات، والإعلام التي لعبت دورًا كبيرًا في تعزيز نفوذها السياسي داخل تركيا. كما كانت الحركة تميل إلى استخدام الدبلوماسية والعمل على الحفاظ على صورة معتدلة للصوفية، وهو ما جعلها مقبولة في الأوساط الحكومية والغرب.
التكيف مع الواقع السياسي: في ظل التحديات السياسية التي تواجهها تركيا، بما في ذلك الانقلابات العسكرية والتوترات السياسية، نجحت بعض الطرق الصوفية في التكيف مع هذه البيئة من خلال التحالفات الاستراتيجية مع النظام الحاكم أو عبر الحفاظ على مواقف معتدلة بعيدًا عن المواجهات المباشرة. في بعض الحالات، كانت الطرق الصوفية تتبنى نهجًا إصلاحيًا أكثر انفتاحًا، مما سمح لها بالاستمرار في التأثير على الحياة السياسية.
الاستفادة من الدين كأداة سياسية: في فترات معينة، استفادت بعض الحركات الصوفية من الدين كأداة لبناء هوية سياسية، خاصة في ظل تزايد التأثير الإسلامي في السياسة التركية الحديثة. هذا النجاح تزامن مع صعود حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان، الذي أعاد إحياء الهوية الدينية الإسلامية في السياسة التركية.
باختصار، يمكن القول إن الصوفية السياسية نجحت في تركيا نتيجة قدرتها على التكيف مع السياق التركي المعاصر من خلال تجنب الصدام المباشر مع الأنظمة العلمانية، واستخدام شبكاتها الاجتماعية والثقافية، بالإضافة إلى الانفتاح على العصرية والحداثة من خلال شخصيات مثل فتح الله غولن، التي مزجت الروحانية الصوفية مع العمل الاجتماعي والسياسي.
الاختلاف بين الصوفية السياسية في تركيا ومثيلتها في العالم العربي؟ هناك اختلافات جوهرية بين الصوفية السياسية في تركيا والصوفية السياسية في العالم العربي، سواء على مستوى السياق التاريخي، أو التنظيمي، أو التكتيكي في العمل السياسي. هذه الاختلافات تتراوح بين السياقات الاجتماعية والسياسية التي نشأت فيها، وكذلك في كيفية تعاملها مع الدين والسياسة في المجتمع.
1. السياق التاريخي والسياسي:
في تركيا: الصوفية التركية تاريخيًا كانت جزءًا من الهوية الثقافية والسياسية العثمانية، ومرت بتجارب عديدة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. في العهد الجمهوري، كانت الصوفية في تركيا تتعامل مع العلمانية التركية بشكل أكثر مرونة، حيث استطاعت بعض الطرق الصوفية، مثل حركة غولن، التكيف مع الأنظمة العلمانية، والعمل في المجال الاجتماعي والثقافي دون الاصطدام المباشر مع السلطات السياسية. بالتالي، كانت هناك مساحة للصوفية السياسية في سياق الحفاظ على التوازن بين الدين والعلمانية.
في العالم العربي: على الرغم من أن الصوفية كانت جزءًا من النسيج الاجتماعي والديني في العديد من البلدان العربية، إلا أن الصوفية السياسية في العالم العربي غالبًا ما كانت تواجه تحديات أكبر من الحركات الإسلامية السياسية الأكثر نشاطًا. في ظل الأنظمة السياسية القمعية، وخصوصًا بعد الاستقلال، كانت الصوفية تظل في كثير من الأحيان في موقع هامشي أو محافظ، ولم تستطع التأثير في السياسة بنفس القوة التي شهدتها تركيا.
2. التفاعل مع السلطة:
في تركيا: الصوفية التركية، خصوصًا بعد تأسيس الجمهورية التركية، اتبعت نهجًا مغايرًا في التفاعل مع السلطة. حركة فتح الله غولن مثلًا نجحت في إنشاء مؤسسات تعليمية وصحية وإعلامية ساعدت في بناء شبكة من النفوذ داخل المجتمع، بالإضافة إلى تحالفات مع الحكومة التركية في فترات معينة. كما أن بعض الطرق الصوفية كانت تتمتع بنوع من الحماية أو التقدير من السلطات السياسية، لأنها كانت تمثل نموذجًا معتدلًا للإسلام الذي يتوافق مع الدولة العلمانية.
في العالم العربي: في العديد من البلدان العربية، كانت الصوفية السياسية تجد نفسها في مواجهة أكثر حدة مع السلطات الحاكمة التي كانت تميل إلى فرض سيطرة على المؤسسة الدينية. بعض الحكومات العربية سعت إلى تحجيم دور الطرق الصوفية، لأنها كانت ترى فيها منافسًا محتملًا للحركات السياسية الإسلامية الأكثر تأثيرًا مثل الإخوان المسلمين أو الحركات السلفية. في بعض الأحيان، كان يُنظر إلى الصوفية على أنها عقبة أمام التغيير السياسي أو الإصلاحات الاجتماعية.
3. الشخصيات والأيديولوجيات القيادية:
في تركيا: شخصية مثل فتح الله غولن تمثل نموذجًا فريدًا للصوفية السياسية في تركيا. غولن جمع بين الفكرة الصوفية والتركيز على التعليم والتنمية الاجتماعية، وتمكن من خلق تأثير سياسي قوي من خلال شبكاته التعليمية والاقتصادية. كان يروج لفكرة "الخير العام" من خلال عمله المؤسسي، مما جعله يحظى بشعبية بين بعض النخب السياسية والاقتصادية.
في العالم العربي: في العالم العربي، عانت الصوفية السياسية من غياب مثل هذه الشخصيات القوية التي تستطيع الدمج بين الروحانية والعمل السياسي الميداني. الصوفية في العديد من الدول العربية غالبًا ما كانت تتسم بطابع تقليدي أكثر، وعمدت إلى الحفاظ على هويتها الروحية بدلًا من التوجه للعمل السياسي المباشر.
4. الاستجابة للحداثة:
في تركيا: الصوفية التركية كانت أكثر استعدادًا للتفاعل مع الحداثة، كما يتضح من انفتاحها على الفكر العصري والمشاركة في مجالات التعليم، الإعلام، والشؤون الاجتماعية. كانت هناك محاولة لتطوير نموذج إسلامي معتدل يتماشى مع القيم الحديثة، خصوصًا في السياق الذي يدمج الدين مع السياسة بطريقة غير تعارض العلمانية.
في العالم العربي: في المقابل، كان الصوفية في العديد من الدول العربية أكثر ارتباطًا بالتقاليد، وكانت تستند إلى رموز دينية وثقافية قديمة. في بعض الحالات، كانت الصوفية تركز على الحياة الروحية والعبادة دون الانخراط بشكل مباشر في القضايا السياسية، مما جعلها أقل قدرة على التأثير في السياسات العامة.
5. التنظيم والانتشار:
في تركيا: حركة غولن على وجه الخصوص كانت تعتمد على شبكات منظمة من المدارس والمؤسسات التي تمتد إلى داخل تركيا وخارجها، ما مكنها من التأثير على الأفراد والطبقات الاجتماعية بشكل أوسع. هذا التنظيم جعل من الصوفية السياسية في تركيا أكثر فعالية ومرونة في تفاعلها مع الشؤون السياسية.
في العالم العربي: الصوفية السياسية في العديد من البلدان العربية غالبًا ما كانت تتسم بالفردية أو التنظيمات الصغيرة، التي لم تتمكن دائمًا من بناء شبكات مشابهة لتلك التي نشأت في تركيا. كما أن بعض الطرق الصوفية العربية كانت تحت ضغط دائم من السلطات الحاكمة، التي كانت تحاول تقليص دورها في السياسة.
وهكذا، فإن الصوفية السياسية في تركيا استطاعت النجاح والتوسع بفضل سياق سياسي يسمح بتفاعل أكثر مرونة مع الأنظمة الحديثة، بالإضافة إلى التنظيم الفاعل على المستويات الاجتماعية والتعليمية. في المقابل، كانت الصوفية السياسية في العالم العربي تواجه العديد من العقبات السياسية والاجتماعية التي جعلت تأثيرها محدودًا.
التحديات المشتركة للصوفية السياسية في تركيا والعالم العربي:
التحديات السياسية الداخلية:
في كلا السياقين، قد تواجه الصوفية السياسية تحديات من الأنظمة السياسية التي قد ترى في هذه الجماعات منافسًا على السلطة أو تهديدًا لاستقرار الحكم. قد تكون الحكومات في كلا السياقين أقل قبولًا للصوفية السياسية في ظل صعود الحركات الإسلامية الأكثر نشاطًا سياسيًا.
التحديات الفكرية والمذهبية:
على الصعيد الفكري، الصوفية السياسية في العالم العربي وتركيا قد تواجه تحديات من الحركات السلفية أو الحركات الإسلامية الأكثر راديكالية التي ترى في الصوفية انحرافًا عن الفهم الصحيح للإسلام. كما أن الصوفية قد تجد صعوبة في تبرير نفسها كفكر سياسي ينافس أو يتداخل مع الحركات الإصلاحية أو الثورية.
التفاعل مع الحداثة:
في ظل التحديات الاجتماعية والاقتصادية، ستضطر الحركات الصوفية إلى إيجاد سبل للتفاعل مع الحداثة، خاصة في مجالات مثل التعليم، حقوق الإنسان، والتنمية الاقتصادية. هذه التحديات قد تؤثر في قدرة الصوفية على تقديم نموذج سياسي يواكب تطورات العصر ويستفيد من التقدم التكنولوجي والاجتماعي.
الفرص المستقبلية:
الوساطة والحوارات بين الأديان:
في كل من تركيا والعالم العربي، قد تجد الصوفية فرصة للعب دور في تعزيز الحوار بين الأديان والمجتمعات المختلفة، وهو مجال تتسم فيه الصوفية بقدرتها على تعزيز التفاهم الروحي والإنساني بين مختلف الفئات.
التركيز على القضايا الإنسانية:
التركيز على القضايا الإنسانية مثل الفقر، تعليم النساء، والرعاية الصحية يمكن أن يكون مجالًا مهمًا للصوفية السياسية في المستقبل. العديد من الطرق الصوفية تمتلك تاريخًا طويلًا في العمل الاجتماعي، وهو ما قد يوفر لها قاعدة شعبية للتأثير على السياسات العامة في هذا الاتجاه.
وفي المجمل، فإن آفاق الصوفية السياسية في تركيا والعالم العربي تعتمد على القدرة على التكيف مع التحولات الاجتماعية والسياسية. في تركيا، قد تظل لها قدرة على التأثير من خلال المؤسسات التعليمية والاجتماعية، بينما في العالم العربي، قد تواجه تحديات أكبر بسبب الضغوط السياسية والهيمنة الفكرية للحركات الإسلامية الأخرى. لكن الصوفية قد تجد فرصًا في المجالات الاجتماعية والإنسانية حيث يمكنها ممارسة تأثير إيجابي بعيدا عن الصراع السياسي المباشر.
الآفاق المستقبلية للصوفية السياسية في كل من تركيا والعالم العربي
الآفاق المستقبلية للصوفية السياسية في تركيا والعالم العربي تعتمد على مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي ستؤثر في مستقبل دور الصوفية في السياسة وفي تفاعلها مع التغيرات الاجتماعية والسياسية في كلا السياقين. هذه الآفاق تشمل فرصًا وتحديات مختلفة لكل من تركيا والدول العربية:
1. الآفاق المستقبلية للصوفية السياسية في تركيا:
الاستمرار في التأثير داخل المجتمع التركي:
في تركيا، الصوفية السياسية (خصوصًا من خلال حركات مثل حركة غولن) قد تستمر في الحفاظ على تأثيرها، ولكن سيتوقف ذلك على كيفية تطور العلاقات بين الحركة والحكومة التركية. في ظل وجود حكومة أكثر تشددًا تحت قيادة رجب طيب أردوغان، قد تواجه الطرق الصوفية، خاصة تلك التي تعتبر منافسة أو مستقلة، تحديات أكبر من حيث القيود على الحريات الدينية أو التنظيمية. ومع ذلك، قد تستمر بعض الطرق الصوفية في الحفاظ على دورها الثقافي والاجتماعي عبر التعليم والمؤسسات المدنية.
الانعزال أو التكيف مع النظام السياسي:
بعض الطرق الصوفية قد تختار الانعزال عن السياسة، كما فعلت بعض الطرق التقليدية، في حين قد تختار طرق أخرى التكيف مع الوضع السياسي، ربما عبر التحالف مع القوى السياسية التي تدعو إلى إسلام معتدل. في ظل التحولات الاجتماعية والسياسية في تركيا، قد تجد بعض الجماعات الصوفية سبلًا جديدة للمشاركة في الحياة السياسية دون التورط في الصراعات الحادة، مثل الانخراط في مبادرات الحوار بين الأديان أو قضايا حقوق الإنسان.
التوسع في المجالات الدولية: بما أن بعض الجماعات الصوفية في تركيا قد أصبحت لها شبكة واسعة من المؤسسات التعليمية في الخارج (مثل مدارس غولن في دول متعددة)، فإن آفاقهم المستقبلية قد تشمل التوسع في العمل الإنساني والديني على مستوى عالمي. هذه الشبكات قد تساهم في تعزيز النفوذ التركي في السياق الإقليمي والدولي، خاصة في البلدان ذات الغالبية المسلمة.
2. الآفاق المستقبلية للصوفية السياسية في العالم العربي:
الانخراط في الحركات الإصلاحية:
الصوفية السياسية في العالم العربي قد تجد فرصًا للانخراط في الحركات الإصلاحية إذا استطاعت التأقلم مع التغيرات السياسية. مع تصاعد الحركات الإسلامية المعتدلة في بعض البلدان العربية، يمكن للصوفية أن تلعب دورًا محوريًا في الدفع نحو الإصلاحات السياسية والاجتماعية من خلال الحفاظ على توازن بين الروحانية والعمل الاجتماعي والسياسي. ذلك قد يتم عبر المشاركة في قضايا حقوق الإنسان، المساواة الاجتماعية، والتعليم.
التحديات التي تفرضها الأنظمة السياسية:
في العديد من الدول العربية، الصوفية السياسية قد تواجه تحديات كبيرة نتيجة لتوجهات الحكومات القمعية التي قد لا تسمح بالصوفية باللعب دورًا كبيرًا في السياسة. بالإضافة إلى ذلك، تصاعد الحركات السلفية أو الحركات الإسلامية الحركية قد يعزز من التوترات داخل المجتمعات الصوفية، ويؤدي إلى تهميشها على المستوى السياسي.
الاندماج في الحركات الاجتماعية الجديدة:
الصوفية في العالم العربي قد تجد نفسها منخرطة في الحركات الاجتماعية الجديدة، مثل تلك التي تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، محاربة الفقر، ودعم حقوق المرأة. على الرغم من كون الصوفية غالبًا ما تتسم بالروحانية العميقة، فإن بعض الجماعات الصوفية قد تختار الانخراط بشكل أكبر في القضايا الاجتماعية والسياسية من أجل تحقيق تأثير مستدام.
التركيز على البعد الروحي:
في الوقت نفسه، قد تختار بعض الطرق الصوفية في العالم العربي العودة إلى التركيز على البُعد الروحي فقط، بعيدًا عن السياسة. هذا التوجه قد يكون نتيجة للحساسيات السياسية في العديد من البلدان العربية أو بسبب العوامل الثقافية التي تدفع بالطرق الصوفية إلى الاستمرار في دورها التقليدي كحركات تربوية وروحية، بعيدة عن النزاعات السياسية.
إن الصوفية السياسية، بما تحمله من أبعاد روحانية واجتماعية، تشكل إحدى الظواهر الدينية التي تُظهر قدرة فريدة على التأثير في السياسة والمجتمع، رغم ما قد يبدو من تناقض بين مساعيها الروحية والممارسات السياسية. وبالنظر إلى مسار تطور الصوفية السياسية في تركيا والعالم العربي، يظهر بوضوح أن الصوفية في تركيا تمكنت من التكيف مع المتغيرات السياسية والاجتماعية، واستطاعت أن تجد مكانًا لها في الحياة العامة من خلال مؤسسات تربوية وثقافية ذات تأثير واسع. النموذج التركي، الذي استطاع أن يمزج بين الروحانية والواقع الاجتماعي والسياسي، يمثل مثالًا لمدى مرونة الصوفية في إعادة تعريف نفسها في وجه التحديات العصرية.
أما في العالم العربي، فقد كانت الصوفية السياسية أكثر تحديًا، إذ جابهت الأنظمة السياسية المستبدة والحركات الإسلامية الحركية التي اتسمت بالخصومة مع الطرق الصوفية. ورغم تراجع دور الصوفية في كثير من البلدان العربية، فإن الأبعاد الإنسانية والاجتماعية التي تحافظ عليها الطرق الصوفية تمنحها قدرة على التأثير في المجتمعات العربية، ولو في السياقات المحلية أو الثقافية. غير أن الصوفية السياسية في العالم العربي تواجه تحديات بنيوية عميقة، من بينها الانقسامات الداخلية والصراع مع تيارات دينية أكثر صخبًا وتطلعاتٍ سياسية.
ومع ذلك، تظل الصوفية تحمل بذورًا من الحكمة الروحية التي قد تشكل، في المستقبل، قوة معتدلة وموحدة قادرة على التأثير في مجريات الأحداث السياسية والاجتماعية في كلا السياقين. إذ يمكن للصوفية أن تكون جسرًا بين الروحانية والسياسة، إذا ما أعيد تأطيرها لتكون أكثر توافقًا مع احتياجات العصر، وتتصدى للتحديات الفكرية والاجتماعية الراهنة. وفي العالم العربي، يمكن للصوفية أن تعود للظهور كمصدر لتقريب المسافات بين الأيديولوجيات المتباينة، كقوة اجتماعية قادرة على تعزيز التسامح والعدالة الاجتماعية.
وفي الختام، إن تاريخ الصوفية السياسية في تركيا والعالم العربي يظل درسًا عميقًا في مرونة الفكر الديني وقدرته على التفاعل مع متغيرات العصر. وعلى الرغم من الصعوبات التي تواجهها، تظل الصوفية تمثل جزءًا أساسيًا من الهوية الروحية والتاريخية للعالم الإسلامي، وقد تظل محورية في صياغة مسارات جديدة للتغيير الاجتماعي والسياسي، إذا ما أُعيد اكتشاف جوهرها في ظل التحديات المعاصرة.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الصهيونية العلمانية: جدلية الحداثة والهوية في المجتمع الإسرا
...
-
شراء الصمت في العالم العربي: أداة لطمس الحقيقة وتعزيز الهيمن
...
-
العلمانية والديمقراطية في العالم العربي: جدلية الحداثة والخص
...
-
العلمانية: بين أفق التنوير وصراع الهوية الدينية
-
الله خالق كل شيء: مقاربة فكرية لأحد أهم الإشكاليات الكلامية
...
-
السينما النسوية المتطرفة: كسر الصمت وإعادة صياغة السرديات
-
الخلود في الفضاء الرقمي: إعادة صياغة مفهوم الموت والذاكرة
-
معضلة الشر: قراءة فلسفية في عدل الله وحريّة الإنسان
-
أزمة ما بعد الحداثة: بين سطوة الواقع الفائق وشبكات السلطة ال
...
-
أزمة ما بعد الحداثة: بين سطوة الواقع الفائق وشبكات السلطة ال
...
-
الدولة بين النظرية والواقع: تحليل فلسفي للرؤية الماركسية
-
الأمن القومي العربي: تحديات العصر وفرص التحول الاستراتيجي
-
اليسار في العالم العربي: قراءة نقدية لتراجع المشروع الاشتراك
...
-
دور الفلسفة في تفسير التاريخ: من بن خلدون إلى هيجل وماركس
-
موت الإله: جدلية الفراغ والمعنى في الفكر الأوروبي والإسلامي
-
إشكالية الصلب والفداء: مقاربة فلسفية للعلاقة بين المسؤولية ا
...
-
فلسفة التاريخ: أسئلة حول الزمن ومعنى الوجود الإنساني
-
الإنسان بين الجبر والاختيار: قراءة مقارنة في رؤى المعتزلة وا
...
-
الفلسفة النسوية في العالم العربي: جدلية التحرر والتحديات الث
...
-
فلسفة ما بعد الحداثة: من التفكيك إلى إعادة تعريف العقل والحق
...
المزيد.....
-
حركة فتح تدعو الجامعة العربية عقد اجتماع عاجل لمراجعة جميع ا
...
-
بعد خطة ترامب بغزة..ما مصير حل الدولتين؟
-
«إفريقيا قارة المستقبل» السنغال - الجزء الثاني
-
-جزار صيدنايا- يسلم نفسه للسلطات
-
ما السبيل لتحقيق عدالة انتقالية في سوريا ما بعد بشار الأسد؟
...
-
ما هي خطط ترامب في غزة؟
-
-هذه أرضي أنا-.. هكذا رد سكان غزة على خطة ترامب لتهجير فلسطي
...
-
من معقل للمعارضة إلى وجهة سياحية.. كيف أصبحت إدلب مقصدًا للس
...
-
صدمة عارمة.. رفض عربي ودولي لخطط ترامب حول قطاع غزة
-
ألمانيا: نحو 5000 جريمة يشتبه بأنها -معادية للسامية- في 202
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|