|
الأحداث السورية في رواية -مدائن الرب-[*] للكاتبة هند زيتوني
رائد الحواري
الحوار المتمدن-العدد: 8167 - 2024 / 11 / 20 - 02:40
المحور:
الادب والفن
الأحداث السورية في رواية "مدائن الرب"[*] للكاتبة هند زيتوني من مهام الأدب تناول هموم الناس والحديث عن مشاكلهم، وبما أننا في المنطقة العربية من أكثر الشعوب التي تتعرض للظلم والقهر والاستبداد، ونعيش في حالة فساد غير مسبوقة، فلا بد للأديب/ة أن يتناول هذا الواقع والحديث عنه. هند زيتوني في رواية "مدائن الرب" تتناول الواقع السوري أثناء (الربيع العربي) فلا تبقي ولا تذر، تعري الجميع، الإرهابيين، المجاهدين، الثوار، النظام والأجهزة الأمنية فيه، وتبدأ الرواية بهذه الفاتحة: "ما قبل الحكاية: "حيث تكون الحرية يكون الوطن. بنجامين فرانكلين، تنويه: "الحرب سوف تنتهي في حال عاد الموتى" ستالي بالدوين" ص 7، فهذا يشير إلى قسوة الحرب وأثرها الذي لا ينتهي، وكأنها بهذه الفاتحة تبرر الهجرة لشخصيات الرواية، حيث نجد العديد من الشخصيات المهاجرة/ مريم/ إيمان، عائلة أحلام، سعاد" ومن بقي مثل "صفوان وجاسم وكامل" أكلتهم الحرب وشربتهم، فكانوا أكثر تشويها وسفالة. موضوع الرواية قاسٍ ومرهق للمتلقي الذي يبحث عن بصيص فرح/ أمل يخرجه مما هو فيه من قهر وظلم وضيق، وهذا يستوجب على الساردة إيجاد مخارج/ أشكال/ أساليب أدبية تخفف من حدة القسوة والألم الكامن في الرواية، ويمكنني الجزم أن الساردة نجحت في هذا الأمر، فالرواية تم تناولها في جلسة واحدة، وما كان هذا ليكون لو أن الطريقة والشكل واللغة الروائية كانت متواضعة. أحداث الرواية: الرواية تتناول الأحداث في سورية والمعاناة التي تعرض لها المواطن السوري أثناء الحرب: "أعتذر لتقصيري، ولكن أنت تعرفين الظروف الأمنية والحواجز والحياة المخيفة في شوارع دمشق، فأنا أرى الشخص يسقط أمامي كالذبابة وما من أحد يكترث، أموات وجرحى كل يوم... أصبحت مدينتنا تحتضر ببطء، ونحن نذوي معها ونحترق كالورق" ص 12. اللافت في هذا المقطع أن الساردة تؤكد انتماءها للمكان، فتذكر المدينة بالاسم "دمشق" وتستخدم صيغة التماهي من خلال لفظ "مدينتنا" وصيغة الجمع "نحن" فالعقل الباطن للساردة نجده منتمياً للمكان، للوطن، وللمجتمع، وللعشب، وهذا يؤكد وطنيتها وانتماءها للمكان وللناس، وهذا يمهد لما ستقوله لاحقا، فلا يمكن لأي مشكك أو مزاود أن يدينها أو ينكر عليها سوريتها ودمشقيتها. من هنا نجدها تدخلنا أكثر إلى الواقع وتعرفنا على مزيد من هذه التفاصيل المؤلمة والموجعة، فتدخلنا إلى البيوت لنعرف كيف حال الأزواج والزوجات فيها: "بعض الأزواج عاطلون حاليا عن العمل وربما عن الجنس بسبب القهر والهموم وظرف الحرب التعيسة، يجلسون في البيت يمضغون حسرتهم، ليس لديهم شيء ليقوموا به غير النكد والصراخ والشكوى، لا تنسَ أن البعض الآخر يسافر إلى مدن بعيدة بسبب التدريب أو القتال، وتترك الزوجة بلا رجل لفترة طويلة، لا حب، ولا جنس، ولا مال، كيف تعيش امرأة هكذا، محرومة من كل شيء" ص 14، نلاحظ أن هناك انحيازاً للمرأة، فرغم أنها تتناول أثر الحرب على طرفي المجتمع الرجل والمرأة، إلا أنها تركز على المرأة أكثر، وذلك لحجم الضغط الواقع عليها، إن كان الزوج موجودا أم غائبا، ما بجعل الثقل عليها أكبر وأكثر وقعا. وإذا عرفنا أن المقطع السابق جاء على لسان "سوسو/ سهير" التي تدير (بيت السعادة) نصل إلى شيء من التبرير لما تقوم به، فهي تخفف شيئا من معاناة الرجال النفسية أثناء الحرب، وفي الوقت ذاته، تخدم النساء من خلال حصولهن على أجور عالية، يستعطنَ بها تسديد ما عليهن من مصاريف وشراء حاجتهن التي يرتفع سعرها كل يوم: "ولكن هل تعلم ماذا يعني هذا المبلغ؟ مئة ألف ليرة سورية، أكثر من معاش شهري لموظف يكدح فيه من الصباح للمساء! يرى نجوم الظهر وهو لا يكفي لأسبوع واحد، الحياة أصبحت شبة مستحيلة، والجوع كافر وأنا أعمل بضمير مع الجميع، وأدفع أجوراً كبيرة وأمنحهم الحياة التي حرموا منها، وأعطيهم الأمل لتحسين ظروف حياتهم التي تنهار يوميا" ص 16، نلاحظ أن "سهير" تُجمّل/ تُخيّر ما تقوم به في "بيت السعادة" فهي تجد نفسها تخدم الناس والوطن، وهذا الأمر يستوقف المتلقي، فكيف لمن تدير (بيت السعادة) أن تخدم المجتمع!؟ فهذا الفعل والبيت يتعارض مع فكرة العفة والشرف، وكما أن السمعة السيئة التي تحيط به وبمن يعمل به تحول دون أن يكون مكاناً (جميلاً) أو حتى مقبولاً من الناس. أعتقد أن الساردة أرادت أن تدق جدار العقل العربي، وتقول له أن الخير والشر، الجمال والقبح نسبي، وليس مطلقاً، فيمكن لفعل أن يكون قبيحا في ظرف معين، ويكون مقبولا وحتى جميلا في ظرف آخر، لهذا نجد "سهير/ سوسو" ترسل مساعدات مالية وعينة لدور الأيتام ومراكز إيواء المسنين. بعد أن استمعنا إلى كلام وحديث "سهير/ سوسو" التي تدير (بيت السعادة) تحدثنا "سعاد" عن الأحداث في سورية وكيف تراها: "الظروف قاسية وضعتنا بين رعبين، رعب القتل بالرصاص، ورعب الرحيل عبر البحر لنواجه الموت غرقا أو النجاة، لأننا نسافر بلا فيزا وبلا إقامات، كل البلدان لا ترحب بنا...كل يوم نسأل أنفسنا نفس السؤال: متى ستنتهي هذه الحرب؟ ومتى ستنتهي معاناتنا؟ وكأنها جاءت من عالم اللانهاية" ص 21، تناول الأحداث من أكثر من شخصية يؤكد أن هناك مأساة طالت كافة شرائح المجتمع السوري، فالحرب تحصد الأخضر واليابس، فرغم أن "سعاد" أكثر الشخصيات النسائية اتزانا وعطاء، إلا أنها تقرر الهجرة والمغادرة، فالحرب لم تعد تحتمل، والبقاء يعني الموت. إذن ويلات الحرب لا تحتمل ولا تطاق، وبما أن ما جرى ويجري في سورية يتماثل/ يشابه (الحرب أهلية)، فكان لا بد من إعطاء صورة لحقيقة هذه الحرب: "كنا نسكن في ريف دوما (عروس الغوطة الشرقية) ومنطقتنا هي أول من شارك بالثورة السورية، وأصبحت هناك مواجهات مسلحة بين فصائل المعارضة وقوات النظام، ثم تعرضت منطقتنا لحصار محكم في 2013 ومجزرة قُتل فيها المئات، معظمهم من الأطفال، والكارثة الكبرى كانت حين تعرضت المحاصيل الزراعية للقصف والحرق، كما أن القوات العسكرية منعت وصول الغذاء والدواء كنوع من التجويع المتعمد، وعقابا للمتمردين الذي يطلقون الصواريخ على وسط دمشق. اضطر الناس في ذلك الحصار الخانق إلى الاعتماد على أوراق الأشجار، وكان ذلك جحيما ممتدا بلا نهاية" ص 23 و24، نلاحظ (واقعية) الحدث من خلال تحديد المكان، بمعنى أن الساردة تريد من المتلقي أن يصل إلى أن الأحداث حقيقية/ واقعية، وليست متخيلة أو أحداثاً (روائية) وما استخدامها لصيغة "منطقتنا/ نحن" إلا من باب الواقعية، ونجد صورة عن وحشية ودموية الحرب الأهلية، لأنها تجري بين الناس، وليست كالحرب الخارجية التي تجري بين الجيوش وعلى الحدود، وهذا ما جعل مريم تغادر، و"سعاد" تفكر بالمغادرة، وغيرهما من النساء. وتؤكد "سعاد" حيادتها في تناول الأحداث، لهذا تكشف الحقيقة وتعري كل من ساهم في خراب سورية وقتل وتشريد وتجويع أهلها، بصرف النظر عن مكانته وأصلة وفصله: فالكل، الأطراف المعارضة والنظام، والداخل والخارج ساهم في الخراب والقتل والتشريد: "من أين جاء كل هؤلاء المسلحين؟ ومن أمر القناصة أن يقتلوا كل شيء يتحرك؟ ومن هم الشبيحة والرجال غريبو الملامح ومنتفخو العضلات؟ كيف تسرب كل هذا الموت والخراب لهذا البلد الآمن الذي كان يرفل بالأمن والاستقرار؟ ولمصلحة من انتشرت كل هذه الفوضى "غير الخلاقة" والشعب أصبح ثلثه في السجون، وثلثه ميتا، والباقي يحاول الهرب خارج البلاد". ص 26، وكما انحازت الساردة للنساء تنحاز لوطنها ومكانها سورية، وكما عرت الذكور وكيف يعاملون النساء بغير إنسانية، عرت المتقاتلين/ المخربين الذي أتوا من كل حدب وصوب. ونلاحظ دقة الساردة في توصيف حقيقة من يقف وراء الأحداث باستخدامها: "الفوضى غير الخلاقة" فهي بهذا تؤكد الدور التخريبي لأمريكيا وأيديها في المنطقة الذين فعلوا كل شيء لاستمرار حرق وسورية وقتل أهلها وتشريدهم في بقاع الأرض. (المجاهدون): تتقدم الساردة أكثر في حياديتها فتصف حال المتحاربين بقولها: "الجنود يحاربون، يبيعون دماءهم من أجل الوطن، المرتزقة يقاتلون من أجل حفنة من المال، والجهاديون خرجوا من أوكارهم ليحاربوا ويتقاتلوا طمعا بحوريات الجنة والفردوس" ص 41، فتعدد الأطراف المتحاربة/ المتصارعة، واختلاف الدوافع التي تدفعهم للقتال، يشير إلى عدم مبدئية الحرب، فهناك طرف واحد ينتمي للوطن "الجنود" والبقية لهم أهداف وغايات خارجية، إن كانت متعلقة بالحياة الدنيا كحال المرتزقة، أو متعلقة بحياة الآخرة كحال المجاهدين، فهم يقومون بالقتل والتدمير ليس حبا أو خدمة لسورية وشعبها، بل لمصالح وغايات شخصية، إن كانوا سيحصلون عليها الآن أم لاحقا في الجنة. ونتوقف قليلا عند (المجاهدين) والفكر الذي يستندون عليه في قتلهم الناس وتخريبهم البلاد، يتحدث "صفوان" أحد أفراد عائلة "سعاد" العائلة الرئيسية في الرواية عن (عقيدة) المجاهدين بقوله: "وقد أصبحوا كالنسور، ولن يهرب منهم أحد فهم لا يهابون الموت، وهم يريدونه ليظفروا بحوريات الجنة، لقد فهموا جيدا أن هذه الحياة زائلة، "وهي متاع الغرور" وقريبا سيحلقون في سماء الفردوس، وينكحون ما طاب لهم من الحور العين العذراوات اللواتي لم يطمثهن إنس ولا جان" ص 113، تركيز "صفوان" على ممارسة الجنس وتحديدا مع الحور العين يشير إلى العقدة الجنسية التي تتحكم في المجاهدين، فغايتهم المتعة بالنساء، وليس شيئا آخر، حتى قتالهم وموتهم جاء في سبيل الجنس، وهنا تبين لنا الساردة عقم تفكير كل من يدعي الجهاد، فهو لا يسعى لمرضاة لله، بل يسعى لغاية أخرى، إشباع الرغبة الجنسية، وهنا يصبح (المجاهد) يقاتل ويقتل في سبيل شهوته وليس في سبيل الله كما يدعي، وبهذا تفقد مشروعية العقيدة والفكر الذي يستند إليه. تتقدم أكثر الساردة من عقلية وسلوك ودفاع المجاهدين، فبعد أن يدخلوا "بيت السعادة" ويسبوا النساء فيه يتحدثون بمنطق الجنس والمتعة واللذة: "هؤلاء السبايا سنمنحهن للرجال والجنود الذين تعبوا في تحرير هذا الوطن... (انكحوا ما طاب لكم من النساء) ولا تنسوا أنه يحق لكم (مثنى وثلاث ورباع) املئوا هذه الأرض بالأشبال الصالحين... تزوجوا وضاجعوا نساءكم وتمتموا، ولا تنسوا أن تطلقوا اللحى وتحفوا الشارب" ص 152، إذا ما توقفنا عند لغة خطاب "الأمير" سنجدها متعلقة بالجنس والشهوة، حتى أن الآيات القرآنية التي استشهد بها متعلقة بالجنس، وهذا يعكس ما يحمله في العقل الباطن، فتفسيره وفهمه للدين يستند على الجنس والنساء والشهوة، لهذا يرى الجنة مترعة بالنساء والتلذذ بهن: "إني أراهم الآن كما أراكم يسرحون ويمرحون في الجنان، يحتسون من نهر الكوثر، ويفضون بكارات الحوريات اللواتي لم يطمثهن إنس ولا جان" ص 153، هكذا تري الساردة فكر وسلوك ودوافع وعقيدة من يدعون الجهاد، فحقيقتهم رجال مهوسون بالجنس وبالنساء، وكل ما يفعلونه ليس لمرضاة الله، بل للحصول على النساء ومتعتهن، فيا لهم من مجاهدين ومؤمنين وعقائديين! نساء ورجال الرواية: في المنطقة العربية تتعرض النساء لحالة ضغط مضاعفة وأقوى وأشد مما يتعرض له الرجال، وهذا يعود إلى أنهن يتعرضن ويعانين من حال الفساد والقمع التي يتعرض لها الرجال، يضاف إلى هذا تعرضهن لقمع الرجال/ المجتمع الذي يتعامل معهن بصورة فوقية، فالذكور قوامون على النساء، وهن ناقصات عقل ودين. في زمن الحرب يشتد عليهن الواقع أكثر، لأن الذكور؛ الزوج/ الأخ/ الأب يعانون من ضغط الحرب وويلاتها، مما يجعلهم يفرغون هذا الضغط على النساء، من هنا نجد الساردة تنحاز للمرأة وتتناول أكثر من امرأة، وبمجملهن تعرضن للضغط والقمع من الذكور، لكنهن كن أكثر قوة وصلابة، وسعين إلى تغيير واقعهن، وغالبتهن نجحن في ذلك. يحدثنا "طلال" عن "إيمان" شقيقته وزوجة "جاسم" (العسكري المر) الذي لا يعرف كيف يتعامل مع زوجته: "إنها تعيش مع زوج قاسي القلب... وقد ازدادت سوء معاملته بعد ظروف الحرب، واكتشفت أنه كان إنسانا مجردا من المشاعر والرحمة، يعاملها وكأنها جندي أسير عنده... اعترف لها بأنه أعدم بعض الجنود الذين حاولوا الفرار من الخدمة الإلزامية... يصرخ لأتفه الأسباب" ص 97، وهذا ما يؤكد مضاعفة الضغط الواقع على المرأة العربية، فهي تعيش ظرف المجتمع/ الرجال/ وأيضا تتعرض لضغط وقسوة من الرجل. وعندما تريد التحرر من هذا الواقع، والتخلص من هذا الرجل القاسي يرد عليها: "يا كلبة لا تحلمي بالطلاق، لن تخرجي من هنا إلا إلى القبر" ص 104، هذا حال المرأة العربية، في (السلم) وفي الحرب، فالواقع، المجتمع/ الذكور يفرضون عليها قيودا تحول دون تغيير حياتها، وتبقيها أسيرة عند رجلها إلى يوم يبعثون. وتتحدث "مريم" شقيقة "سعاد" عن زوجها "حامد" الذي جاء إلى هولندا ليتم جمع شمل العائلة، وكيف كان موقفه عندما قابلها: "أنا جاي ربيكم وعلمكم الأدب، أنتم ضعتم في غيابي" وطلب مني أن أجعل عقد المنزل الذي نسكن فيه باسمه، وأن أبقى في البيت لرعاية الأولاد وتحضير الطعام، فهو يرى أن عملي إهانة له" ص 106، وكأن الساردة تقول إن الرجل العربي/ الشرقي لا يصلح لأن يكون رجلا، فهو ذكر، تتحكم فيه عقلية سادية تجاه النساء، ويراها دائما أقل منه، وله الحق في قيادتها والسيطرة عليها والتحكم بها، أينما كانت وحيثما حلت. ونجد هذه السادية عند الرجل الذي مارست معه "ليال/ ليلى" الجنس: "هذه الكدمات من الزبون الذي طلبني إلى جناحه في الشيراتون، ودفع مبلغا كبيرا ليحصل عليّ، لديه ميول غريبة، يحب أن يعنف الأنثى ويؤلمها لتصرخ، ثم يبدأ باغتصابها" ص 108، وهذا يشير إلى أن الرجل العربي رجل مريض وبحاجة إلى معالجة، وهذا يقودنا إلى الخلل في بنية المجتمع الذي يسيطر عليه ويتحكم به العقل الذكوري السادي. أما المحقق "كيمو/ كامل" فيعاني من المازوشية/ المازوخية، فرغم أنه يبدي القسوة والشراسة أثناء التحقيق مع الآخرين، إلا أنه يستمتع بالتعذيب والضرب الذي يتعرض له أثناء ممارسته الجنس. يستغل وضع "سهير/ سوسو" التي تم اقتحام بيتها "بيت السعادة" من قبل إرهابين بقيادة "صفوان" شقيق "سعاد وطلال" الذين قاموا بقتل وجرح العديد من النساء ورواد بيت السعادة، ليحصل على "سهير" لتكون له في ليلة ساخنة: "وأريدك أن تكوني عنيفة وقاسية معي! هذا يثيرني ويشعرني باللذة العارمة... تعالي إلى هنا، اجلديني بهذا الحزام، وأمشي على صدري العاري بكعب حذائك المغري والمدبب... أنا الآن حيوان تافه، أريد امرأة بلا فضيلة، بلا أخلاق تسحقني تحت قدميها، تبول عليّ، تحفر أخاديد على ظهري بأظافرها، لا يهم الألم... أنا أعشق المرأة التي تجلدني بعينيها ويديها" ص 159- 160. هكذا نكون أمام رجال بمجملهم يعانون نفسيا، ويمارسون سلوكا غير سوي، حتى "طلال" الذي كان أفضلهم وأكثرهم توازنا، نجده يقبل/ يوافق أن "تكون "ليال/ ليلى لغيره في ليلة حمراء موحشة، فتأتيه بكدمات ورضوض، بينما وجدنا غالبية نساء الرواية "حتى سوسو/ سهير" كن صاحبات مواقف ويتخذن قرارات حرة وصحيحة حتى وهن تحت الضغط، فالتحقيق الذي أجراه معها المحقق "كامل" يعبر عن قوتها وشجاعتها ومنطقها العقلي، فالرجال مشوهون فكريا وسلوكيا، والنساء ناضجات فعلا وقولا، وأكثر تحملا وقدرة على تجاوز الواقع والتحول/ الانتقال إلى ما هو أفضل. بيت السعادة: أن يتم تناول (بيت السعادة) على أنه الجنة والملاذ والمخلص للناس، إن كانوا رجالا أم نساء، فهذا مؤشر على وجود خلل في بينية المجتمع، في الواقع، في المكان، وهذا الخلل حقيقي وواقعي، أليست الحرب أكبر مصيبة تحل على الناس، وخاصة (الحرب الأهلية)؟ تتحدث "سهير" عن هذا البيت ودوره الإيجابي في تخليص الناس من همومهم وواقعهم البائس بقولها: "نعم، كل من يدخل هذا البيت كئيبا يخرج منه سعيدا خاليا من الهم والكآبة، وقد حلت كل مشاكله" ص 10، فكانت "سهير" في كل مرة تتحدث فيها عن هذا البيت تذكر محاسنة وأثره الإيجابي، وترفض وبشدة تسميته بيتاً للدعارة، فعندما وصفه "طلال" بهذا الوصف ردت عليه بحزم ومنطق وقوة: "ألم تأكل وتشرب من هذا الرزق؟ يجب أن تعلم أننا هنا لا نقتل أحدا، على العكس تماما نداوي الجروح، ونملأ البطون الجائعة بالطعام والحب، هذا بيت السعادة الذي يبحث عنه الجميع" ص 83، فبيت "سهير" بيت السعادة، وليس بيت الشقاء والعذاب، وهذا أيضا ما قالته للمحقق كامل بكل ثقة وإصرار: "والفيلا مكان للراحة، وشرب القهوة في الصباح، أو الشامبانيا في المساء لمن هزمته الحياة، أو فقد عزيزا على قلبه، ألا يحق لهذا الشعب المسكين الذي تعب من الحرب والرصاص والانفجارات، أن يرفّه قليلا عن نفسه؟ ألا يحق له أن يرتاح قليلا لينسى الموت، ويرتاح في بيت السعادة، ويحتسي من زجاجات الفرح؟" ص 144، نلاحظ أن "سهير" تدين الواقع بصرف النظر عما تسبب في خرابه، وهذا ما يجعل بيتها بيتا مناسبا لإصلاح ما فعلته الحرب بالناس، فلم يعد هناك مكان للراحة/ للفرح، فالقائمين بالحرب من كل الأطراف والجهات الذين أكلوا الأخضر واليابس، يبررون لسهير إيجاد هذا البيت، وما قيام المجاهدين باقتحام البيت وقتل وسبي من فيه، إلا إشارة على العداء بينهم وبين (بيت السعادة)، وكذلك اقتيادها للتحقيق في مركز الأمن من قبل رجال الأمن واتهامها بأن فعلها خيانة للوطن وللشعب، يعطي القارئ صورة عن (أهمية ومكانة ودور) هذا البيت، فيكفي أنه مكان لا يمارس فيه القتل أو التعذيب، فهو مكان آمن ومسالم ويحقق المتعة والسعادة لزائريه. الخمر: كذلك الخمر حاله كحال (بيت السعادة)، يحتاجه كل متألم، معذب موجوع، مقهور، وبما أن الحرب مفسدة للناس، فكان لا بد من وجود ما يزيل الغم والهم عن الناس، فجاءت الخمرة بصورة نافعة ومفيدة، كحال (بيت السعادة): "الحياة بلا هذا الشراب السحري حزن أسود لا يتبدد، ستجبرك الحياة على شربه في يوم من الأيام، ثم إن هذا النبيذ الجيد يفتح في النفس أبواب الفرح" ص 11، هذا ما قالته "سهير" "لطلال" المهموم والمحزون والمغموم. عناصر الفرح والسرد الروائي: يلجأ الأديب/ ـة إلى عناصر الفرح وقت الشدة، وتتمثل في المرأة/ الرجل، الطبيعة، الكتابة، التمرد، وبما أن الرواية تتناول واقعاً في غاية القسوة، الحرب وما فيها من ويلات، فكان لا بد من وجود مخففات تسهم في إزالة شيء من هذه القسوة، فكانت الكتابة وسيلة لإزالة الغم عن شخصيات الرواية، تتحدث "سعاد" عن فرح الكتابة بقولها: "كنت أرمم نفسي بالكتابة، وعندما أقرأ ما أكتب أشعر بشيء من الرضا والاكتفاء، فهي الشيء الوحيد الذي أمارسه ليغسلني من الداخل بخيط بين الخيال والحقيقة" ص 20، رغم أن القول جاء على لسان شخصية روائية "سعاد" إلا أنه يقودنا إلى الكاتبة نفسها، فنجد فيها شيئا من شخصيتها، فهذا القول أكبر وأعلى من ثقافة "سعاد" وبما أن الساردة فتحت المجال أمام "سعاد" للتحدث بصوتها في أكثر من موضع في الرواية، وهذا يقودنا إلى انحياز الساردة إلى سعاد أكثر من بقية الشخصيات. وتتحدث "سمراء" شقيقة "سعاد" عن أهمية الجنس (الرجل والمرأة) وقت الحرب وأهميته بقولها: "حتى في زمن الحرب، نحتاج إلى الطعام والشراب والحب والعواطف والجنس، ولقد سمعت أن الذين يعيشون على حافة الخطر مثل الجنود والمقاتلين، تشتعل رغباتهم الجنسية ولا تنطفئ أبدأ، وكأنهم يعوضون لحظات الرعب التي يعيشونها بممارسة الجنس، ولعل الشعور بالخوف يتحول إلى هرمون الشهوة" ص 102، وهذا أيضا يخدم أن الكاتبة تعطي شخصيات الرواية شيئا من ذاتها، فمثل هذه الثقافة أعلى وأكبر من "سمراء" لكن يبدو أن الساردة (فقدت) السيطرة على شخصياتها فتحدثوا نيابة عنها. ونجد صورة الرجل المثالي الذي تحلم به كل امرأة من خلال حديث "سهير" عن "سعيد مهتدي/ العسل" الذي يروض ويعلم الفتيات كيف يقمن بعملهن في (بيت السعادة): شاب يافع مفتول العضلات، فارع الطول، يبدو في نهاية العقد الثاني من عمره، وعلى ذراعه اليمنى وشم على شكل تنين صغير، يربط شعره الطويل إلى الوراء، وقد وضع قليلا من الزيت ليبدو لامعا، له عينان ثاقبتان، وتميز وجهه لحية ناعمة بشعر خفيف. مهمته أن يشعل رغبة الفتيات، ويدربهن على إغواء الرجال ليقمن بواجبهن على أفضل وجه، كما أنه سيعلمهن الرقص لتستطيع الأنثى أن تضغط على الزر المناسب للرجل، وتأخذ من محفظته كل شيء". ص 81. نلاحظ أن هناك وصفاً دقيقاً "للعسل" حتى أنها تناولت أدق تفاصيل في جسده وما فيه، الوشم، وهذا يعود إلى أن المتحدثة هي أنثى "سهير" وإلا ما كان لهذا الوصف أن يكون، وهنا نطرح سؤالاً: أما (فكرت/ حسبت/ أخذت) "سهير" أنها تتحدث عن شاب/ العسل أمام "طلال" الذي سيشعر بالغيرة من هذا الوصف وما فيه من دقة وتفاصيل؟ ومن ثم يمكن أن يشعر بالنقص والألم لعدم وجود هذه الصفات والأوصاف فيه، خاصة أن "سهير" كانت تهتم بوضع "طلال" وتعمل على تخليصه من أزمته المالية والنفسية والاجتماعية. من هنا يمكننا القول إن الساردة انساقت وراء رؤيتها هي "للعسل" مما جعلتها تهمل/ تبتعد عن الاهتمام بشخصية "طلال" الذي كان يفترض أن يأخذ المزيد من اهتمامها، خاصة أنه يمر بظروف قاهرة وصعبة. الصور الأدبية قلنا إن موضوع الرواية قاس ومؤلم، وما كان له أن يمر بسهولة دون وجود مخففات/ جماليات تحد من قسوة الأحداث، من هنا وجدنا الساردة تستخدم لغة أدبية متألقة، تجعل القارئ يستمتع بها، (متجاهلا/ ناسيا) شراسة الحرب وبؤس الشخصيات. من هذه الصور: "فجأة أصبح الموت في بلدتي كالنهر الذي لا يغير مجراه، استفحل جريان مائه واستمر لسنوات حتى قلنا: كفى يا موت توقف! ألم تتعب من جمع الجثث؟ ألم تمتلئ جعبتك وينحن ظهرك من جمع الأجساد؟" ص 24، فهذا المقطع جاء مباشرة بعد الحديث عن المجازر وحرق المحاصيل الزراعية، فالساردة كانت تعي أنها تقدم أحداثاً دامية لا تحتمل، فأرادت أيجاد لغة أدبية وصور تخفف من هذه القسوة والألم. ونجد صورة اللقاء بين "ليال/ ليلى وطلال" بعد أن هاجرت خطيبته "أحلام" مع أهلها إلى خارج البلاد، فكان لا بد من وجود شيء/ لغة/ صورة تخفف عليه وعلى القارئ من وقع هذه الهجرة: "رمى برأسه على صدرها كطفل صغير، لكنها فجأة شعرت بخوف غريب وغصة في قلبها، جرت دموعها نهراً على وجهها بلا سبب، استقرت في حضنه، ثم دفنت رأسها بين ذراعيه، فاحتضنها وبكيا معا بكاء صادقا، نقيا كالمطر عندما يغسل أرضا جرداء، وكأنهما حلقا كطائرين فوق شجرة السعادة" ص 89- 90، وإذا علمنا أن "أحلام" أيضا تعاني من فقدان العائلة والأسرة، وأنها ضحية الحرب، نصل إلى أن هذا المشهد أرادت به الساردة التخفيف على المظلومين والبائسين والمقهورين، إن كانوا في الرواية أم خارجها. [*]الرواية من منشورات دار مرفأ للثقافة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2024.
#رائد_الحواري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الموت الناعم في قصيدة نوستالوجيا بعلية مهدي نصير
-
الثبات في ديوان غيم على قافية الوحيد محمد لافي
-
المكان في قصيدة -وردة على باب الحبيبة- علي البتيري
-
البعل والخصب في ديوان -في ظل آب- سلطان الزغلول
-
الحرب والأحداث في رواية أخبار نصف جيدة المتوكل طه
-
السرد وشكل التقديم في رواية أخبار نصف جيدة المتوكل طه
-
طوفان الأقصى في رواية -أخبار نصف جيدة- للمتوكل طه
-
كتاب الصهيونية في أمريكيا محمد حافظ
-
تألق الطفل في رواية حمروش جميل السلحوت
-
الرمزية في رواية أحلام وغيلان محمد السماعنة
-
القسوة والجمال في قصيدة -غرفة الكولونيل- علاء حمد
-
الأصالة في مجموعة -حمالة التعب- سرمد فوزي التايه
-
التميز في رواية -آخر نزيل- هاني الريس
-
تعدد القراءات في -عبق الريحان قصائد هايكو- ميسر أبو غزة
-
التراث والمعاصرة في كتاب -ثمرة الأصحاب- مأمون دويكات
-
التماهي في قصيدة -يحيا يحيى- لعصام الأشقر
-
الشكل والمضمون في -آه يا وطني الكتاب الثاني- محمد حافظ
-
الثلاثة العظام
-
حداثة الطرح الديني في كتاب -تأويل المُأول- سعادة أبو عراق
-
المعركة في ومضة -وتوضأوا- سامح أبو هنود
المزيد.....
-
إدراج الكوفية الفلسطينية على قائمة التراث غير المادي بالإيسي
...
-
مدينة الأقصر تحتفي بانطلاق مهرجان الأقصر للشعر العربي
-
البحرين تعرض كنوزها في موسكو
-
مصر.. منى زكي تتعرض للانتقاد بسبب -كوكب الشرق-
-
مش هتقدر تغمض عينيك مع تردد قناة روتانا سينما الجديد على ناي
...
-
-الجبل السحري-.. توماس مان وتتبع تاريخ الجنون قبل ميشيل فوكو
...
-
فنان عالمي ينبهر بآثار مصر الإسلامية (فيديو)
-
تفاصيل جديدة حول تهمة الكاتب الجزائري كمال داود صاحب رواية -
...
-
نقل السيناريست المصري الكبير بشير الديك إلى العناية المركزة
...
-
رواية -حوريات - لكمال داوود: هل سرقت تفاصيل الرواية من قصة ح
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|