رحيم الحلي
الحوار المتمدن-العدد: 8166 - 2024 / 11 / 19 - 10:26
المحور:
الادب والفن
في مدينة صاخبة وفي زاوية مطعم شعبي صغير ، جلس الغريب يسرح بصره المحيّر في الشوارع والسيارات التي تسابق العابرين، بدا المكان هادئاََ رغم أن الشوارع بالخارج تعج بالضوضاء. بدا الغريب مختلفاََ، يحمل في ملامحه أثار رحلته المضنية في غربته الطويلة ، وجهه شاحب وعيناه تتطلعان بشرود إلى طاولة خالية أمامه. تناول وجبته بصمت، وهو ينظر إلى أطباق الطعام، بدا وكأنه لم يشعر بذائقة الأكل.
بينما كان يقطع قطعة من اللحم، دخل قط أبيض إلى المطعم بخطوات بطيئة متعثرة. كان القط أعمى تقريباََ، عيناه مغلقتان تماماََ بسبب الرمد، وبالكاد استطاع فتح إحداها لينظر بعجز إلى العالم من حوله. تقدّم بخطوات مرتبكة وكأنه يشعر بالفراغ أكثر مما يراه. التفت الغريب نحوه وتوقّف عن الأكل. نظر إلى القط بحزن واضح ثم قطع قطعة من اللحم ووضعها على الأرض أمامه.
لكن القط لم يقترب. بدا وكأنه لم يسمع صوت الطبق، ولم يلتقط أنفه رائحة الطعام. كان المرض قد سرق منه كل حواسه تقريباََ. وقف الغريب يتأمله بصمت، لا يعرف كيف يساعد كائناََ عاجزاََ كهذا. لبث لدقائق، ثم قرر أن يترك معظم الطعام أمامه. خرج باتجاه المغسلة ليغسل يديه، ينظر إلى الماء وكأنه يحاول غسل شيء أعمق من مجرد بقايا طعام.
عاد إلى الطاولة، دفع الفاتورة دون أن يتحدث، وخرج من المطعم. سار ببطء إلى مقهى قريب. جلس على كرسي خشبي قديم وطلب كوباََ من الشاي. كان المقهى يعج بالحياة، ضحكات ودخان سجائر، لكن الغريب ظل صامتاََ، يمسك كوب الشاي بيديه دون أن يشرب. كان عقله عالقاََ عند ذلك القط الأبيض، وعند فكرة العجز الذي قد لا يرحم، سواء كان في القطط أو البشر.
كانت الوجبة كئيبة، وكذلك كوب الشاي، لكن الغريب أدرك فجأة مرارة الغربة في هذه المدينة الكبيرة ، حيث لا أحد يعرف أحداََ، كأنه يوم القيامة، الجميع متوترون ويصرخون، كان لكل مخلوق حكايته، وحكاية القط ستظل ذكرى تُثقل قلبه طويلاً.
حساسيته المفرطة تُرهقه، فهو لا يستطيع أن يكون سعيداََ بينما يرى الناس متعبين وجائعين، دون أن يشاركهم ما في جيبه الصغير.
لولا ابنته التي تسكن هذه المدينة، لما كرر زيارتها، فقد أرهقته مشاهد البؤس، وأعداد المتسولين، وصور الفقر المرعبة.
القاهرة نوفمبر 2024
#رحيم_الحلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟