|
أمنيات شخصية ساذجة لكنها مستحيلة على أبواب السنة الجديدة
أحمد الناصري
الحوار المتمدن-العدد: 1782 - 2007 / 1 / 1 - 09:10
المحور:
الادب والفن
رسالة الى أهلي وأصدقائي في مدينة الناصرية ( يالولايه يالولايه ... أجيتج شايل همومي ... لكيت همومج هوايه ... يالولايه )
هذه رسالة الى أهلي وأصدقائي في مدينة الناصرية، والى جميع أصدقائي في الوطن والشتات، بمناسبة السنة الجديدة، بعد إن تعثر حقي وحلمي الطبيعي في لقاءهم، فيها شجون وأحزان وإحتراقات وهموم متراكمة وخيط أمل، وإعتراف بالفجيعة، وإعتذار ما، ومحاولة ناقصة للتعويض عن الإنقطاع الطويل القائم بيننا، قد تخفف من آلام الغربة والإغتراب، وقد تكون فيها أجوبة سريعة لأسئلة كثيرة لاتزال معلقة على حائط الزمن المفتوح، تكشف شيء من أصداء الروح الحائرة وهي تخوض وتدور في دائرة مغلقة، تحت سماء رمادية، ولكي ( نفرك الصدأ ) حسب تعبير حسين مردان الشهير . لقد كتبت عن الناصرية، ذكريات وأوراق خاصة، وكنت أتمنى أن أعيد كتابة الأوراق مع أصدقائي، وأن أضيف لها أبواب جديدة، ومعلومات جديدة، وأصحح الأخطاء والنواقص التي وردت فيها، وكنت أحلم أن تتحول الى كتاب جماعي وندوات ونشاطات أخرى، وربما فلم سينمائي طويل، ومنها تنطلق إمكانية إنشاء مجموعة ثقافية، بإسم ( مجموعة الناصرية الثقافية ) أو( الذاكرة الثقافية ) أو ( جماعة سمير هامش الثقافية ) مثلاً، أو عشرات الأسماء الأثيرة والجميلة، وتصدر مجلة جديدة، لكن الظروف الحالية، في ظل الإحتلال، وإختلال المفاهيم الوطنية والثقافية والإنسانية، واختلاط الحابل بالنابل الى درجة قاسية، لايمكن السيطرة عليها، أوالتخلص من نتائجها بسهولة، الى جانب التشوة والمرارة والإعياء العام، كلها أسباب تمنع ( ولو مؤقتاً ) قيام مثل هكذا مشاريع وأحلام مهما كانت بسيطة ومشروعة، وهي كثيرة بلا شك . لاأملك في حياتي غير أمنيات بسيطة وصغيرة، أمنيات ساذجة ومرتبكة، أغلبها عمومي وعام، لم تقترب أو تلتصق بالإمنيات الذاتية الطبيعية ودورتها وضرورتها، ومع ذلك فقد اصبحت أمنيات رثة ومحطمة، غير قابلة للتحقق، وغير صالحة للنشر، وقد تناثرت فوق رصيف الأيام، أيام العمر المبعثرة فوق تجارب الخيبات المتلاحقة، في الناصرية والجبل والمنافي والسجون، وهي الصدى المتقطع في وديان الروح، والمادة التي لم يسمح لها الزمن كي تختمر .. سأخبركم الآن بأنني لاأملك شيء، لذلك لايملكني شيء، غير موقف ومجموعة أحلام وأمنيات شاحبة فقط، تمسكت بها ودافعت عنها بين التخوم الكثيرة ، هل أعترف لكم بأن ( ابنكم باعته الدنيا ولاباع )، هل أبلغكم بأن موقفي الوطني والإنساني ثابت وناصع كالنجمة في الجبين، وأنني سأظل في الضفة الوطنية، مع الناس، وبأن يدي ستبقى خالية وبيضاء، ولساني يقبع خلف عقلي وقلبي . كيف تفرح او تتمنى، وأنت تقف فوق جسد الوطن الغارق في دماءه، الوطن المستباح والمهدد ؟؟ وماذا تتمنى في هذه اللحظة السوداء والطويلة بالذات، غير أن يسقط الإحتلال أولاً، لكي نوقف تطييف وتفتيت الوطن، ونمنع تقسيم وتخريب بغداد، ونمنع عزل الناصرية في كانتون غريب عنها، لكي يتوقف القتل الجماعي الأعمى للأبرياء .. غير أن نجمع الجثث الأخيرة من المزابل والمجاري والأقبية السرية، وغير أن تسقط السجون والحصون السرية الجديدة .. غير أن تسقط الأسماء البائسة، وأن تموت الطائفية الصفراء، وغير أن تفتح المدارس والجامعات أبوابها للطلبة، وغير أن تفتح المستشفيات المتطورة أبوابها للمرضى الفقراء، غير أن يشبع الأطفال الفقراء .. بعدها نحاول جمع ونشر كتاب الشعر والنثر، كتاب العراق الإنساني الطبيعي، الذي يعيش فيه الإنسان حياة تليق بالبشر !!؟؟ في زمن الفاشية السوداء، التي يجب أن لاننسى جرائمها أبداً، وأن نكشفها دائماً، كانت الإمنيات الغالية والصغيرة تلاحقنا في كل مكان ووقت، في الزنازين الموحشة، والجبال القصية، والمدن البعيدة والمتناثرة على خارطة الدنيا، وفي ساعات التأمل والعزلة.. كنا نتعلق بخيوط المستقبل ولو البعيد والمشوش ، ونتمسك بالحلم مهما كان عصياً أوهشاً أو رجيماًً... فكنت أتمنى أن أعود الى الوطن، وأنام في بيتنا من جديد، أن أمشى في شوارع الناصرية الرحيمة بهدوء تام، أن أصافح وأعانق بيوت ومقاهي مدينتي، وأستعيد جميع الوجوه والأمكنة والأحداث، أن أستعيد ذكريات الطفولة القاسية، وشبح الوحشة والكآبة، أن أزور مدارسي القديمة، وأحاور أساتذتي من جديد، لأعرف أمكانياتي الذهنية والمدرسية، أن أشرب ولو قطرة من مياه الفرات، أن أزور الجيران وأصحاب الطفولة، وأنظر في مصائرهم الشخصية والحربية، أن ألتقي أصدقائي الكثر، لنتحاور من جديد الى حد الإشتباك الجدلي والإعياء والإغماء، لكي نعيد الحساب بكل شيء، بما قلناه وما توقعناه وما جنيناه، وما كسبته إيدينا، أن نعيد مقاربة التجارب، ونكتشف فوائد الخبرة التطبيقية... لكي نضحك من القلب من جديد، ولكي نعبث كما كنا، وكما نشاء، ونحزن من القلب. وأسئلهم، هل صحيح إن سمير هامش لم يعد بيننا ؟؟ وكيف تركتهم الذئب يأكل سمير، في أوجار وسواتر الحرب السخيفة ؟؟ كيف لنا أن نستعيد ذكرياته ؟؟ وكيف لي أن أجمع نكاته وطرائفه الخرافية، تلك الخرافة التي تشي بالموت الخاطف ؟؟ وألملم شظايا صوته، وهو يؤدي للشيخ إمام، ( واه يا عبد الودود ) بلهجة صعيدية صافية ؟؟ وأن أمشي مع طه رشيد في شوارع الناصرية التي عشقها مثلما عشق بساتين وبيوت بعقوبة المعطرة بشذى البرتقال، قبل أن تغشيها غاشية الدم والموت، وظل يقص حكاية الناصرية لسكان باريس في سيارة التاكسي.. كيف لي أن أطل على تحولات الأصدقاء الفكرية والجسدية الخارقة ؟؟ وأحكي لهم عن خرافة التجربة والجوع والخطر، وليالي الزنزانات الإنفرادية المعتمة، وقساوة الرفاق والأعداء. سأحصي لهم عدد الخيانات والخيبات، ساحكي لهم كيف كانت المواجهات مع العدو صعبة وقاسية، وكيف صرفت السنوات والوقت في معركة طويلة ومفتوحة، معركة متعددة الأشكال والمعاني والدرجات، حاولنا فيها إستخدام سلطة العقل السياسي النقدي، وتطويره الى العقل الاجتماعي النقدي، الأوسع والأعمق، ضد جميع السلطات الخاطئة الأخرى، ولاأدري كم نجحنا في هذه المهمة المعقدة، وفي أمتلاك شروطها الصعبة، لكنني لازلت أحاول !! بعدها لم يتسن لي أن أعيش حياة طبيعية، أختار فيها المكان وطريقة التصرف بالوقت، لأبحث في موضوعات كثيرة أعشقها، أن أدرس التاريخ القديم، وأتخصص في حفرياته، أوأهتم بقضايا فلسفة التصوف واللغة، يعني أشتغل على منهج التاريخ والألسنية، وأدخل الى علم الإجتماع، وقضايا أخرى جميلة، وأساهم في طرح الأسئلة الكبرى الأساسية، في جدل العقل المفتوح ؟؟ لكن الوقت إستدار بي وقذفني الى مسار خاص آخر، فرضته عليّ الأحداث، ضمن ما يمكن تسميته، ضريبة الزمن والظروف الإجبارية الباهظة، أي الولادة والتواجد في زمن غير مناسب .. سنبكي كثيراً .. سأبكي كثيراً، عند كل نقطة ومفصل، وعلى كل يوم وشهر وسنة، تسرب مني وضاع خارج المكان الأول .. وأحاول أن أحاورأبي وأصحح العلاقة معه، وأجري حواراً لاحقاً ومؤجلاً بين أب طيب وواضح لكنه قاسي وأبن صالح، أن أزور قبر أمي الجميلة، وأتذكر عيونها الملونة، التي أورثتها لي في علاقة الجينات الذكية، وحركة جداول الجينوم الغامضة، الى جانب أشياء حميمة أخرى .. أن أزور قبر أبي الذي رحل في غيابي المديد، وهو في حالة من الحزن والكمد والإنتظار الطويل، وقد مات واقفاً وصلباً وعزيزاً، ولم ينحن لشيء. أن أبحث عن صوري ودفاتري وكراساتي القديمة التي سجلت فيها أولى كلماتي وأولى أحلامي المبعثرة، لعل فكرة ضائعة أجدها هناك، ولعل أمنية واحدة سجلتها في يومياتي تلك قد تحققت، وأبحث عن صور الصبايا التي تناثرت في تفاصيل التجربة، بعضهن سحقتهن الأحداث الجسيمة المادية والمعنوية، وأزور من بقيّن، وأبحث عن بقايا الصبا والجمال والأحلام المتطايرة، وأمسح الغبار عن الكتب الأولى، دواوين وكتب الجواهري والسياب والبياتي وسعدي يوسف، وقصيدة ( تحت جدارية فائق حسن) ونبوءة الأيام الملطخة بالدم والفجيعة، وقصائد محمود البريكان وحسين مردان ( الأزهار تورق داخل الصاعقة )، وديوان ( إعترافات مالك بن الريب) ليوسف الصائغ، وقصيدة الى الشهيد الشهير الشفيع أحمد الشيخ، وديوان حسب الشيخ جعفر، أظنه ( عبر الحائط في المرآة )، وكتب طه حسين وروايات نجيب محفوظ، وعبد الرحمن منيف، وقصائد رامبو الملتبسة (علني اعثر على قصيدة المركب السكران التي سجلتها بصوتي المرتبك ) وأزهار الشر لبودلير، وأوراق ريلكه وبوشكين ولوركا، والملك الظليل ( أمرؤ القيس) وديوان دعبل الخزاعي، الى جانب المتنبي الكبير وأبي تمام والبحتري والمعري، وكتب ماركس ولينين، منها ( الأمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية )، الذي أحاول أن أستعيدة الآن، لأرى ما يصلح وما لايصلح لنا فيه، بعد كل هذه العقود وكل هذه التحولات، وكتاب مالعمل، وخاصة مقالة بم نبدأ ؟؟، الذي ظل يثير جدلاً متواتراً لاحقاً ؟؟ وأعداد من مجلة الأقلام والثقافة والثقافة الجديدة، ونصوص مسرحية نادرة، وروايات خارقة، وأشرطه لموسيقى كلاسيكية، لأتذكر النقاشات البدائية حول التشكيل وحركة الألوان وطبيعتها ( التي بدأت مع خالي طالب السيد نصيف معلم مادة الرسم الشهير في مدارس الناصرية، وأخي الكبير صبري خريج معهد الفنون الجميلة / قسم الرسم )، لأعيد تلك الإلتقاطات النادرة والمبكرة، وذلك التأسيس الفريد لعالم بهي، تلاشى من بين أيدينا بالقوة الهمجية الساحقة .. وأطلّع على ملفي الخاص في مديرية أمن الناصرية، صادره أصدقائي، أبان أحداث عام 91 التاريخية، لأر ماهي نظرة الأعداء لي، وماذا قالوا عني، ومن كتب التقارير، ومن وشى بي، وبخط يدهم، ولأعيد قراءة صفحات صمودي العجيب في وجوه الجلادين، وأحتفل به، وأزور زنزانتي، وزنازيني الكثيرة في الناصرية وبغداد وبارزان وخارج الحدود أيضاً !! .. أريد أن ألتقي بخالي الجميل الذي بلغ من العمر عتيا، وهو آخر بقايا شيوخ العائلة، لأسئله عني، أين ولدت؟؟ وكيف ؟؟ ومتى ؟؟ هل كان الوقت شتاءً أم صيفاً على الأقل ؟؟ وأسئلة أخرى عني وعنا .. أحاور أخي الكبير عن ذكريات العائلة، ولماذا لم يعلمني السباحة في نهر الفرات مثلاً ؟؟ أن أرى أخوتي الذين ولودوا وكبروا في غيابي المرير، أن أحصي فروع شجرة العائلة، وأستكشف ملامح الأحفاد، وأزور الأقرباء الكثر، وأن أسجل أسمي في دفاتر العائلة من جديد، بعد إنقطاع طويل وطويل جداً، وأتعرف على النسباء والمصاهرين الجدد، أن أسامح كل من ظلمني ولاحقني، أن أقيم متحفا للعائلة والصداقات الطيبة والعجيبة، وللصور والأحداث الجديدة، وللتحولات والتجارب المذهلة، وأجمع فيه رائحة الخيبات، ورماد حرائق الروح ومرارات العمر، مع صندوق أسود لأمنية سرية لم تتحقق. متحف أعلق فيه صور رنا وفرات ويسار، أصدقاء العمرالجدد، وقد ساهموا في رسم اللون الأخضر في روحي، رغم طبقات الرماد والسخام الكثيف .. أن أعود الى مطاعم الكباب الرخيصة، وسوق السمك القديم، أعود الى المقاهي، وأكتب عن الشهداء الذين أعرفهم والذين لاأعرفهم، وقد سقطوا وهم يدافعون عن بوابات المدينة وشوارعها، وأقيم لهم نصباً في ساحة المدينة، سأحكي عن الشهداء اللذين سقطوا في كردستان، علي إبراهيم وصباح مشرف وصباح طارش ( وقد تسلل من كردستان وإستشهد في الناصرية ) وأبو رؤوف وقيس كاظم وصلاح مشرف وموناليزا أمين منشد ( أنسام )، والطيار الحربي لطيف أمطشر( أبو الندى )، وجبار شهد ( ملازم حسان )، وأبو آذار، ومناضل عبدالعال ( مؤيد) و أبوعلي النجار، وجميع شهداء المدينة الذين لم أطلع على أسمائهم، سأحكي لهم عن تجربة خاصة لبطل إسمه منتصر، وعن قصة خائن آخر معروف لديهم.... أن أزور بهو البلدية، وأتتبع مسار الصاروخ المعادي الذي إخترقه وكسر ظهره، لأعرف من أين أتى ؟؟ وأتحسس صوت الشاعر رشيد مجيد :- ( سالت عنك النهر والضفاف والنخيلا، سالت عنك الريح والرمال والطلولا، فكنت يامدينتي حكاية طويله ) و( ماذا سأكتب يا مدينة، عن شوارعك المضاءة بالدماء )، وصوت كاظم الركابي، وأصداء ألحان طالب القره غولي وكمال السيد، وغناء داخل حسن وحسين نعمة وفتاح حمدان وحكمت السبتي وبلقيس فالح، وأوبريتات النشاط المدرسي بأوتار المبدع الجميل حسن الشكرجي والعازف المنسي فوزي صبيح، ومسرح جمعية الآداب والفنون، وهو يعرض مسرحية سيرة أس للمخرج صالح البدري وغيرها، وأنظر في السلسلة الذهبية الطويلة من أسماء أبناء المدينة، ، وأرتق شاشة السينما الممزقة، وأعيد ترتيب شريط فلم ( وداعاً إيها اللقلق )، الذي شاهدته مع صديقي الجميل منير فاضل، بصحبة جميع الأصدقاء يومئذ، ونعد الكراسي لندوة قادمة، وأبحث عن صوت الراحل كاظم العبودي وهو يقيم التدريبات في مسرحية ( أغنية التم ) لتشيخوف، على مسرح ثانوية الجمهورية ومسرح المدرسة المركزية الإبتدائية البدائيين، واتابع خطوات زكي عطا وأحمد موسى ومنير فاضل وناصر خزعل وسعد شهاب وعلى شبيب وجواد جخيم، والأسماء الأخرى على مسارح الناصرية، وأسأل محسن الخفاجي عن محنته الطويلة مع المحتل، ثم أعبر على جسر المدينة القديم والأثير، الذي قصفه الأمريكان أيضاً، جسر الطمأنينة والوداعة والألفة، وهو يقودنا نحو عوالم فسيحة، عوالم حميمية، رغم ضيق المكان، يقودنا نحو المتنزة الجميل والوحيد في الناصرية، ومدينة الألعاب التي جرى تطويقي وإعتقالي فيها، في خريف عام 78، والى حي الأسكان، حيث جيش الأصدقاء، والعوائل الصديقة، وجيش الحلقات والخلايا، وجلسات التثقيف الجماعي، حيث كان يقيم علوان سعيد ( الدسم ) وآل أمين، لأر آثار الشهيدة موناليزا أمين منشد ( أنسام ) التي قتلها الجندرمة، والشهيدة سحر أمين منشد، وآل غزاي، والعائلة الشهيدة آل طارش، وبيت الشهيد صاحب ناصر( أبو جميل )، لاعب كرة السلة المبدع والكادر العمالي الرائع، وجموع من الناس والعوائل الطيبة .. وأعود الى ( الولايه )، لأستعيد ذكريات ساحة الجمهورية الرياضية، وتصفيق الجمهور العاصف والطويل، لأداء عباس هليل وصلاح عبيد ومالك جدوع وزملاءهم، وأزور نادي الجزائر، ونادي اللواء، علني أعثر على لقطات فوتوغرافية طائشة لي مع اللاعبين. لازالت ثمت أغنية بسيطة وبعيدة، تدور في دمي وتدوزن مرارة أيامي ( للناصرية للناصرية تعطش وأشربك ماي بثنين إيدية )، وكم تلاحقني اغنية ( المكير ) للمبدعين زامل سعيد فتاح وكمال السيد وياس خضر، في كل محطات وقطارات العالم، رغم فارق المحطات والقطارات الحديثة والسريعة هنا، التي لا ( تكعر) ولا تصرخ ولاتتأخر .. وماذا ستنسى من الغناء العراقي الفسيح ؟؟ كيف ستنسى الوجوه الملتصقة بزجاج الذاكرة، والقابعة قبوعاً أبدياً في كهف الروح، وهي ترفض أن تغادر ؟؟ هل تنسى تلك الأيام المضمخة بالغبار والعابقة برائحة الطلع والسمك وخبز التنور والبساطة والكفاف ؟؟ هل تنسى السير الطويل في شوارعها وأتربتها وتحت شموسها الحارقة، تتطاير امامك رؤى وأسئلة لازالت محيرة وعصية، عن محنة الخلق والوجود والإنسان والتمرد، وأنت تضرب بعصاك، وتحث الخطى نحو المجهول ؟؟ .. كيف لي أن أستعيد كل شرائط ودفاتر الأيام والأسماء والذكريات والتفاصيل، في مدينة ملئية بالتفاصيل، مليئة بالتطلع، مليئة بالحياة والدهشة. مدينة تحولت الى مقبرة للأحلام الموؤودة، يقودها أشباح الإنحطاط والتخلف والداهية الدهماء، نحو الهاوية، أشباح لاتعرف ماهية المدينة وخصائصها. هذا حال مدينة الناصرية الراهن مع الخليط والأخلاط .... سأظل أصيخ السمع الى عوالم سرية وسحرية تأتي من الناصرية، وسأظل أهمس بتلك الأحلام والأمنيات والذكريات الجميلة والبرئية والبعيدة عني ومني، وهي تعينني وتحميني من البربرية الزاحفة على الجميع، بربرية أخذت منا الوطن، كما أخذت الناصرية الى ممرات ودروب خارج أصول وسياقات التكوين والتأسيس الأول، خارج طبيعة المدنية . سأظل أتمسك بذلك الأمل والحلم الخفي، كلعنة بهية تطاردني، وأطل منه على أيامي القادمة.. سأظل أحن الى المكان الأول والسماء الأولى، رغم أنني أعرف إن الأمكنة الحميمة التي أقصدها قد تغيرت وربما تلاشت، ولم تبق في أي مكان آخر خارج الذاكرة، وإنني أخاف من موجات الزمن المتلاطمة، وعباب الدم، ومن رياح السنوات العاتية أن ترمس وتدرس آثار الذاكرة الشخصية والجمعية وحجراتها أيضاً . ألم أقل لكم إنها أمنيات بسيطة وساذجة وعادية، إنها إمنيات شخصية، وربما هي كلمات تأتي من الخارج، لاتلامس واقع المدينة الراهن، أو حجم الكارثة الدائرة بين جدرانها، لاأدري ... ولكن يا للفجيعة ويا للهول، يبدو إنها لم ولن تتحقق بعد الآن، فقد قتلت مرةً ثانيةً وأخيرة. قبلات حارة لاتنتهي للوطن الكبير، للناس، لبغداد سيدة المدن، للجبال، للأهوار، لأهلي وأصدقائي، للناصرية مدينة الجنون والإختلاف، وعشبة البلاد الطيبة وشجرتها البهية، لشوارعها، ومقاهيها وبساتينها وأسرارها وحزنها وخرابها، وعناق طويل لاينتهي ... وليكن عام 2007، عاماً للناس في الوطن، عاماً للإنسان العراقي، عاماً للوطن، عاماً لبغداد، عاماً للناصرية، عاماً لكل المدن العراقية، عاماً لدحر الاحتلال، عاماً لسقوط الطائفية بكل رموزها وأصنامها وصنوفها وقيحها، عاماً لوحدة العراق الثابتة وسقوط المشروع التقسيمي، عاماً للثقافة العراقية التي بدأت قبل كلكامش، وعاماً لعائلتي وأطفالي وأصدقائي .. عاماً نطل منه على المستقبل، بإنتظار أيام موشاة بالفرح، رغم خرائط الاحتلال والدم والمقابر والإرهاب والطائفية والخراب، رغم حريق البشر والشجر والمدن والثقافة والذاكرة، ورغم إنسداد الأفق المؤقت .
1 .1. 2007
- ربما كان عام 75 بالنسبة لي، عام تحسس وإكتشاف الأمنيات الصغيرة والكبيرة، عام الوعي بالإمنيات الخاصة والعامة . في ذلك العام، قال عزيز محمد : ليكن عام 75، عاماً أكثر إشراقاً .. عاماً للجبهة الوطنية ... كذا . عندها لم أكن أعرف إن تلك الكلمات التافهة، هي التي ستساهم في قتل كل أمنياتي وأحلامي الشخصية والعامة لاحقاً، عندما كنا نساهم في تشييد الجسرالذي سوف تمر عليه الفاشية الكريهة، وندق مسامير في نعش الوطن، الذي سقط أخيراً مضرجاً بدماءه الطاهرة .
ملاحظة : أرجو من الأصدقاء ايصال هذه الرسالة الى جميع أصدقائي في الناصرية والوطن، أسجل هذه الملاحظة، بسبب إنعدام الخدمات البريدية والإنترنيتية في بلادنا، في القرن الحادي والعشرين، فقد كنت أتمنى أن يحمل الرسالة ساعي بريد، بدراجته الملونة، ويوصلها حسب الكود البريدي للمحلة ورقم البيت، كما موجود في أمريكا التي تحتل بلادنا، وهي أشياء بسيطة وعادية، بدأت في أوربا قبل قرون، وكانت رافعة من رافعات التقدم والتطور والتواصل، وهي لاتكلف ثمن يوم واحد من نفط العراق، مع تقصير واضح من الأصدقاء لتجاوز هذه الصعوبات الجدية والحقيقية، في أن يملكلوا عناوين ألكترونية مثلاً، وهي مجانية وسهلة، لكنها فعالة، لكي نتمكن من التواصل معهم، لكي نسمعهم ونتعرف على أحوالهم، ونتعرف على الوضع الحقيقي هناك، لنعرف فصول الكارثة، ونتجول ونطوف في ممرات الجحيم، و ندخل في حقول وعقول البرابرة . مع التقدير .
صديقكم أحمد الناصري
#أحمد_الناصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عودة الى موضوع حركة الانصار
-
الحوار المتمدن .. رؤية مختلفة
-
محاولة لتحديد حجم وأهمية تقرير لجنة بيكر، وفق نظرة وطنية
-
التداعي والتراجعات والاحتمالات
-
التداعي
-
التحركات الأمريكية الأخيرة، هل هي تحركات اللحظة الأخيرة ؟؟
-
ماذا سأفعل لك ياغزة ؟؟
-
العراق على مفترق الطرق وبداية التحول النوعي
-
تعليق على تطورات مثيرة ... أرقام مجلة لانست ولجنة بيكر وتصري
...
-
ماذا تفعل رايس في بغداد الآن ؟؟
-
الفكر السياسي الوطني والفكر السياسي التابع للإحتلال في ضوء ا
...
-
رايس : الشيطان وحاوي الثعابين
-
مرثية لوجه الوطن المقدس، وكلمات ضد من وقف ضده .
-
موقفان من الإحتلال العسكري الأمريكي لبلادنا، وتصريحات جلال ا
...
-
كلمات أخرى الى ستار غانم راضي العابر في الزمن المفقود
-
تعليقات سريعة على أحداث وأخبار أمريكية ساخرة ومتنوعة
-
متابعة وتعليق : حول تصريحات ورسائل بوش والإدارة الأمريكية ال
...
-
كلمة : رأي في المسألة النووية الإيرانية وأوضاع المنطقة
-
ماذا حصل في العراق في شهر تموز الفائت ؟؟
-
كلمة : عن الديمقراطية والحرية والعدالة الإجتماعية
المزيد.....
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|