أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رولا حسينات - حالة انفصام















المزيد.....

حالة انفصام


رولا حسينات
(Rula Hessinat)


الحوار المتمدن-العدد: 8163 - 2024 / 11 / 16 - 20:49
المحور: الادب والفن
    


الغرفة الطولية الممتدة بممر دقيق محشور فيها أطنان من الأوراق التي مال الكثير منها إلى اللون الأصفر، وقد أصاب الكثير التلف في بعض أجزاءه التي برزت من الملفات المصفوفة بسياسة التكديس، فبعضها مائل والآخر مصفوف فوق بعضه البعض سواء أفقيا أم عامودياً بإهمال، لم تعد الكثير من ألوان الملفات تبين بشكلها الأصلي من كثرة ما تراكم عليه من الأغبرة، صوت المذياع بعض الأوراق انزلقت من ملفاتها وانحشرت تحت الخزائن الحديدية التي اكتست في بعض أجزائها بالصدأ، ومال لون الجدران
من شباك صغير موجود في الجزء العلوي الذي نصبت عناكب صغيرة خلفها بالعفن الأسود.
رائحة الغرفة اختلطت بالكثير من الروائح التي علقت في هواءها التي ينفذ إليها الهواء من شباك صغير لم تكن ليصل منه صدى أصوات الأقدام الذاهبة والرائحة إلى وزارة التنمية أو أعقاب السجائر المسحوقة أعناقها إلى الموظفة الجالسة ببلادة فوق كرسي خشبي قديم وهي تتنفس الهواء من المروحة الكلاسيكية المعلقة بسقف الغرفة، وقد انتفخ بطنها أمامها بتكويرة ذات رأس مدبب، أخذت تتلمسه وهي تميل برأسها يمينا تارة ويسرا تارة أخرى وتتمتم : الولد في البطن له شكل مختلف، يفرق عن عزة وسلمى وآيات...
ثلاث بنات أنجبتهن تباعا وبعدها توقفت فترة طويلة من الزمن، لم تعرف لماذا رغم أن الأمور بينها وبين زوجها طبيعية، ولم تكن قد أزالت اللولب بعد! ولكنها لم تُعمل تفكيرها في الأمر منذ ذلك التاريخ الذي ربما يكون خمس أو ست أو حتى سبع سنوات، انشغالها في تربية البنات ومشاكلها مع حماتها التي لا تهوى رؤيتها بأيّ شكل من الأشكال، ومزاج زوجها المتقلب وعمله الذي يعتاشون منه على كف عفريت، والذي ارتبط بشكل كبير مع سمعته ومهارته في العمل وسرعة وصوله إلى حيث لا يمكن لأحد غيره حل الأزمة، لم يكن طبيبا لتتباهى به، ولم يكن مهندسا كذلك... لم يكن سوى سباكا، وهذا الأمر الذي يصيبها بغصة كبيرة بعد أن رفضت الزواج على مدى خمسة عشر عاما بين الجدل حول أهمية الزواج وعدم أهميته... وبين رفض الاعتقاد السائد لدى عماتها وشقيقاتها الأكبر منها:" بظل رجل ولا ظل حيطة.." وبين جمالها الذي كانت مقتنعة به، وبين شهادتها بالدبلوم العالي، كلها كانت تهيأ لها الأسباب في الرفض وعندما سحب البساط من تحت قدميها، ولكن بعد أن توفي والدها الحاج عبد العاطي وأمها الحجة فوقية، لم يكن لديها خيار في أن يتمدد ظلها إلى رجل يحميها من شراسة زوجة أخيها الشيطانة، وهي تريد أن تنفك من لغز منع الخروج والدخول، والفرمانات التي تتكرر لها من قبل أخيها المحمرة عيناه على الدوام... حينها جاء هذا السباك من غائب علم الله وأخرجها من أزمة الثلاثين، لكنها دخلت إلى أزمة الشقة التي لم يعثرا عليها بسهولة، ولم تكن شقة بمعنى الكلمة في العمارة التي كانت مبولة للكلاب الشاردة، العمر الطويل الذي قضته فيها لم يجعلها تأبه لأي مظاهر السوء فيها...حتى لو وجدتها أمامها ...
الكثير من الأزمات التي تطفو إلى السطح بين حين وآخر جعل أفقها ضيقا وغير قادر على الإدراك بشكل جيد...عملها في الأرشيف أصبح كأيِّ عادة سيئة تقوم فيها يوميا...أكوام من الملفات، أكوام من الأوراق، أكوام من الناس الذين يأتون ويذهبون دون أن يكلّوا، و دون أن يملوا بزفراتهم، بسبابهم، بلعناتهم، بالكثير من الترهات، بالكثير من غثاثة أخلاقهم...
القرف والصبر لا يجتمعان وهذا الذي لا تستطيعه، طفح الكيل بكل شيء لم تعد تحتمل الموظفات في الممر الطويل الذي تعبره لتصل إلى مكتبها في الأرشيف، رغم سيرها كسلحفاة تحمل درعها وتمد بطنها أمامها، وكثير من الدوالي قد تعلقت بشبكة دقيقة في عروق قدميها لكنها أصمت أذنيها عن كل شيء، تلك العيون المحدقة بها، هندامها الذي لم تغيره لسنوات لا يعني شيئا... "الحكومة من وظفتها وليس أحدا منهم..." هذا ما قالته للمراسل إسماعيل الذي كان يأتيها بالقهوة عالريحة، والكثير من الأخبار، وسخط المدير العام عليها لكثرة إهمالها، وفقدان العديد من الأوراق المهمة من الملفات، لكن قرب حصولها على المعاش جعله ينتظر في قرار عقوبتها، يكفيها ما تعانيه من حالها المنكوبة التي لا تخفى على أحد.
الفقر والإحباط بينهما رابط ثنائي لا يمكنها فصله في كثير من الأحيان، عقدتها التي تتعامد على صفحة وجهها بين عينيها اللتين يصل بينهما حاجبان رفيعان، واضحة للعيان ومع ذلك فهي لم تعد تعنى بوضع المساحيق وخصوصا بعد الالتهابات الجلدية التي عصفت بوجهها طيلة شهور والرمد الذي أصاب عينيها من الكحل الذي غمس بمادة نفطية،وقد قضى العلاج على راتبها كاملا، والعديد من الأمور لم تعد تستهويها، وهي أمام ثلاث بنات يكبرن أمامها كل يوم وهي لا تستطيع أن تؤمن لهن ما يجعلهن يعشن حياة لا تتسم بالرخاء بقدر ما تتسم بالكرامة. الأسعار التي شاطت نارها، والفواتير التي عليها أن تدفعها وقد ارتفعت بسرعة الصاروخ، أجرة البيت الخرب الذي تنزف منه مياه البالوعة، وتسد مجاريه في أغلب أيام السنة، والخنقة التي تسد منافسها، وتصيبها بحالة من الربو المزمن، الذي لم يكن بسبب تلك اللفافة من التبغ الرخيص الذي يقتنيه زوجها، وتجعلها تدور في دوار مستعصي...
الكثير من الهموم فوق رأسها تسبب لها السقوط، منذ أن تضع قدمها في شقتها الصغيرة التي هي أشبه بعلية سردين صدئة... البلاطة المكسورة عند باب الشقة توصلت إلى تدابير لحشوها بقطع الفلين مع النشاء والغراء في حشوة دائمة...
لم تنس أن تنجو من قفل الباب الذي يقرض المفاتيح، عليها أن تنزعها بسرعة عند فتح أو إغلاق الباب الذي يشكو من أزيز عال بسبب الصدأ عند مسنناته...
لم يكن يشغل بالها أناقة بيتها المتواضعة، وتلك الأريكة القديمة التي تجلس عليها صغيراتها الثلاث طيلة الوقت لحل واجباتهن المدرسية، أو لمشاهدة التلفاز، أو لمساعدتها في تقميع الباميا أو جلوسهم عليها جميعا لمشاهدة فيلم السهرة...
أطلقت زفرة طويلة اتبعتها ركلة قوية من ذلك الشقي في بطنها، ضربته بطرف أصابعها قائلة: هذا ليس وقتك، مازال لديك شهر كامل حتى تخرج لهذه الدنيا...
ما كان يشغل بالها هو ما الذي ستطهوه اليوم لعائلتها؟! بعد أن نفذ راتبها عن آخره، لم يبق في محفظتها أيّ مليم أحمر، وهذا الذي يبشرها بكثير من المطالب، وضعت حقيبتها أمامها وفتحت أزرار فستانها، وتوسدت يدها، وغفت...
لم تشعر بشيء حولها...أيقظها الهدوء الذي لم تقف عليه يوما لقد أربكها بالفعل، تفقدت الشقة لم يكن هناك أثر للصغيرات...
فتحت باب الشقة وتأملت الأدراج المتسخة، لم يكن هناك ما يدلها على قدومهن، عادت ثانية إلى غرفتها الصغيرة التي بالكاد اتسعت إلى سرير واحد... ذلك السرير الكبير الذي تعبت وهي تلصقه بالجدران الأربع بممر صغير لمرآة...
كل شيء اختفى بل تقلص إلى سرير صغير وملاءة بيضاء رقيقة وخزانة صغيرة والكثير من الألعاب...أمام دهشتها لم تعرف ما الذي يحدث؟
ما الذي قلب الأمور؟
صوت زوجها يأتيها من باب الشقة...
- حياة أنتي جيتي...
لم يصله صوتها المخنوق...
- حياة أنت هنا...؟ لقد أخفتني... كيف حال الصبي؟
- ما الذي حدث لبناتنا الثلاث؟ أين هن؟ قاطعته، وهي تشير إلى الغرفة الصغيرة...
أجابها وهو يحضنها مع بطنها المرتفع: آه يا حبيبتي حبك للبنات أنساك أنهن لم يولدن بعد...
- كيييف؟؟؟!
- لا بد أنه التعب والإرهاق الذي تعانينه في العمل... وكثرة القصص البوليسية التي تقرئينها ومتابعتك للمسلسلات...
- ماذا يعني هذا؟!
- يعيني أننا لم ننجب بعد... الخيال الذي تعيشينه يا حياة سيجعلك تخلطين بين الواقع والحلم ...هذا طفلنا الأول الذي في بطنك، وهذه غرفته التي جهزتها ،وهذا أنا سليم الذي يعمل مدرسا في مدرسة ابتدائية، ولست سباكا، وهذا بيتنا الصغير الذي لا تفوح منه رائحة المجارير، وهذا باب بيتنا الذي لن يعذبك عند إدخال المفتاح أو إخراجه، وهذه البلاطة التي كسرت وعالجت كسرها الشهر الماضي ...لا شيء مما تفكرين به...
...حياة عليك أن تفيقي وأن تكفي عن حالة الانفصام...



#رولا_حسينات (هاشتاغ)       Rula_Hessinat#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السيد علم الدين 5
- المقطع الثاني من رواية الزلزال للمبدع ريبر هبون
- حكاية من حكايات جحا 3
- السيد علم الدين 4
- رواية الزلزال المقطع الأول
- حكاية من حكايات جحا 2
- حكايا من حكايات جحا 2
- السيد علم الدين 3
- المصباح
- والله يازول الحال تعبان
- السيد علم الدين 2
- الفرار المحتوم
- المألوف المجتمعي
- السيد علم الدين
- المألوف المجتمعي بين التغيير والتحول
- فأر أسود
- الشبيه
- Children of Gaza are dolls, and perhaps its inhabitants are ...
- It is not as any other stories
- قراءة نقدية في المجموعة القصصية اعترافات ثملة بقلم الناقدة و ...


المزيد.....




- برلين 1927.. سيمفونية مدينة متعطشة للحداثة
- أزمة -الملحد- في مصر.. فيلم لم يره أحد ورقابة في قفص الاتهام ...
- ترامب يحضر نزالا في الفنون القتالية بنيويورك والفائز يحتفل م ...
- سجادة حمراء لأبطال مسلسل موعد مع الماضي قبل عرض أول حلقتين ب ...
- سلفستر ستالون يصف ترامب بـ -جورج واشنطن الثاني- ويشيد بإنجاز ...
- من خزائن القصور إلى مزادات جنيف.. قلادة ماري أنطوانيت التي أ ...
- بعد تحقيق الإيرادات الضخمة “قصة فيلم الهوى سلطان 2025” .. بط ...
- مش هتقدر تغمض عينيك خالص “تردد قناة روتانا سينما على نايل سا ...
- بعلبك تحت النار: قصف إسرائيلي يدمر معالم أثرية وتاريخية
- -الهوى سلطان- فيلم يحتفي بتجربة أبناء جيل الألفية


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رولا حسينات - حالة انفصام