مهتدي مهدي
روائي
(Muhtady Mahdi)
الحوار المتمدن-العدد: 8162 - 2024 / 11 / 15 - 01:25
المحور:
الادب والفن
في السبعينيّات من القرن الماضي كنا قد سمعنا عن المدرس الجديد الذي نُقِلَ إلى مدرستنا, التي تقع في مدينة الفاو البعيدة. سمعنا به ولم نره, وقد انصرمت بضعة أسابيع كان درس التاريخ فيها شاغراً. كان خبره قد أحدث لغطاً كبيراً بيننا لما له من هيئة مختلفة, وقد تداول بعضنا أمره وما له من الصفات الأخرى التي لم تكن مألوفة بالنسبة لنا. لم يطل أمر مباشرته الذي ظل يتعملق على لسان هذا وذاك من زملائنا كلما تأخّر أكثر.
في النهاية قالوا الأستاذ منير وصل. وبالفعل. ما إن أطل علينا حتى وجدنا به كثيراً من تلك الصفات التي تداولها زملاؤنا فقد كان ثلاثينياً فارع الطول, بشاربين كثين ولحية حليقة, وكان برماً لسبب أو لدونه. يجيش غيضاً كأنه يحمل هموم الدنيا على منكبيه. لكن ما لم يقله أحد منهم. إنه كان يرتدي البذلة الزيتونية, ويحمل أقلاماً برزت أغطيتها اللماعة عند العضد. هذا ما اكتشفناه صباح ذلك اليوم السبعيني وعلاوة على ذلك كان يحمل مسدسّاً كبيراً يتدلّى من حزامه. وبدا بهيئته تلك لافتاً لنا أكثر من الدرس الأول الذي سوف يقدمه لنا.
أمر اثنين في المقدمة أن يسحبوا رحلتهم قرب السبورة, ليجلس عليها بعد أن طلب منهما أن يتراصفوا مع أقرانهم, جلس بالمقلوب عجيزته على المكان العلوي منها, وقدماه على مكان جلوس الطلبة, تلك الطريقة التي عادة ما يمارسها كثير من المعلمين.
لأكثر من ثلاث حصص ظل محافظاً على صمته وجلسته تلك. فقط كان يحدق ويطيل النظر فينا وكلما رفع أحدنا رأسه وجده يحدق به, كما لو كان يريد أن يقدم دراسة سيمائيّة حول طباعنا. بقي على حالته تلك, حتى طغت على أفكارنا علامات الاستفهام. والتساؤل عما إذا كان بإمكانه النطق أم تراه أبكم, وقد جاء لكي يعلمنا لغة الخرسان.
بدت الحصة الرابعة مختلفة إلى حد ما. وقد طرق مسامعنا صوته لأول مرّة, بدا جهوريّاً ومنسجماً مع هيئته وقيافته العسكريّة, كان على خلاف ما ظننا حين قال: "أنت القميص المقلم. قم إلى السبورة.." طلب منه كتابة في أعلى منتصف السبورة مادة التاريخ, وتحتها الدرس الأول, ثم أخذ يملي عليه كيف يرتب السبورة. فيكتب تاريخ اليوم عند الجهة اليسرى منها, ويكتب في أعلى نقطة فيها.
"عاش الرئيس أحمد حسن البكر ــ عاش السيد النائب صدام حسين." طلب منه ذلك, كنوع من النفاق السياسي عادة ما كان يمارسه المسؤولون الحزبيون.
خلال الأيام التالية اعتدنا على طريقته بالتدريس. فقد كان لا يكترث إلى الدرس ويطيل الجلوس بطريقته تلك على الرحلة "أنت ذو الشعر السبط" ليوجه له سؤلاً من المادة التي طلب منّا تحضيرها. أو " أنت ذو القميص الأسود" وكان يشير بإصبعه لمن لا يحمل علامة مميزة منهم ويناديه بأنت فقط. كنا نتضامن في فكرة مشتركة بيننا, بأنه يكن لنا نوعاً من الكراهية, فربما هو يحمّلنا وزر بعض ممن كان آباؤهم يحملون توجهات وأفكاراً يساريّة مناوئة, وما بذلته العسكريّة والمسدس الذي يحمله إلّا نوع من الترهيب لنا. ففي الآونة الأخيرة أخذ يطلب منّا أن نحفظ أقوال "السيد النائب" على حد وصفه, الذي بدا مهيمناً على مقاليد الحكم آنذاك. كان يطلب ذلك منّا على مضض, لعلمه أن سياسة الترغيب لا تجدي نفعاً مع ثلة من الطلبة, أعدم آباؤهم أو زج بهم في سجون لا تعرف ضوء الشمس, ولم يزرها أحد منهم, فكان يخط على السبورة تلك الأقوال والوصايا ويطلب منّا أن نحفظها عن ظهر قلب.
استمر بطريقته تلك لا يعاملنا برسميّة فحسب إنما باحتقار وجفاء. إذ لم يكلف نفسه وينطق أسماءنا, ولما إنه استمر معنا لموسم دراسي كامل على تلك الشاكلة. طلب من كل واحد فينا أن يترك فراغاً على السبورة ويضيف أمامه رقماً.
وبما إني كنت أجلس في الرحلة الأولى قرب النافذة في الجهة اليمنى من القاعة, قال: "أنت اذهب إلى السبورة واكتب بدلاً عن اسمك صفر كان الموقف مضحكاً لكن لم يتجرأ أحد من الطلاب ويضحك رغم أني استطعت أن أشاهد الكثير منهم كانوا يبتسمون ويقاومون ضحكاتهم بصعوبة. وصل مع آخر واحد فينا إلى الرقم 39 وهكذا هو لم يعرف من أسمائنا سوى "صفر واحد. اثنان ثلاثة... تسعة وثلاثون" حتى إنه عندما جاءنا أحد الطلاب نقلاً من مدرسة أخرى بسبب نفي والده لانتماءاته السياسيّة نظر إليه هازئاً وقال: "سيكون بدءاً من الآن اسمك 40. صار معلوم؟"
تدنّى مستوانا الدراسي, وكأن الأرقام قد جلبت لنا سوء الطالع, خصوصاً أنا فقد هبط مستواي الدراسي إلى الحضيض بعد أن كنتُ مجتهداً, وكان بعض الطلاب من شعبتي لا يكفّون عن نعتي بصفر, كلما دق الجرس مؤذناً بالفرصة, وأحياناً يتندر بعضهم ويقول: "أين راح زيرو" وهكذا استمروا بين صفر وزيرو, ومع حلول شهر صفر , راحت أنظارهم تتوجه إلي كأنهم يلومونني على التطير الذي صاروا يشعرون به, والأيام التي لا تريد أن تنقضي, وما يحمله هذا الشهر من نحس.
في حين كنت في قرارة نفسي أبحث عن مبرر لأداري إخفاقي, فما جدوى حياة تكون صفراً فيها لا ينقص أو يزيد.
كان الأستاذ منير يبتدئ بالتعداد اليومي للحضور بي قائلاً: "صفر" فأرفع يدي لأقول على الفور "نعم أستاذ"
انقضت سنوات الابتدائية وكان الرقم صفر لا يفارقني وقد أحرزت الكثير من الأصفار بعد ذلك في المتوسطة, والإعداديّة التي بالكاد نفذتُ منها, وخلال دراستي الجامعيّة مارس أحد الأساتذة النزقين معنا طريقة الأرقام, وقد منحني رقماً كبيراً فأعادني لتلك الذكرى ورغم كبره لم يستطع محو الوطأة القاسية للرقم صفر المقيت الذي رسخ في ذهني. لكن ما لم يكن بالحسبان إن أحد زملاء المرحلة الابتدائية كان معي في الجامعة, ولما إنه لا يزال يتذكر تلك الحادثة جيداً, أثارها من جديد, ولولا أنني تداركت الموقف وتصرفت معه بحزم, لأصبحت أضحوكة من جديد.
ومرة تفلسف أحد الأساتذة معنا بموضوع خارجي عن سرعة الضوء والزمن الذي سيكون صفراً فيها. أشعرني كلامه بالزهور وقد أعادة ثقتي المفقودة بذلك الصفر المئوي وتجلياته, الذي كلما خبى وأفل نجمه انبثق ثانية عبر ذلك الفراغ السرمدي كسديم نجمي هائل من الانبعاثات الضوئيّة أو كثقب أسود يفترس ذاكرتي.
ويوما من أيام تسعينيات القرن الماضي كنت أسير قرب مكان مدرستي الذي أُنشئ به مدرسة جديدة, بعد أن تهدمت الفاو في حرب الثمانينيّات. كنتُ ساهماً ، وأنا أمر قرب مجموعة من الطلبة وبدا إن الوقت كان امتحانات نهاية العام الدراسي فتوقفتُ مستدركاً تلك الحقبة ومعها بطبيعة الحال الأستاذ منير وطريقته "الرقمية" معنا, وانسجمتُ مع كلامهم ولغطهم الذي أنساني وجودي, لدرجة أني رجعت مجدداً عبر ذكريات هذه المدرسة طالباً فيها. كانوا يتحدثون عن أسئلة الرياضيات الصعبة بنزق سمعت أحدهم يقول.. "صفر" ولم يزد شيئاً, فقد كان يقصد الدرجة التي سيحصل عليها في الامتحان. ولا أدري كيف انتفض إحساس قديم بداخلي أنساني وجودي. كأن تلك الأيام قد تجلت بكل ما تحمله من احتقار وكراهية, لتندفع دون شعور تلك المفردة على لساني, وأنا أرفع يدي لأقول: "نعم أستاذ" تلك اللحظة ضجوا في ضحك لم أشهد مثله من قبل، في الوقت نفسه الذي داهمني خجل, ما زال حاضراً كلما تذكرت الموقف, كيف كانوا ينظرون إلي ويضحكون.
#مهتدي_مهدي (هاشتاغ)
Muhtady_Mahdi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟