انتشرت عبارة " الفتوى الذهبية " مؤخرا في العراق ، ويقصد بها تلك الفتوى التي ينتظرها العراقيون جميعا ويخشاها المحتلون والتي ستدعو صراحة وبوضوح إلى تطبيق فريضة الجهاد ضد قوات الاحتلال الإنجلو أمريكية .ومع أن "الفتوى الذهبية" لم تصدر بعد ولكن المقاومة العراقية على الأرض فرضت نفسها بقوة و ها هي تتصاعد بوتائر نشطة وباعثة على الفخر والإعجاب في صفوف الوطنيين والاستقلاليين ، وعلى الخوف والذعر في صفوف المحتلين وأصدقائهم . ومن اللافت والمعبر أن المقاومة المسلحة التي بدأت بعد أيام قليلة على سقوط العاصمة بغداد تميزت بعدة أمور منها : قلة عدد الخسائر البشرية في صفوف المقاومين إذا استثنينا المجزرة الجوية المباغتة التي قامت بها القوات الأمريكية ضد معسكر تدريب في وادي "السحل" شمال غرب بغداد والتي قتل فيها عشرات المقاومين غيلة . الأمر الثاني الذي وسم حركة المقاومة هو المواضبة والإصرار على القيام بالعمليات الناجحة فلا يكاد يمر يوم واحد دون أن تسفك دماء المحتلين ، وأخيرا فقد خرجت المقاومة من الإطار الجغرافي والديموغرافي الذي بدأت فيه وهو المناطق الغربية والفرات الأعلى حيث الغلبة السكانية للعرب السنة وانحدرت جنوبا حيث حدثت معركة "المجر الكبير" التي وصفها العسكريون البريطانيون أنفسهم بالضارية وتكبدوا فيها خسائر فادحة بلغت أربعة عشر إصابة ( ستة قتلى وثمانية جرحى ) إضافة إلى العملية التي حدثت على مشارف مدينة النجف المقدسة و كذلك حدثت عدة عمليات في منطقة بعقوبة . صحيح أن انتشار المقاومة يظل محدودا وبطيئا في الجنوب والفرات الأوسط ، ولكنه لم يعد معدوما لا في النشاط ولا في النتائج الباهرة عسكريا . ولكن كيف يمكن فهم وتفسير هذه المحدودية والبطء في الانتشار المقاوم ؟ وكيف يمكن تفسير الدعوات المتلاحقة إلى رفض المقاومة المسلحة والتمسك بالنشاطات السلمية ونهج مقاطعة الاحتلال ؟ وهل يمكن فعلا الفصل أو التدليل على وجود تناقض عميق بين المقاومة السلمية والأخرى المسلحة ، خصوصا إذا كان المحتل قد أعلن برامجه الاستعمارية التقليدية وشرع فعلا في حكم البلد حكما استعماريا مباشرا وبدأ بنهب ثروات العراق النفطية خصوصا علنا وقبل أن تقوم حكومة عراقية صنيعة أو مستقلة كما وعد المحتل ، أو حتى إقامة إدارة مركزية احتلالية من الأمريكان أنفسهم ؟ سنحاول في الأسطر التالية مقاربة الحالة العراقية الراهنة تحليليا بهدف تقديم إجابات أو تفسيرات لتلك الأسئلة وللحالة بمجملها :
ثمة عقبتان كبيرتان اعترضتا وما زالتا تعترضان ترسخ وانتشار أمواج المقاومة العراقية المسلحة ضد الاحتلال الانكلو سكسوني . الأولى هي بقاء صدام و من تبقى معه من قيادته مطلقي السراح ، الأمر الذي يعقد ويسمم الأجواء السياسية والنفسية ويجعل قطاعات واسعة من الجماهير تعيش تحت وطأة الخوف والقلق من احتمال عودة هذه المجموعة إلى السلطة من خلال صفقة مع المحتلين الأمريكيين أو حتى من دون صفقة كتلك و ربما لمجرد تصاعد الخسائر البشرية في صفوف قواتهم . فبعد ما تكشف عن الحقبة الماضية من الحكم والتي تعدت الثلاثة عقود صار ممكنا تفهم مشاعر القلق والشك التي تسود قطاعات واسعة من العراقيين وخصوصا في إقليمي الجنوب والفرات الأوسط وفي العاصمة بغداد نفسها . أما العقبة الثانية فتتمثل بأصدقاء الاحتلال من سياسيين ومثقفين ورجال دين ممن يمكن أن نطلق عليهم أتباع " حزب التحرير الأمريكي " . صحيح أن هذه العقبة أقل أهمية وتأثيرا من الأولى وذلك لسببين : فهي أولا محكومة بنوع العلاقة التي تربط بين هؤلاء والمحتلين أنفسهم وهذه العلاقة تعيش الآن أسوأ حالاتها ، بل يمكن القول أن الاحتلال عاقب أصدقائه وأذلهم وجرد بعضهم من السلاح أكثر مما فعل بالأطراف التي ناوأته أصلا ، وثانيا فهذه العقبة - على محدوديتها - ستتلاشى تلقائيا بمجرد اشتداد وطيس المقاومة وتحولها إلى حركة شعبية واسعة النطاق ترغم دعاة الترحيب بالاحتلال على هجران الميدان والكف عن إطلاق التصريحات أو القيام بالممارسات الخيانية الهادفة لخدمة و تسويغ الاحتلال ، وهم سيضطرون إلى الصمت والانطواء في العتمة مخافة أن تطيح بهم المقاومة ذاتها . لقد جاءت المعركة البطولية التي خاضها المقاومون العراقيون في قضاء "المجر الكبير" في محافظة العمارة والتي خلفت ستة قتلى وثمانية جرحى بين صفوف الغزاة البريطانيين لتكون منعطفا مهما في مسار المقاومة العراقية ولهذا فهي أشبه ما تكون بصفعة مركبة :
- فهي فضحت المصفقين للاحتلال ودعاة " حرب التحرير الأمريكية " الذي راح بعضهم يتحدث عن ( مجموعات تخريبية / كما كتب كاظم حبيب ) أو عن ( بؤر توتر محدودة في الرمادي والفلوجة / كما جاء في بيان مجموعة القشطيني والرهيمي ومكية والبريكفاني ) وغير هؤلاء ممن يدافعون دفاعا مستميتا عن الاحتلال الأمريكي الذي وجه لهم الإهانة تلو الأخرى . لقد تبرع أحد هؤلاء وهو الإعلامي فايق الشيخ علي المعروف فاعترف على شاشة الأخبار العربية annخلال شهر حزيران الجاري بأن عددا من المثقفين العراقيين المروجين للاحتلال والمشاريع الأمريكية يقومون بأعمالهم هذه لقاء مبالغ طائلة من المال الأمريكي ( والعراقي المنهوب أصلا ) وبموجب عقود عمل وقعوا عليها وإن الأمر طرح عليه شخصيا ولكنه رفض الموافقة والتوقيع . غير إن المؤسف في الأمر أن هذه المجموعة من أصدقاء الاحتلال تمكنت فعلا خلط الأوراق ، و من جرجرة عدد من الشخصيات المحترمة أو تلك التي كان الناس يعتقدون أنها محترمة للتوقيع معهم على بياناتهم المعادية للمقاومة العراقية مستغلين تهيب وشكوك الناس وخوفهم من خذلان الأمريكان المتوقع وعودة الحكم الاستبدادي الشمولي مرة أخرى ، والأكثر من ذلك هو أن هذه المجموعة تبرعت وتنازلت - دون وجه حق – عن تلك المقاومة وإنجازاتها الباهرة إلى التيارات السلفية وبقايا النظام الاستبدادي المنهار في عملية تضليل مريبة تحاول تصوير شعبنا كحشود ساذجة من المرحبين بغزاة بلادهم . وفي الواقع فإن أصحاب هذا المنطق الذي يلصق المقاومة العراقية ببقايا النظام الشمولي المنهار (مع أن المحتلين أنفسهم يتحدثون عن خمسة فصائل أو أطراف تشكل المقاومة العراقية ، ومع أن عدة فصائل منها أعلنت عدائها وإدانتها للنظام السابق ) يتناسون حقيقة أن من يفشل في الدفاع عن عاصمة بلاده لبضعة أيام ويعجز عن استغلال ما لديه من إمكانيات قتالية مهمة هو أعجز من أن يقود عملية مقاومة مؤثرة وفعالة كهذه التي تحدث أمام أنظار العالم قاطبة .
- وهي ثانيا فضحت زيف ادعاءات المحتلين الإنجلو أمريكان الذين وعدوا العراقيين ،وخاصة أصدقاءهم في معارضة الخارج ، بالمن والسلوى والديموقراطية والدستور والحكم المستقل والرفاهية والمجد ، و جعلتهم يظهرون على حقيقتهم كلصوص نفط علنيين وأصحاب مشروع استعماري تقليدي للهيمنة وتدمير العراق المشرق العربي عموما وهدفهم في كل ذلك هو تحويلهما ( العراق والمشرق ) إلى حديقة خلفية تشبه جمهوريات الموز الأمريكولاتينية من الناحية الاستراتيجية ولكنها في الواقع ليس إلا محميات نفطية غارقة في أضواء ناطحات السحاب الصحراوية وعفونة القرون الوسطى ودموية الحكم القبلي المطلق .
إن كل ما تقدم من ملاحظات لا ينبغي أن يُغَيِّب من المشهد عدة حقائق صعبة منها عدم وجود انسجام كامل على مستوى الموقف الشعبي العام من الاحتلال ،حيث أن أغلب الأحزاب والحركات السياسية الناشطة حاليا تحاول أن تنأى بنفسها عن المقاومة ، وتقدم الدليل تلو الآخر على " براءتها " منها ، وثمة قوى وشخصيات أخرى تتعلل بالأسلوب السلمي في المقاومة ونبذ العنف ، ويمكن لنا أن نتفهم موقف هذه القوى ولا نعتبره سلبيا بالمطلق خصوصا و إن الاحتلال وممارساته ستراكم إفرازاتها القمعية والمستفزة ، ذلك التراكم هو الذي ستقنع من لم يقتنع بعد بأن المقاومة هي الطريق الوحيد لتحرير العراق . يمكن لنا هنا أن نشير إلى تصريحات بعض رجال الدين والأحزاب الإسلامية " الشيعية " التي تشعر اليوم بحرج متفاقم من مواقفها السابقة ، ومراهناتها على طريق التغيير عبر الحرب والاحتلال ، ويمكن لنا أن نشير إلى اللهجة الاعتذارية التي ميزت خطابها مؤخرا ولكن الغريب هو إصرار هذه الأطراف وخاصة حزب المجلس الأعلى بزعامة الشيخ باقر الحكيم على رفض واستبعاد المقاومة المسلحة للاحتلال واعتبارها نقيضا للمقاومة السلمية ونهج المقاطعة وهذا أمر لا سابقة له في تجارب التحرير قاطبة . وحتى هنا يمكن تفهم أصوات بهذه المضامين ولكن أن يبلغ الأمر درجة القيام بمظاهرات ضد المقاومة المسلحة وإلصاقها بفلول النظام السابق كما حدث في قضاء " المجر الكبير " فهذا أمر لا يمكن تفهمه البتة أو اعتباره بريئا !
ذكرنا في مبتدأ الكلام أن المقاومة سبقت الفتوى الذهبية التي يخشها المحتلون خشية كبيرة ، وينتظرها الكثيرون ، ونعتقد أن إغلاق ملف رموز النظام المتبقين في حالة اختباء وفرار سيعجل كثيرا في صدور الفتوى الذهبية وسوف يجعل انتشار المقاومة في جميع أنحاء البلاد أشبه بانتشار النار في الهشيم . و إذا ما صدرت تلك الفتوى وهذا أمر شبه مؤكد فسيكون من الصائب والمفيد أن تصدر عن عدة مراجع دينية " شيعية " كبيرة وسيكون الأكثر فائدة هو أن تصدر باتفاق مراجع الطائفتين المسلمتين في العراق لتشكل ركيزة معنوية وروحية لتيار المقاومة ورافعة فعالة لتجربة التحرير . أما إذا هيمن التيار المسالم وعرقل صدور تلك الفتوى فإن المقاومة لن تنتهي بل ستمضي في طريقها وسيكون الخاسر الأكبر مستقبلا هو التيار الإسلامي بشقيه الشيعي والسني و مرجعياته السياسية والدينية معا .