|
مفاهيم الحرية في فلسفة ما بعد الحداثة وإنعكاسها على المسرح
علي ماجد شبو
(Ali M. Shabou)
الحوار المتمدن-العدد: 8157 - 2024 / 11 / 10 - 20:51
المحور:
الادب والفن
[المحاكاة لا تُخفي الحقيقة ابداً، إنما الحقيقة هي التي تخفي عدم وجود شيء، والمحاكاة صحيحة – مثل لاهوتي] إن المعنى الأكيد للعقاب بالسجن الانفرادي هو إسقاط الاختيارات كافة، أي إنحسارها الى حد الانعدام التام. فضياع الإختيارات يمسُّ جوهر مفهوم الحرية، لأن العقاب بالسجن الإنفرادي يُنشأ حالة من الضمور في الاحاسيس الإنسانية تتوافق وإنحسار الإختيارات. أي تدجين الإحساس بضياع الاختيارات، أو بمعنى آخر، تدجين الإحساس بفقدان الحرية. "فالفضاء الذي تتمدد فيه الحرية هو في الواقع مفترق طرق لخيارين أو أكثر. ولكن ماهي هذه القوة الجبرية التي تفرض الإختيار من بين ماهو متاح من خيارات؟ ثم اليس الإختيار بذاته يعادي ويناقض جوهر الحرية؟ أليس الاختيار (هو حرمان نفسك مما هو متاح (، كما يؤكّد "أندرية جيد" في السيمفونية الرعوية؟ أي أن {حرية{ الاختيار، هنا، هي إسقاط الحق في امتلاك الخيارات المهملة، والواسعة، والمتاحة للحرية. لهذا فإن سؤال الحرية هو سؤال مفاهيمي متكامل، ولإنه كذلك، فهو أيضاً سؤالاً ميتافيزيقياً، وتجريبيا، بل وحتى لغوياً. [مقال "الحرية والإبداع"، علي ماجد شبو، منشور في موقع "الحوار المتمدن" عدد 7302 في 7/7/2022 ] ولكن ما لذي تعنيه الحرية؟ وهل للحرية معنى موحد في كل المجتمعات وعلى مدى الأزمنة؟ إن للحرية مفاهيم متعددة، كما سنلاحظ ذلك من خلال فلاسفة ما بعد الحداثة، حيث ان المفهوم العام للحرية يسمح بالنفاذ الى دروب متعاكسة، ومتشعبة، ومعقدة، وثريّة على الرغم من بساطة التعبير وابتذاله في الدهاليز الاجتماعية واللغوية. هذه الدروب تقود الى كشف بنية الثقافة الفردية والاجتماعية، أي الى الانضباط الذاتي والاجتماعي، ثم الى شبكة الاخلاق التي تتحكم بمسارب الحرية، فردية كانت أم جمعية. والحرية لها مسالك في الفكر والفلسفة على مدى التاريخ الإنساني، مسالك فلسفية أساسها توكيد الوجود الذاتي والاجتماعي للفرد. ولذلك فإن للحرية مفاهيم متعددة ومتنوعة ومختلفة، بل ومتناقضة أحياناً. إنما سأجازف بصوغ مفهوم عام، قد يشمل عدد من المفاهيم، فالحرية، كما أفهمها هي " حالة ناضجة من الوعي، الذي يشحذه الإدراك، بحدود الفرد وحدود المجتمع، وهذا الوعي، سيكون دائماً، نتاج معرفة وثقافة تتحسس الوجود وأبعاده المختلفة، وتقترح خيارات لرسم آفاق تلك الحرية على الصعيدين الفردي والمجتمعي". (نفس المصدر) أما مفهوم الحرية في المسرح فهو حالة لها عدة أوجه، حيوية وديناميكية، تتخلل أو تخترق مختلف جوانب الإبداع في العمل المسرحي. فالحرية في المسرح تسمح بالرؤى النقدية، وبالتعبير عن الأفكار غير الشائعة، او غير التقليدية، فالحرية فضاء يسمح بالتمرد والتحريض ضد السلطات الفردية والسلطات التعسفية، مما يُبيح فضاء واسعاً للمسرح السياسي والى نقد ما يُمكن أن يُؤثر على حركة المجتمع وتنميته. كما تسمح الحرية باستكشاف الموضوعات المعقدة عبر تناولها من خلال سرديّات غير مألوفة، ولكن عميقة ومؤثرة ومشوقة. علاوة على ذلك فإن مفهوم الحرية شفاف وواضح من خلال العناصر المتباينة في فن المسرح، إبتداء من النص المسرحي الى طرق الأداء والتمثيل والى مناهج عرض الرؤى الإخراجية وأخيراً عبر طرق التعامل والتفاعل مع الجمهور. فالتحرر الفني في المسرح والاستقلال الإبداعي والقدرة على تجاوز المألوف، لا يمكن ان تتم بدون حرية واسعة تسمح بتجاوز الأعراف والتقاليد والإنضباط الاجتماعي وتكسر حدود الممنوعات السلطوية. لذلك فإن أهمية الحرية في الإبداع الفني المسرحي تكتسب صفات جوهرية، فبدونها لا يمكن للتعبير الابداعي والابتكاري أن يتحقق بتنفيذ مختلف الأفكار والأساليب التجديدية والتجريبية المتنوعة، والتي تشمل كافة عناصر العرض المسرحي. مفهوم الحرية في فلسفة مابعد الحداثة قبل أن نتفحّص إنعكاس مفهوم الحرية في المسرح، لا بدّ من إستعراض مالذي تعنيه الحرية بالنسبة لفلاسفة ما بعد الحداثة، فالحرية ليست بضاعة قابلة للاستهلاك بحيث يمكن إمتلاكها من قبل الأفراد، بل هي موضوع خاضع، بشكل دائم، للتفاوض والتحدّي ضمن هياكل السلطة ومنظومة العلاقات الاجتماعية. والحرية ليست حالة ثابتة لأنها عملية ديناميكية ومتغيرة باستمرار، ولهذا فإن الحرية خاضعة للسياق الذي تكون فيه، والظروف والأعراف التقليدية التي تتحكم بالمجتمع، وهي، على العموم، نسبية. وبهذا المفهوم فإنه لا يمكن وضع تعريف واحد للحرية مقبول عالميا، فهناك مفاهيم عديدة، كما سنرى ذلك عند فلاسفة ما بعد الحداثة، غير أنهم يتفقون بأن الحرية مشروطة بالبيئة الاجتماعية والثقافية، مما يجعل الخيارات والافعال الفردية متأثرة بعوامل لا يمكن التحكم بها. أي أن الحرية الفردية هي مجرد وهم. إنما في سياق العلاقات الاجتماعية وعلاقات القوة ترتبط الحرية إرتباطا وثيقا بقيم الاخلاق والتنوع والاختلاف. غير أن مفهوم الحرية يُنبأ عن الإحساس بالقدرة على العمل والتفكير وممارسة الإختيارات دون قيود داخلية او خارجية. وهذا ينطوي على إمكانية إتّخاذ القرارات بناء على الظروف العامة والقيم التي تنبثق عنها هذه القرارات. إنما يتخذ مفهوم الحرية في فلسفة ما بعد الحداثة أبعاد، ودلالات، واسعة، ومتعددة، سأستعرض بإختصار الأفكار الرئيسية المؤثرة في مفاهيم الحرية لأهم خمسة مفكّرين، في فلسفة ما بعد الحداثة، وتأثيراتهم بمفهوم الحرية، يلي ذلك حجم التأثير الذي تركته فلسفة مابعد الحداثة عموماً، وبشكل خاص مفاهيمها للحرية، على المسرح، بعمومه، ثم مسرح ما بعد الحداثة والابداع الفني فيه. فمفهوم الحرية عند الفيلسوف ميشيل فوكو يمثل انعطافاً عميقًا عن المفاهيم التقليدية للمصطلح، بإعتبار أن الحرية غالبًا ما يتم تأطيرها إما في سياقات ميتافيزيقية أو سياسية. فبدلاً من النظر إلى الحرية باعتبارها خاصية فطرية للذات البشرية، أو كمجموعة من الحقوق والحريات السياسية، يضع فوكو الحرية داخل التفاعل المعقد بين السلطة وتشكيل الهوية. ويؤكد تحليله على أن الحرية لا تتعلق فقط بغياب القيود، بل بالأحرى بالقدرة على التحول الذاتي والتأمل النقدي داخل هياكل السلطة التي تشكل الأفراد. فالحرية مفهوم مرتبط بتأثيرات هياكل السلطة المختلفة التي ترسم حدود الحرية. وإن هياكل السلطة لا تقتصر على آليات الحكم، بل تشمل القهر الاجتماعي والإنضباط الإلزامي. فالسلطة، بالنسبة لفوكو، ليست قمعية فقط، بل هي منتجة أساسية للقمع، لذلك فهو يرى ان هناك علاقة جدلية بين الحرية والسلطة والمعرفة والخطاب المسيطر الشائع. فحيثما وجدت القوة والسلطة وجدت إمكانية المقاومة بإعتبارها وسيلة لتحقيق الحرية، علاوة على أن الحرية لا تتوقف عند إشكاليات الحقوق أو المساحات المنقوصة والمختطفة من الحريات المتعددة، بل أن الحرية يجب ان تمارس وتحقق بشكل يومي. يوضّح فوكو في كتابه "المراقبة والمعاقبة" ) (Surveiller et punir أن الحرية الفردية غالبا ما تعوقها المؤسسات التي تحدد ما هو مقبول وما هو غير مقبول. وهكذا فإن الحرية دائما تتعلق بأنظمة السيطرة والمراقبة وآليات العقاب، لذلك فانه لا يمكن فهم الحرية الحقيقية، بالنسبة لفوكو، إلا من خلال تفكيك رموز علاقات القوة التي تحددها. لأن الحرية، تُمثل مفهوماً ديناميكياً مرتبطاً بشكل مباشر بعلاقات القوة، وبالممارسات الفردية والجمعية، وبالإرث التاريخي. وحين تكون الحرية وثيقة الارتباط بسلطات القوة والقهر يصبح التمرد والتحريض ضد هذه السلطات مشروعا مبرراً للمقاومة. هذه القيم انتقلت الى مسرح ما بعد الحداثة، وخاصة كشف مصادر التعسف والقهر الجماعي والتحريض والتمرد ضدها. أما مفهوم الحرية عند جاك ديريدا فهو مرتبط بالقدرة على التشكيك في المعاني الثابتة وزعزعتها، وهو مفهوم مرتبط بشكل وثيق بمشروعه الأوسع المتمثل في التفكيك، والذي يسعى إلى استجواب وتحدي الافتراضات الأساسية للميتافيزيقيا واللغة. لا يقدم منهج دريدا تعريفًا مباشرًا للحرية، ولكنه يكشف عن التعقيدات والتناقضات المتأصلة في المفهوم. وتتمثل فكرته المركزية في أن الحرية لا يمكن فهمها بمعزل عن هياكل القوة واللغة والمعنى التي تشكل الوجود البشري، فالحرية، كما يراها، مؤجلة دائمًا، فهي موجودة في تفاعل معقد من الدلالات حيث لا يكون المعنى مستقرًا أو حاضرًا تمامًا. إن مفهوم التأجيل هذا يتجسد في مفهوم ديريدا ل "الاختلاف"، وهو المصطلح الذي صاغه لوصف الطريقة التي يتم بها توليد المعنى من خلال الاختلاف وتوصيف الدلالات. ويترتب على ذلك آثار عميقة، فإذا كانت الحرية في حالة تغير دائم وتعتمد على ظروف مختلفة، فإن السعي إلى الحرية المطلقة يصبح إشكالياً. وبدلاً من ذلك، يتعين على الأفراد أن يتنقلوا بين تعقيدات ظروفهم، مع الاعتراف بالقيود والمعوقات التي تشكل هوياتهم وخياراتهم. ويؤكد ديريدا أيضاً على دور اللغة في تشكيل فهمنا للحرية. وهو يرى أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل هي بنية تؤثر على الفكر والفعل. ويؤكد بان الطريقة التي نعبر بها عن الحرية مرتبطة جوهرياً بالأطر اللغوية والثقافية التي تشكل فهمنا. ويؤدي هذا المنظور إلى تفكيك التناقضات الثنائية التي غالباً ما تدعم المناقشات حول الحرية، مثل الحرية مقابل القيد أو الحرية الفردية مقابل الحرية الجماعية. ومن خلال تحدي هذه الثنائيات، يفتح ديريدا إمكانيات جديدة لإعادة التفكير في الحرية باعتبارها ظاهرة نسبية وسياقية. فالحرية لا تمتلك مفهوماً ثابتاً لكنها طاقة نشطة، ومحفزة للتساؤل، ولتحدي المعايير، والأعراف. فاللغة، عند دريدا، لها دور مركزي لفهم الحرية، فهو يرى أن اللغة تتوسط دائما بين تفكيرنا وذاتيتنا، أي أن أفكارنا عن الحرية تكون مشروطة دائماً بالبنية والتركيبات اللغوية ومعانيها. لذلك فإن تفكيك اللغة والمعاني يؤكد بانه لا يمكن تعريف أو وضع فهم ثابت للحرية بشكل كامل ومطلق، لأنها في حالة دائمة من إعادة الصياغة، ولأنها في حالة حركة دائمة. لذلك فإن دريدا لا يتفق مع المناهج التي تسعى الى صوغ تعريف الحرية بمصطلحات مطلقة وشاملة، لأنه يفهم الحرية بتعقيداتها وبتعدديتها، بمعني اخر إنه منفتح على عدم تحديد مفاهيم للحرية أو على ثبات يقينية التعريف. وجدير بالذكر أيضاً، ان دريدا ربط الحرية بالقيم الأخلاقية، حيث إن فكرة الحرية الحقيقية تعني المسؤلية تجاه الآخرين. وهذه المسؤولية لا تتوقف عند الإلتزام الأخلاقي، وإنما بالاعتراف بتفرد الآخرين وفي حقهم بأن يكونوا مختلفين. وعند تأملاته في الديموقراطية، وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والمشاركة السياسية، يتساءل دريدا عن شرعية التعبيرعن الحرية، في عالمنا الذي يتّسم بالظلم وعدم المساواة. فالحرية عند دريدا، كما ذكرنا آنفاً، مرتبطة بتفكيك المعاني وبالمسؤولية الأخلاقية تجاه الآخرين. اما فيما يختص بالفيلسوف جان بودريار، فإن مفهومه للحرية متشابك، بشكل عميق، مع نقده للمجتمع المعاصر، وخاصة في سياق ما بعد الحداثة ومفهوم ما يسميه "الواقعية المفرطة". تكشف أفكار بودريار عن عالم تهيمن عليه الرموز والدلالات والعلامات والمحاكاة وثقافة الاستهلاك، ليؤكد بأن الحرية، كما يراها، تصبح بعيدة عن التحقق بشكل متزايد. حيث إن مفهوم "الواقعية المفرطة" او الصورية يقع في جوهر أفكاره، والذي يشير إلى الحالة التي ينهار فيها التمييز بين الواقع ومحاكاته. ففي هذا العالم المفرط في واقعيته، تصبح الرموز والعلامات أكثر أهمية من الأشياء أو التجارب الفعلية التي تمثلها. هذه الظاهرة واضحة في مجتمع المستهلك الحديث، حيث يتم تحديد قيمة السلع غالبًا ليس من خلال فائدتها، ولكن من خلال رمزيتها، أي الى ما تشير إليه في السياق الثقافي والاجتماعي. بهذا المعنى، تصبح الحرية إشكالية، حيث يقع الأفراد أسرى للأستهلاك والرغبة التي تمليها الرموز الثقافية المحيطة. ففي مجتمع الواقعية المفرطة، لا يتم قمع الأفراد من قبل قوى خارجية فقط، بل إن الافراد أنفسهم يتواطئون أيضاً في إخضاع أنفسهم. تؤدي الحاجة المستمرة إلى الاستهلاك، والتوافق مع التوقعات المجتمعية، والتفاعل مع الصور والدلالات والرموز إلى شكل من أشكال السيطرة المفروضة على الذات، وبالتالي تقويض مفهوم الحرية ذاته. وبهذا، يصبح الأفراد مستهلكين لهوياتهم الخاصة، التي تشكلها الدلالات والرموز الصورية التي تحاكي الواقع بإفراط. ويؤكد بودريار بإن التمييز بين ماهو واقعي وبين محاكاة الواقع أو الواقع الصوري لم يعد سهلاً وهو غير واضح، وغير متيّسر بالنسبة للمجتمع الحديث. ولهذا فإن الحرية، ضمن هذا السياق، أصبحت مربكة ومقلقة ومثيرة للتساؤل، فالمجتمعات تعيش ضمن عالم متخم بالصور والاشارات والرموز التي لم تعد لها علاقة بالواقع الملموس، ولهذا تتحول الحرية الى وهم، لأن ما نتخذه من اختيارات، نعتقد بأننا قمنا بها "بحرية"، ولكنها، في الحقيقة، نتاج التأثر بالمواد الدعائية المشجعة على الاستهلاك. فالمجتمع الحديث يمتاز بثقافة إستهلاكية تقود سلوكياتنا ورغباتنا، هذه الثقافة جعلت مفهوم الحرية يتقلّص ويرتبط فقط بالاختيار بين ماهو معروض من السلع والخدمات. غير أن الاختيار هنا يخضع لمنطق الحتمية وليس الحرية، لذلك فأن هذه الثقافة الاستهلاكية دفعت "الذات" المستقلة الى التراجع بحيث لم يعد الفرد في هذه المجتمعات فاعلا حرا، بل أصبح نتاجا لثقافة الاستهلاك. وبهذا المفهوم فإن الحرية التي تُرسّخ معانيها ضمن بناء الفرد ثقافيا وإجتماعيا وإقتصاديا هي حرية تحاكي الحرية، أي تتشبه بالحرية التي تتعرض لخطر ثقافة الاستهلاك، أي أنها، في الحقيقة، وهم الحرية. فضمن رؤى بودريار لم تعد الحرية كحالة متميزة في الوجود، بل تفاعل معقد بين الرغبات والهويات والبنى الاجتماعية، ولذلك فإن بودريار يجادل بأن العمل من أجل تحقيق الحرية، ضمن الأطر التقليدية لسلطات الحكم وسلطات المجتمع، عديم الجدوى ويدعو الى التفكير ببدائل جديدة لمقاومة ما يتحكم بحرية الافراد والمجتمعات والتحرر من القيود المفروضة. غير أن الفيلسوف جيل دولوز ينسج أفكاره عن الحرية بشكل معقد ضمن اهتماماته الميتافيزيقية وتوسيع المعرفه، مؤكداً على الطبيعة السائلة والديناميكية للوجود. وعلى النقيض من وجهات النظر التقليدية التي تصور الحرية غالبًا على أنها حالة ثابتة أو مجموعة من الحقوق، فإن دولوز يتعامل مع الحرية باعتبارها عملية مستمرة من النشوء أو الصيرورة، تتشكل من خلال تفاعلات معقدة بين الأفراد والقوى العديدة للمجتمع والتاريخ والثقافة. ففي جوهر فلسفة دولوز تكمن فكرة الصيرورة او النشوء، والتي يقارنها بمفاهيم "الوجود". فالواقع، بالنسبة اليه، ليس مجموعة ثابتة من الكيانات، بل تدفق مستمر من الأحداث والتحولات. لهذا، وضمن هذا الإطار، لا تظهر الحرية باعتبارها القدرة على الاختيار من بين مجموعة من الخيارات المحددة مسبقًا، ولكن باعتبارها القدرة على التعامل مع العالم بشكل إبداعي، وشق مسارات جديدة، واحتضان عدم القدرة على التنبؤ بالحياة. فالحرية ترتبط عند دولوز بالرغبة ويعتبرها قوة إنتاجية، ويؤكد بأن الرغبة هي قوة ثورية تناهض هياكل السلطة المختلفة، وتعمل على تحقيق الحرية من خلال تحقيق الذات. وهو يعتبر بأن الحرية تبرز من بين فجوات هياكل السلطة، لذلك فهو يدعو الي أشكال جديدة من المقاومة ضد هذه السلطات من أجل توسيع الفجوات للحصول على حرية أوسع. والحرية بالنسبة لجيل دولوز ليست حالة مستقرة، بل هي في حركة ديالكتيكية مستمرة، ولهذا يتبنّى دولوز فكرة الصيرورة، بإعتبارها حالة مستمرة في الوجود تتجاوز حالة الهويات الثابتة والجامدة. وهكذا فإن الحرية بهذا المعنى مرتبطة بالقدرة على التغيير وإعادة إنتاج الذات في عالم متغيّر، حيث يشدد دولوز على نوعية جديدة من القيم الأخلاقية مبنية على تأكيد الوجود والصيرورة والحياة وإبتداع قيم جديدة لا تتوافق مع المعايير المحددة مسبقا. وأخيراً مفهوم الحرية عند الفيلسوف جان فرنسوا ليوتار المرتبط بشكل وثيق بنقده للسرديات الكبرى (مثل الأيديولوجيات المهيمنة والماركسية، والليبرالية، والديانات، ونظريات التقدم التنموي او الحضاري.. وغير ذلك) والتي يرى أنها شكلّت الفكر الحديث والإيديولوجيات السياسية الشائعة، لكنه يرى أيضا بأنها فقدت شرعيتها في سياق "ما بعد الحداثة". يسمح هذا التحدي بتعدد السرديات والاصوات، وهو الذي يفتح أبواباً للحرية أقل ارتباطا بالقيم الشائعة والمثل العالمية، وأشد التصاقا بتنوع ووحدانية التجارب الفردية. فالحرية عند ليوتار ترتبط بالقدرة على التشكيك في اليقينيات الراسخة وتحدّيها، حيث ان السرديات الكبرى لم تعد قادرة على تقديم الإجابات المحددة، لذلك فإن الحرية تنطوي على التشكيك والإنغماس التام في طرح الأسئلة، والنقد، والتجريب الفكري، والإبداعي. مما يعني بأن الحرية لا يمكن فهمها على أنها مجرد غياب للقيود، بل على أنها مسؤولية تجاه الآخرين ومراعاة خصوصياتهم. يؤكد ليوتار بهذا على قيم أخلاقية تقوم على الاعتراف بالاختلاف واحترامه، فالحرية الأخلاقية تستوجب الانخراط في علاقات تعترف بالتنوع وتقدره. الحرية بإختصار، بالنسبة لجان فرانسوا ليوتار، هي مفهوم يبرز أساسآً في سياق التعددية واحترام الاختلافات ومعارضة السرديات الكبرى السائدة. وليوتار مفكر رسّخ بأفكاره أخلاقيات التنوع والحوار، ويدعو إلى التفكير والتحليل المستمر في اللغة والمعاني والقيم في عالم ما بعد الحداثة. هذه المفاهيم إنعكست بشكل مؤثر جدا على إشكاليات وجماليات مسرح مابعد الحداثة، حيث انها تدعو إلى استكشاف تعدد وجهات النظر، والتمعّن في غياب الحقيقة الواحدة، والاعتراف بالطبيعة المجزأة للتجربة الإنسانية. تساهم هذه العناصر في إنشاء سرديات مسرحية معقدة ومثيرة للتفكير تتحدى الهياكل التقليدية وتدعو الجمهور إلى الانخراط في تفسيرات مفتوحة. فأصبح من غير المناسب إستخدام السرديات التقليدية الشائعة، بل تجزئة هذه السرديات، وتغيير خطها السردي فلم يعد مستساغاً إستخدام الخط السردي الافقي والمتسلسل في مسرح مابعد الحداثة. نلاحظ، بعد هذا العرض السريع، والمبتسر، لافكار فلاسفة مابعد الحداثة، أن مفهوم الحرية في الواقع يتشظّى الى عدة مفاهيم، فالحرية في الواقع اليومي فكرة مثالية ومعقدة، لأنها تتأثر بشكل كامل بالحدود والقيود الموضوعة من قبل منظومة السلطات المختلفة وهيكلياتها، مما يفرض التنازل عن جوانب مهمة من الحرية. ومع ذلك، فإن الواقع اليومي للحرية يختلف كثيرًا عن ماذكرناه من المفاهيم المثالية للحرية. ففي الواقع المعاش، يواجه الأفراد حدودًا وقيودًا قد تقلّص من حرية العمل والتفكير. قد تكون هذه الحدود مفروضة بموجب القوانين، أو الأعراف الاجتماعية، أو الضغوط الاقتصادية، أو لأسباب وسلوكيات نفسية وأخلاقية. علاوة على أن التمييز العرقي أو الطبقي، والفقر، والقمع، والظلم الاجتماعي وغير ذلك من عوامل تحدّ، الى مديات بعيدة، من التمتع بالحرية، بل إن الافراد في هذه المواقف يفقدون الكثير من إستقلالهم وحريتهم. انعكاس المفهوم الفلسفي للحرية على الإبداع في مسرح ما بعد الحداثة كما لاحظنا مما سبق فإن الحرية تُعتبرأحد المفاهيم الأساسية والأصيلة في فلسفة ما بعد الحداثة، فهي تتعلق بالهوية، والذات، والصيرورة، والسياق الاجتماعي، وهياكل سلطة الحكم والمجتمع. ينعكس هذا المفهوم الفلسفي للحرية بشكل عميق على كافة عمليات الإبداع في مسرح ما بعد الحداثة، مما يؤدي إلى إعادة تشكيل أساليب العرض، واختيار الموضوعات، وأسلوب عرض السرديات، وإبتكار تصورات جديدة في الأداء، والانفتاح على رؤى جديدة ومبتكرة في إخراج السرديات التقليدية. فمن المميزات الجوهرية لمسرح ما بعد الحداثة رفضه للهياكل السردية التقليدية والسرد البياني أو الأفقي. ففي المسرح التقليدي، هناك بنية محددة وصيغ معينة يجب اتباعها، ولكن في مسرح ما بعد الحداثة، ثمة حرية في الانفصال عن هذه الأعراف، وإبتداع، وإبتكار، وتجريب ما يمكن ان يكون متميز وفريد. حيث إن مسرح ما بعد الحداثة يتبنّى فكرة التعبير الفردية والذاتية، وتجاوز الحدود بين الواقع والخيال، ورفض المعايير والأعراف المجتمعية، والتشكيك فيما يُعتبر "طبيعيًا" أو "مقبولًا"، ورفض الإستكانة الى قناعة ثابتة. بالإضافة إلى ذلك، فإن مسرح ما بعد الحداثة، ومن خلال حرية التجريب والإبتكار في الشكل والمضمون، غالباً ما يشتمل على عناصر من العبث، والكوميديا، والسخرية، والهزال، والمرح. أدناه، نستكشف تأثيرات الحرية الفلسفية على عمليات الإبداع المسرحي في سياق ما بعد الحداثة. نقد السلطة والهيمنة الحرية، هنا، هي المساحة التي تناهض القوة والتعسف، فمما لا شكّ فيه إن الحرية هي الركيزة الأولى والاساسية لتحدي قوى السلطة والهيمنة في الحكم وفي الأعراف التقليدية الاجتماعية. ويتّضح ذلك في التمرد على القوالب، والاشكال التقليدية بالابتكار والتجريب في مسرح ما بعد الحداثة، حيث تتم إثارة التساؤل والتشكيك في المنظومات الاجتماعية والسياسية والايديولوجية. كما يستخدم المسرح الأساليب الرمزية والكوميديا، والسخرية للتملّص من الرقابة والقيود المفروضة بغرض نقد الهياكل السلطوية، فمن خلال تقديم نصوص تتناول قضايا مثل الظلم، وغياب العدالة، والتمييز، والرقابة يبرز المسرح كأداة جوهرية للتغيير الاجتماعي. الأشكال والتقنيات الجديدة لا شك في أن التوسع في الابتكار والتجريب في تقنيات المسرح هما أبرز ثمار الحرية الفلسفية، مثل استخدام الوسائط البصرية المتعددة، والتقنيات الرقمية، والأداء الحيّ، والمسرح التفاعلي والتشاركي مع الجمهور. هذه الأساليب والابتكارات تعكس الحرية في استكشاف طرق جديدة للعرض الفني وأشكال جديدة ومتطورة للتفاعل مع الجمهور. كما تُتيح هذه الحرية التوسع في إنعكاس المفهوم الفلسفي للحرية فيما بعد الحداثة لتأطير أنماط جديدة من مسرح متميز وفريد في موضوعاته ومعالجاته وأساليب العرض، عبر دمج عناصر من الفنون الإبداعية الأخرى، مثل الرقص التعبيري، والموسيقى، والفنون البصرية، مما يُوسّع مساحة الابداع بشكل أكبر، ويُعزز من حرية التعبير في التصدي لما هو قائم من اشكال تقليدية جامدة، وتجاوز الحدود المفروضة، وفتح آفاق جديدة للمخيال والابداع الإنساني. التحرر من السرديات الكبرى تتضمن فلسفة ما بعد الحداثة تشكيكاً وتحريضاً وتمرّداً على السرديات الكبرى التي تُحاول تفسير التاريخ والوجود الإنساني بشكل شمولي. أي السرديات التي تبث معاني ثابتة لتوحيد الرؤيا بشكل عالمي واسع حول الموضوعات والايديولوجيات التي تستنكر الحوار والمجادلة. إنما في مسرح ما بعد الحداثة يترجم هذا التحريض والتمرد بتفكيك السرديات التقليدية الشاملة، مما يتيح لكتّاب المسرح والمخرجين الحرية الواسعة في التعبير عن تجارب فردية وجماعية متنوعة، من خلال إلغاء الخط الزمني البياني التقليدي، وعدم الالتزام بسرد أفقي موحد، يُمكّن العرض من أن يستكشف موضوعات إنسانية متعددة ومتنوعة في ذات الوقت، مما يعكس تعقيدات الحياة الحديثة، بالإضافة الى إستحداث صيغة تشاركية وتفاعلية مع الجمهور. كذلك فإن هذا المسرح الذي يستلهم الحرية من فلسفة ما بعد الحداثة سيعزز من أهمية الأصوات المتعددة، والمهمشة، والقصص الفردية في المجتمعات، إضافة الى التصدي للموضوعات الاجتماعية والسياسية التي يتنكر لها المسرح التقليدي، مما يُتيح للعديد من الهويات والثقافات المتنوعة والمختلفة أن تُعبر عن نفسها. إعادة تشخيص الهوية يكشف مسرح ما بعد الحداثة بأن الهوية ليست ثابتة، لأنها مرنة وسائلة، وفي حالة تطور ديناميكي وتقلب مستمر. يُسهم هذا الفهم في المسرح في خلق شخصيات معقدة، ومركّبة، ومتعددة الأبعاد تعكس التحديات التي يواجهها الأفراد في عصرنا الحالي الموشّح بالعولمة، وتأثيرات التحول الثقافي السريع، والمفعول المخرّب لأحاسيس الاغتراب الذاتي، والمجتمعي. حيث إن استكشاف الابعاد الملتبسة للهوية يسمح لمسرح ما بعد الحداثة في الخوض بمشاكل تعتبر محرّمة، مثل الهجرات والعرق الانساني، والثقافة المختلفة، والجنس والمحرمات الاجتماعية والأعراف، مما يُتيح للكتاب المسرحيين والمخرجين مساحة واسعة لمناقشة الهويات الثابتة واستكشاف القضايا الموسعة والعناصر الديناميكية المتعلقة بالهوية وإشراك الجمهور بمناقشتها. لا شك في انه من خلال هذا الاستكشاف يُعبّر المسرح المتأثر بمفاهيم الحرية في فلسفة ما بعد الحداثة عن فرادته الإبداعية وعن حريته في مواجهة التحديات الاجتماعية والسياسية. حيث يبرز المسرح كقوة فاعلة ونشطة في تطوير الوعي الاجتماعي، وتحفيز النقاش حول القضايا الملحة في المجتمع والتي تقع دائماً خارج دائرة الضوء. الحرية كمحرك للابداع المسرحي. إن مفهوم الحرية في فلسفة ما بعد الحداثة ينعكس بشكل عميق على الإبداع في المسرح، حيث يُعزز من تفكيك السرديات المهيمنة، وتفكيك الهويات المعقدة، وإستكشاف الهويات السائلة أو المرنة، ونقد هياكل السلطة، وتبني أشكال جديدة من التعبير الفني. يُعتبر مسرح "ما بعد الحداثة" منصة حيوية تتيح للفنانين والكتّاب الفرصة للتعبير عن تجاربهم الفريدة، والتشكك في اليقينيات الثابتة، والتساؤل عن ماهية الواقع المعاش، والتجريب في تحقيق الحرية في الإبداع من خلال نهج واضح وسلس يعتمد، غالبا، على المرح والسخرية والكوميديا. علاوة على ذلك، فإن توسّع حجم ومساحات الحرية تزيد من قدرة كتّاب المسرح والمخرجين والممثلين وكافة الفنيين على إستيلاد الابداع في المسرح الحديث، والتي تبرز في التعبير عن الأفكار الجديدة، بأساليب إبداعية مختلفة ومبتكرة، إضافة الى التحريض والانتقادات، سواء لسلطة الحكم أو سلطة المجتمع، وعادة ما تكون الحرية متجسدة بالأطر التالية: الحرية السياسية: إن التطور في حرية التحريض وانتقاد الأيديولوجيات، والسرديات الكبرى الشاملة، والحكومات والأعراف والقيود الاجتماعية أدت الى ظهور حركات ومناهج فنية ذات أبعاد فكرية وفنية مختلفة عما سبقها. مثل أعمال الفريد جاري في سلسلته المسرحية الملك أوبو، وأنتونين آرتو في مجمل أعماله المسرحية، كذلك مسرحيات بيتر فايس التوثيقية، ومجمل أعمال مسرح برتولت بريخت والتي شكلّت أداة حقيقية للنقد والتغيير الاجتماعي. حيث انه من المؤكد ان البعد السياسي للحرية كان بمثابة النابض لانطلاق تطوير المسرح في أن يكون منصة جادة للتمرد، والنقد والفهم السياسي، كما منح الفنانين المبدعين القدرة على التصدي للقضايا الاجتماعية والسياسية المعقدة والمحرمة، والشروع في تحريض الجمهور على التمرد وتبني أفكار نقدية. الحرية الثقافية: إن تفكيك السرديات في المسرح الى سرديات أصغر، وبشكل غير مترابط، سمح بتطور المسرح الطليعي ممثلاً بمسرحيات صموئيل بيكيت ويوجين أونسكو، حيث يظهر الواقع بإطار كابوسي، ولكن بشكل ساخر، كما تبرز هذه المسرحيات، أفراد المجتمعات الحديثة كمخلوقات فاقدة لبوصلتها، وتائهة في عالم موصد النوافذ والابواب، ضمن إطار من السرديات الشاملة الكبرى. إنما تفكيك السرديات ودمجها بثقافات أخرى بتأثير من العولمة وتآكل الحدود بين ثقافات مجتمعات العالم سمح بتشكيل مسرح ملحمي مختلف ومن نوع آخر، مسرح عابر للثقافات والمجتمعات والحدود، ولكنه مبنيّ على الاهتمام بالقضايا الإنسانية الملّحة مثل الهجرات البشرية وغياب العدالة، والتعسف والتفرد في الحكم. لعل أبرز الأمثلة على ذلك هو مجمل اعمال المخرجين القديرين بيتر بروك وآريان منوشكين. الحرية الإبداعية: تتبلور هذه الحرية بإلقاء الضوء على المواضيع المحرّمة والمحظورة، وعلى استكشاف الحقائق البديلة، والاصوات المهمشة التي تم إسكاتها تاريخيا. ويشكل تيّار المسرح الطليعي مثالاً بارزاً في تناول موضوعات صادمة في كشف ومعالجة القضايا الاجتماعية المختلفة، بما في ذلك قضايا الإحساس بالوحدة والاغتراب في المجتمع الحديث، وإشكاليات الاندماج الاجتماعي وقضايا الهوية. كذلك فإن من بين أهم منجزات ما تسمح به الحرية الإبداعية هو إعادة النظر بالنصوص الكلاسيكية المعروفة برؤى تعكس وجهة نظر حداثية، ومختلفة، وجديدة، ومبتكرة تحرّر تلك النصوص من إرث التاريخ ومن أسر الحدود الجامدة والمغلقة. هناك أمثلة عديدة تلقي الضوء على ذلك، ولعل عمل المخرج الفرنسي فانسان ماكين خير مثال على ذلك في إعداده الهجين ومسرحة وإخراج رواية الأبله لدويستوفسكي، ومن قبله المخرج الفرنسي روبرت حسين الذي قدم رؤيا جريئة ومبتكرة للمدرعة بوتمكين. الإبداع: كعملية لإستيلاد الأفكار في المسرح لقد أدى التقاطع بين الإبداع المسرحي والمفاهيم الاساسية لفلسفة ما بعد الحداثة، وخاصة مفهوم الحرية، إلى تطوير الممارسات المسرحية بشكل عميق، ولا سيما مشهد الأداء التمثيلي المعاصر، وتحدي الأساليب والسرديات التقليدية، وتغيير الهياكل، وتفكيك تركيبات ومفاهيم المعاني، والتشكيك في السرديات الكبرى وتبنّي تجزئتها، والترويج الى التعددية الثقافية والتنوع الاجتماعي، وتعظيم مفهوم الهوية المتحركة والسائلة. يتّضح هذا التقاطع بالأساليب والطرق التالية: دمج مختلف التخصصات: تشكل مختلف فنون الرقص والفنون البصرية والرقمية تقاطعا إبداعيا وتجديديا في فضاءات المسرح، مما يسمح للمسرحيين المبدعين بتلّمس تجارب وأشكال وتقنيات جديدة. حيث ان حرية دمج عناصر ووسائط فنية مختلفة تدعم بشكل قوي المفهوم المتطور للابداع ضمن تعقيدات المجتمع المعاصر. الإبداع التعاوني: إن ضرورات التعاون في المسرح تتجاوز الحدود الفاصلة بين النص والرؤيا الاخراجية والأداء والتقنيات المختلفة. فالكتّاب المسرحيون والمخرجون والممثلون والفنيون يتكاملون فيما بينهم من اجل إبتكار وإبداع عمل مسرحي يشرك الجمهور بالقضايا المجتعية والسياسية الملّحة. الارتجال والابتكار: أن حرية الابداع تسمح بالعفوية والارتجال في المسرح، ففي المسرح الحديث والتجريبي يشترك الجمهور بشكل فاعل مع العرض المسرحي، مما يُلزم الممثلين على الابتكار والارتجال الآني في المسرح، وخاصة في المسرح الغامر حيث يتحول الجمهور من حالة التفرّج السلبي الى حالة الانغماس التام بالمسرح وبموضوعات العرض المسرحي، مما يُحيل كل ليلة من العرض المسرحي الى حالة عرض فريدة بسبب تغيّر الجمهور. التجريب في المسرح: الابداع في الخروج عن المألوف والتقليدي في المسرح بتجريب أنماط جديدة ومبتكرة في فنون الأداء وتقنيات الإخراج. والتجريب يشمل استخدام عناصر جديدة ومشوقة سواء في مشهدية المسرح، او السينوغرافيا، أو آليات العرض المسرحي بشموليته. فالحرية في المسرح تسمح ببناء "المسرح النموذج" من خلال التجريب المستمر في البنية والشكل والأسلوب لتجاوز الأعراف التقليدية في المسرح، بما في ذلك تجاوز أو تهديم الحدود الفاصلة بين الممثل والجمهور. استخدام التقنيات الحديثة: إدماج عناصر جديدة من التقنيات الحديثة ولا سيما التقنيات الرقمية الحديثة في مجمل وسائط العرض المسرحي. مما يسمح بتوسيع إمكانيات المسرح بإستخدام المنصات الرقمية من قبل الفنانين عبر الانترنيت بهدف الوصول الى جمهور أوسع. كذلك عرض المحتوى الذي قد لا يتناسب مع أبعاد ومساحات المسرح التقليدية. المسرح التفاعلي والتشاركي: يُؤكد ظهور هذا النوع المتجدد من المسرح حرية إشراك الجمهور بطرق جديدة. بحيث ان هذا النهج يمكّن المشاهدين من أن يصبحوا جزءًا من السرد الدرامي، حيث يتجاوز هذا المسرح حواجز الأداء التقليدي، ويُلغي الفواصل بين خشبة المسرح والجمهور وينمّي الإحساس المجتمعي بالمشاركة. فمن خلال مسرح ما بعد الحداثة تتم، بشكل أساسي، إعادة تعريف العلاقة بين الجمهور والأداء الفني المسرحي. حيث يتجاوز الجمهور فكرة الاستهلاك السلبي للعرض المسرحي، أي تجاوز والغاء المفهوم الشائع للجمهور بوصفه "متلقي"، ويدخل الجمهور كشريك في النشاط السردي للمسرح. وهو ما يغيّر من وظيفة الجمهور وجذبه كفاعل وشريك، بشكل مباشر، مما يحوّل المشاهدين الى جمهور مغمور بالعملية المسرحية، حيث تكسر وتُلغى الحواجز بين الممثل الجمهور. تبنّي رؤى مبتكرة: يتم التعامل مع النصوص الكلاسيكية المعروفة برؤى جديدة، وبأساليب إبداعية مبتكرة وذلك بتكيّيف تلك النصوص بشكل حداثي لتعكس القضايا الاجتماعية والسياسية المعاصرة، وتضمينها سياقات ثقافية مختلفة، بحيث ترتبط باهتمامات الجمهور والقضايا الاجتماعية الهامة مما يجعلها أكثر صلة بالجمهور المعاصر. إن دمج موضوعات كلاسيكية متباعدة زمنياً مع العصر الحديث، وعبور أزمنة مختلفة جذرياً يسمح بالقاء الضوء على حالة الادراك المعاصرة لهذه الموضوعات، وحقن شحنات من التمرد والتحريض ضد ما يحدّ من مساحات الحرية والوعي بهدف الانغماس في مشاكل العصر الحديث. التناص: إن مفهوم التناص في مسرح ما بعد الحداثة يُشكّل عنصرًا حيويًا لإثراء التجربة المسرحية. فالتناص يسمح بدمج النصوص والأفكار المتعددة، مما يعزز من قدرة المسرح على التعبير عن تعقيدات الحياة المعاصرة. والتناص يعكس التداخل بين أزمنة التاريخ والعصر الراهن، ويسمح كذلك بالتداخل بين الثقافات والتنوع الاجتماعي، حيث لا توجد حقيقة واحدة ثابتة، بل العديد من السرديات التي تتفاعل وتتشابك مع بعضها، مما يُثري الفهم الإنساني. فقد أدى تركيز ما بعد الحداثة على آليات التناص إلى ازدهار مسرح من نوع آخر يضّم، في كثير من الأحيان، عناصر من مختلف الأنواع والأساليب والوسائط. حيث إن عدم وضوح الحدود بين النصوص يسمح بإجراء تغييرات مبتكرة وإعادة تفسير للأعمال الكلاسيكية المعروفة. الجماليات الانتقائية: يحتضن مسرح ما بعد الحداثة أساليب متنوعة، ويمزج بين الفن الرفيع ونقيضه، ويدمج عناصر من الثقافة الشعبية والوسائط المتعددة الحديثة والتقنيات الرقمية المتقدمة. هذا الاندماج المرن بين الجماليات المسرحية الانتقائية يتيح تقديم تجارب متعددة ومتنوعة، بما في ذلك استخدام الآليات السمعية البصرية، والمشهديات المبتكرة والتي تعكس تعقيدات الحياة المعاصرة، وتسعى الى إعادة صياغة النموذج الدرامي في مسرح مابعد الحداثة. السخرية والمحاكاة الهزلية: حيث إنها تغلب على نمط وسرديات مسرح ما بعد الحداثة، وتعمل كتضاريس رئيسية للنقد السياسي والمجتمعي، يتم ذلك من خلال إسقاط الآمال في التوقعات الشائعة، وتسليط الضوء على الحماقات والسخافات العديدة التي تتصف بها الحياة المعاصرة. عبر تلك التضاريس النقدية يوفر الكتّاب والمخرجون المسرحيون فضاء مفتوحا للتأمل والتفكير، وذلك باستخدام الكوميديا لمعالجة قضايا خطيرة مثل العولمة، والرأسمالية والتدهور البيئي، والتغيّر المناخي.. وما شابه ذالك. الختام وفي الختام، عند النظر اليوم الى المسرح بصورة عامة، والى مسرح مابعد الحداثة، نجد بأن التبنّي الفردي أو الجماعي لمفاهيم الحرية يُشكّل المحرك الأساس والفعّال في رفض الاشكال والهياكل والأساليب التقليدية، بما في ذلك الجماليات المعتادة أو الشائعة، وإنتهاج التعبير الفردي والتوسع به، وإتّباع منهج التجريب في مختلف أشكال الإبداع المسرحي. حيث إن الحرية في المسرح هي الطاقة الكامنة والمفجّر الأساسي لإيقاظ محفزات الابداع، وإيقاد شرارات المخيال والابتكار والتحول المجتمعي. والحرية أيضاً هي القوة الأساسية التي تمكن المبدعين من صياغة سرديات مقنعة، وتدعو الجماهير للمشاركة في تجارب عميقة، وتبث الحياة في المخيال الجماعي. على أن الإبداع في المسرح لا يتعلق فقط بتوليد الأفكار الجديدة، بل يشمل الطيف الكامل لتنفيذ الأفكار، والعمليات المرافقة من لحظات إنبثاقها إلى مراحل التنفيذ النهائية المتنوعة. لذلك، فإن الجوهر الحقيقي للإبداع يكمن في التنفيذ القادر على التأثير، وإحداث تقبّل وصدى عميق لدى الجمهور وإثارة التأمل، وبالتالي طرح الأسئلة الحرجة. يسمح هذا النهج الفلسفي لمفاهيم الحرية في أن يصبح المسرح انعكاسًا لحالة ما بعد الحداثة، وفي ان يتمسّك بإشكاليات غياب الحقائق العالمية وبالاحتفاء بالتنوع الثقافي والاجتماعي، وبتعقيد التجربة الإنسانية. لعل هذا التحول المفاهيمي يُعيد تعريف دور المسرح في تشكيل السرد وتقديمه، مما يوفر تجربة مبتكرة وبألوان مختلفة ومتعددة للابداع بكل أشكاله بحيث يمتد ذلك ليشمل الجمهور على تنوعه. لا يمكن المبالغة في أهمية الحرية في فنون الإبداع المسرحي، فمن خلال التمسّك بحرية التعبير وتشجيع التجريب، وتحدي الوضع الراهن، وتمكين الأصوات المهمشة، وتفجير الاحاسيس العاطفية، يبقى المسرح قوة هائلة للتغيير وجزءًا حيويًا من الثقافة التي تؤثر بشكل دائم على حركة وقيم المجتمع. وأخيراً ان مفاهيم الحرية والإبداع في المسرح الحديث مرتبطان بشكل معقد، حيث يتداخلان بصورة عميقة، لذلك يمكن النظر الى الحرية مثلاً، بإعتبارها سطح اللوحة الفنية أو الكمفاس الذي ينتظر ان يُرسم عليه، في حين ان الابداع هو مجموع الادوات التي ترسم موضوعات اللوحة والوانها واسلوبها، أي ترجمة تعقيدات التجربة الإنسانية فنياً. فالحرية والابداع يتضافران معًا من أجل خلق عرض مسرحي جمالي نابض بالحياة، ومعبأ بالتحديات التي تتعلق بهموم المجتمع، ويعكس العصر الذي نعيش فيه، وإشكاليات العالم من حولنا.
استفاد هذا البحث من المراجع التالية في فلسفة ما بعد الحداثة: • الصورة – الحركة، أو فلسفة الصورة، جيل دولوز. ترجمة حسن عودة، منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما، دمشق 1977 • الصوت والظاهرة، مدخل الي مسألة العلامة في فينومينولوجيا هوسرل، جاك دريدا، ترجمة د. فتحي انقزو، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب. • أوهام الهوية، جان فرنسوا بايار. منشورات هنداوي، • الوضع ما بعد الحداثي، جان فرانسوا ليوتار، ترجمة أحمد حسان، دار شرقيات للنشر والتوزيع. القاهرة. • لماذا نتفلسف؟ جان فرنسوا ليوتار، ترجمة يوسف السهيلي، دار التنوير للطباعة والنشر، تونس • المراقبة والمعاقبة، ولادة السجن، ميشيل فوكو، ترجمة د. علي مقلد، منشورات مركز الانماء القومي، بيروت • حفريات المعرفة، ميشيل فوكو، ترجمة سالم يفوت، الناشر المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء
• Simulacre et Simulation, Jean Baudrillard, Edition Gallimard, Paris, Format Kindle • La dissémination, Jacques Derrida, Aux Éditions Du Seuil 1972. Paris, Format Kindle • The Consumer Society, Jean Baudrillard, London, Format Kindle • L’Anti OEDIP, Capitalisme et Schizophrénie, Gilles Deleuze, Félix Guattari, Edition de Minuit, Paris, Format Kindle • Le Postmodernisme, une utopie moderne, Thomas Seguin, Edition l’Harmattan, Paris, Format Kindle • Les mots et les choses, Une archéologie des sciences humaines, Michel Foucault, Format Kindle
************
#علي_ماجد_شبو (هاشتاغ)
Ali_M._Shabou#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المرجعيات المركزية الإجتماعية ومفهوم التجريب
-
الإمتداد المسرحي في التهجين الثقافي
-
الاغتراب الثقافي ودلالاته في المسرح
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
-
الجغرافية الثقافية وفنون الأداء
-
الإيستاتيك، وجمال القبح في المسرح
-
المحتوى في المسرح
-
أريان منوشكين ومسرحية -الجزيرة الذهبية-
-
المسرح والجمهور .. و-المتلقي-.
-
الظاهراتية والمسرح
-
الحرية والإبداع
-
مسْرحة دوستويفسكي - المسرح بين السحر والمشهدية
-
-عبث- البير كامو و -الثورة المُهانة- في الربيع العربي
-
قضية مؤلمة
-
قراءة في مسرحية -ميدان القمقم- للدكتور سامح مهران
-
المسرح النسويّ: المسرح في المؤنث والمذكر
-
الديموقراطية والسعي نحو السراب
-
نظرة في المهرجانات المسرحية العربية
-
الثقافة بين العولمة والكوْرنة
-
رحلة المهرجانات المسرحية من كرفان الفرح الى بيداء التباعد ال
...
المزيد.....
-
مصر.. الشاب المصفوع من قبل عمرو دياب يعلق على قرار إحالة -ال
...
-
مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 26 مترجمة بجودة hd قصة عشق
-
-نيويورك بوست-: تأجيل إصدار الحكم بحق ترامب في تهم صمت الممث
...
-
مصر.. إحالة الفنان عمرو دياب إلى المحاكمة العاجلة
-
الروائي الفائز بكتارا يوسف حسين: الكتابة تصف ما لا تكشفه الص
...
-
الموسيقى تواجه أصوات الحرب في غزة
-
بسبب المرسوم 54.. عمران: رقابة السلطة تكبل الكاريكاتير في تو
...
-
أشبه بالأفلام.. هروب 43 قردًا من منشأة أبحاث والشرطة تحاول ا
...
-
50 دولة تشارك في المهرجان السينمائي الطلابي الدولي الـ44 في
...
-
فرح قاسم: فيلم -نحن في الداخل- وثائقي شخصي عن الحب والوداع ب
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|