أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد خليل - مجموعة قصصية بعنوان ظلال الذاكرة















المزيد.....



مجموعة قصصية بعنوان ظلال الذاكرة


خالد خليل

الحوار المتمدن-العدد: 8157 - 2024 / 11 / 10 - 16:55
المحور: الادب والفن
    


(1)
ظل النافذة

كانت ليلى تجلس كل مساء بجوار نافذتها، في تلك الغرفة الصغيرة التي تطل على شجرة ضخمة تقف وحيدة في زاوية الشارع، وكأنها تراقب المدينة بصمتها الثابت. بدأت تلك العادة منذ سنوات، عندما لمحت لأول مرة ذلك الظل الغامض لرجل يجلس تحت الشجرة، مائل الرأس كمن يفكر أو ينتظر شيئًا ما. كان مشهدًا يثير فضولها، لكن في الوقت نفسه، كان يبدو مألوفًا ومريحًا، وكأنه جزء من حياتها التي اعتادت فيها الوحدة والعزلة.

لم تحاول ليلى يومًا الاقتراب من الشجرة أو الرجل الجالس تحتها. كان هناك دائمًا ما يمنعها، ربما الخوف من كشف سرٍ ظل يخيم على حياتها بهدوء. مع مرور الأيام، أصبح الظل جزءًا من يومها، حتى أنها كانت تشعر بالاطمئنان عندما تراه من نافذتها؛ فهو لم يكن يتحرك أو يتحدث، بل كان موجودًا، صامتًا كصمت الشجرة، ثابتًا كأنما الزمن قد توقف من أجله.

كانت ليلى تعود إلى النافذة كل مساء، وتجلس تراقب الشارع الفارغ، وتترك لعينيها استراحةً عند الشجرة، حيث كان الظل يجلس كما اعتادت أن تراه. وفي بعض الأحيان، كانت تتساءل عن حقيقته، لكن لم تكن تجرؤ على الاقتراب منه؛ فقد أصبح نوعًا من الألفة التي لا تحتاج إلى تفسير أو مقاطعة.

في ليلة باردة، خيم سكون ثقيل على المكان. كانت الشوارع خالية، لا صوت للريح، ولا أحد يمر تحت أضواء الشارع الخافتة. نظرت ليلى كعادتها نحو الشجرة، لكن الظل لم يكن موجودًا. شعرت بارتباك عميق، وكأن قطعة من نفسها قد فُقدت. قضت الليلة كلها أمام النافذة، تحدق بلهفة في مكان الظل، تتخيله موجودًا، لكن ظل الشجرة كان خاليًا كأنما لم يعرف وجودًا آخر قط.

استمر غياب الظل لأيام طويلة، وبدأ القلق يتسلل إلى قلب ليلى. كانت تشعر وكأنها فقدت صديقًا قديمًا، أو شريكًا في وحدتها، رغم أنها لم تعرف من هو، ولم تحاول يومًا الاقتراب منه. كانت تدرك في أعماقها أن عليه العودة، وإلا فإن عالمها سيبقى فارغًا ومخيفًا إلى الأبد.

لم تستطع ليلى تحمل الانتظار أكثر، قررت في لحظة شجاعة، أن تخرج من غرفتها تلك الليلة، وتذهب إلى الشجرة. اقتربت منها بحذر، ونظرت إلى الأرض حيث كان الظل يجلس عادة. لكنها لم تجد شيئًا. شعرت أن الليل أصبح ثقيلًا، كأنما يضمر سرًا كبيرًا.

رفعت نظرها نحو الشجرة، وتفاجأت بوجود مرآة صغيرة معلقة على إحدى أغصانها، بدت عتيقة ومغبرة، كأنها بقيت هناك لسنوات طويلة دون أن يلاحظها أحد. اقتربت من المرآة، وأزاحت الغبار عنها بيد مرتعشة. ما إن نظرت إليها حتى فوجئت بأن الظل الذي كان يجلس تحت الشجرة كان ظلها هي. كان انعكاسًا لوحدتها العميقة التي لم تجرؤ على الاعتراف بها.

في تلك اللحظة، شعرت وكأنها تحررت من ثقل السنين التي عاشتها مع الظل. كانت تبحث عن شيءٍ يملأ فراغ حياتها، لكن دون أن تدرك أن هذا الظل كان انعكاسًا لها، لصمتها، لوحدتها، لكل تلك المشاعر التي خافت من مواجهتها.

عادت ليلى إلى غرفتها بعد تلك الليلة، لكن هذه المرة لم تجلس عند النافذة كما اعتادت. لم تعد تنتظر الظل، فقد أدركت أن الزمن لم يتوقف تحت تلك الشجرة، بل في قلبها الذي ظل جامدًا يبحث عن شيء لم يكن موجودًا إلا داخلها.


(2)
أجنحة بلا طيران

كان سامي يعيش حياة رتيبة في مدينة مزدحمة، بين جدران ضيقة ووجوه تتكرر، لكنه لم يشعر يومًا أنه ينتمي لهذا العالم. ورغم انشغالاته اليومية، كان يختلي بنفسه كل مساء، ناظرًا إلى نافذة غرفته الصغيرة، يتأمل الطيور وهي تحلق بحرية عالية فوق المباني. كان يشده منظرها كل مرة، ويتمنى لو كان بإمكانه الطيران، بعيدًا عن الزحام وضجيج الحياة.

بمرور الوقت، بدأت فكرة الطيران تملأ عقله وقلبه. صار يحلم بها في يقظته، يتخيل نفسه محلقًا بلا قيود. حتى إنه ذات مساء أخذ فرشاة ألوانه، وبدأ يرسم أجنحة كبيرة على جدران غرفته. ألوانها كانت ناصعة، حية وكأنها مستعدة للانطلاق، ملأها بألوان تبرز التفاصيل الدقيقة، وكأنما الأجنحة تكاد تنبض بالحياة.

صار سامي يعود كل ليلة لينظر إلى تلك الأجنحة، يتأمل الريش المرسوم بدقة، وكأنها تتوق للحظة انطلاقها. كان يغمض عينيه أحيانًا، يتخيل نفسه وقد تحرر من قيود الأرض، يحلق عاليًا فوق مشاكله وأحلامه العالقة. إلا أنه في كل مرة يفتح عينيه، يجد الأجنحة ساكنة، حبيسة الجدران، تمامًا كحياته.

مرت الأيام وسامي يعيش داخل هذا الحلم المستحيل، وقد بدأت الأجنحة تتحول من رمزٍ للأمل إلى تذكرة يومية بالعجز. كان يجلس وحيدًا، يراقب الرسم بصمت، يسأل نفسه عن معنى هذا الحلم، ولماذا لا يستطيع تحقيقه. في أحد الأيام، لم يتحمل الشعور بالثقل الداخلي أكثر، قرر أن يخرج إلى الهواء الطلق، إلى حيث يمكنه أن يرى السماء بدون جدران تحجبه.

خرج سامي من منزله متوجهًا إلى تلة صغيرة تطل على المدينة، مكان بعيد حيث لا يصل ضجيج السيارات ولا أنوار الشوارع. وقف هناك في صمت، ناظرًا إلى السماء الفسيحة، ورفع يديه كما لو كانا أجنحة، يشعر بالرياح تلامس وجهه وتداعب ملابسه. كانت لحظة صافية، خالية من التعقيد.

شعر وكأن الأجنحة المرسومة على جدران غرفته كانت رمزًا لرغبته في الحرية، في الانطلاق، لكنه أدرك الآن أن الطيران لم يكن الهدف الحقيقي. لقد كان بحثًا عن التحرر الداخلي، عن شجاعة مواجهة الحياة بأحلامه الكبيرة، دون الحاجة لأجنحة حقيقية.

عاد سامي إلى غرفته تلك الليلة، ونظر إلى أجنحته المرسومة على الجدران للمرة الأخيرة، لكنه لم يرها ساكنة بعد الآن. أدرك أنه لم يكن بحاجة لأجنحة للطيران؛ الحرية الحقيقية لم تكن في السماء، بل في قلبه.


(3)
سلالم الظلام

كانت "ياسمين" فتاة هادئة، تقضي معظم وقتها في مكتبتها المنزلية، تلتهم صفحات الكتب بشغف غريب، وتحب الغرق في عوالم الأدب والشعر والأساطير. كانت الكتب صديقتها الوحيدة، فقد كانت تجد فيها عزاءً من وحدة عالمها الواقعي، الذي لم يحمل لها إلا الصمت. لم يكن لديها أصدقاء، وكان بيتها أشبه بعالم مغلق، يعج برائحة الكتب القديمة، تتسلل إليها خيوط الضوء من النوافذ كأنها تضيء لأجلها هي فقط.

في إحدى الليالي الهادئة، وبينما كانت تتفحص كتبها بحثًا عن قصة جديدة، وجدت كتابًا قديمًا لم تره من قبل. غلافه كان باليًا، وبالكاد يُقرأ عنوانه المكتوب بخط ذهبي ممحو، لكن ما أثار انتباهها هو تلك الملاحظة الصغيرة التي وجدت أسفل العنوان: "للقراءة في الظلام فقط." كان تحذيرًا، أو ربما دعوةً غامضة، لكنها لم تستطع مقاومته.

أطفأت ياسمين النور، وأشعلت شمعة واحدة بجانبها، ثم بدأت تقرأ. صفحات الكتاب كانت غريبة؛ كلما قلبت صفحة، شعرت وكأن الظلام من حولها يزداد عمقًا وثقلاً، وكأن الغرفة تضيق بها. لم تكن القصة التي قرأتها تحمل عنوانًا واضحًا، لكنها كانت تبدأ بوصف عالم مظلم، لا نهاية له، مليء بالسلالم التي تتدلى نحو الأسفل بلا توقف. تملكتها دهشة وخوف، لكنها كانت تشعر بشيء يجذبها نحو الاستمرار.

مع كل صفحة تقرأها، كانت تكتشف تفاصيل جديدة عن السلالم، وبدأت تشعر كأنها تتجسد أمامها؛ كأنها تستطيع رؤيتها بوضوح، سلالم حلزونية، تمتد نزولًا إلى أعماق لا تنتهي. وبينما كانت تتعمق أكثر في القراءة، بدأت تلاحظ شيئًا غريبًا: كل صفحة تُظهر تفصيلة جديدة عن هذا العالم، وكل خطوة تصفها القصة كانت تحمل وصفًا مقنعًا، يشدها للاستمرار، رغم أن صوتًا داخليًا كان يهمس لها بالتوقف.

وبينما كانت تقترب من نهاية الكتاب، وجدت نفسها وكأنها عالقة في متاهة من السلالم داخل عقلها. لم تعد تعلم إن كانت في غرفتها حقًا أم أن عقلها قد أوقعها في عالم الكتاب. عند الصفحة الأخيرة، وجدت جملة تقول: "إن رغبت في رؤية النهاية، يجب أن تهبط بنفسك."

ترددت للحظة، ورفعت عينيها عن الكتاب، لكن الغرفة كانت قد تغيرت؛ لم تكن تلك مكتبتها الصغيرة، بل امتدت أمامها سلالم مظلمة، حلزونية، تشبه تمامًا تلك التي كانت تقرأ عنها. كانت تشعر بالخوف والرعب، لكنها لم تستطع مقاومة الإحساس العميق بالفضول، وقررت أن تهبط السلالم، معتقدة أن هذا كله ربما حلم، أو خدعة بصرية.

بدأت تنزل السلالم ببطء، كل خطوة كانت تشعرها بأنها تغوص في عمق جديد، وكأنها تسافر إلى مكان لا يعرفه سوى الظلام. كانت السلالم تبدو بلا نهاية، تحيطها جدران باردة من الحجارة القديمة، وعلى الرغم من غياب الضوء، كانت تستطيع رؤية السلالم بوضوح، وكأن الظلام نفسه يضيء طريقها.

في منتصف الطريق، شعرت بشيءٍ يتحرك خلفها، لكن عندما استدارت، لم تجد شيئًا سوى الظلام. شعرت برعب يجمد أطرافها، إلا أنها كانت تعرف أن العودة لم تعد خيارًا. تابعت نزولها، وكلما مضت خطوة، كان قلبها يخفق بقوة أكبر، وكأنها تقترب من شيء كبير وغير متوقع.

عند آخر درجة من السلم، وجدت بابًا صغيرًا، محفورًا في الجدار، لم يكن له مقبض، لكنه كان مفتوحًا، كأنما ينتظر قدومها. دفعت الباب ودخلت، فوجدت نفسها في غرفة مظلمة، تتوسطها مرآة كبيرة. كانت المرآة قديمة، لكنها كانت تعكس صورتها بوضوح، إلا أن وجهها كان يبدو مختلفًا، كأنها ترى نسخة أخرى منها، تبتسم بسخرية غامضة.

مدت ياسمين يدها لتلمس سطح المرآة، وفي اللحظة التي فعلت ذلك، شعرت بقوة تجذبها إلى داخل المرآة. حاولت المقاومة، لكن كان الأوان قد فات؛ وجدت نفسها محبوسة داخل الزجاج، بينما نسختها الأخرى خرجت من المرآة، تنظر إليها بتلك الابتسامة الباردة.

حاولت الصراخ، لكن لا صوت خرج منها، كانت عالقة، محبوسة في عالم المرآة، تشاهد نسختها الأخرى وهي تخرج من الغرفة وتغلق الباب خلفها. مرت لحظات بدت وكأنها أبدية، حتى أدركت أن حياتها الآن أصبحت مجرد انعكاس، جزء من عالم مظلم لا يسمعه أحد، ولن يتمكن أحد من رؤيته.

ومنذ تلك اللحظة، أصبحت ياسمين تعيش بين ظلال الكتب، عالقةً بين صفحات قصتها الخاصة، بينما نسختها تعيش حياتها خارج حدود المرآة، حياة لا تعرف فيها معنى الظلام أو القيود، تاركةً خلفها روح ياسمين محبوسة في عالم من الزجاج الأبدي.


(4)
نهاية اللا مكان

كانت سميرة تعيش في مدينة مشيدة من الإسمنت والزجاج، حيث الضجيج لا يتوقف والمباني الشاهقة تبتلع السماء. أمضت حياتها تعمل كموظفة في شركة كبرى، تغرق في الروتين اليومي، وتكدح بين أوراق لا تنتهي، وفي كل يوم كانت تزداد شعورًا بأنها عالقة داخل آلة عملاقة، لا مكان فيها للروح أو للأحلام.

لكن شيئًا غريبًا حدث في إحدى الليالي، حين عادت إلى شقتها الصغيرة في الطابق العشرين من برج شاهق. بعد أن أغلقت باب شقتها، سمعت صوت همس قادم من النافذة. كان صوتًا خافتًا، ناعمًا كأن الرياح نفسها تهمس لها. لم تكن قد سمعت مثل هذا الصوت من قبل، وكان غريبًا بما يكفي ليوقظ بداخلها إحساسًا قديمًا بالدهشة.

اقتربت من النافذة، ونظرت إلى الأسفل حيث بدت المدينة كلوحة مضاءة بمصابيح السيارات وأنوار الشوارع. وفي زاوية بصرها، لاحظت بريقًا خفيفًا يتوهج في الشارع المقابل. كانت هناك لافتة صغيرة تتوهج بألوان ناعمة، مكتوب عليها كلمة واحدة: "اللا مكان."

أخذتها الرغبة في الاستكشاف، رغم أنها لم تكن معتادة على اتخاذ قرارات غير مألوفة. ارتدت معطفها ونزلت إلى الشارع. كان الليل ساكنًا، رغم الزحام الخفيف الذي يمر بجوارها. اقتربت من اللافتة، ووجدت بابًا صغيرًا بجوارها، يفتح إلى ممر ضيق وملتوي. ترددت للحظة، لكنها قررت المضي قُدمًا، مدفوعةً بإحساس فضول غريب وغير مبرر.

عندما دخلت، وجدت نفسها في ممر طويل، تُضاء جدرانه بأضواء خافتة وباردة، وتزينه صور مشوشة لأشخاص لم تتعرف عليهم، كأنهم أشباح عابرة. تابعت سيرها ببطء، وكلما تقدمت خطوة، شعرت كأن الزمن يتغير، كأنها تعبر نحو عالم آخر.

في نهاية الممر، وجدت بابًا آخر، كان مفتوحًا قليلًا، خلفه ردهة واسعة تتوسطها طاولة كبيرة، تحيط بها كراسي قديمة الطراز. لكن أكثر ما أثار فضولها كان الرجل الجالس هناك، ينتظرها كأنه كان على علم بقدومها. كان يرتدي بدلة داكنة، ويملك عينين عميقتين تعكسان حكمة غريبة، وكأنه يعرف أكثر مما يجب عن كل شيء.

دعاها الرجل للجلوس، وتحدث بصوت هادئ يحمل في طياته ثقلًا عميقًا، قائلاً: "أهلًا بكِ في اللا مكان. هنا حيث يمكن للأرواح الضائعة أن تجد معنى، وحيث تلتقي الرغبات الدفينة مع السكينة التي تبحثين عنها."

تساءلت سميرة بقلق عن طبيعة هذا المكان، وعن سبب وجودها هنا، لكن الرجل أومأ لها بابتسامة وبدأ يروي قصصًا عن أشخاص آخرين أتوا إلى هذا المكان. حكايات عن أناسٍ تخلوا عن أحلامهم ليصبحوا آلات بشرية، وعن نساء نسين أنفسهن في دوامة المسؤوليات، وعن رجال فقدوا الرغبة في العيش. كانت قصصًا مؤلمة وغريبة، ومع ذلك، شعرت سميرة وكأنها جزء منها.

ثم ناولها الرجل صندوقًا صغيرًا خشبيًا، مزينًا بنقوش معقدة. قال لها: "هذا الصندوق يحتوي على ماضيكِ المنسي، وعلى كل ما تخلّيتِ عنه لتحقيق حياة لم تكن يوماً ما ترغبين فيها. لكن احذري، إن فتحته، ستضطرين للعودة إلى حيث بدأ كل شيء."

حملت سميرة الصندوق بين يديها، وكان ثقله يفوق وزنه الفعلي، كأنما يحتوي بداخله سنوات من الذكريات التي رفضت أن تتذكرها. لم تستطع مقاومة رغبة الاطلاع على ماضيها، وفكّت قفل الصندوق ببطء. وعندما فتحته، انبعث منه ضوء دافئ، ملأ الغرفة، وأخذها في دوامة من الذكريات والصور والأصوات.

رأت نفسها كطفلة صغيرة، مليئة بالأحلام والرغبات، تتسلق الجبال وتلهو في الحقول، تحمل بداخلها شغفًا لا ينطفئ. رأت شابة تتطلع للمستقبل بتفاؤل، تبحث عن هدف للحياة، لا تقبل بأن تكون ترسًا في آلة باردة. وعندها تذكرت كم من الوقت مضى منذ أن كانت تملك هذا الشغف.

استفاقت من الدوامة، ووجدت الرجل يراقبها بهدوء. سألها بهدوء: "هل وجدتِ ما كنتِ تبحثين عنه؟"

أومأت سميرة برأسها، لكن بعينين تحملان دموعًا خفيفة. أدركت أن حياتها لم تكن سوى سجن اختارته لنفسها، وأن هناك دائمًا فرصة للعودة إلى الذات، لو تجرأت على المخاطرة، ولو خرجت من حدود الراحة الزائفة التي صنعتها لنفسها.

نهضت من مكانها، وعلى عتبة الباب، التفتت نحو الرجل لتودعه. ابتسم الرجل، وقال: "تذكري، اللا مكان هو موطن الأرواح التي تاهت، ولكن هنا لا يعود أحد إلى الحياة دون أن يجد نفسه أولًا."

عادت سميرة إلى شقتها في تلك الليلة، وقد تحررت من قيود الماضي والحاضر، تحمل في داخلها وميضًا جديدًا من الأمل. نظرت إلى المدينة من نافذتها، ولم تعد تراها كمكان خانق، بل كعالم مليء بالفرص، ينتظر منها أن تصنع طريقها الخاص، بعيدًا عن السلالم الضيقة التي وضعت نفسها فيها، وباتجاه آفاق جديدة تملؤها الحرية والمعنى.


(5)
الرحيل إلى السكون

كان "حسين" رسامًا شابًا يعيش في أطراف المدينة، يعرفه الجميع بكونه غريب الأطوار؛ يمضي معظم وقته في ورشته الصغيرة، حيث يمزج الألوان بعناية ويغمس فرشاته في عوالم لا يراها سواه. كان يعشق الظلال والأضواء الخافتة، ويحب أن يرسم وجوهًا غامضة تعكس أفكارًا عميقة، غارقة في الألم والسكون.

ذات يوم، وبينما كان يتأمل إحدى لوحاته التي أنجزها مؤخراً، لاحظ شيئاً غريباً. كانت اللوحة تصوّر وجهًا شاحبًا، يشبه ملامحه إلى حد مخيف، لكن الأعين في اللوحة كانت تراقبه بنظرة عميقة، وكأنها تحمل سرًا لم يُفصح عنه بعد. شعر بشيء يشبه الخوف ولكنه لم يستطع أن يصرف عينيه بعيدًا عن اللوحة. كانت تجذبه، كأنما تدعوه للغوص في عمقها.

وبعد ليلة طويلة من الأرق، وفي ساعة متأخرة من الليل، استسلم حسين لغواية اللوحة. أغلق عينيه وحاول أن يتخيل نفسه داخل هذا العالم الصامت الذي رسمه، حيث لا ضجيج ولا ازدحام، فقط سكون أبدي يغلف كل شيء. وبشكل غامض، شعر ببرودة تسري في أطرافه، وبصوت همس داخله يقول له: "تعالَ إلى السكون، هنا ستجد السلام."

في تلك اللحظة، شعر بأن العالم من حوله بدأ يتلاشى، كأنما ينجذب إلى بُعد آخر. لم يعد يرى ورشته، بل وجد نفسه يقف في ساحة واسعة، تغمرها ضبابية غامضة، خالية من أي لون سوى الأبيض والرمادي. كانت الأرضية ملساء تماماً، كأنها مرآة عاكسة، لكنها لم تعكس سوى فراغٍ لا نهائي.

بينما كان حسين يتأمل في المكان، شعر بأن هناك وجودًا غامضًا يراقبه من بعيد، كأن شيئاً ينتظره في الظل. لم يكن يعرف كيف، لكنه أدرك أنه ليس وحده هنا. كان في قلبه إحساسٌ عميق بالرهبة، ولكن رغم ذلك، استمر في السير، كأنما دُفع بخطواته نحو هذا السكون الذي بدا وكأنه يجذبه ببطء.

وبعد مسافة طويلة من المشي في هذا الفراغ، بدأ حسين يرى أشكالاً مبهمة تظهر من بين الضباب. كانت تلك ظلالاً بشرية، تقف بلا حراك، وجوهها شاحبة ونظراتها ميتة، كأنما كانت تنتظر شيئاً منذ الأزل. اقترب حسين منهم بخطى مترددة، وعندما أصبح قريبًا بما يكفي لرؤية ملامحهم، أدرك أنهم ليسوا سوى انعكاسات من عالمه. وجوه عابرة، لم تعرف يومًا السكينة، ظلّت عالقة في دائرة الزمن، تمامًا مثله.

كلما اقترب من أحدهم، شعر وكأنهم يهمسون له بأسرار لم يُفصَح عنها، ولكن ما كان يراه في عيونهم كان شيئاً أعمق من ذلك، شعوراً مأساوياً باليأس، وصدى أحلامٍ منسية لم تتحقق. كان هؤلاء الأشخاص بمثابة ذكريات أو ظلال لأشخاص رحلوا عن عالمهم قبل أن يجدوا ما كانوا يبحثون عنه.

وبينما كان يقترب أكثر من هذه الظلال، شعر بشيء داخلي يتغير. كانت أصواتهم تهمس له بنبرات متقطعة، وكأنها تخبره بأن هذا العالم هو مكان اللاعودة، عالم يجمع بين أولئك الذين فقدوا شغف الحياة، وقرروا الرحيل إلى السكون هربًا من ضجيج العالم. بدأ الحزن يتسلل إلى روحه، وأدرك حسين شيئاً رهيباً؛ أنه إذا بقي هنا، فسيصبح هو أيضًا واحداً من هذه الظلال، وسيُنسى في عالم الأحياء، ولن يعود له وجود إلا كجزء من هذا السكون الموحش.

عندها، سمع صوتاً قديماً، صوتاً بدا كأنه يأتي من أعماق الزمن، يهمس له ويقول: "ليس كل من جاء إلى السكون استطاع الخروج منه. هل ستختار البقاء أم العودة؟"

وقف حسين متجمداً للحظة. كان يعرف أن خيار البقاء في هذا المكان يعني السلام الأبدي، حيث لا ألم ولا قلق، ولكنه يعني أيضاً التخلّي عن كل أحلامه وكل ما كان يسعى إليه. وعلى الرغم من جاذبية السكون، شعر برغبة عميقة في العودة، في مواجهة الضجيج مجددًا، في عيش حياة مليئة بالمعاني والألوان، حتى لو كان ذلك يعني عودته للألم والمعاناة.

فجأة، انفتح أمامه ممر ضيق، ممتد بين جدران من الضباب. كان يشعر بقلق وخوف، لكنه أدرك أن هذا هو طريق العودة الوحيد. سار بخطى ثابتة داخل الممر، مستجيباً لرغبته في الحياة، حتى مع علمه بأن السكون سيظل يناديه.

وفي اللحظة التي عبر فيها الممر، عاد حسين إلى ورشته. وقف أمام لوحته ذات الوجه الشاحب، لكنه هذه المرة لم يشعر بالخوف. أدرك أن اللوحة لم تكن سوى انعكاس لجزء منه، جانب كان يهرب من العالم إلى حيث لا صوت ولا حياة، ولكنه اليوم قد اتخذ قراره؛ سيستمر في رسم وجوه تحمل الحياة حتى لو كانت مليئة بالعيوب والخدوش.

حينها، أخذ فرشاته ورسم بقوة، خالقًا خطوطًا جديدة، مليئة بالألوان النابضة، تحكي قصة عودته من عالم السكون، لتكون أول لوحةٍ في رحلةٍ جديدة من الضوء والحياة.


(6)
بداية النهاية

في أحد شوارع المدينة الضيقة، حيث لا تسمع إلا همسات الرياح بين المباني القديمة، كان "سامي" يسير ببطء، قدمه تكاد تلامس الأرض التي مر عليها آلاف المرات. كان شخصًا عاديًا، ليس له ما يميزه غير أنه كان يحمل شعورًا غريبًا داخله، كأنما كل شيء حوله كان يهتز في نغمة غير ملائمة. كان لديه إحساس مستمر بأن هناك شيئًا سينتهي، وأن الحياة التي عاشها كانت مجرد حلم سيزول في أي لحظة.

لم يكن سامي يعرف ما الذي كان يزعجه بالضبط، لكنه كان يشعر دائمًا أن الزمن يلاحقه. كان يمر بجانب المقاهي المزدحمة والشوارع المضيئة، لكن كل شيء يبدو بعيدًا، غير ذي معنى. في بعض الأحيان، كان يتساءل عن كل تلك الوجوه التي يراها، هل كانت مجرد انعكاسات لصورته في مرآة الحياة؟ هل كان هو أيضًا جزءًا من نفس اللعبة التي لا تنتهي، لعبة الأوهام والظلال؟

مرت سنوات على حالته تلك. كان يعمل في وظيفة بسيطة في مكتب استشارات، حيث لا شيء يتغير، فقط تقارير، ومكالمات هاتفية، وطلبات تزداد يومًا بعد يوم. كان حياته تتكرر وكأنها أشرطة مكررة، كل يوم يشبه اليوم الذي قبله، كل عام يتشابه مع سابقيه. لم يكن لديه طموح، ولا رغبة في التغيير، مجرد دوامة لا نهاية لها.

لكن في تلك الليلة، حدث ما لم يكن في الحسبان.

بينما كان سامي عائدًا إلى شقته، شعر بشيء غريب. كأنما الهواء أصبح ثقيلاً، وكأن الأضواء التي تزين الشوارع قد تلاشت في سكون عميق. توقف فجأة، ووجد نفسه يحدق في أحد المحلات المهجورة. كان المكان قديمًا، مهدمًا بعض الشيء، وعليه طبقة من الغبار كأنها تحجب الزمن عنه. كانت نافذته مكسورة جزئيًا، وتنفذ منها خيوط ضوء باهتة.

دخل سامي المحل بتردد. لم يكن يعرف لماذا، لكن شيئًا ما في داخله دفعه إلى هناك. بمجرد أن دخل، شعر بشيء غريب آخر: المكان كان صامتًا بشكل مريب. لا أصوات، لا حركة، فقط الفراغ. انتبه سامي إلى أن المحل لا يبدو مهجورًا كما ظن، بل كان يعبق برائحة قديمة، كما لو كان الزمن قد تجمد هنا.

بينما كان يتفقد المكان، وجد صندوقًا خشبيًا صغيرًا موضوعًا في ركن بعيد. اقترب منه ببطء وفتحه بحذر. داخل الصندوق كان هناك ورقة صفراء قديمة، مكتوبة بخط يد قديم. كان النص مبهمًا بعض الشيء، لكن الكلمة الأولى كانت واضحة بشكل غريب: "النهاية".

انتبه سامي لهذه الكلمة، وبدأ في قراءة النص بصوت منخفض:
"عندما تجد نفسك في المكان الذي لا ترغب في أن تكون فيه، وعندما تتمنى أن تعود إلى البداية، تذكر أنك على وشك أن تلتقي بما كنت تهرب منه طوال حياتك. النهاية ليست أكثر من بداية أخرى. لكنها بداية لا تعود منها."

شعر بشيء غريب في قلبه، كأنما الكلمات قد اخترقت روحه. كان يشعر بشيء كالسواد يغلفه، وكان الصوت في قلبه يردد: "النهاية، النهاية". كل شيء حوله أصبح ضبابيًا، كأنما الواقع بدأ يختفي تدريجيًا. كانت هناك شعور غامض بالذنب، كما لو أن جزءًا منه كان قد اختفى في هذه اللحظة.

بينما كان يحدق في الورقة، شعر بشيء آخر يغير في كل شيء: في تلك اللحظة، فكر أن هذه الورقة ليست مجرد رسالة. كان يشعر وكأنها موجهة له بشكل خاص. كانت تلك هي اللحظة التي أدرك فيها أنه لم يكن يعيش حياته حقًا، وأنه كان يركض خلف شيء غير موجود، وأنه لم يكن هو الشخص الذي كان يظن نفسه.

بغض النظر عن كل ما حدث، ظل سامي هناك، في نفس المكان، يحاول أن يفهم ما يمر به. مرت ساعة كاملة، أو ربما أكثر، وهو جالس على الأرض في المحل المهجور، يحاول أن يستوعب الكلمات التي قرأها، وكأنها كانت تكتبه، وليس هو من يقرأها.

ثم فجأة، انتفض سامي، ووقف بسرعة. كان يشعر بشيء غريب: كان الزمن في تلك اللحظة يتوقف. كما لو أن الحياة توقفت فجأة. كانت الساعة على الحائط تشير إلى نفس الوقت، وكل شيء من حوله بدا وكأنه دخل في سبات عميق.

وفجأة، شعر بشيء يطرق قلبه. كان ذلك شعورًا بالكمال. كما لو أنه أخيرًا وصل إلى المكان الذي كان يبحث عنه، رغم أنه لا يعرف ماذا يعني أن يصل. كان كل شيء حوله أصبح هادئًا جدًا، حتى أنه بدأ يسمع صوته الخاص في رأسه. لم يكن يعرف إذا كان هذا المكان هو النهاية أم بداية شيء جديد.

وفي تلك اللحظة، سمعت أذنه شيئًا آخر: "لا شيء يظل على حاله، لا شيء دائم. لكنك كنت تبحث عن بداية، وعندما تجدها، ستكون قد فقدت ما كان لديك."

ثم، وكأنما استجاب القدر لهذه الكلمات، عاد سامي إلى الواقع، لكنه شعر أن شيئًا قد تغير فيه. العالم حوله أصبح أكثر حيوية، وأكثر وضوحًا. ولكنه الآن يعلم أنه سيظل يركض وراء ما يختفي من بين يديه، كأنما هناك دائمًا شيء سيغيب عنه.

خرج من المحل، لكنه كان يعلم أن شيئًا عميقًا داخل قلبه قد انتهى. كان قد ترك نفسه خلفه، وهو الآن يحمل معه عبئًا غريبًا من المعرفة التي لم يفهمها بالكامل. كانت النهاية التي بدأ بها كانت بداية لشيء لا يمكن العودة عنه.

النهاية، كانت مجرد بداية...



(7)
الظل الذي يبتسم

كانت الحياة تسير بشكل طبيعي في بلدة "الظل"، تلك البلدة الصغيرة التي تعيش في أقاصي الأرض حيث لا تكاد الشمس تشرق إلا لحظات قصيرة كل يوم. كانت العيون في هذا المكان مليئة بالترقب، والأرواح ضبابية كما لو أن جميع من فيها يعيشون في انتظار شيء ما، شيئًا غير مرئي لكنه حاضر دائمًا.

في أحد أزقة البلدة الضيقة، حيث المباني القديمة تتكدس فوق بعضها البعض كأنها طبقات من ذكريات متراكمة، كان "يوسف" يسير كعادته، متأملاً خطواته. كان يعيش حياة بسيطة: يعمل في ورشة لتصليح الأدوات القديمة، ويعود كل مساء إلى منزله الصغير الگكذي لا يختلف كثيرًا عن الآخرين. لم يكن هناك شيء يميز حياته عن حياة أي شخص آخر في البلدة. لكن يوسف كان يعلم شيئًا عميقًا في داخله، شيئًا يجعل قلبه يضطرب كلما اقترب من المساء. كان يشعر بأن حياته لا تزال في بداية الطريق، رغم مرور السنوات.

في كل مساء، كان يوسف يراقب الظل الذي يظهر في الزاوية المظلمة للشارع. كان هذا الظل غريبًا جدًا، غير واضح المعالم، وكان يبدو أنه يبتسم بشكل مستمر. ولكن ذلك لم يكن ابتسامة عادية. كانت ابتسامة غامضة، مشبعة بشيء من الحزن، شيئًا غريبًا يجعل النفوس تقشعر وتبقى في حيرة.

وذات مساء، بينما كان يوسف في طريقه إلى منزله، توقف فجأة في مكانه. كان هناك شيء غير طبيعي في الهواء، وكان الظل في الزاوية المظلمة يبدو أكبر من المعتاد، وكان الابتسامة عليه أكثر وضوحًا. انتابته رغبة غريبة في الاقتراب من ذلك الظل، وكأن شيئًا عميقًا داخل روحه كان يستدعيه. تقدم خطوة خطوة نحو الظل، وكلما اقترب منه، زادت الحرارة في جسده حتى شعرت يداه وكأنهما تتلامسان مع نار خافتة. كان الجو مشبعًا بشيء من الغموض، وكأنما كان يجذب كل جزء فيه.

وما إن اقترب أكثر حتى لاحظ أن الظل ليس ظلاً عاديًا. كان هناك شكل مشوش بداخله، شكل لا يمكن تحديده، لكنه كان يتغير باستمرار. في تلك اللحظة، شعر يوسف بشيء غير مريح يسيطر عليه. كان يعرف، رغم كل شيء، أنه يواجه شيئًا لا يمكنه تحمله.

"من أنت؟" قال يوسف بصوت منخفض، وكأن الكلمات تخرج بصعوبة من حلقه. كان قلبه يدق بسرعة، وعقله يثور بتساؤلات لا نهاية لها.

في تلك اللحظة، بدأ الظل في التحرك ببطء. تحول إلى صورة أكثر وضوحًا، وشكل رجل ظهر من بين الظلال، وجهه مشوه ولكنه كان يبتسم، تلك الابتسامة التي كانت تلاحقه منذ أن بدأ يلاحظ الظل.

"أنا... أنا ما لم تظن أنك ستلقاه أبداً،" قال الظل بصوت هادئ، لكنه كان يملأ الجو بطاقة غريبة. "أنا ليس مجرد صورة أو شكل، أنا جزء من الحيرة التي تعيش بها، من الغموض الذي تتنفسه."

نظر يوسف في عيني هذا الكائن الغريب، وحس بشيء غريب، شيء يشبه الفزع والفضول معًا. "ماذا تعني؟"

"أنا الجزء المفقود منك،" قال الظل مبتسمًا. "أنا كل ما تهرب منه، كل ما لا تستطيع مواجهته. وكلما حاولت الهروب، زاد الاقتراب مني. أنا الزمان والمكان في لحظة واحدة، وأنا من سيأخذك إلى حيث لا يمكنك العودة."

تجمد يوسف في مكانه، وحاول أن يفهم معنى ما يسمعه. كانت الكلمات ثقيلة، تلامس قلبه بشكل عميق. هل كان هو هذا الظل طوال الوقت؟ هل كان كل ما عاشه مجرد محاولة للهروب من هذا الشكل الغريب؟

ابتسم الظل، لكن الابتسامة هذه المرة كانت مليئة بشيء آخر، كان فيها نوع من التعاطف، كأنما يعرف ما يمر به يوسف من معاناة. "لقد حاولت الهروب طوال حياتك، وحاولت أن تجد ما ليس موجودًا. لكن في النهاية، أنا هنا. أنا أنت، في شكل آخر. وكلما ابتعدت عني، زاد شعورك بالوحدة."

يوسف، وقد بدأ يدرك شيئًا غريبًا، شعر بشيء ينهار داخله. كانت الأيام التي مر بها في البلدة، واللحظات التي قضّاها وهو يهرب من ظله، مجرد محاولات للتغلب على نفسه. كل هذه السنوات كانت تهربًا من الحقيقة التي كان يخشى أن يراها.

"ماذا تريد مني؟" سأل يوسف أخيرًا، وعيناه كانتا مليئتين بالحيرة.

أجاب الظل في هدوء: "أريدك أن تواجهني، أن ترى نفسك كما أنا. أنت لست مجرد شخص عابر، ولا حياتك هي مجرد لعبة. لكن كلما حاولت أن تجد مخرجًا، تجدني هنا، في كل زاوية. في كل خطوة."

ثم اختفى الظل فجأة، ليعود الشارع إلى هدوئه. ولكن يوسف، الذي كان يقف هناك في صمت، شعر بشيء مختلف. كانت لديه رغبة قوية في أن يواجه كل شيء كان يهرب منه. كان يدرك الآن أن هذا الظل لم يكن مجرد خيال، بل كان هو نفسه. وكان هو الطريق الوحيد للخروج من دوامة الهروب.

في تلك الليلة، لم يعد يوسف كما كان. دخل بيته بصمت، وأغلق الباب خلفه. لكنه كان يعلم أنه في الغد، سيواجه كل شيء: الماضي، المستقبل، وظله.




(8)
السفينة التي تبحر بلا وجهة

كان البحر في تلك الليلة عميقًا وصامتًا، كأنما ينتظر شيئًا ما. كانت السفينة التي تبحر عليه، "سفينة الفجر"، واحدة من تلك السفن القديمة التي تحمل عبء الزمن فوق ظهرها. خشبها ممزق بأثر العواصف التي مرت بها، وأشرعتها بالية، لكن رغم ذلك، كانت تواصل الإبحار بلا وجهة واضحة، كما لو كانت تسير إلى حيث لا يعرفها أحد.

على متن السفينة كان "إدريس"، رجل في منتصف العمر، ذو لحية رمادية وقلب مليء بالأسرار. كان قد خرج في رحلة طويلة بحثًا عن شيء ما، شيئًا لا يستطيع التعبير عنه بكلمات. ربما كان يبحث عن نجاته، أو عن إجابة كانت تلاحقه منذ سنوات. كانت تلك السفينة هي ملاذه الوحيد، ولكنه في أعماق نفسه كان يعلم أن الرحلة لا تنتهي هنا.

كان إدريس قد فقد كل شيء في حياته. وطنه، عائلته، أحلامه. ترك وراءه جروحًا غير مرئية، وكلما حاول أن يجد أرضًا يرسو عليها، وجد البحر يدفعه بعيدًا. في كل مرة كان يظن أنه قريب من الوصول إلى ضفة الأمان، كانت الرياح تأخذه مرة أخرى إلى المجهول.

وفي تلك الليلة، بينما كان يشرف على الدفء القليل الذي توفره الشمعة الوحيدة المشتعلة في قمرة السفينة، شعر بشيء غير عادي. كانت الأمواج هادئة، والرياح تسير ببطء، لكن شعورًا غريبًا كان يملؤه. شيء يشبه الوحي. شيء يربط بينه وبين البحر. كان يعلم أنه ليس بمفرده. كان هناك شيء يراقبه.

لم يكن الظلام يعم المكان، بل كان هناك ضوء خافت، ضوء خجول يأتي من أفق بعيد، وكأنه علامة أو بداية لشيء جديد. بينما كان إدريس يراقب هذا الضوء، بدأت السفينة في الانحراف. لم تكن الرياح قد تغيّرت، ولكن فجأة، وكأنما السفينة قد اختارت طريقًا جديدًا. بدأ الإدراك يراوده: هل هو نفسه الذي يقود السفينة الآن، أم أن البحر هو من يقوده؟

جلس على مقعده في صمت، مرت الأيام وكأنها ساعات، ومرت الساعات كأنها سنوات. كانت السفينة تبحر في البحر الغامض، تتنقل بين الأمواج العالية والمنخفضة دون أن تعرف وجهتها. لكن إدريس بدأ يشعر بشيء جديد، شيء عميق. كان يشعر وكأن البحر يكشف له شيئًا عن نفسه، شيئًا يراه لأول مرة في حياته.

مرت ليالٍ طويلة، وكل ليلة كان يشعر بشيء جديد ينجذب إليه. كان يعلم أن هناك شيئًا في البحر يتسلل إلى عقله، لكنه لم يكن قادرًا على تفسيره. في كل مرة كان يفكر في العودة، كان يواجه جدارًا غير مرئي يمنعه. البحر كان يحاصره، يحمله إلى الأعماق، وكأنما كان يطلب منه أن يغوص فيه.

وفي إحدى الليالي، أثناء تأملاته، رأى إدريس شيئًا غريبًا. كان ضوءًا يلمع بعيدًا، لكنه لم يكن ضوءًا طبيعيًا. كان ضوءًا يرقص في السماء كما لو كان كائنًا حيًا. كان يتشكل ثم يتلاشى، يتبدل، وكأنما يعبر عن شيء كان مختفيًا في الأعماق.

على الرغم من شعوره بالقلق، إلا أن إدريس دفعه فضوله إلى اتخاذ القرار. قرر أن يتبع ذلك الضوء. كانت السفينة تبحر بهدوء، وكأنها تفهم ما يعتزم فعله. مع كل ميل من السفينة، كان إدريس يقترب أكثر من ذلك الضوء، حتى شعر أنه ليس مجرد ضوء، بل إنه شيء يمثل إجابة عن أسئلة عمره.

مع اقترابه، بدأ إدريس يسمع صوتًا ضعيفًا، خافتًا في البداية، ثم أصبح أكثر وضوحًا. كان الصوت يشبه الهمسات، همسات تتراءى له من بعيد. كان الصوت لا يأتي من البحر نفسه، بل من داخل نفسه. "لماذا تبحث؟" كانت الكلمات تردد في ذهنه. "هل تعتقد أنك ستجد الجواب هنا؟"

أغمض إدريس عينيه للحظة، ثم عاد ليفتحهما. كان الضوء يزداد سطوعًا، وكان الصوت يتحول إلى شيء أشبه بالصرخة الصامتة. ثم، فجأة، انفجر الضوء في السماء، وتدفق شعاعه عبر الأمواج. في تلك اللحظة، شعر إدريس بشيء عميق، شعور لا يمكن وصفه، لكنه كان يعرف أنه كان يعيش اللحظة التي لن تتكرر أبدًا.

لكن، قبل أن يتمكن من استيعاب ما حدث، رأى شيئًا غريبًا. كانت السفينة قد توقفت تمامًا. الأمواج كانت تتلاشى، والريح سكنت. كل شيء كان في صمت مطلق. وكأنما الزمن نفسه قد توقف. أمامه، كانت هناك جزيرة صغيرة، جزيرة لم يكن قد رآها من قبل.

لكن هناك شيء آخر كان واضحًا. لم تكن الجزيرة مأهولة بالبشر، بل كانت مليئة بالصخور والأشجار الميتة. وكان هناك شعور بالفراغ فيها، وكأن الحياة نفسها قد تركت هذا المكان منذ زمن بعيد.

بينما كان يقف على حافة السفينة، شعر إدريس بشيء غريب يجذب قلبه نحو تلك الجزيرة. كانت اللحظة كما لو أنها تتكرر، وكأنما الزمن يعيد نفسه، لكن في مكان مختلف.

على الجزيرة، وجد إدريس نفسه واقفًا في مواجهة البحر. كان البحر، الذي كان دائمًا يلاحقه ويقوده، الآن يبتعد عنه. كان لا يزال في نفسه شعور بالضياع، لكنه الآن بدأ يفهم شيئًا ما: كانت الرحلة كلها ليست بحثًا عن الإجابة، بل عن الإحساس بالرحيل.

كان إدريس يعلم الآن، أنه كما السفينة لا تعرف وجهتها، فإنه أيضًا لم يكن يبحث عن شيء ملموس، بل عن تجربة الحياة نفسها. كانت السفينة، في النهاية، هي التي تعلمه كيف يواجه المجهول.

في لحظة متأملة، أدرك إدريس أن البحر لا يقدم الأجوبة، بل يعلمنا كيف نعيش مع الأسئلة.


(9)
حدود السكون

كان "رائد" دائمًا شخصًا غريب الأطوار. لطالما أحب العزلة، كان يفضل التفكير في المسائل التي لا يمكن لأحد أن يتخيلها، كأنما كان يغرق في بحر من الأفكار التي لا تنتهي. يقيم في إحدى ضواحي المدينة القديمة حيث تلتقي الحياة العصرية مع بقايا الزمن الماضي. تحيط به الشوارع الضيقة، الحجارة القديمة، والسماء التي كانت تلعب بألوانها قبل أن تحجبها ناطحات السحاب الحديثة.

على الرغم من تقدم العمر، كانت ملامح رائد تتسم بالهدوء والسكينة، وكان يملك نظرة خاصة تميز كل ما يراه. كثيرًا ما كان ينظر إلى الأشياء بطريقة عميقة، وكأن كل شيء حوله يخفي رسالة أو إشارة ما، وكان يشبع نفسه في قراءة الكتب القديمة، تلك التي تؤرخ للأزمنة البعيدة وتبحث في الأسئلة الكبرى عن الوجود والزمان والمكان. لكن لم يكن يعبر كثيرًا عن أفكاره، كان يفضل أن يترك الكلمات في رأسه حتى لا تؤذي الآخرين.

لم يكن لديه أصدقاء كثيرون. الناس الذين قابلهم في حياته كانوا يبتعدون عنه بشكل أو بآخر، سواء بسبب عمقه الفكري أو بسبب الانعزال الذي يفرضه على نفسه. ولكن، كان هناك شيء واحد ظل يلاحقه بشكل دائم: الإحساس بالفراغ.

ذات مساء، بينما كان يجلس في زاوية غرفته الصغيرة، كان يتصفح كتابًا قديمًا عن فلسفة العدم. وبينما هو يغرق في صفحات الكتاب، شعر بشيء غريب في الهواء. كانت الرياح قد اشتدت خارج نافذته، لكن داخل الغرفة كان كل شيء ساكنًا، غير متحرك. كان السكون ثقيلًا لدرجة أن رائد شعر وكأن الزمن نفسه توقف.

لقد اعتاد على هذا السكون، لكنه في تلك اللحظة بدأ يشعر بشيء آخر، شيء غير مألوف. فجأة، شعر كأن باب غرفته قد فُتح، لكن لا أحد كان هناك. استدار في مكانه، وهو ينتقل بنظره بين زوايا الغرفة المظلمة، لكن لا شيء يظهر. لم يكن هنالك صوت، سوى صوت قلبه الذي بدأ ينبض بشكل أسرع.

غادر الغرفة في ذلك المساء، متجهًا نحو الشارع، كما لو أن شيئًا ما كان يجذبه إلى مكان غير مرئي. كان الشارع مظلمًا، لكن ضوء القمر كان يتسرب من بين الأبنية القديمة، وكأنما هو أيضًا يشعر بحالة السكون التي تسود المدينة. كل شيء كان هادئًا للغاية، والأشجار التي تنمو على طول الطريق كانت تتحرك برفق، وكأن الرياح تغني لحنًا خافتًا.

بينما كان يمشي بخطوات هادئة، شعر بشيء غريب في قلبه. كان هناك نوع من الضياع، لكنه لم يكن الضياع التقليدي، بل كان ضياعًا من نوع آخر، ضياعًا في الزمن نفسه. شعر وكأن الوقت قد ضاع من بين يديه، وأنه أصبح مجرد جزء من تلك اللحظة التي لا تنتهي.

وفي تلك اللحظة، وقبل أن يصل إلى آخر الشارع، رأى شيئًا غير مألوف. كان هناك شخص ما، يقف في الظل، منتظرًا. كان الظل يحجب ملامحه، لكنه استطاع أن يرى جسده الممشوق، كما لو كان جزءًا من الظلام نفسه. اقترب رائد منه بحذر، وكان يشعر بشيء غريب في قلبه، كما لو أن هذا الشخص يعرفه بطريقة ما.

"هل تبحث عن شيء؟" قال الشخص بصوت هادئ، كأنما هو يتحدث إلى نفسه أكثر من حديثه إلى رائد.

أجاب رائد بصوت ضعيف: "أبحث عن معنى، لكنني لا أجد شيئًا."

ابتسم الشخص في الظل، وكان ابتسامة غامضة. "المعنى لا يوجد خارجك. هو داخل قلبك."

كانت كلمات هذا الشخص تحمل شيئًا غريبًا، كان يعرف في أعماق نفسه أنه لم يسمع مثل هذه الكلمات من قبل. وفي تلك اللحظة، شعر رائد بأن العالم الذي كان يعرفه قد بدأ يتغير، كما لو أن الأبعاد نفسها قد تحركت.

ثم نظر الشخص إلى السماء، وقال: "الوقت لا يتوقف، بل نحن من نعتقد أنه توقَّف. الزمن ليس سوى فكرة، فكرة تجذبنا لتعتقد أننا في مكان محدد، بينما نحن دائمًا في نقطة واحدة."

هز رائد رأسه، لكنه شعر بشيء عميق يلامس عقله. "هل تعني أننا نحن من نخلق الماضي والمستقبل؟" سأل بصوت متردد.

"نعم، نحن من نخلق كل شيء. كل لحظة تمر، هي جزء من عالمنا الداخلي. ولكننا نعيش في وهم أننا بعيدون عن أنفسنا."

توقف رائد عن التفكير للحظة. كان يحاول أن يعي ما يقوله هذا الشخص، لكن الكلمات كانت تتناثر في ذهنه كما لو كانت قطعًا من لغز كبير. كانت اللحظة طويلة، لكنها في الوقت نفسه قصيرة، وكأنها تحمل شيئًا من الخلود.

"هل نعود إلى حيث بدأنا؟" سأل رائد فجأة.

"لن نعود إلى شيء، لأننا لم نغادر من قبل. نحن في قلب اللحظة، لكننا لا نراها. كل شيء يدور حولنا هو نتاج أفكارنا."

بعد هذه الكلمات، اختفى الشخص كما ظهر، وترك رائد واقفًا في منتصف الشارع، يتأمل. شعر وكأن حياته قد تغيرت في لحظة واحدة. كان يعرف الآن أنه لا حاجة له في البحث عن معنى خارجي، لأنه هو من يخلق المعنى في قلبه. لكنه في الوقت نفسه، كان يشعر بشيء غريب، كأنما ما حدث كان مجرد وهم آخر، وهم حقيقي.

في صباح اليوم التالي، عاد رائد إلى منزله، لكن الغرفة بدت مختلفة. كان السكون فيها أثقل، لكن هذه المرة، كان السكون يحمل معه معنى جديدًا. كان الوقت قد تغير، لكنه في الوقت نفسه بقي ثابتًا، كما لو أن كل شيء كان يحدث في الآن ذاته، في تلك اللحظة التي لا يمكن إدراكها إلا من خلال أعين قلبه.



(10)
عطر الذاكرة

في زقاق ضيق بمدينة قديمة، حيث تلتقي الأزمنة المختلفة وتفوح رائحة العراقة من جدران البيوت المهجورة، عاش "شريف" وحيدًا. كانت حياته كالماء الهادئ، لا تشوبه أي موجة، ولا يُعرف لها بداية أو نهاية. لم تكن له روابط مع أحد، لكن كانت هناك ذاكرة، واحدة لا تفارقه، كظل دائم، ذكرى عطرة لا يستطيع أن يهرب منها.

شريف كان يحتفظ بكتاب قديم في غرفته الصغيرة. هذا الكتاب كان أكثر من مجرد ورق وحبر؛ كان حاملًا لأسرار ماضيه، وكان ينتمي إلى زمنٍ آخر، زمن كانت فيه الكلمات أغلى من الذهب. كان الكتاب مكتوبًا بلغة قديمة، كأنها محاكاة لزمن غير مرئي، مليء بالرموز التي لا يعرفها سوى قلة من الناس. ومنذ أن وقعت عيناه على أول كلمة فيه قبل سنوات طويلة، أصبح الكتاب حكاية ثانية له، حكاية لا يمكنه الهروب منها، على الرغم من أنه لم يكن يفهم كل شيء فيه.

في ذلك الزمان البعيد، كان شريف يزور جدته كل أسبوع، كان منزلها يعج برائحة الأعشاب والزهور. كانت جدرانه المزخرفة تحمل ذكريات من تاريخ مفقود، ومجموعة من الصور القديمة التي تجسد لحظات في زمن لم يعرفه. وكان من بين تلك الصور، صورة امرأة غامضة كانت تأخذ مكانًا محوريًا في حياة جدته. امرأة ذات وجه مشرق وعينين مليئتين بالأسئلة، وقد كتبت في أسفل الصورة "إلى الأبد، مع العطر". وعندما سأل شريف جدته عنها، أجابته بابتسامة حزينة: "كانت حلمًا لم يكتمل."

كان الكتاب نفسه يحتوي على صفحات مليئة بالذكريات القديمة التي تنتمي لتلك المرأة المجهولة. كلما فتحه، كان يشم رائحة عطر غريب، ليس بعطر زهرة أو عطر دهن مسك، بل كان خليطًا من الرغبات والأحلام التي عاشت داخل كل كلمة. كان العطر ينبعث منه وكأن الكتاب قد امتصه من هواء الماضي نفسه، وكان شريف يحس به في كل مرة يقرأ فيه.

مرت الأعوام، وبدأ شريف يشعر بأن هذا الكتاب ليس مجرد حروف، بل هو مدخل إلى عالم آخر، إلى مكان سحري بعيد حيث يلتقي الماضي بالحاضر. كانت حياته تزداد عزلة، وكلما مرّ يوم، كان يشعر أن الذكرى الغامضة التي تعلق في ذهنه تبتعد أكثر، وكأنها تتسلل من بين أصابعه.

ثم جاء اليوم الذي وجد فيه شريف نفسه في الزقاق نفسه الذي كان يسير فيه وهو طفل. كان الهواء في تلك اللحظة مختلفًا، مشبعًا برائحة الزهور التي تتفتح في المساء، ورائحة العشب الرطب بعد المطر. فجأة، توقف شريف أمام نافذة قديمة، نافذة كانت مغلقة طوال السنوات الماضية. كان قلبه ينبض بشدة، وكأن شيئًا ما كان يهمس له من الداخل: "افتح النافذة."

بينما كان يقف هناك، شعر بشيء غريب. كان الضوء يتسلل عبر النافذة المظلمة وكأنه يملك حياة خاصة به. وعندما قرر أخيرًا أن يفتحها، كانت المفاجأة. لم يكن الشارع الذي يراه أمامه هو الشارع الذي كان يقف فيه، بل كان الشارع القديم نفسه، كما كان في الماضي. كانت الأشياء ذاتها: الحجارة، والأشجار، وحتى صوت الأطفال الذين يركضون في الأرجاء. لكن شيئًا واحدًا كان مختلفًا: كان الهواء يحمل عطرًا فواحًا، عطرًا مألوفًا، كما لو أنه عطر المرأة في الصورة.

في تلك اللحظة، شعر شريف أنه عاد إلى زمنه المفقود. أغمض عينيه، واستشعر الدفء الذي يحيط به. كان يدرك أن هذا ليس مجرد حلم، بل هو اللقاء مع الماضي، اللقاء مع تلك المرأة التي كانت تتنفس بين صفحات الكتاب.

أخذ شريف خطوة للأمام، وكأنما يدفعه شيء غير مرئي إلى الأمام، نحو عتبة الباب الذي يبتسم له من بعيد. وعندما اقترب من الباب، شعر وكأن العطر يملأ المكان، وكأن الزمان نفسه قد التوى ليعطيه فرصة ثانية ليتنفسه، ليتذوقه، وليرى المستقبل الذي كان يختبئ وراء حجاب الماضي.

فتح الباب، فوجد نفسه في غرفة كبيرة مليئة بالصور والكتب القديمة. كانت الجدران مغلفة بالألوان التي لم يسبق له أن رآها من قبل، لكن ذلك العطر، ذلك العطر المفقود، كان يملأ المكان، وكأنها ليست سوى المرأة نفسها التي كانت تنتظره هناك. كان وجهها مضيئًا، وعينيها مليئتين بالأسئلة التي طالما كانت تراوده.

ابتسمت له، وقالت: "لقد عدت أخيرًا."

لم تكن الكلمات تلك مجرد حديث عادي، بل كانت تصف شيئًا عميقًا. كانت تذكيرًا له بأن الذاكرة، برغم الزمن، لا تموت. هي كالعطر، تظل تتسرب عبر الأجيال، تعود لتستيقظ في لحظات غامضة، مثلما عاد هو إلى مكانه.

توقف شريف عند تلك اللحظة، وأصبح يدرك أن الماضي لم يكن مجرد ذكريات، بل كان حاضرًا دائمًا في عطر الذاكرة. فكلما عادت رائحته، عاد شريف إلى هناك، إلى اللحظة التي كانت مليئة بالأسرار، التي لا يمكن فهمها بالكامل إلا حينما نلتقي بالزمن الذي نشأنا فيه.

خرج شريف من تلك الغرفة، وعاد إلى الزقاق القديم، لكن عطر المرأة ظل يلاحقه، وكان يشعر الآن أن الماضي قد أصبح جزءًا منه، جزءًا من الذاكرة التي لا تموت، لا تزول، بل تظل عالقة في كل لحظة.


(11)
ظل الضوء

في أحد أحياء المدينة القديمة، حيث تتناثر المباني القديمة كأنها تتكئ على ذاكرتها وتستريح من عبء الزمان، كان هناك منزل صغير يواجه الشارع الهادئ، يطفو على سطحه غطاء من العشب الأخضر، وتلتف حوله الزهور البرية. في هذا المنزل عاش "إبراهيم" مع زوجته "مريم"، في حياة هادئة يكسوها طابع من الطقوس اليومية البسيطة.

كان إبراهيم شخصًا منطويًا قليل الكلام، يتمتع بعقلية فلسفية مفرطة في التفكير العميق، يولي اهتمامًا بالغًا في الأشياء الصغيرة التي تتجاوزها عيون الآخرين. أما مريم، فكانت امرأة هادئة ذات قلب واسع، ترى الجمال في كل شيء حولها، سواء كان في ورقة شجرة تتساقط على الأرض أو في ظل الشارع الممتد أمام المنزل.

لكن ما كان يميز هذه الحياة التي يعيشانها، هو سر صغير يخفونه عن الجميع، وهو كتاب قديم جدا، لا يحمل عنوانًا أو اسمًا معروفًا، ولكنه كان بالنسبة لإبراهيم ومريم نافذة تطل على عالم لا يعرفه سواهما. كان الكتاب بمثابة الكائن الحي الذي يحيط بحياتهم، وهو الرابط الخفي الذي لا تجرؤ الأيدي الأخرى على لمسه.

في أحد الأيام، بينما كان إبراهيم يقرأ الكتاب في زاوية غرفته المعتمة، شعر بشيء غريب. لم يكن الصوت الذي سمعه واضحًا تمامًا، لكنه كان أشبه بالهمسات القادمة من بين طيات الكتاب نفسه، همسات تملؤه بالقلق، لكنها في الوقت ذاته تجذبه نحوها بشكل غريب. تردد إبراهيم في البدء، لكنه في النهاية فتح الصفحة التي أثارها الصوت. وجد على الصفحة كلمات غامضة لم يسبق له أن قرأها.

"كل نور يأتي من الظلام، وكل ظل يتولد من النور."

عند قراءة هذه الكلمات، شعر إبراهيم كما لو أن شيئًا غير مرئي قد انكسر داخل قلبه. كان هناك شعور غريب يراوده، شعور كما لو أن الظلام قد بدأ يدخل إلى عقله بطريقة غير مفهومة، وأنه قد بدأ يفتح بابًا لا يدري ما وراءه.

وفي تلك اللحظة، اقتربت مريم منه، كعادتها، برقة هادئة، وسألته عما يقرأ. لكنه نظر إليها دون أن يجيب، وتبدلت نظراته. كان يشعر بشيء غير طبيعي، كأن الكتاب أصبح يحمل قوة مدهشة، كأن كل صفحة فيه تتنفس حياة جديدة، وكل كلمة تحرك مشاعر لم يعهدها من قبل.

مرت الأيام، وتغير شيء ما في حياة إبراهيم. لم يعد يقضي وقته في قراءة الكتاب وحده، بل بدأ يلاحظ تفاصيل دقيقة حوله، تفاصيل كانت مختبئة في الظل دائمًا. أشياء لم يرها من قبل، كأن الضوء نفسه بدأ يأخذ شكلًا مختلفًا، وأحيانًا كان يشعر كأن الضوء يتسرب عبر جدران المنزل، يدخل في عينيه، ويملأ قلبه بشيء من الرهبة.

ذات ليلة، وبينما كانت مريم نائمة، خرج إبراهيم من المنزل بعد منتصف الليل، متبعًا خيطًا من الضوء الخافت الذي رأى أنه يتسرب من بين نافذة المنزل، كما لو كان يدعوه للمتابعة. كان الشارع موحشًا، لا صوت سوى همسات الرياح التي تداعب الأشجار القديمة. تابع إبراهيم الضوء حتى وصل إلى طرف الشارع، حيث كان ثمة حقل مهجور، ومن هناك، بدأ الضوء يزداد قوة، كأنما يخرج من قلب الظلام نفسه.

شعر إبراهيم بشيء غير طبيعي، لا يمكنه تفسيره. كان يشعر كما لو أن الضوء يلامس عقله مباشرة، يثير فيه صورًا وأفكارًا كانت مكبوتة في أعماقه. شعر كأن ذاكرته كلها قد سُحِبَت إلى الخارج، وأنه أصبح جزءًا من هذا الضوء الغريب.

وفجأة، وسط الظلام، ظهرت أمامه صورة مريم. كانت جالسة على صخرة قديمة، تنظر إليه بنظرة هادئة، ولكنها في الوقت ذاته كانت تحمل نوعًا من الغموض، كان وجهها ينبض بشيء من الحزن، لكنها لم تكن تبكي. كانت عيناها مليئتين بالكلمات، بالكثير من الكلمات التي لم يفهمها. قال لها إبراهيم بنبرة حائرة:

"مريم، ماذا يحدث؟ ما هذا الضوء؟"

ابتسمت له، ابتسامة غامضة، وقالت: "هذا هو سرنا يا إبراهيم، إنه الضوء الذي ينبع من الظلام، كما أن الظل يتشكل من النور. نحن نبحث دائمًا عن الضوء، ولكننا نغفل عن الظلام الذي ينتج عنه. كل شيء مرتبط، كل لحظة لها وجهها الآخر."

بينما كان إبراهيم يراقبها، شعر بشيء يغيره من الداخل. كان يرى الآن في ملامح وجهها شعورًا غريبًا، كما لو كانت تعرف شيئًا لا يعرفه. لكنه لم يسأل، فالصمت بينهما كان أبلغ من أي كلمات.

عاد إبراهيم إلى منزله وهو يردد تلك الكلمات في ذهنه: "الظلام والنور، ظل الضوء."

وبينما كان يدخل المنزل، شعر بشيء غريب يتسلل إلى روحه، كما لو أن كل شيء في حياته قد تحول إلى شيء آخر. بدأ يفكر في الكتاب، في الكلمات التي قرأها، في ما كان يحدث له. هل كان هذا كله مجرد حلم؟ هل كان هو نفسه جزءًا من هذا الضوء والظلام الذي لا ينتهي؟

في تلك اللحظة، فهم شيئًا عميقًا. أدرك أن الحياة ليست مجرد بحث عن الضوء أو الهروب من الظلام، بل هي فهم العلاقة بينهما، وكيف أن كل لحظة تحمل في طياتها وجهين مختلفين: أحدهما مملوء بالنور، والآخر مغمور بالظلام. لا شيء في الحياة يحدث بلا توازن، ولا شيء من هذا يتجسد إلا عندما نكون مستعدين لملاقاة الضوء داخل الظلام.

وفجأة، أدرك إبراهيم أن سر الكتاب، سر حياته، كان في تلك اللحظة. الظل ليس مجرد غياب للضوء، بل هو امتداد له، كما أن الضوء في النهاية سيولد الظلام. الحياة والوجود، بكل تناقضاتهما، هما في النهاية جزء من نفس الحقيقة اللامتناهية.

في تلك اللحظة، أطفأ إبراهيم المصباح وأغمض عينيه، مستسلمًا لظلام عميق، لكنه شعر بشيء غريب. لم يعد يخشى الظلام، بل بدأ يشعر أنه في النهاية، هو ذاته، جزء من هذا النور، وجزء من هذا الظلام.



(12)
الفراغ الذي لا يُملأ

في صباح ضبابي، حيث كانت الرياح تحمل رائحة البحر البعيدة، كانت نوار تجلس في نافذتها الخشبية، تحدق في الأفق البعيد. لم تكن في ذهنها فكرة معينة، ولم يكن هناك شيء يشغلها سوى شعور دائم بالفراغ الذي يملأ قلبها. ذلك الفراغ الذي لا تراه العين، لكنه موجود في كل جزء منها. كان هذا الشعور يُلاحقها منذ زمن بعيد، دون أن تجد له تفسيرًا أو إجابة.

نشأت نوار في حي صغير، حيث كانت تعرف الجميع وكان الجميع يعرفها. لكنها، على الرغم من كثرة الوجوه المألوفة من حولها، كانت تشعر دومًا أنها بعيدة عنهم، كأنها كائن غريب في هذا المكان الذي يحيط بها. كان والدها، الذي يعمل كصائد في البحر، يغيب طويلًا عن المنزل، ووالدتها، رغم حبها لها، كانت شديدة الصمت. أما شقيقها الأصغر، فقد كان مشغولًا بتفاصيل الحياة الصغيرة، لا يتوقف عن الجري في الحي، ولا يولي اهتمامًا لأشياء نوار المعقدة.

ومع مرور الأيام، أصبحت نوار ترى نفسها غريبة عن الجميع. كانت تمضي ساعات طويلة في التأمل في الحياة التي لا تشبع، في العالم الذي يبدو مليئًا بالضجيج، بينما هي تبحث عن شيء لا تعرفه، لا يمكنها لمسه، ولا حتى تسميته. حاولت أن تملأ هذا الفراغ بكل الطرق الممكنة: من خلال القراءة، أو الكتابة، أو السفر، أو حتى بتكوين علاقات جديدة، لكنها كانت تعود دائمًا إلى نفس النقطة: الفراغ لم يملأه شيء.

وفي أحد الأيام، بينما كانت تتجول في سوق المدينة، لفت نظرها شيء غريب. كان هناك بائع عتيق في زاوية السوق، يبيع أشياء غريبة ومثيرة للفضول: أدوات قديمة، كتب بالية، وقطع فنية مكسورة. كان البائع شيخًا مسنًا، عيونه مليئة بالغموض، ولم يكن يتحدث كثيرًا. اقتربت منه نوار، وبدأت تنظر في الأشياء التي يعرضها.

رأت في أحد الرفوف قطعة صغيرة من الزجاج المعتم، شكلها غريب، وكأنها تحوي داخلها أسرارًا لا تُحكى. كانت قطعة مربعة، لكنها كانت تحتوي على انعكاسات غير واضحة، وكأنها كانت تعرض مشاهد من عالم آخر. لم تكن نوار قادرة على فهم ما كانت تراه، لكن شيئًا ما جذبها نحوها.

"هل ترغبين في شراء هذا؟" سألها الشيخ بصوت هادئ.

نظرت نوار إلى الشيخ، وأجابته بصوت منخفض: "ما هذا؟"

أجاب الشيخ، وهو يحدق في عينيها بحذر: "إنه قطعة من الزمن. يقال إن من يمتلكها يمكنه رؤية الفراغ الذي لا يراه الآخرون. يمكنه أن يرى الوقت الذي لا يُعاش، اللحظات التي ضاعت، والأماكن التي لم يتمكن أحد من الوصول إليها."

أحست نوار بشيء غريب يسري في عروقها. لم تكن تفهم تمامًا ما كان يقوله الشيخ، لكن الفضول كان أقوى من خوفها. دفعت المال مقابل القطعة الصغيرة، وحملتها معها إلى المنزل.

في تلك الليلة، جلست نوار أمام النافذة، وهي تنظر في القطعة الزجاجية. بعد دقائق من التأمل، بدأت الأمور تتغير. كانت الأضواء التي تأتي من الشارع تضيء الزجاج بطريقة غريبة، وتلك الأضواء لم تكن فقط انعكاسات، بل كانت تعرض مشاهد، مشاهد لظلال من الماضي، لأماكن لم تزرها قط، لأناس لم تقابلهم أبدًا.

شعرت كما لو أن الزمن بدأ يتدفق حولها بطريقة موازية، كان ثمة تيار قوي، غير مرئي، يمر عبر عينيها ويملأ ذهنها. بدأت ترى حياتها بشكل مختلف، لم تعد تركز على اللحظات التي كانت تشعر فيها بالفراغ، بل على تلك اللحظات التي مرت دون أن تدرك أنها قد تكون ثمينة.

ومع مرور الأيام، بدأت نوار تلاحظ أشياء غريبة. كانت ترى صورًا لوجوه لم تعرفها، لحظات لم تحدث لها، أماكن غريبة لا علاقة لها بها. أصبحت القطعة الزجاجية بمثابة بوابة بين العوالم. كانت نوار تغرق في تلك المشاهد، تبحث عن إجابات لما كانت ترى، لكنها كانت تزداد غرقًا في أسئلة لا تنتهي.

في أحد الأيام، بينما كانت تحدق في الزجاج، شاهدت شيئًا غريبًا. كانت ترى نفسها، ولكن ليس كما هي الآن. كانت نوار في تلك الصورة فتاة شابة، مليئة بالحيوية، تجلس في مكان غير مألوف، يحيط بها أشخاص يتحدثون معها. كان هناك شخص واحد في الصورة، شخص غير واضح المعالم، لكنه كان ينظر إليها بحزن عميق.

نزلت دمعة من عينيها دون أن تدري، وكانت ترتجف. كانت ترى، بوضوح تام، أن حياتها لم تكن كما كانت تظن. كانت مشاهدها، كل لحظة، مليئة بأشياء مفقودة، بأشخاص لم تلتقِ بهم، أماكن لم تزرها، أفكار لم تكتبها.

لم تدرِ لماذا، لكن تلك الصورة كانت تعني شيئًا عميقًا. شعرت فجأة أن الفراغ الذي كانت تشعر به ليس شيئا مفقودًا، بل هو جزء من الحياة نفسها، هو نوع من الفراغ الذي يتسع لأشياء لا يمكن لأحد أن يراها أو يشعر بها.

في تلك اللحظة، أدركت نوار أن الفراغ الذي كانت تبحث عن ملئه لم يكن فراغًا يمكن ملؤه. كان هو الحقيقة، كان هو مكان الشك واليقين، الغياب والحضور، هو الفراغ الذي يجعل من الحياة رحلة مستمرة من التساؤل والبحث.

وأمام الزجاج، أغمضت عينيها، وابتسمت ابتسامة خفيفة، فقد فهمت أخيرًا أن الفراغ ليس عدوًا يجب هزيمته، بل هو جزء من الوجود نفسه.


(13)
ظل الريح

في الزمان البعيد، حيث كانت الأرض لا تزال تحتفظ بآثار خطوات الإنسان الأول، كان هناك رجل يدعى هلال. عاش هلال في قرية نائية على أطراف الصحراء، حيث كانت الحياة هناك صعبة والموارد قليلة. كان يعيش وحده في كوخ قديم، مشيد من الحجارة والطين، ومرتكزًا على تلة مرتفعة تطل على صحراء لا تنتهي. كان هلال وحيدًا منذ أن فقد عائلته في حادث غريب منذ سنوات عديدة. من حينها، أصبح يكتفي بالصمت، يقضي أيامه في التأمل والقراءة، مستغرقًا في الكتب التي تركها له والده الذي كان أستاذًا قديرًا في قريته.

ولكن في قلب هلال كان هناك شيء غير مألوف، شيء غريب كان يدفعه دائمًا للبحث عن معنى أعمق لحياته. كان يعتقد أن هناك شيئًا لا يمكن للبشر أن يراه أو يشعروا به، شيئًا خفيًا لكن مؤثرًا في جوهر الوجود، شيئًا يقبع في الظلال، في الرياح، في الفضاء بين الأشياء. وكلما زادت حياته عزلة، أصبح هلال أكثر إيمانًا بأن هناك سرًا غير مكتشف، وقرر أن يبدأ رحلة للبحث عنه.

في أحد الأيام، بينما كان يسير عبر تلال الرمل، لفت نظره شيء بعيد في الأفق، شيء غير طبيعي. كان ظلالًا تتحرك، لكن ليس كأي ظلال أخرى. كانت تتحرك بطريقة تتنقل فيها كما لو أنها كانت كائنًا حيًا، تتحول، تنبض بالحياة. وقف هلال في مكانه، مشدوهًا، يحاول فهم ما يرى. لكن الظلال اختفت فجأة، تاركة خلفها هالة من الترقب.

في اليوم التالي، قرر هلال أن يخرج إلى نفس المكان في نفس الوقت، متمنيًا أن يعثر على تلك الظلال مرة أخرى. وصل إلى المكان الذي رآها فيه بالأمس، ولكن لا شيء كان هناك. فقد كانت الصحراء تبدو كما هي دائمًا: شاسعة، خالية، قاحلة. لم يكن هنالك أي أثر لما شاهده. لكن، شعر بشيء غريب في قلبه، كما لو أن السر كان يختبئ في الظلام، يراقب عن كثب.

مرت الأيام، وكان هلال يعود كل يوم إلى نفس المكان، لكن الظلال كانت تختفي دائمًا. وبعد أيام من المحاولات، جاءته فكرة مفاجئة: ربما لا ينبغي له أن يبحث عن الظلال، بل أن يترك الظلال تبحث عنه. ربما كانت الظلال تنتظره في مكان آخر، في عالم آخر، أو ربما كانت هي نفسها جزءًا من المكان الذي يعيش فيه.

في مساء غير عادي، بينما كانت السماء ملبدة بالغيوم وكان الرياح تعصف بالأرض، شعر هلال بشيء غير تقليدي. كان هناك شيء يهمس له في الأفق، يطلب منه أن يتبع الرياح، يتبع الصوت الخافت الذي كان يخرج من الأعماق. فكر هلال قليلًا، ثم قرر أن يتبع هذا الصوت.

مشى هلال عبر الكثبان الرملية، حيث كان الصوت يزداد وضوحًا. كان الرياح تعوي من حوله، وكأنها تقوده إلى مكان ما. ومع كل خطوة كان يخطوها، كان يشعر بأن الظلال تلاحقه، كما لو كانت تبحث عنه، كما لو كانت تنتظره في هذه اللحظة بالذات.

وصل إلى مكان غير مألوف، كانت الصخور تتناثر هنا وهناك، وكان الضباب يخفف الضوء من حوله. كان هناك كهف صغير في نهاية المكان، وكان الصوت يأتي من داخله. هبط هلال إلى داخل الكهف، حيث كانت الظلال تتراقص على جدرانه. كان هناك شيء غريب، شيء حيوي يتحرك في الظلام، شيء كان يبدو كما لو أنه يتنفس، كما لو أنه حي.

في عمق الكهف، اكتشف هلال شيئًا غير متوقع: كان هناك مرآة قديمة، مهشمة من الأطراف، لكنها لا تزال تعكس صورة غير واضحة. اقترب هلال منها، فاقتربت منه الظلال، وأصبح يرى شيئًا غريبًا، شيئًا لا يمكن أن يفسره. كانت الظلال تنساب نحو جسده، كما لو كانت تلامسه، ثم تنسحب وتبتعد. في تلك اللحظة، شعر بشيء غريب، وكأن جسده قد تلاشى، وكأن العالم الذي كان يعرفه قد اختفى.

في تلك اللحظة، أدرك هلال أن الظلال ليست مجرد ظلال، بل هي جزء من الوجود نفسه. هي السكون الذي يسبق الحياة، هي اللحظات التي لا يمكن أن تُلمس ولكنها تشعر بها. كانت الظلال هي الحياة التي تتنقل بين كل شيء، بين كل الوجود، هي الحافة التي تفصل بين المجهول والمعلوم. وكانت الرياح هي الصوت الذي يحمل هذه الظلال، هو الخيط الذي يربط بين عوالم غير مرئية.

ابتسم هلال ابتسامة عميقة، وأغمض عينيه. في تلك اللحظة، شعر وكأن كل شيء قد اكتمل. لم يكن هناك حاجة بعد للبحث عن شيء مفقود، لأن السر كان موجودًا أمامه طوال الوقت. كان السر في الظلال، في الرياح، في كل لحظة لم يتمكن من تذوقها.

وفي تلك اللحظة، اختفت الظلال تمامًا. عاد هلال إلى قريته، وهو يحمل في قلبه هذا السر العظيم، سر الوجود الذي لا يمكن وصفه بالكلمات. وعاد إلى كوخه، حيث قرر أن يكتب عن الظلال، ليس كظلال حقيقية، بل كرمز لما هو غير مرئي، لما هو خفي، لما هو أقرب إلى الحياة مما نتصور.

ولكنه لم يكن ليكتب عن الظلال فحسب. لقد قرر أن يكتب عن الرياح، عن الزمان، عن المكان، وعن كل تلك الأشياء التي تجعلنا نشعر بأننا جزء من شيء أكبر من أنفسنا. وعندما انتهى من الكتابة، أخذ نصه القديم وذهب إلى الجبال مرة أخرى، حيث لم يعد يبحث عن الظلال، بل عن الكلمات التي تعكسها.

وعلى جبال الصحراء، ترك هلال الكتاب، وعاد إلى قريته، موقنًا أن الظلال لا تحتاج إلى أن تلاحقنا، بل أننا نحتاج فقط إلى أن نتوقف ونتأملها.



(14)
أصوات في العدم

في قرية صغيرة، على أطراف البحر الأزرق الذي لا نهاية له، عاش يوسف، الرجل الذي لا يعترف بحدود الصوت. كانت حياته تمضي في صمت عميق، محاطًا بالهدوء الكامل الذي تحكمه الموجات المتكسرة على الشاطئ والرياح التي تمر عبر الأشجار الكثيفة المحيطة بمنزله القديم. منذ أن كان طفلًا، اعتاد على أن يرى الحياة كنسق من الأصوات المتناثرة، التي تكاد تكون غير مسموعة، لكنه كان يشعر بها في جوفه، تتردد داخل قلبه وكأنها نبضات غير مرئية.

يوسف كان نحاتًا، ولكنه لم يكن يبدع أعماله كما يفعل الفنانون عادة. لم يكن يكترث لجمالية المواد أو للأشكال التي من المفترض أن تتخذها تماثيله. ما كان يهمه هو الصوت الذي يشعر به في قلب الحجر، وفي قطعه الخشبية، وفي المعادن التي كان يسكبها بيديه. كان يسمع هذه الأصوات قبل أن ينحتها، كان يرى العالم في قطع الصوت المتناثر في الفراغ، وكان يصغي إلى صمت المادة قبل أن يبدأ بعمله.

لطالما كان الناس في قريته يتحدثون عنه باستهجان، يظنون أنه يعيش في عالمه الخاص، بعيدًا عن الواقع. كانوا يظنون أنه مجنون، أو ربما غريب الأطوار، لأنه كان يقضي أيامه في البحث عن أصوات غريبة في الطبيعة: همسات الرياح، خشخشة الأوراق، الصوت الخفي للمطر قبل أن يسقط، وحتى الصوت الذي ينبعث من الأرض نفسها، كما لو كان كل شيء من حوله يعزف سيمفونية غير مرئية.

ذات يوم، بينما كان يوسف يجلس في ورشته الصغيرة، محاطًا بالحجارة والأخشاب القديمة، شعر بشيء غريب. لم يكن الصوت الذي كان يبحث عنه، بل كان شيئًا آخر، شعورًا حادًا يملأه من الداخل، وكأن روحه هي التي بدأت تنطق. كان ذلك الصوت يملأ الفراغ بينه وبين ما كان ينحت. بدأ يشعر بشيء كان يعتقد أنه مستحيلًا: كان هناك صوت لا يُسمع إلا عبر العيون، صوت يحمله الفراغ نفسه.

قرر أن يتبع هذا الصوت، كما يتبع العصفور نغمة الرياح. خرج من ورشته، وتوجه إلى البحر، حيث كانت أمواج المياه المتلاطمة تصطدم بالصخور الكبيرة. وقف هناك، وكان ذهنه يغرق في الأصوات المتناغمة التي كانت تصدر من البحر، من الأرض، ومن السماء التي كانت تمطر ببطء. لكن الصوت الذي كان يبحث عنه ظل مختفيًا، وكأن البحر نفسه يراوغه.

وفي اليوم التالي، تكرر الأمر ذاته. ظل يوسف يراقب البحر والموج، دون أن يجد ذلك الصوت. لكنه لم ييأس. قرر أن يسافر بعيدًا، عبر الجبال البعيدة حيث كانت الرياح تعوي بين الصخور العتيقة. هناك، في قمة الجبل الذي لا يُرى من أسفله، وقف يوسف يحدق في الأفق اللامتناهي، وحينها فقط شعر بشيء مختلف. كانت الرياح هناك تعزف على أوتار القلب، كانت هذه الرياح لا تعطيه مجرد همسات، بل كانت تُسهم في تشكيل العالم من جديد.

ثم في لحظة غير متوقعة، سمع يوسف ذلك الصوت. كان يشبه الهمسات الخفيفة التي تتنقل بين الأشياء، وكأن الأرض نفسها كانت تهمس له. أغمض يوسف عينيه، وأصابعه ترتعش في الهواء كما لو كانت تُنحت في اللحظة ذاتها. وفجأة، اختفى الصوت.

ذهب يوسف في رحلة طويلة، محاولًا العثور على الصوت مرة أخرى. مرت أيام، وكانت الليالي تقسو عليه، إلا أن الصوت كان يظل يراوغه كلما اقترب منه. في كل مرة كان يُسمعه قليلاً، كان يختفي فجأة، تاركًا وراءه صمتًا ثقيلاً. كان يعتقد أنه أصبح جزءًا من هذا الصوت، وكان عقله يشبع منه أكثر فأكثر.

وصل في النهاية إلى جزيرة نائية، تقع عند تقاطع البحر والسماء. لم يكن هناك بشر، سوى بعض النباتات الشوكية والشواطئ الرملية الواسعة التي تمتد إلى ما لا نهاية. وهناك، بينما كان يوسف يتأمل في البحر، فجأة، شعر بشيء غريب يتسلل إلى قلبه. كان الصوت يعود، ولكن بطريقة غريبة، كما لو كان هو نفسه يصدر من جسده، من قلبه، من عقله. كان الصوت يملأ المكان، يتسلل إلى عظامه ويخترق كل شيء في محيطه.

في تلك اللحظة، أدرك يوسف أن الصوت لم يكن شيئًا ماديًا، بل كان أكثر من ذلك بكثير. كان الصوت هو الذي يكوّن الوجود نفسه، هو الذي يحدد كل شيء في الكون. كان الصوت هو الحياة التي تنتقل عبر الفراغ، هو التنفس الذي يجعل الزمان والمكان يتناغمان. أدرك أن الصوت كان في داخله طوال الوقت، وأنه لم يكن عليه أن يبحث عنه في الخارج.

لكنه، وفي اللحظة التي اكتشف فيها هذا السر، اختفى الصوت مرة أخرى، كما لو أنه كان اختبارًا، وكأن الكون أراد له أن يدرك أن الحقيقة ليست في العثور على الصوت، بل في فهمه والتفاعل معه. فهم يوسف أن الصوت كان ليس مجرد همسات أو ضوضاء، بل كان مرآة تعكس الحياة، كان جزءًا من كل شيء.

عاد يوسف إلى قريته، وهو يحمل في قلبه هذا السر العظيم. لكن عندما عاد، لم يكن الصوت هو الشيء الوحيد الذي تغير فيه. بل، كان هو نفسه قد تغير، كما لو أنه أصبح جزءًا من الأصوات، جزءًا من الحياة التي تتنقل بين الأشياء. ومنذ ذلك الحين، أصبح يوسف يروي للناس أن الصوت ليس في المكان الذي نبحث فيه عنه، بل هو في القلب، في اللحظة، في التفاعل مع الحياة نفسها.

ورغم أن الناس في قريته لم يفهموا تمامًا معنى حديثه، إلا أنهم بدأوا ينظرون إليه بطريقة مختلفة. كانوا يرونه ليس فقط كنحات، بل كمن يملك رؤية خاصة عن الكون، رؤية لا يمكن أن تُسمع إلا في لحظات الصمت العميق، حيث تصبح الحياة كلها مجرد همسات تتنقل بين الفضاء.

وظل يوسف على تلك الحال، يستمع إلى أصوات الحياة التي لا تُسمع، ويظل ينحت في صمت الوجود، غير مكترث بما سيقوله الآخرون.



(15)
الشجرة التي تروي الحكايات

في الزمان البعيد، كان هناك قرية هادئة تقع بين تلال خضراء ونهر يتنقل بين الأشجار القديمة. عاشت فيها عائلات كثيرة، تتشارك الخبز والماء، وتزرع الأرض كما كان يفعل أسلافهم منذ الأزل. لكن هناك شيء فريد في هذه القرية، شيء لا يعرفه الكثيرون، إلا أولئك الذين عاشوا فيها طويلاً: الشجرة العتيقة.

كانت الشجرة، التي تقع في وسط القرية، ضخمة للغاية. جذعها ضخم ومتشقق، كما لو أن الزمن نفسه قد ترك أثره عليها. أوراقها كانت تتفتح في كل موسم، ولكن ما كان يميزها هو أنها كانت تختلف عن أي شجرة أخرى. كانت شجرة ذات قدرة غريبة؛ كلما جلس أحد تحت ظلها، كان يسمع همسات، همسات تحمل حكايات قديمة، وأحيانًا أصواتًا من الماضي البعيد.

قليلون فقط من استطاعوا سماع هذه الهمسات. وكان يُقال إن الشجرة هي حامل للأسرار، هي مكان يتقاطع فيه الزمن والمكان، حيث تلتقي أرواح من مروا من قبل بأرواح من يعيشون الآن. كانت الحكايات التي ترويها الشجرة لا تتعلق فقط بالأساطير، بل بالحياة اليومية لأهل القرية، وكل ما جرى في تلك الأرض على مر العصور.

من بين هؤلاء الذين شعروا بهذه الهمسات كان هناك شاب يُدعى علي. كان علي شخصًا هادئًا، لم يكن يتحدث كثيرًا، وكان يجد راحته في الجلوس في ظل الشجرة القديمة. وعندما كان يجلس هناك، كان يشعر بشيء غريب. كان يسمع الأصوات تأتيه من الشجرة، كما لو أن الأرض نفسها تتنفس، كما لو أن التاريخ نفسه كان يُكتب من جديد.

ذات يوم، جلس علي هناك، وكالعادة، بدأ يراقب الأشجار التي تحيط بالشجرة القديمة. كانت الرياح تعصف بالأوراق، وصوتها كان يتداخل مع همسات الشجرة. كان يفكر في الكثير من الأشياء، في حياته، في القرية، في الأسرار التي لا يعرفها. وبينما كان مستغرقًا في أفكاره، شعر بشيء مختلف. لم تكن همسات الشجرة كالمعتاد، كانت هذه المرة أكثر وضوحًا، وأكثر تحديًا. وكأن الشجرة كانت تُخاطبه مباشرة.

"علي... هل تريد أن تعرف الحكايات التي لم تروها الأجيال؟" قالت الشجرة بصوت خافت، كأنها تهمس له من عمق الزمن.

كانت تلك الكلمات تجعله يشعر بحالة من الارتباك العميق. لكن الفضول سيطر عليه، وسأل: "ما هي الحكايات التي ترويها؟"

ابتسمت الشجرة بحزن، ثم بدأت تروي له قصة قديمة:

"في زمن بعيد، كان هناك ملك حكيم. كان له قلب طيب، وعينان ترى أبعد من الحقول والمزارع. كان يطلب دائمًا من مستشاريه أن يحكوا له عن الأمور التي تحدث في مملكته، لكن لم يكن يستمع فقط للكلمات. كان يحب أن يسمع صوت الرياح، أن يشعر بأصوات الأرض نفسها. وكان دائمًا يعتقد أن الحكمة لا تأتي فقط من الكتب، بل من الأصوات التي تعيش في الجبال والوديان."

"ثم جاء يوم،" تابعت الشجرة، "كان الملك يسير وحده عبر الجبال، عندما سمع صوتًا غريبًا يأتي من الصخور. كان الصوت يشبه أنينًا بعيدًا، لكن عندما اقترب أكثر، اكتشف أنه صوت امرأة تبكي. فزع الملك وأمر جنوده أن يتبعوه، ولكن كلما اقتربوا من الصوت، كان يزداد خفوتًا. وعندما وصلوا إلى المكان، وجدوا أن الصوت لم يكن ينبعث من شخص حي، بل كان يأتي من صخرة ضخمة، صخرة على شكل قلب. وعندما اقترب الملك منها، همس الصوت مرة أخرى في أذنه، وقال: الحكمة الحقيقية تكمن في أن تعرف كيف تستمع إلى صمت العالم. "

ثم صمتت الشجرة للحظة، كما لو كانت تستذكر ذلك الوقت البعيد. كان علي يستمع بتركيز، وعيناه تلمعان بالدهشة.

"ما الذي يعنيه ذلك؟" سأل علي.

أجابت الشجرة: "أنت ترى، يا علي، أن الحقيقة ليست دائمًا فيما نسمعه، بل فيما نشعر به. الحكمة لا تأتي من الضوضاء، ولا من كثرة الكلمات. الحقيقة تكمن في الصمت، وفي الأصوات التي لا يمكننا سماعها إلا إذا صمتنا بما فيه الكفاية للاستماع."

ثم انتقلت الشجرة إلى قصة أخرى:

"في مكان آخر من الأرض، في قرية بعيدة، كان هناك نبع مقدس. كان الناس يأتون إليه للشفاء، وكان النبع يروي لهم قصصًا غريبة عن الماضي، لكن أحدهم اكتشف في يوم من الأيام أنه لا يمكن أن يسمع صوت النبع إلا إذا استغرق في صمت طويل. وكان السر الذي اكتشفه الناس هو أن كل لحظة من الزمن لها صوتها الخاص، وكل إنسان له صوته الداخلي الذي لا يسمعه سوى نفسه."

"ثم، جاء الزمن الذي بدأ فيه الناس يتحدثون أكثر من اللازم، بدأوا يملؤون العالم بالكلمات، ويغمرونه بالضوضاء. ومع مرور الزمن، بدأ الصوت الداخلي لكل شخص يختفي شيئًا فشيئًا. وكما اختفى الصوت، اختفت الحكمة. وفي النهاية، وجد الناس أنفسهم عميانًا عن الحقيقة."

أصبح علي يشعر بأنه يتعلم شيئًا عميقًا. كانت الحكايات التي ترويها الشجرة ليست مجرد قصص عن الماضي، بل كانت دروسًا عن الحياة نفسها، كانت تشبه دعوة لصمت النفس، لكي نسمع أصوات الحقيقة.

في تلك اللحظة، شعر علي بشيء عجيب. كانت همسات الشجرة تتداخل مع همسات قلبه. كان الصوت الداخلي الذي سمعه يغيره، يفتح له أبوابًا كانت مغلقة. أدرك أن السعي وراء الحقيقة ليس في البحث عن الأجوبة بل في القدرة على الاستماع.

وبينما كان يغادر، عاد علي إلى المنزل وهو يحمل في قلبه هذا السر العظيم: الحقيقة لا تُقال، بل تُسمع. والذين يصمتون هم الذين يسمعون الحقيقة.



(16)
ظلّ البحر

في مدينة صغيرة على شاطئ البحر، كان هناك منزل قديم، يقع في الزاوية البعيدة من القرية حيث تنحسر الأمواج وتلتقي السماء بالبحر. كان المنزل مهجورًا منذ سنوات طويلة، والجدران قد امتلأت بالعفن وغطتها طبقات من الطحالب البحرية. ومع ذلك، كان للمنزل حضور غريب في قلب المدينة، مثل كائن حي يرقبها في صمت.

في تلك المدينة كان هناك شاب يُدعى يوسف، رجل عميق التفكير، يراكم الأسئلة داخل نفسه بلا إجابات واضحة. نشأ يوسف في المدينة نفسها، وكان يذهب إلى البحر كل يوم، يتأمل في الأمواج ويشعر بشيء غريب ينساب في عروقه. كان لديه دائمًا إحساس بأن البحر يحمل شيئًا ما، سرًا قديمًا أو حكاية لم تُروَ بعد، وكان يعتقد أن هذا السر يكمن في تلك المنطقة المهجورة بالقرب من المنزل.

قضى يوسف سنوات وهو يعيش في المدينة، يراقب البحر يومًا بعد يوم، لا يتحدث مع أحد عن مشاعره تجاهه. كان البحر بالنسبة له ليس مجرد كتلة من المياه، بل كان حياة وشعورًا غامضًا ينبض في قلبه. كان يتخيل أن البحر نفسه يحمل ذاكرة كل من مروا من قبل. كان يرى نفسه جزءًا من تيار هائل من الزمن، جسرًا بين الحاضر والماضي.

وفي يوم عاصف، قرر يوسف أن يذهب إلى المنزل المهجور الذي كان يتجنب الاقتراب منه الجميع. كان قد سمع بعض القصص القديمة عن هذا المنزل، تلك القصص التي تتحدث عن رجال قدامى سكنوا فيه، وآلام وحكايات كانوا يخبئونها في زواياه المظلمة. لكنه شعر بشيء غير مفسر، شيئًا يدفعه نحو هذا المكان المظلم والموحش، كأن البحر نفسه كان يناديه.

دخل يوسف المنزل متسللًا عبر الباب المهدم، وكانت الرائحة العتيقة للمكان تعم الهواء. كان هناك صمت مطبق، وكأن كل شيء قد تجمد في الزمن. رفع يوسف عينيه على جدران المنزل المتهدمة، ورأى صورًا باهتة وعفنة لفترات قديمة، ورقة جافة هنا أو هناك، مثل آثار لقصص مجهولة. كل شيء كان هناك، إلا الحياة.

بينما كان يتجول داخل المنزل، عثر على غرفة صغيرة في الزاوية. كانت الغرفة مغلقة، ومع ذلك، كان هناك ضوء خافت ينبعث من داخلها. شيء ما كان يجذب يوسف نحوها. دفع الباب ببطء، ففتح في صمت، وأدى إلى غرفة كانت مختلفة عن باقي المنزل. لم تكن مظلمة كما بقيّة الأماكن، بل كانت مشبعة بضوء غريب، لا يشبه ضوء الشمس أو الضوء الصناعي. كان ضوءًا غامضًا، يتراقص حول الجدران المتآكلة.

على الأرض كان هناك كتاب قديم، مكوم وسط الغبار. اقترب يوسف منه بحذر، ثم فتحه. كانت الصفحات مليئة بنصوص غريبة، تكتب باللغة القديمة التي لا يستطيع فهمها تمامًا، لكنها كانت تحتوي على رسومات وأشكال هندسية معقدة. وبينما كان يتصفح الصفحات، شعر بشيء غريب يحدث له. كان يتنفس بشدة، كأن الهواء قد أصبح كثيفًا، وكان صوت البحر الذي كان يسمعه في الخارج يزداد قوة.

في تلك اللحظة، تذكر يوسف شيئًا. كانت أمه قد أخبرته دائمًا عن البحر وعن القصص القديمة التي كانت تُحكى في القرية، عن الفترات التي كان فيها البحر لا يهدأ. قالت له أمه ذات مرة: "الذين يذهبون إلى البحر بقلب غير مستعد لن يعودوا كما كانوا". ولكن ماذا كان يعني ذلك؟ ما هي العلاقة بين البحر والكتاب؟ لماذا يشعر يوسف الآن وكأن شيئًا داخل قلبه يتغير؟

في الوقت الذي بدأ فيه يوسف يفقد قدرته على التركيز على الكلمات، شعر بشيء غريب يتسلل إلى قلبه. كانت الهمسات تأتيه من داخل الكتاب، تملأ أذنه بصوت خافت. لم تكن همسات عادية، بل كانت تشبه التذكير بشيء نسيه منذ زمن بعيد. وعندما همس أحد الأشكال الغريبة في الكتاب، وجد نفسه محاصرًا بين حقيقة البحر وبين الزمن الغارق في غياهب الماضي.

ارتبك يوسف، وسقط الكتاب من يده على الأرض، بينما بدأ الضوء الغامض يتلاشى ببطء. وفي اللحظة التي كانت فيها الكلمات والهمسات تتلاشى، شعر يوسف بأن الزمن نفسه قد توقف. كان البحر في الخارج يهدأ، وكأنهما كانا يتناغمان: هو والكتاب، وهو والبحر.

وفي تلك اللحظة، سمع يوسف صوتًا بعيدًا، بعيدًا جدًا، وكان الصوت يشبه همسات البحر نفسه. كان الصوت يتكلم بلغة قديمة، بلغة لا يستطيع فهمها تمامًا، لكن إحساسًا غريبًا تسلل إلى قلبه.

ثم، فجأة، أغشي على يوسف. وعندما استفاق، كان في مكان آخر. لا يستطيع أن يميز أين هو، ولكن كان هناك شعور عميق بالراحة، كأنه عاد إلى مكانه. وعندما نظر حوله، اكتشف أنه قد عاد إلى شاطئ البحر.

ولكن هناك شيء كان قد تغير. لم يكن يشعر بما كان يشعره سابقًا. لم يكن يرى البحر بنفس الطريقة. كان البحر الآن أكثر من مجرد مياه متلاطمة. كان البحر صديقًا، كان البحر ذاكرة الماضي، كان البحر هو الصوت الذي همس له. لم يكن البحر مجرد مكان، بل كان جزءًا من نفسه، من روحه.

عندما عاد إلى المدينة، بدأ يشعر بشيء مختلف. لم يعد قادرًا على التحدث عن البحر كما كان يفعل سابقًا. لم يكن بحاجة للكلمات. بدأ يعرف أن البحر ليس مكانًا للحديث، بل هو مكان للإصغاء. البحر الذي يروي الحكايات لأولئك الذين يعرفون كيف يصمتون، وكيف يستمعون.

ومع مرور الوقت، أدرك يوسف أنه كان هو نفسه ذلك الكتاب القديم، وتلك الهمسات التي كانت تأخذ وقتًا طويلاً لتصل إلى عقله، كانت في الواقع الصوت الذي جاء ليصحح له مسار حياته.



(17)
الظل الثالث

في قرية صغيرة محاطة بالجبال والمروج الواسعة، كان هناك بيت قديم يُسمى "بيت الظلال". لم يكن هذا البيت سوى بقايا من زمن قديم، لكن حكاياته كانت تتردد على ألسنة أهل القرية. كان الجميع يعرفه، ولكنهم كانوا يتجنبون الاقتراب منه. لا أحد كان يشكك في الخرافات التي تحيط به، ولكن رغم ذلك، كان البيت مكانًا مثيرًا للفضول، خصوصًا بالنسبة لشخص مثل "أمجد"، الذي كان يعيش حياة هادئة يسعى فيها لتأمل كل شيء من حوله دون أن يكون له دور فعال في الحياة الاجتماعية للقرية.

أمجد كان شابًا في مقتبل العمر، يعيش بمفرده في منزله الصغير الذي يقع في الطرف الآخر من القرية. كان يتمتع بمزاج هادئ، ويفضل الوحدة على الاختلاط. كان له طريقة خاصة في الحياة، وهو يعتقد أن الأشياء التي لا تُفهم يجب أن تُترَك في حالها، وليس دائمًا كل شيء يتطلب تفسيرًا. لكن فضولًا غريبًا بدأ يتسلل إلى قلبه مع مرور الوقت، ولا سيما عندما سمع عن "بيت الظلال".

كانت أساطير القرية تقول إن كل شخص يقترب من هذا البيت يختفي فجأة. لم يكن أحد يعرف سبب اختفائهم، ولكن الناس كانوا يتحدثون عن ظل غريب يظهر في أوقات غريبة على جدران البيت، ويقال إن هذا الظل كان يرافق من يدخلون ذلك المكان.

قرر أمجد أن يكتشف السر بنفسه. في مساء هادئ، حين بدأ الظلام يغطي السماء، حمل حقيبته الصغيرة وخرج من منزله متوجهًا إلى "بيت الظلال". كانت خطواته ثقيلة، لكن قلبه كان يخفق بقوة. شعر بشيء غريب يجره نحو هذا المكان، وكأن ثقل التاريخ نفسه كان يثقل خطواته.

عندما وصل إلى البيت، وجد نفسه أمام مبنى مهدم، جدرانه متساقطة وأبوابه متهالكة، لكن شيئًا ما كان يضيء في داخله، ليس ضوءًا حقيقيًا، بل شعورًا غريبًا بأن هناك حياة ما لا تزال في هذا المكان، حتى وإن كانت الحياة خفية. اقترب من الباب المهدم، وكان يشعر بشيء غامض يقترب منه، شيء ما يتسلل إلى أعماقه.

دخل أمجد إلى الداخل، وعلى الفور شعر بأن هناك شيئًا غير عادي يحدث. كان البيت لا يبدو مهدمًا تمامًا؛ كانت الجدران المتهالكة تحتوي على ظلال تتحرك وكأنها كائنات حية. كانت الأضواء التي تأتي من نوافذ البيت تتسرب عبر الفراغات، ولكنها لم تكن أضواء طبيعية، بل كانت مشوهة، أشبه بالانعكاسات الضبابية التي لا تلتقطها العين البشرية بشكل واضح.

في الزوايا، رأى أمجد شيئًا غريبًا: ثلاثة ظلال ضخمة، لكنهم كانوا يتحركون بشكل غير طبيعي، وكأنهم يغيرون شكلهم باستمرار. ما لبث أن شعر بشيء خافت يهمس في ذهنه. كانت الأصوات تأتي من كل مكان، وكأن البيت نفسه يهمس في أذنه، يروي له قصصًا لا يستطيع أن يفهمها.

استدار أمجد، وحاول مغادرة المكان، لكن قدميه لم يتحركا كما اعتاد. كان جسده يرفض الخروج، وكأن هناك شيء ثقيل يمسك به. لم يكن الظل الثالث مجرد انعكاس للضوء، بل كان شيئًا آخر. كان شيئًا ناتجًا عن اختلاط الزمن، شيء جاء من أعماق الماضي ليقف أمامه.

ظل أمجد واقفًا في مكانه، يعجز عن الحركة، وعيناه ثابتتان على الظل الثالث. كان الشعور بالخوف يتسلل إلى قلبه، لكنه أيضًا كان يشعر بشيء آخر، شيء كان يشده نحو ذلك الظل. وكأن الجزء المفقود من نفسه كان يقف أمامه، مختبئًا وراء الظل.

وفي تلك اللحظة، ارتفعت الأصوات حوله، أصوات همسات وضحكات، كانت تتنقل عبر جدران المنزل المهدم. بدأ أمجد يفهم شيئًا ما. كان الظل الثالث ليس سوى انعكاس لما كان يفكر فيه طوال الوقت. كان بمثابة ظل لجزء منه قد اختفى، جزء غاب عن حياته، ولكنه ظل حيًا في ذاكرته.

أغمض أمجد عينيه، وحاول أن يهدئ نفسه. كانت الأصوات تتلاشى تدريجيًا، والظلال تتنقل ببطء حوله. لكنه في تلك اللحظة شعر بشيء غير متوقع: كان الظل الثالث، وليس سواه، هو الذي كان يشده. في الحقيقة، كان هو الظل الثالث. كان هو الجزء المفقود من نفسه، الذي ظل يتخيله طوال حياته.

عندما فتح عينيه، اكتشف أن كل شيء حوله قد تغير. لم يكن في "بيت الظلال" بعد الآن. كان في مكان آخر، مكان لا يشبه أي مكان آخر. كانت السماء مظلمة بشكل غريب، وكانت الأرض تبدو مشوهة، كأنها مكان بين الحياة والموت.

ورغم أنه كان يشعر بالخوف، كان أمجد قد شعر أخيرًا بشيء من السلام. اكتشف أنه لم يكن يتخيل فقط، بل كان يواجه ذاته الحقيقية. في تلك اللحظة، تذكَّر كل لحظاته الماضية: لحظات الوحدة، لحظات القلق التي طالما شعر بها، لحظات الترقب، وكل شيء كان يقوده نحو هذه اللحظة. في الحقيقة، لم يكن الظل الثالث شيئا خارجيا، بل كان هو، كل تلك اللحظات من حياته التي كانت تخفي جزءًا منه.

وعندما عاد أمجد إلى القرية في اليوم التالي، لم يكن كما كان. كان قد أصبح شخصًا آخر. كان يحمل سرًا غامضًا، سرًا لا يمكن تفسيره بالكلمات. لكن عينيه كانتا تحملان شيئًا لم يلاحظه أحد من قبل، شيئًا عميقًا، شيئًا من النوع الذي يدركه فقط أولئك الذين يواجهون أنفسهم بشكل كامل.

لم يتحدث أمجد عن تجربته أبدًا. لم يكن يحتاج لذلك. كان يعرف الآن، أن الظل الثالث هو جزء من كل إنسان، جزء لا يمكن الهروب منه. لا يهم كم كانت الغرف مظلمة أو الجدران متهالكة. فكل شخص يحمل داخله ظلًا لا يستطيع الهروب منه.



(18)
أبخرة من السحاب

في إحدى المدن الصغيرة التي لا تعرفها الخرائط، ولا يذكرها التاريخ، كان هناك شاب يُدعى "نادر". لم يكن نادر غريبًا عن العالم، بل كان جزءًا منه بشكل غريب. كان يعيش حياة بسيطة لا تحمل في طياتها شيء من المغامرة أو الإثارة، لكن قلبه كان يحمل دوامة من الأسئلة التي لا تنتهي. أسئلة عن الحياة، عن الموت، عن معنى كل شيء.

كان نادر يعمل في مصنع صغير لصناعة الزجاج في أطراف المدينة. ولم يكن يومه يختلف عن الأيام الأخرى: يدخل العمل في الصباح الباكر، يعكف على مهمته طوال اليوم، ثم يعود إلى منزله المتواضع. لكن رغم بساطته، كان قلبه يفيض بتوقٍ غريب إلى شيء أكبر. شيء لا يمكنه تفسيره. كان دائمًا يشعر وكأن هناك شيئًا عميقًا يخفيه عن نفسه، كما لو أن هناك جزءًا مفقودًا من روحه.

في يومٍ من الأيام، بينما كان يجلس في ورشته الصغيرة، وقع بصره على كومة من الزجاج المهدم الذي كان قد جمعه من أطراف المصنع. لسبب ما، كان هناك شيء في تلك القطع المكسورة جذب انتباهه. اقترب منها، وأخذ قطعة صغيرة منها بين يديه. كانت الزجاجة المكسورة تشع بشيء من الضوء الغريب، وكأنها تحتوي على سر لم يره أحد من قبل. كان الزجاج يبدو كأن له حياة خاصة به، وكأن الضوء المنبعث منها كان يحمل قصة قديمة جدًا.

قرر نادر أن يأخذ القطعة المكسورة إلى منزله. كانت هناك حالة غريبة من التوتر ترافقه حين كان يخطو عبر الأزقة الضيقة للمدينة. كانت السماء تلك الليلة ملبدة بالغيوم، وكان السكون يحيط بكل شيء. بدا وكأن الليل ذاته كان ينتظر شيئًا ما.

عند وصوله إلى المنزل، بدأ يفحص القطعة الزجاجية تحت ضوء مصباحه. فجأة، بدأ الزجاج يتوهج بشكل غريب، وكأن الضوء ينبعث من أعماقه. رفع نادر رأسه، ليجد نفسه محاطًا بكثرة من الأبخرة البيضاء التي بدأت تتصاعد من داخل الزجاجة. كانت الأبخرة تتصاعد ببطء، وتلتف حوله في دوامة غريبة. كان نادر يراقب في دهشة بينما تحول الهواء إلى سحابة من الضباب، يحمل في داخلها همسات غير مفهومة.

كان هذا الشعور بالغريب الذي اجتاحه غير مسبوق. في تلك اللحظة، بدأ يشعر بشيء غير مريح، كما لو أن الزمان قد انقلب عليه فجأة. كانت هذه الأبخرة، أو هذا الضباب، لم يكن شيئًا طبيعيًا. شيئًا في داخله كان يخبره بأن هذا الموقف كان بداية شيء عميق، شيء قد يغير كل شيء في حياته.

فجأة، بدأت الكلمات تظهر في الهواء، كلمات لم يكن يتوقع أن يراها، ولا أن يقرأها. كانت الكلمات مكتوبة بلغة قديمة لم يرها من قبل. كلمات تقشعر لها الأبدان، ومع كل كلمة تظهر، كان نادر يشعر بشيء غريب يجتاحه. كان الصوت الذي يصاحب هذه الكلمات يشبه الهمسات، همسات قادمة من الزمان والمكان، وكأنها تحمل ذكريات لا يستطيع أن يفسرها.

"أنت في المكان الصحيح، لكنك لست في الزمان الصحيح."

شعر نادر بشيء ثقيل يسقط على صدره. كانت الكلمات تأتي له كما لو أنها تحمل رسالة، رسالة ليست من البشر، ولكن من عالم آخر. كان الضباب الذي يحيط به أكثر كثافة الآن، وكان الزمن حوله يتشوه. كان لا يستطيع التفريق بين الماضي والحاضر. كل شيء بدا مشوشًا وغير واضح.

"لقد فقدت الطريق، ولكنك لن تجد الطريق حتى تفقد نفسك."

ثم، في لحظة من السكون الغريب، عاد الضباب إلى الزجاجة، وانحسر كل شيء. عاد الهدوء إلى المنزل، وكأن شيئًا لم يكن. كان نادر جالسًا على الأرض، غير قادر على تحريك يديه أو قدميه. كان يشعر كأن الزمن قد انفصل عن نفسه، وكأن عالمه الداخلي قد أصبح مشوهًا.

مرّت أيام عدة قبل أن يستطيع نادر الخروج من منزله، لكن شيئًا ما كان قد تغير فيه. لم يكن يشعر بنفسه كما كان. كانت تلك اللحظات التي عاشها مع الزجاجة المكسورة قد تركت أثراً عميقاً في روحه. أصبح يشعر بتشوه غريب في الواقع، وكأن كل شيء حوله لا يعبّر عن شيء حقيقي، بل عن تجسيد لشيء آخر.

مع مرور الأيام، بدأ نادر يدرك أن تلك الأبخرة لم تكن سوى جزء من الحقيقة التي كان يبحث عنها طوال حياته. لم تكن مجرد ظاهرة عابرة، بل كانت رمزا لحقيقة أكبر لم يكن ليصل إليها لولا تلك اللحظة الغريبة. كانت الأبخرة، بتشويشها وضبابها، دعوة له ليكتشف شيئًا أعمق في نفسه.

وفي أحد الأيام، عندما كان يجلس في الزجاجة المهشمة، شعر فجأة أن الغيوم في السماء قد اقتربت. تلك الغيوم التي كانت تراقب حركة الأرض طوال الوقت. كان يشعر بأن هناك شيء يناديه، شيء يتجاوز كل الفهم البشري. فكر في الكلمات التي ظهرت أمامه، وأدرك أن رحلته لم تنتهِ بعد. بل، كان قد بدأ للتو في رحلة لا رجعة فيها نحو اكتشاف كينونته الحقيقية.

وفي لحظة من الفهم العميق، اختفى كل شيء من حوله، اختفى الزمان والمكان. وعندما فتح عينيه، وجد نفسه في مكان لا يشبه أي مكان كان يعرفه. كانت السماء التي كانت ملبدة بالغيوم، قد تغيرت إلى سحابة ضخمة، كانت تحيط بكل شيء، وتعبث بالأشعة المنبعثة من النجوم.

فهم نادر أن الأبخرة كانت مجرد بداية لفهم أعمق. تلك الأبخرة التي تدور حوله كانت رسائل من عالم آخر، دعوة ليدرك أسرارًا خفية في داخل نفسه. وبتلك اللحظة، بدأت حياته الحقيقية في الظهور.

ولكنه كان يعلم شيئًا واحدًا فقط: أن تلك الأبخرة، وكل ما مر به، لم يكن سوى وهم من أجل الوصول إلى الحقيقة. وكل تلك الغيوم التي تراكمت في السماء كانت مجرد بداية لفهم عميق لا يمكن إدراكه إلا عند فقدان كل شيء، ليُعاد اكتشاف كل شيء من جديد.



(19)
مرايا العقول

في زاوية نائية من مدينة قديمة، حيث الشوارع الضيقة تتداخل في عشوائية غريبة والمباني تتناثر بألوان باهتة، كان هناك مكان خاص لا يعرفه سوى القليل. "مكتبة ديلون" كانت مكتبة قديمة، تتناثر رفوفها بين زوايا متشابكة كأنها جزء من المعمار نفسه، تصطف فيها الكتب القديمة والمخطوطات الملقاة بعناية على الرفوف العتيقة. كان يدخل إليها الزوار فقط في لحظات نادرة، حيث كان يُقال إنها تحتوي على أسرار لا يمكن أن تُفهم بسهولة.

وفي هذه المكتبة العتيقة، كان يعيش "سامي" - شاب في منتصف العشرينات، كان يعمل كأمين مكتبة. يملك سامي شخصية غريبة، تتسم بالصمت العميق والتأمل المستمر. كان يمر ساعات طويلة بين الكتب والأوراق، لكنه لم يكن يقرأها كما يفعل الآخرون. كان يحاول دائمًا أن يفهم الهمسات الخفية التي تخرج من بين السطور، كما لو كانت الكتب تحمل شيئًا أكبر من الكلمات.

في أحد الأيام، بينما كان يقوم بتنظيف رفوف المكتبة، وقع نظره على كتاب قديم جدًا. كان هذا الكتاب مختلفًا عن بقية الكتب الأخرى؛ كان غلافه متآكلًا وعليه طبقة من الغبار الكثيف، وكأن الزمن قد سلبه لونه تمامًا. بدافع الفضول، فتح سامي الكتاب. لكن ما إن بدأ في قراءة السطور الأولى حتى شعر بشيء غريب. الكلمات التي كانت مكتوبة في الكتاب بدت وكأنها تتنقل بين الحروف، تتنفس، وتشكّل صورًا ومشاهد حية في ذهنه.

بينما كان يقرأ، بدأ يلاحظ شيئًا غريبًا. بدأ الكتاب يظهر له كما لو أنه يعكس صورًا من حياته، لكنها كانت صورًا غير واضحة. لم يكن هذا الكتاب مجرد سرد بسيط؛ كان كأنه يحمل جزءًا من عقله هو. الكلمات تتغير مع كل مرة يعيد فيها القراءة، وفي كل مرة تنكشف له صورة جديدة عن نفسه وعن العالم من حوله.

"أنت لا تعيش في الزمن الذي تعتقد أنك فيه. أنت تسير في ممرات لا يمكن للآخرين رؤيتها."

كان هذا ما قرأه في الصفحة الأولى. وكأن الكتاب كان يخاطبه مباشرة. ثم استمر الكتاب في سرد تفاصيل لا يذكرها، عن أيامه التي مضت، وعن قراراته التي اتخذها، وعن اللحظات التي قرر فيها الصمت والانعزال. كانت الكلمات تتلاشى وتظهر من جديد، كما لو كانت تسرد قصة حياة مجهولة له.

وفي لحظة من اللحظات، لم يستطع سامي تحمّل الفضول الذي اجتاحه. أخذ الكتاب بين يديه وأغلقه بعنف. لكن ما حدث بعد ذلك كان أكثر غرابة مما توقعه. فجأة، شعر بأن الهواء أصبح كثيفًا، وكأن شيئًا غير مرئي يلتف حوله. بدأ المكان من حوله ينهار. كان هناك صوت همسات، غير مفهومة، تملأ الأجواء. وكأن المكان بدأ يتحول إلى شيء آخر.

أغمض عينيه للحظة، وعندما فتحها، وجد نفسه في مكان آخر. كان جالسًا في غرفة مظلمة تماما، لا يعرف كيف وصل إليها. كان الضوء الوحيد ينبعث من مرآة كبيرة أمامه. كانت هذه المرآة غريبة جدًا، عكسًا لأي مرآة رأها من قبل. لم تعكس شكله كما يفترض، بل أظهرت صورًا من الماضي والحاضر والمستقبل. كلما اقترب منها، كانت المرآة تظهر له مشاهد عميقة عن الأشخاص الذين مروا في حياته، مشاهد تتراوح بين الفرح والحزن، بين الهزائم والانتصارات.

لكن الغريب كان في تلك الصور التي لم يكن يتذكرها أبدًا. صور لأشخاص لا يعرفهم، أماكن لم يزرها، وأحداث لم يعشها. كانت المرآة تعرض له تداخلًا غريبًا بين عوالم متوازية، عوالم لا يمكنه تفسيرها.

قال له صوت هادئ يأتي من داخل المرآة: "كل شيء في حياتك ليس كما تراه. المرايا لا تعكس فقط الأجسام، بل تعكس العقول."

فزع سامي، ولكنه لم يستطيع تحريك جسده. كان كأن المرآة قد تملكت كل شيء حوله، كأنها لا تسمح له بالهروب. بدأ يدرك شيئًا أعمق. كل تلك الصور في المرآة لم تكن سوى مرآة لعقله الباطن. كانت تجسد جميع جوانب نفسه التي تجاهلها طوال حياته. كانت المشاهد تعكس هويته الحقيقية، التي كانت مخفية وراء طبقات من الأوهام والتوقعات.

ثم، وفي لحظة من السكون المريب، بدأت الصورة تتغير. المرآة أظهرت له مشهداً مأساويًا: صورة مشوهة لنفسه وهو يهرب من شيء ما، يركض في الظلام دون أن يعرف إلى أين. شعر بحنين غريب لهذا المجهول، وكأن الهروب كان جزءًا من نفسه المفقودة.

وقال الصوت مرة أخرى: "هل تعرف أن الهروب هو ما يجعلك تدور في دوائر؟ لا يمكنك الهروب من نفسك."

ثم، وكأنما أرادت المرآة أن تعطيه لحظة من الحقيقة، بدأ الضوء يسطع فجأة في الغرفة، وبدأت الصورة تظهر واضحة أمامه. كانت صورة سامي وهو يواجه نفسه، يواجه الحقيقة التي كان يتجنبها طوال حياته: أنه لا يمكنه الهروب من ماضيه، ولا من هويته.

كان الصوت يتلاشى شيئًا فشيئًا، بينما بدأت الغرفة تهتز، وبدأت المرآة تتلاشى أمامه. وعندما اختفت تمامًا، وجد سامي نفسه في مكانه الأول، في مكتبة ديلون، كما لو لم يحدث شيء. لكن الكتاب القديم كان قد اختفى تمامًا.

عاد سامي إلى مكانه، وكان يشعر بشيء غريب داخله. كان وكأن كل شيء حوله قد تغير بشكل غير مرئي. لم يعد بإمكانه رؤية العالم كما كان. كل شيء أصبح ذا مغزى عميق، وكل خطوة كان يخطوها تبدو وكأنها تعبير عن جزء من نفسه لم يكن يراه من قبل.

أصبحت مكتبة ديلون مكانًا مختلفًا في نظره، وكأن الكتب والأوراق ليست مجرد أوراق مكتوبة، بل هي مرايا لعقول البشر، تعكس كل شيء عنهم. كان سامي يعلم الآن أن الحياة ليست كما تبدو. كانت مجرد مجموعة من المرايا، وكل مرآة تعكس جزءًا من الحقيقة التي لا يمكن لأي شخص أن يراها كلها.

في النهاية، فهم سامي أن الأسئلة التي طالما طرحها لم تكن بحاجة لإجابات، بل كانت بحاجة إلى أن يُنظر إليها من زاوية مختلفة. فهم أن الرحلة ليست في البحث عن الإجابات، بل في معرفة كيف يرى المرء نفسه في مرايا الحياة.

وكانت المرايا تظل تعكس صورة سامي، لكن هذه المرة، كانت الصورة أوضح من أي وقت مضى.



(20)
شجرة الذاكرة

في قلب بلدة صغيرة مهجورة، بين التلال التي تئن تحت وطأة الرياح المتقلبة، كانت هناك شجرة ضخمة قديمة، عميقة الجذور، ملتوية الأغصان. كانت شجرة ضخمة رغم أنها كانت تقبع في عزلة غريبة، بعيدة عن أي محيط بشري. لم تكن تلك الشجرة مجرد شجرة عادية في عيون أهالي البلدة. كانت تُعد المكان الوحيد الذي تقف فيه الحياة ضد الزمن. كانت تُسمى "شجرة الذاكرة"، ولم تكن تعرف سببًا لذلك الاسم إلا أنها كانت تحمل شيئًا غريبًا في لحظاتها الصامتة.

لم يكن هناك من يجرؤ على الاقتراب من الشجرة. لقد كانت مرعبة في عيون الأطفال، غامضة في عيون الكبار، وكان بعضهم يزعم أنها كانت تعرف كل شيء عن الماضي. قصص كثيرة سمعوها عن تلك الشجرة. من قال إنها تحتوي على أسرار المدينة بأكملها، ومن قال إنها تمتص ذكريات الناس الذين مروا عبرها. لكن الحقيقة كانت أبعد من كل هذه القصص. لا أحد كان يعرف سر الشجرة، ولا كان أحد يحاول أن يعرف. ولكن ذلك تغير حين جاء "غسان".

غسان كان شابًا في أوائل العشرينات، عاش في المدينة التي تُعتبر "المدينة النائمة"، مدينة تعيش في الخفاء، لا يعرفها أحد. لكن غسان كان يعتقد أن هناك شيئًا مفقودًا في نفسه، شيئًا يعجز عن تحديده أو تسميته. لم يكن غسان يراها فقط كمدينة نائمة، بل كمدينة ملونة تتناثر تفاصيلها في الذاكرة بشكل غير واضح، وكأن كل شيء فيها كان ضبابيًا أو غارقًا في التكرار الذي لا نهاية له. منذ أن أدرك هذا الإحساس الغريب، قرر أن يبدأ في البحث عن شيء جديد في حياته، لا يعرف ماذا بالضبط، لكنه كان يعتقد أنه في مكانٍ ما داخل هذه المدينة يجب أن تكون هناك إجابة. كان يعرف أنه بحاجة لمعرفة شيء يربط حياته، كأن هناك خيطًا ضائعًا في الزمان والمكان.

في يومٍ عادي، بينما كان غسان يتجول في أطراف المدينة، تجنب الشوارع الضيقة التي اعتاد أن يسلكها، ليجد نفسه أمام تلك الشجرة العتيقة. كان يبدو أن الغابة التي تقع فيها الشجرة تأخذ شكلًا متشابكًا مع الزمن، فالأشجار تتلاصق بعضها البعض كما لو كانت تحاول إخفاء شيء، شيء يصعب ملاحظته. ولكن تلك الشجرة كانت مختلفة. كانت تحيط بها هالة من السكون، وكأنها تراقب العالم دون أن تتدخل فيه.

اقترب غسان بحذر منها. على الرغم من خوفه الغامض من أن تلتهمه الشجرة، كان شعور آخر يدفعه نحوها، شعور وكأن الشجرة كانت تناديه. اقترب أكثر وأكثر حتى أصبح بالقرب من جذعها الكبير الذي كان مغطى بلحاء رمادي قديم، وكان في أسفله نقوش غريبة. كانت النقوش تتخذ شكل خيوط متشابكة ومربوطة مع بعضها البعض، وكأنها خريطة معقدة لا يمكن فك رموزها.

وقف غسان أمام الشجرة، يتنفس ببطء، محاولًا أن يفهم سرها، ثم قرر أن يلمسها. عندما وضع يده على اللحاء البارد، شعر بشيء غير طبيعي. شعور غريب اجتاحه، كما لو كانت تلك اللمسة فتحت بابًا إلى عالم آخر. ارتجف، شعر وكأن شيئًا ما قد بدأ يتحرك في داخله، شيئًا ظل خامدًا لسنوات.

فجأة، تغلفه ظلمة قاتمة، وكأن الزمن نفسه قد توقف، وتظهر أمامه صور من ماضيه. صور حياته كلها، وكأنها تنبعث من الجذع نفسه، تعود به إلى لحظات من الزمن فقدها، ذكريات لم يستطع التخلص منها أو حتى أن يتذكرها. شعر بافكاره تتراكم، والذكريات تبدأ في الحضور بشكل مفاجئ.

كانت تلك اللحظات المفقودة مليئة بالألم، بالسعادة التي لم يذق طعمها حقًا، بالفقد، بالحب، بالصراعات التي تخللت حياته، بالصمت الذي كان يغطي كل شيء. مع كل صورة من ماضيه، كانت الشجرة تفتح أمامه بوابة جديدة، لم يكن يعرف من قبل أنها كانت موجودة. كان غسان يمر بحالة من التشتت الذهني. شعور غريب يجتاحه وكأن المكان يتحول إلى رماد. كانت الذاكرة تطفو على السطح وكأنها تخرج من تربة قديمة، وتعود إليه بكل تفاصيلها الدقيقة، ومن ثم تكتشف حقائق لم يكن قد شعر بها من قبل.

بينما كان يتأمل في الذكريات التي أعادته إلى تلك اللحظات الماضية، رأى شيئًا غريبًا في مكانه. كانت ذكرى لم يتخيلها أبدًا، صورة لامرأة كانت قريبة منه في الماضي البعيد، كانت ابتسامتها مغلقة عليه، وكأنها تحمل له سرًا لم يفهمه حينها. كان يعرف تلك المرأة، لكنه لم يكن يدرك أهميتها أو مكانتها في حياته. كانت تمثل جزءًا من الأشياء التي دُفنت في عمق نفسه، شيئًا لم يجرؤ على التعامل معه.

ولكن ما إن نظر إليها مرة أخرى، بدأ يلاحظ شيئًا غير طبيعي. في الصورة كانت هذه المرأة تبتسم له بلطف، ولكن العينين كانتا فارغتين، كأنهما لا تحملان أي حياة. وفي لحظة غريبة، بدأت الصورة تختفي تدريجيًا. وكلما حاول غسان العودة إلى تلك الصورة، كلما ابتعدت عنه أكثر. في النهاية، اختفت تمامًا.

كان غسان يقف هناك، والرياح تعصف حوله، لكنه أدرك شيئًا هامًا: كانت الشجرة ليست فقط مكانًا للذكريات، بل كانت تحكم العقل البشري، تخلق واقعًا ليس حقيقيًا، بل هو مرآة مكسورة لتجارب الإنسان.

بينما كانت الشجرة تحيطه بظلام عميق، بدأ يفهم شيئًا عميقًا. لم تكن تلك الشجرة مجرد مكان يُخزّن فيه الماضي، بل كانت مكانًا تُصنع فيه الذاكرة. الذاكرة نفسها كانت خيالية، قابلة للتشويه والإخفاء.

وبينما كان يغادر المكان، كان يشعر أن شيئًا غريبًا قد حدث. لم يعرف إن كانت تلك الذاكرة التي فقدها حقيقة أم أنها جزء من شيء آخر، شيء كان قد تغافل عنه لفترة طويلة. وعندما ابتعد عن الشجرة، نظر إليها للمرة الأخيرة، فشاهد كيف تذبذب أغصانها في الرياح، وكأنها تحاول أن تخبره شيئًا آخر، شيئًا لا يستطيع أن يقرأه.

في النهاية، ترك غسان البلدة، ولكن كلما ابتعد، أصبح سر الشجرة أكثر وضوحًا في ذهنه: أن الذاكرة ليست مجرد صور ثابتة، بل هي كائن حي يتنفس، يتحرك، ويتغير مع كل لحظة نعيشها.



‏(21)‎
الظلّ

‏‎في قريةٍ صغيرة تقع على ضفاف النهر، عاش أخوان، سعد وليلى. سعد كان الأكبر، شاباً يافعاً هادئاً، عيناه تسبحان في بحرٍ من التأمل العميق. أما ليلى، فقد كانت مثل نسمة صباحٍ في ربيعٍ هادئ؛ تملأ البيت حيوية وتعلق الزهور في شعرها الأسود الطويل.
‏‎كبر الأخوان معاً، يلعبان ويضحكان على ضفاف النهر، غير أن شيئاً غامضاً بدأ يتسرب بينهما ببطء. لقد بدأ سعد يشعر بثقلٍ لا يفسره، كأن ظلاً ثقيلاً يثبّته في مكانه، بينما ليلى تسير خفيفة، كأنها طائرٌ لا يعرف معنى القيود. كان ينظر إليها وهي تركض نحو النهر تضحك، فيشعر بشيءٍ يكاد يخنقه.
‏‎في أحد الأيام، بينما كانا يجلسان على ضفة النهر، نظرت ليلى إلى سعد وسألته بابتسامة: "لماذا لا تضحك يا سعد؟" ردّ وهو يشرد بعيدًا: "لا أدري، ربما نسيت كيف أفعل."
‏‎ثم بصوتٍ خافت، بالكاد يسمعه، قال: "أشعر وكأنك تأخذين كل ضوء العالم وتتركين لي الظلام."
‏‎نظرت ليلى إليه بدهشة، ولم تفهم كلماته.
‏‎في تلك الليلة، وبينما كانت ليلى تغط في نومٍ عميق، قرر سعد أن يذهب للنهر وحده. جلس على ضفافه، وراح يحدق في الماء، يسائل نفسه، محاولًا فهم الثقل الذي يشعر به. وفجأة، رأى انعكاس وجهه في الماء يتلاشى ليحلّ محله ظلٌّ كثيف، يغمره ويغوص عميقًا في الماء.
‏‎في اليوم التالي، استيقظت ليلى ولم تجد سعد. بحثت عنه في كل مكان، ثم هرعت إلى النهر، قلبها يرتجف، كأنها تشعر بشيءٍ مروع. هناك، رأت أثراً لقدميه يقود إلى النهر ويتوقف على ضفافه.
‏‎مضت الأيام، واستمر أهل القرية في ترديد الحكايات عن "ظلّ سعد"، الذي يُرى أحيانًا يطفو فوق الماء ليلاً، ويقترب من النهر قبل أن يتلاشى في الهواء.
‏‎أما ليلى، فلم تتحدث عن سعد بعد ذلك أبدًا. لكنها لم تتوقف عن زيارة النهر كل مساء، تحدق في الماء، وكأنها تبحث عن ظلّه، وتنتظر شيئاً لا تعرف ماهيته.
‏‎وفي ليلةٍ مقمرة، وقفت ليلى قرب النهر، شعرت بشيء يلامس كتفها برفق. التفتت ولم تجد أحداً، لكنها شعرت وكأن ظلاً دافئاً يعانقها، وابتسامة خفية ترتسم على شفتيها.
‏‎ومع الوقت، بدأ سكان القرية يلاحظون أن ليلى لم تعد تركض ضاحكة كما كانت. أصبح نورها خافتًا، كأنها تخفي ظلًّا ما في قلبها.



(22)
‏‎أسطورة "روح الرمال"

‏‎في قديم الزمان، قبل أن تتشكل الصحاري وتتمدّد الرمال عبر الآفاق، كانت الأرض تحتضن أرواحًا خفية، أرواحًا وُلدت من غبار النجوم القديمة وأغصان الأشجار السحرية. كانت هذه الأرواح تسبح في الهواء مثل ضباب ذهبي، وتمتزج بألوان الطبيعة، تنثر الحياة أينما حلّت، وتُضفي على كل شيء جمالًا وغموضًا.
‏‎وكانت هذه الأرواح، المعروفة باسم "روح الرمال"، خالدة ولا تعترف بالزمان أو المكان. كانت تعيش في حالة من التناغم التام مع العالم، تضحك مع ضحك الطيور، وتتمايل مع رياح الجبال، وتحمل أسرار الكون بين ذراتها الخفية. وكان يُقال إنها تجسيد للأحلام الضائعة والأماني المدفونة، وأن من يعرف كيف يتواصل معها يمكن أن يحقق المستحيل.
‏‎مع مرور الوقت، بدأ الإنسان يشق طريقه على هذه الأرض، وبدأ يكتشف أن في أعماق الرمال سحرًا لا مثيل له. كان يرى في الليل نجوم السماء المتلألئة، ويشعر أن هناك همسًا يأتي من تحت قدميه، كأن الأرض نفسها تتحدث إليه بلغة سرية لا يفهمها أحد.
‏‎وذات ليلة، في صحراء بعيدة لا يعرفها سوى القليل، ظهر شابٌ يدعى "نائل"، عاشق للنجوم والمجهول. كان يسير وحده في رمال الصحراء، يبحث عن شيء لا يعرف كنهه، لكنه يشعر بنداء عميق يدفعه للاستمرار. وفي خضم صمته، رأى بين الرمال توهجًا ذهبيًا خافتًا، كأنها شرارة من النور، فنادى: "من أنتِ؟"
‏‎وبدأت الرمال تلتف حوله بلطف، مثل دوامة متراقصة، وانبثقت من قلب الرمال شخصية غامضة، امرأة جميلة بملامح لا تنتمي لهذا العالم، بشعرٍ يتماوج مثل أمواج البحر، وعينين تعكسان سر الكون. قالت له بصوت يشبه أنين الرياح: "أنا روح الرمال، كنتُ هنا قبل أن تولد الأرض، وأحمل في كياني كل القصص المدفونة في ذراتها. لماذا جئت إلى هنا، يا نائل؟"
‏‎قال نائل بصوتٍ مليء بالشوق: "أبحث عن حقيقة الوجود، عن سر الأرواح التي تهمس لي ليلًا، وعن ذلك الشعور الذي يجعلني أرغب في معرفة المزيد. أريد أن أعرف من أين جئنا، وإلى أين نمضي."
‏‎ابتسمت روح الرمال وقالت له: "إذا أردت أن تعرف الحقيقة، عليك أن تختفي في الرمال كما تختفي الشمس في الأفق. ستصبح ذرةً بين ذراتي، وسترى بعينيّ. لكن هذا القرار لا عودة منه، يا نائل، فهل أنت مستعدٌ لترك حياتك هنا والانطلاق في عالم اللازمن؟"
‏‎بلا تردد، أغمض نائل عينيه، وترك نفسه يغوص في حضن الرمال، فشعر بنسيمٍ بارد يُغمر كيانه، وكأنه يتحلل إلى أجزاء صغيرة، يتمايل مع رياح الأرض، ويصبح جزءًا من روح الرمال. وعندما فتح عينيه، لم يعد إنسانًا كما كان، بل أصبح روحًا ضائعة بين ذرات الرمال، يرى الوجود كله في مشهدٍ واحد، يحيط به من كل جهة.
‏‎ومضت آلاف السنين، وأصبحت روح نائل تسافر عبر العصور، ترى الأمم تزدهر وتسقط، والبحار تتكون وتبيد، والكواكب تسافر عبر الكون. لكنه احتفظ بشيءٍ من إنسانيته، ذلك الشوق الأبدي للمعرفة.
‏‎ومع مرور الزمن، بدأ يُدرك أن جميع البشر الذين يطأون الرمال قد يشعرون بوجوده، كهمسة لطيفة أو دفء غريب تحت أقدامهم. صار يقترب من أرواح الرحالة، يروي لهم قصص العالم، ويهديهم الأحلام العميقة، ويعيد إلى قلوبهم الأمل.
‏‎وتحولت أسطورة نائل إلى حكاية يتناقلها الناس عبر الأجيال، يُقال إن الرمال ليست مجرد ذرات ميتة، بل هي روح حية تحمل بين ذراتها قصص الكون، وإن من يغامر ويترك قلبه مفتوحًا قد يسمع تلك الهمسات، وقد يرى عوالم خفية لا تُرى بالعين.
‏‎وبقيت روح الرمال، تُحيي الأرض وتراقب العالم بصمت، تُحرك رمال الصحاري وتنثر الحكايات في أرجاء الأرض، لتبقى سرًا خالدًا، لا يعرفه إلا من يؤمن بجمال العالم وعمق وجوده.



(23)
‏‎مرآة السراب

‏‎كان يا ما كان، في قديم الزمان، في بادية بعيدة يعيش شيخ قبيلة يُدعى "سالم"، وكان لسالم ابنة تُدعى "ليلى"، تفوق بجمالها الزهراء وسحر عينيها البدر في تمامه. ولكن ما كان يُميّز ليلى عن جميع بنات القبيلة ليس جمالها، بل قُدرتها الغريبة على رؤية عوالم لم تكن مرئية لغيرها.
‏‎منذ صغرها، كانت ترى أشباحاً وظلالاً، تروي لها قصصاً من زمنٍ آخر، عن أرواحٍ رحلت ولم تجد طريقها للسكينة، عن حكاياتٍ تتوارثها الأجيال. ومع مرور الوقت، أصبحت ليلى تصدق أنها تنتمي إلى مكانٍ أبعد من الخيام والأودية، وكأن هناك نداءً من عالمٍ آخر يطاردها ليلاً ونهاراً.
‏‎وذات ليلة قمراء، ظهرت في حلمها امرأة عجوزٌ غريبة، وجهها مغلف بأوشحة الحزن والغموض. قالت لها بصوتٍ كأنه الريح: "يا ليلى، أنتِ ابنة النبوءة، وقد كُتب عليكِ أن تختاري بين عالمكِ وعالمٍ آخر."
‏‎استيقظت ليلى من الحلم مذعورةً، وقد استقرت كلمات المرأة العجوز في أعماق قلبها كالحجارة الثقيلة. بدأت تميل للانعزال عن الجميع، تغوص في أحلامها، تتمنى لو تستطيع أن تجد طريقاً لذلك العالم المجهول. ولكن والدها، الذي شعر بتبدل حال ابنته، ازداد قلقاً وقرر أن يأخذها في رحلة عبر الصحراء، عساه يُثنيها عن أفكارها الغريبة.
‏‎وفي يومٍ، أثناء ترحالهم عبر الجبال والرمال، وصلوا إلى وادٍ سحيق يسمى "وادي السراب"، تلتف حوله قصص الرعب والغموض. كان الناس يعتقدون أن من يدخل الوادي قد لا يعود منه أبداً. لكن ليلى شعرت بشيءٍ غريب يشدها إليه، كأن هناك قوة لا تُقاوم تدعوها للداخل.
‏‎أصرت على الدخول، وأمام إصرارها، وافق والدها الشيخ، ودخل معها إلى ذلك الوادي العميق. هناك، بين صخور سوداء ورمال تتراقص كأنها أشباح، وجدوا مرآة قديمة عجيبة، لم يروا مثلها من قبل. كانت تعكس مناظر غريبة، أفقاً آخر لا يشبه أرضهم.
‏‎فجأة، ظهرت أمامهم المرأة العجوز من حلم ليلى، وقالت بصوتٍ رخيم: "القرار الآن بين يديكِ، يا ليلى. هذه المرآة هي بابُ عالمكِ الموعود، ستُحققين فيه كل ما تتمنينه، لكنكِ إن دخلتِ فلن تعودي إلى قبيلتكِ وأهلكِ."
‏‎حدّقت ليلى في المرآة، فرأت نفسها في لباس ملكي، في قصرٍ رائع، وبين يديها أقدار لا تُحصى، وجمال عالمٍ غير محدود. ثم التفتت لتنظر إلى والدها، شيخ القبيلة، رأت في عينيه مزيجاً من الخوف والرجاء، وكأنها إذا رحلت ستترك فراغاً لا يُسد.
‏‎لكن شيئاً عجيباً وقع. همست ليلى لنفسها قائلة: "وإذا كانت الحياة كلها سراب؟ ماذا لو كان العالم الآخر هذا هو الحقيقة؟". بقرارٍ مفاجئ، أخذت ليلى يد والدها بقوة، وأغمضت عينيه وقالت: "تعال معي، لندخل معًا. ربما هذا الوادي يُخبئ حقيقة لم نفهمها بعد."
‏‎ابتسم الشيخ بصمت غريب، وكأنما يعلم شيئًا لم تخبره ليلى. قال لها: "حسناً يا ابنتي، لنذهب سوياً إلى ما وراء السراب."
‏‎وبخطى ثابتة، اقتربا من المرآة. وفي لحظة خاطفة، عبرا الحاجز ودخلا عالم المرآة، حيث غابا بين أمواج ضبابية تتماوج بألوان بديعة.
‏‎لم يعد أحد يعرف عنهما شيئاً بعدها. بعضهم قال إنه السراب ابتلعهم، وآخرون قالوا إنهما وجدا الحقيقة في العالم الآخر، في حياة لم يطلّع عليها أحد. أما القبيلة، فقد احتفظت بذكراهما كسرٍ يروى من جيل لجيل، وكأنما وادي السراب بات يحمل قصتهما الأبدية.
‏‎وهكذا بقيت تلك الحكاية تُحكى، حكاية مرآة سرابٍ لا تُريك سوى الحقيقة المخفية، حقيقة عجيبة لا يدركها إلا من يؤمن بالمجهول.



(24)
‏‎رهان الظلال

‏‎كان عاصم شاباً في الثلاثينات من عمره، يعمل ليلاً ككاتب يكتب لمنشورات صحفية عابرة، ويقضي نهاره محاولاً كتابة قصة عظيمة تتجاوز حدود حياته البسيطة. كل ليلة، كانت تلازمه فكرة واحدة: أن يكتب شيئاً خالداً، قصة تأسره وتُبقيه في ذاكرة الناس حتى بعد رحيله.
‏‎ذات مساء، بينما كان يسير وحيداً في زقاق ضيق مظلم، توقفت إلى جانبه سيارة سوداء، ليخرج منها رجل غريب يرتدي معطفاً طويلاً ونظارات تعكس ضوء الشارع. كان مظهره غريباً، يجمع بين المألوف والغريب، بين الحقيقة والوهم.
‏‎اقترب منه الرجل، وقال بصوت هادئ يشوبه الغموض: "أسمع أنك تريد أن تكتب قصة عظيمة."
‏‎شعر عاصم بأن قلبه يقفز في صدره. "كيف تعرف؟" سأل بصوت مضطرب.
‏‎ابتسم الرجل ابتسامة غير واضحة المعالم، ثم أجاب: "لأنني هنا لأعقد معك اتفاقاً."
‏‎تردد عاصم قليلاً، لكنه في النهاية سأل: "أي نوع من الاتفاق؟"
‏‎قال الرجل وهو ينظر بعينيه المخفية خلف النظارات: "سأعطيك عاماً لتكتب قصة تستحق الخلود. إذا كتبتها، سأحقق لك شهرة عظيمة لا تُمحى. ولكن... إن فشلت، ستظل عالقاً في ظلال النسيان إلى الأبد."
‏‎أحسّ عاصم برعشة خفيفة، ولكن الشغف الطاغي دفعه للقبول. لم يكد الرجل يغادر حتى بدأت الأفكار تتزاحم في ذهنه. وشيئاً فشيئاً، انجذب إلى دوامة من الكتابة المكثفة، الأيام تتلاحق كأنها ساعات، والعالم من حوله بدأ يتلاشى. كانت حياته تتقلص لتصبح مجرد سلسلة من القصص التي يكتبها، يجرب فيها كل العوالم والشخصيات، يُسقط روحه على الورق حتى كاد يفقد ذاته.
‏‎مضت الشهور ببطء، وكل قصة يكتبها كانت تبدو ناقصة، كأن هناك شيئاً خفياً ينقصها.
‏‎قبل ليلة من انتهاء العام، جلس عاصم على مكتبه، محاطاً بالورق، يعصف به شعور بالإحباط والهزيمة. وبينما هو غارق في تفكيره، سمع دقات على الباب. فتح الباب، ووجد الرجل الغريب واقفاً هناك، يراقبه بصمت. دون كلمة، دخل الرجل وراح يتصفح القصص التي كتبها عاصم خلال العام.
‏‎وقف عاصم بصمت وهو يراقب الرجل، تملؤه مشاعر من الخوف والانتظار. انتهى الرجل من القراءة، والتفت إليه قائلاً: "قصصك جميلة، لكنها ليست خالدة."
‏‎صُدم عاصم وسأله: "لماذا؟! ماذا ينقصها؟"
‏‎رد الرجل بصوتٍ عميق: "إنها تعبر عن الخوف، الخوف من الفشل، من النسيان. أنت لم تكتب بروح حقيقية، بل بروح مهووسة بالمجد، والهوس لا يُنتج خلوداً."
‏‎فجأة، أدرك عاصم شيئاً، لكنه لم يكن واعياً تماماً لماهية هذا الإدراك. جلس بصمت، وحدق في القصص المتناثرة حوله، كأنها أشباح غير مكتملة. شعر أن الحروف تخونه، كأن قصته الحقيقية لم تبدأ بعد.
‏‎وفي اللحظة التي همّ الرجل فيها بالمغادرة، لم يكن هناك اتفاق ينتهي، ولم يكن هناك انتصار أو هزيمة. فقط بقايا أحلام لم تتحقق، وغموض لا إجابة له.



(25)
‏‎صفعة من الماضي

‏‎كان يوماً قائظاً، والشمس تتسلل من نوافذ المدرسة كأنها تراقب بهدوء كامن كل شيء، تراقبني أنا خاصةً، وتراقب أستاذ البيولوجيا وهو يمشي بين مقاعدنا بخطوات ثابتة، مغلقةً عليّ باب التردد. كنت في الصف العاشر حينها، طالباً تغمره رغبةٌ في المعرفة وفضولٌ بلا نهاية. في ذلك اليوم، حملت أسئلتي وشكوكي التي راودتني بعد الامتحان، ووقفت أمام الأستاذ عسى أن أجد جواباً يغذي هذا العطش.
‏‎اقتربت منه بأدب، طلبت مساعدته، وبسطت أمامه تلك الأسئلة العالقة كمن ينثر أمانيه على باب خيباته، لكنه قابلني بنظرة باردة، قاسية، أشعرتني بأنني أطلب شيئاً بعيداً عن متناول إنسانيتي. وقبل أن أستوعب ما يحصل، رأيت يده تمتد، عابرةً الهواء كالسوط، لتنزل صفعةً على وجهي. شعرت بصدمةٍ تهز كياني، وشاهدت نفسي أسقط على الأرض أمام أعين زملائي الذين لم يجرؤوا على التدخل.
‏‎كانت تلك الصفعة كجرحٍ لا يُرى، لكنها حفرَت عميقاً في روحي، وأخذت معها شيئاً من نقائي وثقتي. ولم أكن أعلم حينها أن هذه الضربة لن تبقى في ذلك اليوم فقط، بل ستمتد كظلّ ثقيل يرافقني في كل خطوة لاحقة من حياتي.
‏‎مضت السنوات، ومع كل عثرةٍ أو جرحٍ كان يعود ذلك الشعور الغريب. أتعثر في الدنيا، وأفقد شيئاً في كل مرة، ليعودني شعور أن جسدي لا يزال يحمل ندوب تلك الصفعة، وكأن روحي لم تعد تشعر بالأمان منذ ذلك اليوم. حتى الأمراض التي أصابتني لاحقاً، الجسدية منها والنفسية، كانت كأنها نابعة من ذلك الجرح العميق، من أيامٍ وأحداث تشبهها، حيث كنت أتعرض للأذى وأبقى صامتاً. نعم، هكذا كان سيقول لي الطبيب لو أعددنا معاً بروفايلاً نفسياً لرحلتي مع الألم: "كل هذه الأوجاع هي خيوط متشابكة، تمتد من تلك اللحظة، حين وقع الصمت بينك وبين صفعة لم تنسها، ومن كل لحظة بعدها حيث كان الآخرون يؤذونك وأنت تخفي جرحك بلا رد."
‏‎وفي لحظةٍ من حياتي، حين بلغتُ من العمر ما يكفي للتأمل في الماضي بشجاعة، قررت أن أكتب رسالة إلى ذلك الأستاذ. لم تكن رسالة عتاب، بل كانت رسالة تساؤل وبحث عن فهم. كتبت فيها: "أيها الأستاذ، هل تتذكر ذلك اليوم؟ هل خطر لك يوماً أن الصفعة التي وجهتها لي لم تكن مجرد فعل عابر؟ هل تذكر وجهي المصدوم؟ ذلك الوجه الذي لم ينسك يوماً، لأنه حمل معه ندوب تلك اللحظة إلى الأبد؟"
‏‎لكنني حين انتهيت من كتابة الرسالة، شعرت كأنني وضعت جزءاً من ثقل الماضي جانباً. طويت الورقة ببطء، ووضعتها في صندوق خشبي قديم حيث أسكنُ فيها الذكريات المنسية. وفي تلك اللحظة أدركت أنني لست بحاجة لإرسال الرسالة، فقد كان الحديث الذي دار بيني وبين نفسي هو الرسالة الأعمق. رأيتُ حينها في المرآة ذلك الشاب الذي سقط أرضاً، لكنه هذه المرة لم يكن ضعيفاً أو منهزماً، بل كان يقف شامخاً رغم كل شيء.
‏‎قد تكون الصفعة قد تركت ندوباً عميقةً في كياني، وقد لا تغادرني آثارها أبداً، لكنها لم تعد تأسرني. لقد أخذت منها درسي، وقررت المضي قدماً، تاركاً الماضي حيث ينتمي، ومُعترفاً أنني أقوى بكثير مما كنت أتصور. فقد أدركت أن الغصة الحقيقية لم تأتِ من الضربة ذاتها، بل من تساؤلي الذي لن يجد إجابة: "لماذا ضربتني؟


شفاعمرو
بين عامي 2023 و 2024



#خالد_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مجموعة قصائد: تجليات في مرآة الغياب
- صفعة من الماضي
- أنشودةُ الرملِ والندى
- رماد الطفولة في خيام اللهب
- الظلّ
- مقام الذكرى
- ‎قصة: -رهان الظلال-
- عندئذ…
- إيماءات
- مزيج غامض
- هو أنت…
- طيف السراب
- مسارات أزلية خارج الزمن ( رواية مكثفة )
- العلم والدين: تكامل ديناميكي - ونقد لأعداء الروحانية برؤية ح ...
- جرعات بنكهة السخرية
- في قيد الزمان
- ظلال الخيانة-سردية فلسطينية
- هوى بحري
- اغنيات لا تكتب في النهار
- أنشودة فلسطين الخالدة


المزيد.....




- مصر.. الشاب المصفوع من قبل عمرو دياب يعلق على قرار إحالة -ال ...
- مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 26 مترجمة بجودة hd قصة عشق
- -نيويورك بوست-: تأجيل إصدار الحكم بحق ترامب في تهم صمت الممث ...
- مصر.. إحالة الفنان عمرو دياب إلى المحاكمة العاجلة
- الروائي الفائز بكتارا يوسف حسين: الكتابة تصف ما لا تكشفه الص ...
- الموسيقى تواجه أصوات الحرب في غزة
- بسبب المرسوم 54.. عمران: رقابة السلطة تكبل الكاريكاتير في تو ...
- أشبه بالأفلام.. هروب 43 قردًا من منشأة أبحاث والشرطة تحاول ا ...
- 50 دولة تشارك في المهرجان السينمائي الطلابي الدولي الـ44 في ...
- فرح قاسم: فيلم -نحن في الداخل- وثائقي شخصي عن الحب والوداع ب ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد خليل - مجموعة قصصية بعنوان ظلال الذاكرة