|
مأزق المشروع الحضاري العربي
فهد المضحكي
الحوار المتمدن-العدد: 8156 - 2024 / 11 / 9 - 11:58
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ما زال المشروع الحضاري العربي يشغل أذهان الكُتّاب والمفكرين في العالم العربي. فما هو مصير هذا المشروع بمختلف نسخه وأطواره؟
في كتابه «الأختام الأصولية والشعائر التقدمية (مصائر المشروع الثقافي العربي)» الصادر قبل عقدين من الزمن عن المركز الثقافي العربي، ناقش المفكر والفيلسوف اللبناني علي حرب هذا السؤال موضحًا معوقات التجديد والإبداع التي أدت إلى مأزق المشروع الحضاري العربي، بالإضافة إلى ذلك، تحدث عن سياسة الفكر بين القوة والمعرفة، وكيف نفكر.
هذا الكتاب الجامع لمقالات علي حرب، المتفرقة فصولاً والمنتظمة بؤرة وحقولاً هو، كما يوضح الناشر، محاولة لتقديم إجابة مختلفة تنطلق من نقد وعود ومزاعم أصحاب الدعوات الإنسانية، سواء بأشكالها اللاهوتية الخفية وأوهامها الدينية القديمة، أو بأشكالها الناسوتية الصريحة وتهويماتها الأيديولوجية الحديثة. ذلك أن ما نريد إحياؤه والدفاع عنه وهو مصدر الأزمات والنكبات، الأمر الذي يحملنا على أن نضع على مشرحة النقد مرجعيات المعنى وسلم القيم، أشكال العلاقة مع الذات وأنماط السلطة، مباني الفكر ونماذج الثقافة.
بداية يقول حرب: لا يبالغ المرء إذا قال ببساطة ومن دون مقدمات إن تاريخ مشروعنا الحضاري، كما فكر فيه أصحابه وأرادوا له، إنما هو تاريخ من الإخفاقات والأزمات.
هذه هي الحال من تجربة محمد علي باشا في مصر إلى مشاريع المعاصرين، وما بينهما من التجارب والمراحل: مرحلة النهضة والإصلاح، مرحلة الليبرالية والتنوير، عصر الحركات التحررية الثورية.
ووجه الأزمة، كما يراها، أننا لا نستطيع حتى الآن تقديم مساهمات حضارية نحتل بها موقعنا كفاعلين في المشهد الكوني. لم نتمكن من فرض أنفسنا بإنجازاتنا وصنائعنا. ربما يحتاج إلينا الآخرون كموارد وأسواق أو كمواقع إستراتيجية، ولكنهم لا يحتاجون إلينا كمنتجين أو مبدعين، لأننا، لم نحسن أن نتحول من طور الاستهلاك والتلقي إلى طور الإنتاج والبث أو الاستقطاب.
والأزمة شاملة ومركبة، إذ هي تشمل الوعي والفكر والثقافة والمعرفة، كما تشمل الاقتصاد والتنمية، أو السياسة والإدارة، فضلاً عن الاجتماع والوحدة، وهكذا فما زلنا عالة على الغير، على الغرب بشكل خاص، في الأدوات والتقنيات، في السلع والبضائع، في العلوم والمعارف، في الأفكار والفلسفات، في النظم والقواعد، فضلاً عن الحياة المتعلقة بثورة الاتصالات والمعلومات.
وما يدل على وجود أزمة عند حرب هو خطاب المثقفين العاملين في الشأن العام، من حراس القيم أو دعاة الخصوصية وحماية الهوية. وهو يتحدث عن هذه الأزمة يقول، ليتأمل أحدنا في الحديث عن الغزو الثقافي أو في الهجوم المتصاعد على العولمة والتقنية، فإنه يجد في ذلك أبلغ دليل على استحكام الأزمة. ولو رجعنا إلى أصحاب المشاريع أنفسهم، فإننا نجدهم يصفون المحاولات المتتالية بالنهوض والإصلاح أو التقدم والتنمية أو بالتحديث والعقلنة، باستخدام مفردات الفشل والإخفاق أو التعثر والتراجع أو الجمود والمراوحة. المتشائمون منهم يتحدثون عن الكارثة ويخشون علينا من الإنقراض كأمة مبدعة قادرة على خلق مساحتها الخاصة على جغرافية وملاعب القوة.
وفي هذا الحديث ينفي أن يكون متشائمًا أو يائسًا، ولكن ما يراه ثمة نقاط ضوء أو قوة وسط الصورة أو المعركه. هناك من يقاوم لكي يفرض نفسه وينتزع حقه. ولعنا خرقنا السقف بإبداعاتنا في مجالات كالشعر والرواية والرسم والعمارة، وفي ميدان الفكر هناك إنجازات لا يستهان بها، فلو اقتصرنا على العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، نقف على مشاريع وأعمال وقراءات نقدية، حول التراث والثقافة والهوية والعقل والحداثة والنص، تشكّل حصيلة معرفية مهمة، غنية وجديدة، سواء من حيث أسئلتها وقضاياها، أو من حيث حقولها ومداخلها، أو من حيث أدواتها ومناهجها.
ومع ذلك، فالواقع بالنسبة إليه هو دون آمال وطموح. لأن لم يخرج أحد من العرب بفكرة تتحول إلى حدث فكري خارق يخلق مجاله التداولي على ساحة الفكر في العالم. والأحرى القول إن ما يحدث يفاجئنا دومًا ويجعلنا ننتقل من صدمة إلى صدمة. وبرأيه، كانت الصدمة الأولى أن فاجأنا الغرب بتوسعه وتفوقه، فطرحنا على أنفسنا سؤال الهوية: لِمَ يتقدم الغربيون ويتأخر المسلمون؟ بعد صدمة الغرب أتت الصدمة من الشرق بعد أن فاجأتنا اليابان بمعجزتها الاقتصادية، فتجدد سؤال النهوض والتقدم. وها هي ماليزيا، البلد الإسلامي الشرقي، تشعل السؤال في فكرنا، مرة أخرى، بعد أن فاجأت العالم والعرب بمعجزتها التنموية، حيث فشلنا نحن مع كثرة المحاولات وتعدد التجارب. هذا ما جعل واحدًا من أبرز وجوه الثقافة العربية وباختصار يقول معلقًا على ما سبق: وأنا أتأمل في هذه القضية، لا أضع الملامة على الأنظمة السياسية، بل أذهب إلى القول إن المجتمعات العربية لم تنضج بعد من حيث بنيتها وثقافتها، لكي تصبح مؤهلة لممارسة الديمقراطية، بمعنى أنها ما زالت تنتظر أنبياء وزعماء ملهمين لكي يقودوها، أكثر مما هي تحتاج إلى رؤساء ديمقراطيين. ولا استثني المثقف، إذ ليس هو أجدر من سواه بالديمقراطية بالرغم من رفعه للشعار منذ عقود. بالعكس هو جزء من المشكلة ومصدر للأزمة، إذ كما هو دأبه، يحمل مشاريع لا يطيقها، أو يطرح مقولات لا يفقه مدلولاتها، أو يرفع شعارات لا يعرف متطلباتها. كما شهدت تجاربه المتكررة مع الديمقراطية والوحدة والحرية والحقيقة والاشتراكية وبقية السلالة من الشعارات التي ترجمت بأضدادها على أرض الواقع.
ويشير أخيرًا إلى مسألة تفكيك العوائق، إذ يقول إن معالجة الأزمة تختلف باختلاف المنظورات والاختصاصات. فمنهم من يردها إلى الأطماع الاستعمارية والاستيطانية كما يقول القوميون. ومنهم من يفسر الإخفاق بكوننا تخلينا عن ديننا ولا نعتصم بأصولنا أو نقتفي أثر أسلافنا على ما يعلن الإسلاميون. أما الحداثيون فيقولون لنا إن مصدر الأزمة هو كوننا لا نعرف حتى الآن كيف نجتاز المراحل والأطوار التي اجتازتها الحداثة الغربية. وربما يقول لنا الاقتصاديون إن مصدر الأزمة هو كوننا لا نولي الجانب الاقتصادي ما يستحقه من الاهتمام. وأخيرًا لا آخرًا، ثمة من يعزو أسباب التردي والفشل إلى الإستبداد السياسي أو إلى غياب الديمقراطية على ما يقول المثقفون.
قد يكون لكل جواب قِسطه من الحقيقة، ولكن من يشتغل في حقل الفلسفة يطرح أسئلة الفكر بقدر ما يعالج المسائل على صعيدها الفكري بالذات.
وعلى هذا الصعيد يميل إلى أن العلة ليست فقط في الممنوعات والضغوطات التي تمارس على العقول من الخارج، بل تكمن أيضًا وخاصة في الممتنعات من الداخل، أي تتعلق بشكل التفكير ونمطه، أو بمصادرة العقل ومسبقاته، أو بقوالب الفهم وأدواته، أو بنظام المعرفة وآلياته، أو بعادات الذهن وممارساته. باختصار تتعلق الأزمة ببنية الثقافة، كما تتجسد في العقلية الأصولية والنرجسية العقائدية أو في الطوباوية الخُلُقية والتهويمات الإيديولوجية أو في هوامات الهوية وهواجس الخصوصية أو في أطياف الحداثة أو المنازع النخبوية.
وهو بصدد آلحديث عن المشروع النهضوي الحضاري العربي، يقول الكاتب والمؤرخ العراقي سيّار الجَميل - نُشر في جريدة النهار البيروتية في مايو � - إن أي مشروع حضاري للعرب لا يمكن أن يبدأ إلا من خلال إعادة التفكير النقدي على أيدي نخبة جديدة من القادة والمختصين والمفكرين العرب الذين يمكنهم مهما بلغت بهم درجة الاختلاف المعرفي لا السياسي.. طرح محاولات جديدة لوضع حلول علمية للمشكلات المستعصية التي تلم بالدواخل العربية، ومحاولة الخروج من عنق الزجاجة الضيق الذي انحسرت في أعماقها ضغوطات الحياة الصعبة تراكماتها من السلبيات، وخصوصًا إبان العقدين الأخيرين من القرن العشرين، مع الأخذ بنظر الاعتبار حالة المتغيرات الجديدة التي طرأت على العالم كله، وقد نتج عن كل ذلك نسيج معقد من المصاعب والتناقضات الصارخة والتراجعات المخيفة التي لا بد أن يدركها الجيل الجديد ويعي خطورتها، بدل تغيبها في متاهات من التزويرات السياسية والإنشائيات الفضفاضة تحت مسميات شتى.
وهنا يتساءل، هل للعرب القدرة في الاستجابة الحقيقية للتحديات المريرة التي بدءوا يعانون منها؟ وهل سارعوا لتنفيذ خطة معينة في الشراكة الحقيقية من أجل الأجيال القادمة؟ ولعل أهم ما يمكن الشروع به ضمن إطار بناء أي مشروع حضاري عربي هو نقد الذات دون هوادة نقدًا جادًا وأخلاقيًا من دون الاستماع إلى نغمة البعض في تخدير الأوضاع تحت ذريعة «جلد الذات» والإبقاء على ما هو عليه الوضع! تلك «النغمة» التي أشاعها الرومانسيون الحالمون دومًا بالتفاؤل من دون أي حذر للمصير الذي ينتظر أجيالنا القادمة.
#فهد_المضحكي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العرب والفكر النقدي
-
قيم قابلة للتبديل بحسب الحاجة
-
المنهج النقدي عند محمد مندور
-
لماذا لا تزال أوروبا تدور في الفلك الأمريكي؟
-
الكتابة والحرية
-
هل تراجعت الهيمنة الأمريكية؟
-
يوسف سلامة.. فيلسوف العقل والتغيير
-
كتاب «وجهة نظر»
-
الدولة العميقة في الولايات المتحدة
-
المفكّر برهان غليون وحديث عن الطائفية
-
الدولة الفلسطينية والانقسام الأوروبي
-
الأنانية تقتل الليبرالية
-
المفكر الكبير لويس عوض
-
الصراع الروسي الأمريكي أكبر من أوكرانيا
-
حديث عن تغييب العقل وغياب الوعي
-
52 عامًا على اغتيال الأديب غسان كنفاني
-
«لن نصوِّت لك»
-
جرجي زيدان أبرز أركان النهضة العربية
-
«الدولة العربية: بحث في المنشأ والمسار»
-
حركات التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني وخطاب «اللاسامية»
المزيد.....
-
عمرو دياب سيواجه المحكمة في واقعة صفعه لمُعجَب
-
استئناف مرفوض.. تأكيد حكم ابتدائي يقضي بسجن مواطنة روسية أمر
...
-
ماذا يحدث في مرتفعات الجولان؟ تفجيرات لم تقع منذ حرب 1973
-
إسرائيل تفتح معبر مساعدات إلى غزة امتثالا لمهلة أمريكية
-
توقيف فتى بألمانيا بتهمة التخطيط لتنفيذ هجوم بدوافع إسلاموية
...
-
هل تستولي إسرائيل على الضفة الغربية؟
-
الجيش الأوكراني في محنة.. وسائل إعلام غربية تكشف حقيقة الوضع
...
-
حزب الله: قرار الجيش الإسرائيلي الانتقال للمرحلة الثانية من
...
-
السنغال: رئيس الوزراء عثمان سونكو يدعو للانتقام لأنصاره بعد
...
-
42 مليون دولار تعويضا لثلاثة عراقيين عُذّبوا في أبو غريب
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|