|
فيليب ماينلاندر: فيلسوف الخلاص
ياسين عاشور
كاتب
(Yassine Achour)
الحوار المتمدن-العدد: 8155 - 2024 / 11 / 8 - 13:12
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
شنق الفيلسوف الألمانيّ فيليب ماينلاندر (وُلِد فيليب باتز) نفسه ليلة 1 أبريل 1876 مُتّخذًا من أكداس نسخ كتابه حديث النشر مِنصّة أنجز فوقها عمله الخِتاميّ. لم يكن انتحاره حادثًا عرضيًّا ولا نتيجةً لمزاجٍ قاتمٍ عابرٍ أو خيبة طارئة، بل كان عملًا سالف التّدبير ومحكم التخطيط ومقصود الدّلالة ومكين العماد، كان ماينلاندر يرمي إلى جعل موته شهادةً على عبثيّة الحياة، واحتجاجًا على قسوتها، ووصيّة فلسفيّة عمليّة تعضد بنيانه الفلسفيّ النّظريّ المتمثّل في كتاب "فلسفة الخلاص"(1876) الذي صدر قبل أيّام من انتحاره واحتوى رؤية للعالم متكاملة تستغرق شتّى أفانين الفلسفة من ميتافيزيقا وأستطيقا وفيزيقا وإيتيقا وبوليتيقا. وُلد ماينلاندر سنة 1841 في مدينة أوفنباخ أم ماين الألمانيّة لعائلة بورجوازيّة ثريّة، لم يتلقّ تكوينًا فلسفيًّا أكاديميًّا بل كان تكوينه الرّئيس في مجال التّجارة والأعمال، أمّا في مجاليْ الفلسفة والآداب فقد كان ذاتيّ التحصيل، وذلك ما ساهم في بساطة أسلوبه وأصالة فكره، إذْ لم تصبه لوثة الرّطانة الأكاديميّة والتعقيد المتكلّف. اشتغل ماينلاندر لفترة في التّجارة والأنشطة المصرفيّة، كما أشرف لفترة على مصنع والده، لكنّ هذه المهن جميعها لم تناسبه، ذلك أنّه كان شغوفًا بالنّشاط الفكريّ وتاق إلى أن يكرّس بقيّة حياته للفلسفة والأدب، ومن أجل تلك الغاية قام بالاستثمار في المضاربة علّه يكسب ثروة تغنيه عن العمل وتُهيّئ له ظروف التّفكير والتّفلسف، فما كان له إلّا أن قُصم ظهره وخاب مسعاه إثر الأزمة الاقتصاديّة الكبرى وانهيار الأسهم سنة 1873. حقّق بعد ذلك حلمًا قديمًا بأن يصبح جنديّا، وصار فارسًا في الجيش الملكي البروسي، كان من المفترض أن تدوم فترة تجنيده ثلاث سنوات، لكنّه غادر الجيش بعد سنة واحدة لأسباب صحيّة وعائليّة، وانتحر بعد ذلك بستّة أشهر كانت أخصب لحظات عمره وأكثرها إنتاجيّة، اجتمعت في شخصيّته الفذّة عدّة مُفارَقات، فهو ملحدٌ صميمٌ عظّمَ المسيح واعتبره مثالًا أخلاقيًّا، وفردانيٌّ جذريّ أنكر ذاته وعاش زاهدًا، ومتشائمٌ عدميّ ساند الحركات اليساريّة ودافع عن المسحوقين. شرع ماينلاندر في مطالعة كتب الفلسفة مبكّرًا، وكان لقاؤه الفلسفيّ الأوّل سنة 1858 مع الفيلسوف الهولنديّ باروخ سبينوزا (1632-1677) من خلال كتاب "رسالة في اللّاهوت والسّياسة"، يقول ماينلاندر متحدّثًا عن هذه التجربة: «لقد أحدث هذا الكتاب ثورةً داخلي، كما لو أنّ ألف غشاوة رُفعَت عن ناظريَّ، وكأنّ ضباب الصّباح الذي لا يُخترق قد تبدّد، وكأنّي أرى الشّمس تُشرق للمرّة الأولى، كنت في السّابعة عشرة من عمري فقط، وعليَّ أن أشكر مدبّر الأقدار لأنّ رسالة ذلك الرّجل العظيم كانت أوّل كتاب فلسفيّ وُضع بين يديّ». لقد زرعت أطروحات سبينوزا في عقل ماينلاندر بذرة الشكّ الأولى تجاه اللّاهوت التّقليديّ، ودفعته إلى الاعتناء بجوهر المسيحيّة الإيتيقيّ وإلى الإعراض عن كلّ ما عداه من قشورٍ. أمّا لقاؤه الفلسفيّ الثّاني والأهمّ فقد حدث بعد سنتين، حين عثر على كتاب "العالم إرادةً وتمثّلًا" لآرثر شوبنهاور (1788-1860)، كان ذلك «أهمّ يومٍ في حياته»، يقول واصفًا ذلك اليوم المشهود: «ذهبت إلى متجر كتبٍ وأخذت في تقليب بعض الكتب القادمة حديثًا من لايبزيغ. هناك عثرت على "العالم إرادةً وتمثّلًا" لشوبنهاور. لكن من يكون شوبنهاور؟ لم أسمع بهذا الاسم من قبل. تصفّحت العمل فقرأت عن إنكار إرادة الحياة، كما اعترضتني بعض الاقتباسات التي أعرفها، ممّا جعلني أحلم، لقد غفلت عن كلّ ما يحيط بي وانغمست في القراءة، وأخيرًا قلت: -كم ثمن الكتاب؟ - ستّة دوكات. – تفضّل هذا هو المال! – أمسكت بكنزي وهرعت إلى البيت كالمجنون حيث قرأت المجلّد الأوّل بسرعة شديدة ثمّ شرعت في إعادة قراءته، أمضيت اللّيل كلّه في القراءة من دون انقطاع ولم أتوقّف إلّا بمطلع اليوم التّالي، شعرت عندما نهضت بأنّني وُلدت من جديد (...) شعرت أنّ أمرًا ذا أهميّة غير عاديّة قد حدث في حياتي». دأب ماينلاندر بعد ذلك اليوم على قراءة كتابات شوبنهاور التي صارت وِرده اليوميّ، يقول: «أقرأ شوبنهاور مثلما تقرأ روح ورعة الكتاب المقدّس: لتقويّة نفسي». رغم افتتان ماينلاندر بشوبنهاور وفلسفته، فإنّه لم يكن يوافقه في كلّ ما ذهب إليه، بل كانت له وقفات نقديّة مع بعض أفكاره، ذلك أنّه لم يكن يتبنّى المثاليّة الترنسندنتاليّة (Transcendental Idealism) القائلة إنّ العالم الخارجي يقع حصرًا في تمثّلاتنا، وكان يرفض واحديّته (Monism) التي تفترض وجود إرادة كونيّة واحدة تسري في جميع الإرادات الفرديّة، كما لم يكن متّفقًا مع الأطروحة القائلة إنّ معيار الأخلاق كامنٌ في لا ذاتيّة الأفعال، وخالفه أيضًا في أفكاره السّياسيّة ونزعته المحافظة. لكنّه كان يوافقه في مبدأيْن رئيسيْن: أوّلا، أنّ إرادة الحياة هي الشيء-في-ذاته، أي أنّها تمثّل الجوهر الباطن (النومينون) الذي يكمن وراء عالم الظواهر (الفينومينون). ثانيًّا، أنّ كنه الحياة معاناةٌ، لأنّه إذا ما قدّرْنَا اللّذّات والآلام التي تصيب أيّ إنسان طوال حياته، فإنّنا سنلحظ طغيان الألم، وعليه فإنّ العدم أفضل من الكينونة. بسط ماينلاندر فلسفته في كتاب "فلسفة الخلاص"، قد يوحي عنوانه بأنّه كتاب في الوعظ الدّينيّ أو في اللّاهوت التّقليديّ، ذلك أنّ للفظة الخلاص دلالة تتعلّق بالمسيحيّة خاصّةً. لكنّ الكتاب أبعد ما يكون عن الأغراض اللّاهوتيّة المتعالية، بل هو سِفرٌ علمانيّ صميمٌ، أراد له ماينلاندر أن يكون إنجيلًا أرضيًّا يبشّر بخلاص المعذّبين ويدلّهم على سبيل انعتاقهم. لقد لاحظ فيلسوفنا أنّ الإنسانيّة الحديثة تعيش توتّرًا مُعضِلًا، لأنّ الإنسان الحديث فقد إيمانه الدّيني لكنّه يشعر في الوقت نفسه بالحاجة إلى الدّين، أي إنّه يحتاج إلى عقيدة خلاص توفّر له سبل النّجاة من عذاباته المحتومة، وبما أنّ التّديّن التقليدي لم يعد ذا مصداقيّة بالنسبة إلى الإنسان العارف الملمّ بالعلوم الحديثة، رأى ماينلاندر أنّ غرض فلسفته صياغة عقيدة خلاص حديثة متّسقة مع الرؤية الطّبيعيّة للعالم. تكمن خلاصة هذا الإنجيل في تعليميْن أساسيّين: أن لا سبيل إلى الخلاص والانعتاق سوى الموت، وأنّ الموت يكمن في العدم المطبق حيث يفنى الجميع ولا يبقى للحياة أثرٌ. بنى ماينلاندر فلسفته على دعائم إبستيمولوجيّة حتّى يضمن انسجامها مع العلوم الطّبيعيّة الحديثة وحتّى يحفظها من سوء الفهم وفوضى التّأويل، لذلك كرّس المجلّد الأوّل من كتابه لمناقشة الأسس المعرفية والميتافيزيقيّة التي تشدّ عماد بنيانه الإيتيقيّ، ويمكن إجمالها في ركيزتين رئيستين: تتمثّل الأولى في مبدأ المحايثة (Principle of Immanence) أمّا الثانيّة فهي الاسمانيّة (Nominalism). يعني مبدأ المحايثة اقتضاء مكوث الفلسفة في حدود التّجربة الإنسانيّة ونفي جميع الافتراضات التي لا يمكن اختبارها وتصديقها في تلك الحدود. إنّ الفلسفة المحايثة طبيعيّة المنزع، أي أنّها تفسّر كلّ شيء وفق القوانين العلميّة، ولا تأخذ بعين الاعتبار القصص الخارقة لقوانين الطّبيعة، إنّ لمبدأ المحايثة عميق الأثر في إيتيقا ماينلاندر، فهو يؤسّس لأخلاقيّات إنسانيّة محضة وينأى عن كلّ أخلاق مؤسّسة على سلطة متعالية أو فوقيّة، لا يمكن للخلاص أن يتأسّس على الإيمان بالأخرويّات، نحن لا نرى أبعد من الموت، لأنّ الموت نهاية التّجربة الإنسانيّة، وعنده تنتهي خبراتنا. أمّا الاسمانيّة فهي الاعتقاد بأنّه لا توجد غير الأشياء المتعيّنة والمُحدّدة، إنّ كلّ ما نختبره ونشعر به ونحدسه هي أشياء تنتمي إلى حيّز المتعيّنات المُفردة، خلافًا للكيانات المجرّدة من أجناس وأفكار وكلّيات ونماذج بدئيّة، فهي ذات مرجعيّة متعاليّة لأنّها لا تدخل حيّز خبراتنا، يقول ماينلاندر «لا يوجد في العالم سوى الأفراد»، وهو يشير دوما إلى أنّ العالم يتكوّن من مجموع الأفراد، حيث لا وجود لأيّ وحدة تتجاوزهم، وعلى أساس هذا المنزع الاسمانيّ، يثبّت فيلسوف الخلاص إحدى عقائده التأسيسيّة: «لا يوجد في العالم سوى مبدأ واحد: إرادة الحياة الفرديّة». إنّ في تشديده على "فرديّة" الإرادة وتعدّدها منازعةً لعقيدة شوبنهاور القائلة بوجود إرادة كونيّة واحدة تثوي في الوجود كلّه وتبقى حتّى بعد زوال الأفراد واندثارهم، يرى ماينلاندر أنّ الإرادة الفرديّة هي المبدأ والمُنتهى، ولا يبقى بعد فنائها سوى العدم. كما أنّ الفرد عنده مسؤول تمامًا عن أفعاله، فالطّبيعة الفرديّة للإرادة تفرض المسؤوليّة والاستقلاليّة الذّاتيّة، لذلك كان رفضه لفكرة الإرادة الكونيّة قاطعًا، لأنّها تجعل الحريّة الفرديّة محلّ ريبةٍ، ذلك أنّ افتراض إرادة كونيّة واحدة يقتضي أن يكون الفرد دميةً ولن تكون أفعاله سوى إنجاز إملاءات تلك الإرادة التي تعمل من خلاله. تتمثّل مهمّة الفلسفة حسب ماينلاندر في التّحرّر الذّاتي، أي في انعتاق الإنسانيّة من عبوديّتها التي تفرضها على ذاتها، والتّاريخ في نظره إنّما هو قصّة عن خطوات الإنسانيّة نحو هذا التّحرّر، ويمرّ مسار التّحرّر عبر ثلاث مراحل كبرى: بدءًا بتعدّد الآلهة ومرورًا بالتّوحيد ووصولًا إلى الإلحاد، تتعلّم الإنسانيّة خلال هذه المراحل أن تكون أكثر نقدًا تجاه ذاتها وأكثر وعيًا بقدراتها، وتدرك أنّها استعبدت نفسها وأخضعتها إلى كيانات من صنعها، يؤدّي هذا الإدراك إلى نموّ استقلالها الذّاتي وإلى إحكام سلطانها على غاياتها ومثُلها. كان ماينلاندر يرى أن عصره يمثّل مرحلة "وحدة الوجود" (Pantheism) التي تمثّل بدورها آخر مراحل "التوحيد"، وهذا يعني أن الإنسانيّة توشك أن تبلغ المرحلة الأخيرة، وأنّ تلك اللّحظة التّاريخيّة تؤذن بانبثاق الإنسان الفردِ المتملّك لذاته. يَدين ماينلندر بِشَطر كبير من هذه الأفكار لفلاسفة الهيغليّة الجديدة الذين كانوا يُعرَفون بالهيغليين الشبّان، خاصّة منهم لودفيغ فويرباخ (1804-1872) الذي قام بقلبِ المسيحيّة حيث أفرغها من مضمونها اللّاهوتي وأحلّ الإنسان بدل الإله. كما يتقاطع ماينلاندر بشكل كبير مع ماكس شتيرنر (1806-1856)، أكثر الهيغليين الجدد راديكاليّةً، لقد سعى شتيرنر إلى تحرير الإنسان الفرد من عبوديّته الذاتيّة التي يمارسها على نفسه باسم الدّين والأخلاق والدّولة، وكذلك كان سعيُ ماينلاندر إلى جعل الإرادة الفرديّة مركزيّةً، حيث لا مرجعيّة للفرد سوى ذاته، منها تنبع قيمه وغاياته. لكن ما ينبغي الانتباه إليه هو أنّ غاية ماينلاندر من انعتاق الإنسانيّة وتحرّر الفرد ليست بسط النوع البشريّ سلطانه على الأرض أو تملّكها أو مواصلة مسيرة التّقدّم، بل إنّ مقصده مخالفٌ لذلك تمامًا، ذلك أنّ غاية التحرّر تكمن في الانسحاب الطّوعي من الأرض والتخّلّي عنها عبر إفناء النّوع البشريّ لذاته. يرى ماينلاندر أن رؤية الهيغليين الجدد تتّسم بالتّفاؤل السّاذج، ذلك أنّهم كانوا يحسنون الظّنّ في الحياة ويرون أنّها تستحقّ العيش إذا ما عشناها وفق مُثلنا وقيمنا التي نبتدعها بأنفسنا، إنّ مصدر المعاناة بالنسبة إليهم لا يكمن في الوجود ذاته، بل في المؤسّسات الاجتماعيّة والسّياسيّة الفاسدة والاستغلاليّة، لذلك ركّزوا أعمالهم على نقد الدّولة والكنيسة، ولم يتجاوزوا ذلك إلى نقد الوجود برمّته. يرى ماينلاندر أنّ كلّ فرد مجبولٌ على الكفاح من أجل تحقيق سعادته الخاصّة، والأفعال الإنسانيّة كلّها إنّما هي مدفوعة بالمصلحة الفرديّة، بما في ذلك أفعال الإحسان والرّحمة والتضحيّة بالنفس، يعود كلّ فعلٍ –مهما بدا عليه من إيثار-على صاحبه بمنفعة مّا. لا يعني ذلك أنّ المصلحة الفرديّة تنفي على الفعل أخلاقيّته، يرفض ماينلاندر الإيتيقا الشوبنهاوريّة المؤسّسة على الرّحمة أو الشّفقة والتي تقتضي أن تكون الأفعال الأخلاقيّة لا ذاتيّة/إيثاريّة (Selfless)، حيث يمكن للفرد أن يحلّ مكان فردٍ آخر فيفقد ذاته ويتماهى مع الآخر ويشعر بعذاباته، يفنّد ماينلاندر هذه الإمكانيّة، ذلك أنّه ليس بمستطاعنا أن نفقد ذواتنا في الآخريّة، بل نحن حين نتعاطف مع شخصٍ ما ونحزن لحاله فإنّنا نفعل ذلك داخل ذواتنا، ونساعده على تخفيف عذاباته من أجل أن نشعر بالرّضا الذّاتي. تهدف إيتيقا ماينلاندر إلى تحديد معنى السّعادة وإيجاد طرائق بلوغها، وتتمثّل أرقى صور السّعادة عنده في «سكينة القلب التامّة»، لكن ما الذي يحول الفرد دون هذه السّكينة؟ إنّها رغائبه التي تُحكم شدّ وثاقه إلى الحياة، «إنّ الدّافع الجنسي هو الرّابط الأقوى الذي يشدّنا إلى العالم بوثاقةٍ؛ إنّه الصّخرة الكبرى التي تفصلنا عن سكينة القلب»، لذلك نذر ماينلاندر حياته للبتوليّة وتصوّن من العلاقات الجنسيّة، فلم يعرف امرأةً قطّ، وكان يرى في النّسّاك المسيحيّين أسعد النّاس، واعتبر المسيح وبوذا أرقى النماذج الأخلاقيّة، لأنّهما يرمزان إلى التّعفّف عن الرّغائب وعدم التّعلّق بها. يقطع ماينلاندر مع العقيدة المسيحيّة وينقضها، لكنّه لا يقطع مع القيم المسيحيّة المبنيّة على التّواضع والتّعفّف ونبذ الذّات، ولا يرى ضيرًا من الاستئناس بها واستلهامها بما ينسجم مع نسقه الفلسفيّ. رغم تشاؤم ماينلاندر ونزوعه إلى الزهد وإنكار الذّات، فإنّه لا يتخلّى عن فكرة النضال من أجل تحسين شروط حياة الفرد، ولم يُنكر حقّه في طيب العيش وتحقيق الرّفاه، لذلك كانت أفكاره السّياسيّة يساريّة المنزع، وكان مسكونا بالهاجس الاجتماعيّ، ساند الحركات الدّيمقراطيّة والاشتراكيّة في عصره، وتعاطف مع العمّال والطّبقات الدّنيا، ودعا إلى التوزيع العادل للثروات، ورأى في الدولة ضامنًا لحقوق الأفراد وأمنهم، لكنّه لم يطمع في أكثر من "تحسين شروط الحياة"، لم يكن يعتقد بإمكانيّة استئصال شرور الحياة الجذريّة وتحقيق السّعادة الإنسانيّة عبر الوسائل السّياسيّة، لا يمكن لأيّ تغيير أو إصلاح سياسيّ انتشال النّاس من بؤسهم، وليس بمقدرة أيّ دولة جعل الحياة جديرة بالعيش. «زهرةُ الحكمة الإنسانيّة معرفةُ بُطلان الحياة»، بهذه العبارة البليغة يلخّص ماينلاندر –بشيرُ الخلاص العلمانيّ ومسيح الأزمنة الحديثة-منتهى الحكمة، «لا يرى الفيلسوف المُحايثُ في الكون سوى التّوق العميق إلى الفناء الكلّي». إنّ الإرادة في ظاهرها إرادةُ حياة، ذلك وجهها، لكنّها في باطنها وقفاها إرادةُ فناءٍ، ليس كفاح الموجودات جميعها من أجل الحياة سوى وسيلة نحو هدف أعمق: إنّه الموت، إنّ الوجود كلّه كرنفال جنائزيّ ملؤه التّحلّل والفساد والاضمحلال، وعلى الفرد أن يعجّل بالنّهاية عبر الامتناع عن الإنجاب. تلك هي زبدة "فلسفة الخلاص". يصف الفيلسوف شعوره بعد انتهائه من الكتاب قائلًا: «شعرتُ بالسّكينة لأنّني صنعتُ سيفًا جيّدًا، لكنّني أحسست في الوقت نفسه برعدة باردة تخالج صدري لاشتراعي نهجًا خطِرًا لم يسلكه فيلسوف من قبلي. لقد هاجمت العماليق والتّنانين، وكلّ ما هو موجود ومقدّسٌ ومعظّمٌ عند الدولة والعِلم: الإله ووحشُ "اللّامتناهي" والأنواع الحيّة وقوى الطّبيعة والدّولة الحديثة. لم أقم من خلال إلحادي العاري سوى بتثبيت الفرد والأنانيّة».
#ياسين_عاشور (هاشتاغ)
Yassine_Achour#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكينونة والثُّمالة: كيف تحتفل مثل وجوديٍّ
-
ديميتريس ليانتينيس: الفيلسوف مُواجِهًا موتهُ
-
حياةٌ مُؤجّلةٌ
-
المالينخولي السّعيد .. أو كيف يحتمل السّوداويُّ مُكوثه في ال
...
-
تونس على سرير بروكروست .. أو في البروكروستيّة الهوويّة
-
الفُصامُ جُنونًا و شِعْرًا... -أرنست هربك- العائدُ مِن وَادي
...
-
جان دمّو .. أو ديوجين في حياةٍ أخرى
-
الشّعرُ يُنشدُ خافتًا
-
غثيانٌ من وطأة الرّاهنِ
-
الرّابطة العربيّة الأكاديمية للفلسفة
-
محاكم التّفتيش السّراطيّة
-
كلّ الهزائم لي
-
فلسفة المعيش
-
يوميات الخيبة
-
أوّلُ الاغترابِ
-
تشذّرٌ على هامِشِ النّسقِ
-
العرّاف
-
و هل تغيبين عنّي ؟
-
مشروع ميثاق العمل الإسلامي - محمّد شحرور
-
الإسلاميون و الكذبة المقدّسة : قراءة في أخلاق التدجين
المزيد.....
-
هل تتوافق أولويات ترامب مع طموحات نتانياهو؟
-
أردوغان يعلق على فوز ترامب.. ويذكره بوعده بشأن الحرب في غزة
...
-
طائرة تقلع من مطار بن غوريون إلى هولندا لإجلاء إسرائيليين بع
...
-
كيف بدأت أحداث الشغب بين مشجعين إسرائيليين ومؤيدين للفلسطيني
...
-
إشكال ديبلوماسي جديد يخيم على زيارة وزير الخارجية الفرنسي إل
...
-
ألمانيا.. دور مخابرات أمريكية في كشف انفصاليين مسلحين!
-
-حزب الله- يعلن شن هجوم جوّي بسرب من المسيّرات الانقضاضية عل
...
-
الحوثيون يعلنون استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية في النقب وإسق
...
-
خطوات مهمة نحو تنشيط السياحة في ليبيا
-
ترامب يبدأ باختيار فريق إدارته المقبلة... من هم المرشحون لشغ
...
المزيد.....
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
المزيد.....
|