|
ثورة أكتوبر وحق الأمم في تقرير مصيرها
مرتضى العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 8155 - 2024 / 11 / 8 - 12:25
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
ثورة أكتوبر أعظم حدث عاشته البشرية في التاريخ المعاصر تحيي الإنسانية التقدمية في العالم ذكرى مرور 107 سنوات على اندلاع ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى التي فتحت أمام الطبقة العاملة وجميع شعوب العالم، وهي تعاني آنذاك من ويلات حرب كونية مدمّرة، آفاقا جديدة للتحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي. وقد تكتّلت في الحين القوى الامبريالية والرجعية ـ بما فيها التي كانت تقاتل بعضها البعض خلال الحرب الأولى ـ لمحاصرة هذه البؤرة الثورية حتى لا يصل صداها إلى بقية العالم. لكن الطبقة العاملة الظافرة والمسلحة تمكنت من دحر تلك القوى الخارجية منها والداخلية وهزمتها شرّ هزيمة. ومنذ ذلك الحين نقلت البورجوازية العالمية المعركة على الصعيد الفكري والإيديولوجي وجندت آلاف الأقلام المرتزقة في حملة متواصلة للتشويه انطلقت سنة 1917ولم تخفت حتى اليوم، لكي تطفأ شعلة الحلم التي لاحت من روسيا القيصرية بالذات والتي بلغ بريقها إلى أقصى نقاط العالم. ويتخذ إحياء هذه الذكرى كل عام أشكالا متعدّدة، منها التظاهرات الاحتفالية، ومنها الندوات الفكرية التي تسعى إلى استخلاص الدروس من هذه التجربة الفريدة والتي أعتبرها المؤرخون أعظم حدث عاشته البشرية في العصر الحديث إذ هي بيّنت بما لا يدع مجالا للشك: ـ أن الرأسمالية لم تكن ولن تكون أرقى شكل اقتصادي واجتماعي بلغته البشرية، إذ هي حافظت على الجوهر الاستغلالي للأنظمة الاجتماعية ولأنماط الإنتاج التي سبقتها، ـ أنه مع تعميم نمط الإنتاج الرأسمالي بزعامة البورجوازية، فإن هذه الأخيرة لم تعد تلك الطبقة الثورية القادرة على إحداث التغيّرات الجوهرية بل إنها أصبحت أكبر معرقل لأي تحوّل جذري سيعصف بالضرورة بسلطتها، وبالتالي فإنه لم يعد بمقدورها إنجاز حتى المهمات التاريخية التي كانت ملقاة على عاتقها، ـ أن الطبقة العاملة، بحكم موقعها المحوري في عملية الإنتاج، أصبحت هي القوة الوحيدة المخوّلة لإنجاز أيّ تحوّل جذري في العصر الحديث، وأنها مع بقية الطبقات المضطهَدة قادرة على الوصول إلى السلطة متى توفرت لها الشروط الموضوعية والذاتية وإقامة نظام جديد على أنقاض النظام الرأسمالي القائم على استغلال الإنسان للإنسان. عبقرية لينين ونظرية الحلقة الأضعف
حدثت ثورة أكتوبر إذن في روسيا القيصرية، الإمبراطورية المتخلفة الممتدّة على سدس الكرة الأرضية في الوقت الذي كان الثوريون يراهنون على قيام الثورة الاشتراكية في أحد بلدان أوروبا الغربية المتطوّرة والتي بلغ فيها الاستغلال الرأسمالي أوجه، خالقا بذلك ظروفا موضوعية لانتفاض الطبقة العاملة ضدّ مستغليها، خاصة وأن الحركة الاشتراكية كانت قد أحرزت تقدما كبيرا في تلك البلدان. لماذا روسيا إذن؟ وما الذي جعل الثورة تنجح في روسيا وليس في غيرها من البلدان الأكثر تطوّرا؟ إن كان تطوّر الظروف الموضوعية شرط أساسي لحدوث ثورة ما، فإن للعامل الذاتي دور لا يقل أهمية. وقد تميّزت روسيا عن غيرها من البلدان الأوروبية بتوفّر حركة اشتراكية ديمقراطية حيّة ومتجددة، نهلت من الفكر الاشتراكي العالمي، وعملت على تطويره وملاءمته مع الظروف الموضوعية للبلاد. إذ هي رفضت التعامل مع الماركسية كنص مقدّس قابل للتطبيق في كل زمان ومكان، بل أخذت من الماركسية روحها واستعملتها كمرشد للعمل في تحليل الأوضاع القائمة، ليس في روسيا فحسب، بل في العالم أيضا. فأغنت، بهذا الشكل، النظرية الماركسية وفتحت الباب للاستعمال الخلاق لها. وقد عمل الشيوعيون الروس على صهر الحركة الاشتراكية بالحركة العمالية الناشئة لينبثق عن هذا التلاقي تنظيم اكتسب أحقيته من اعتراف الطبقة العاملة به كمعبّر عن مصالحها المباشرة والبعيدة، فالتفّت حوله لتحقيق هذا الإنجاز العظيم الذي فتح آفاقا رحبة أمام عمّال العالم وشعوبه. وهو العنصر الحاسم الذي جعل الثورة تنتصر في هذا البلد بالذات، بعدما اعتبر الحزب البلشفي أن روسيا سنة 1917 كانت تمثل الحلقة الأضعف في سلسلة البلدان الرأسمالية وأنه بإمكان الطبقة العاملة فيها، لا الإطاحة بالنظام الأوتوقراطي القيصري فحسب، بل وكذلك هزم البورجوازية التي حاولت إقامة نظام رأسمالي على شاكلة البلدان الأوروبية على أنقاضه. ثورة أكتوبر تنير الطريق لشعوب العالم
وقد مكنت تجربة البناء الاشتراكي روسيا، في غضون بضع سنوات فحسب (ثلاث أو أربع عشريات) من الخروج من وضع البلد المتخلف وبلوغ مستوى من التطوّر لم يكن من الممكن بلوغه بأي طريق آخر. وهو ما مكّن الاتحاد السوفياتي وشعوبه من هزم الفاشية والنازية وتخليص البشرية من خطرها، مما سمح لعديد الشعوب الأخرى باختيار طريق الاشتراكية، فأقيمت أنظمة الديمقراطيات الشعبية على كامل بلدان أوروبا الشرقية، كما ساعد عديد الشعوب الآسيوية على الانتصار على الاستعمار وتبني الخيار الاشتراكي. فثورة أكتوبر إذن التي مكّنت من إقامة الاشتراكية على سدس الكرة الأرضية غداة الحرب العالمية الأولى، فإنها فسحت المجال إلى تعميمها إلى ثلثي العالم غداة انتصار الاتحاد السوفياتي والشعوب المحبّة للسلام في الحرب العالمية الثانية. لكن كل هذه الانتصارات والمكاسب، وغيرها كثير، لا ينبغي أن تخفي علينا ما رافق تجربة البناء الاشتراكي ـ وهي التجربة الأولى على أرض الواقع ـ من أخطاء ونقائص. فبدون فهمها وتفكيكها لا يمكن للقوى الاشتراكية أن تتقدم في طرح بدائلها لهذا النظام الرأسمالي البشع والذي يزيد بشاعة يوما بعد يوم، وهو يسعى إلى تجاوز أزماته الهيكلية والظرفية على حساب الشعوب بمحاولاته فرض السياسات النيوليبرالية المتوحشة عليها، وتأجيج سعير الحروب في كامل أرجاء المعمورة. ثورة أكتوبر تميط اللثام على المخططات الامبريالية في العالم العربي
وفي نفس الوقت الذي التي كان العمال والفلاحون يشكلون جيش الثورة ويتصدّون للحصار الغاشم الذي حاولت دول الوفاق فرضه على روسيا لوأد التجربة، كان البلاشفة يعملون على إطلاع الشعوب عليها وتحفيزهم على الثورة، فكان ميلاد الأممية الشيوعية ولم تمرّ سنتان على اندلاع الثورة. وقد تزامن تأسيس الأمميّة الشيوعيّة مع تسارع نسق المخططات التي كانت القوى الامبريالية تحيكها لبسط سيطرتها على مختلف مناطق العالم وخاصة منطقة الشرق الأوسط والبلدان العربية. فكانت اتفاقية سايكس ـ بيكو سنة 2016 التي ستكشف فحواها الدولة السوفياتية الناشئة وتدعو الشعوب العربية إلى التصدي لها، ووعد بلفور سنة 1917 الذي سيفتح أبواب فلسطين على مصراعيها أمام موجات الهجرة اليهودية ويعزّز نشاط الحركة الصهيونية فيها، ممّا جعل الثورة الروسية والأممية الناشئة تواجهان نظريا وسياسيا إحدى أعقد قضايا العصر، مستندين على إرث الحركة الاشتراكية والحركة العمالية الثورية التي كانت قد وصمت الحركة الصهيونية منذ ظهورها في نهاية القرن التاسع عشر. لقد شجبها قادتها مثل بيبل ولينين وكاوتسكي ووصفوها بأنها حركة وعقيدة رجعية متطرفة في خدمة البرجوازية اليهودية المتحالفة مع الامبريالية العالمية. وورثت الأممية الشيوعية هذا الموقف واستمرت في التنديد بالمشروع الصهيوني. وعندما شرع الامبرياليون في تنظيم موجات الهجرة الجماعية لليهود إلى فلسطين، شجبت الأممية هذه السياسة التي اعتبرتها “فكرة طوباوية وبرجوازية صغيرة ورجعية تسعى إلى صرف انتباه البروليتاريين من ذوي الديانة اليهودية عن الصراع الطبقي". وأعلنت اللجنة التنفيذية للأممية دعمها لنضال الجماهير العربية في فلسطين ضدّ المعسكر الامبريالي والصهيوني. وفي نفس الإطار، شجبت الدولة السوفياتية الفتية، بعد شهور قليلة من ولادتها، مكائد الصهاينة وحماتهم الإمبرياليين ضد فلسطين. ففي ديسمبر 1919، أصدرت مفوضية الشعب للشؤون القومية، نيابة عن يهود روسيا، بيانًا جاء فيه أن “الصهاينة يحاولون طرد العرب من فلسطين لإقامة دولة يهودية هناك، إن الجماهير اليهودية الكادحة لجمهورية روسيا الاشتراكية يدافعون عن وطنهم الاشتراكي على الجبهة إلى جانب عمال وفلاحي روسيا ضد الدول الإمبريالية في الوفاق وعملائها… لسنا بحاجة إلى دولة أخرى وليس لدينا أي حق قومي على فلسطين. نحن ندرك أن هذه الحقوق الوطنية هي ملك للجماهير العربية والبدوية الكادحة في فلسطين ”. ففي فلسطين، وجدت الأممية الشيوعية نفسها في مواجهة قضية استعمارية من نوع خاص، حيث لم تكن المسألة على الأرض الفلسطينية تتعلق بالمواجهة بين قوتين: محتل إمبريالي ـ وفي هذه الحالة بريطانيا الاستعمارية ـ وقوة تحرير وطنية ـ أي الشعب الفلسطيني ـ لكن هنالك تدخل قوة ثالثة: جحافل الحركة الصهيونية المتوحشة التي انطلقت ضد فلسطين وبدعم من كل القوى الإمبريالية. وللتذكير، فإن المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية (1920) تناول القضية الفلسطينية بطريقة واضحة ومعمّقة. إذ احتلت فلسطين مكانة بارزة ضمن الأطروحات المتعلقة بالمسألة الوطنية والاستعمارية التي تبناها المؤتمر. وشجب النص بشكل قاطع المشروع الإمبريالي الصهيوني الذي كان بصدد التنفيذ في قلب العالم العربي. كما تجسّد ذلك مثلا في الموقف من الانتفاضة العربية لعام 1929 التي دعمتها الأممية الشيوعية بوضوح، وهو ما يبرزه المقرّر الذي نشرته الأمانة السياسية للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية بشأن حركة الانتفاضة العربية بتاريخ 16 أكتوبر 1929. كانت الانتفاضة في فلسطين في مواجهة الاحتلال البريطاني من جهة وعمليات الانتزاع القسري لملكية الفلاحين العرب لأراضيهم لصالح الصهاينة الذين حلوا حديثًا بفلسطين. وكان يُنظر إلى الانتفاضة الفلسطينية على أنها بداية لموجة كبيرة من الحركات الثورية لتحرير الدول العربية، وبالتالي يجب دعمها، خاصة أنها سرعان ما اكتسبت زخمًا وبدأت في النمو وانتشرت إلى دول الجوار. على الرغم من أنها كانت في الأساس حركة فلاحية، وكان لديها في مرحلتها الأولى قيادة رجعية إلى حد ما، إلا أن طابعها المناهض للإمبريالية كان كافياً لكي تدعمها الأممية الشيوعية، خاصة أنها كانت حركة جماهيرية. كما أن الثورة الروسية أولت - وهي في أولى خطواتها - اهتماما كبيرا لشعوب الشرق التي كانت ترى فيها جزءا من الثورة العالمية القادمة. وحتى قبل الدعوة لعقد مؤتمر لهذه الشعوب الذي انعقد في باكو بين الأول والثامن من سبتمبر/أيلول 1921، كتب لينين في التقرير الذي قدمه في المؤتمر الثاني لعامة روسيا للمنظمات الشيوعية لشعوب الشرق بتاريخ 22 تشرين الثاني عام 1919، "وفي اثر مرحلة استيقاظ الشرق ستحل في الثورة المعاصرة مرحلة اشتراك جميع شعوب الشرق في تقرير مصائر العالم كله، كي لا تكون مجرد وسيلة للإثراء. ان شعوب الشرق تستيقظ لكي تعمل حقا وفعلا ولكي يسهم كل شعب في تقرير مصير البشرية بأسرها".
#مرتضى_العبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أحرار العالم يواصلون الوقوف الى جانب الشعب الفلسطيني ومقاومت
...
-
الفاشية الزاحفة كتاب جديد لحمّة الهمامي يواصل تعرية الشعبوية
...
-
سردية التعويل على الذات بين الخطاب الرسمي وعناد الواقع
-
مقابلة مع بابلو ميراندا، السكرتير الأول للحزب الشيوعي المارك
...
-
البيان الختامي للدورة الثامنة والعشرين للسيمينار الدولي حول
...
-
تحية الى الحزب الشيوعي الماركسي اللينيني بالاكوادور في ذكراه
...
-
هل تشكل الانقلابات العسكرية في إفريقيا أداة لتحرّر شعوبها؟ (
...
-
هل تشكل الانقلابات العسكرية في إفريقيا أداة لتحرّر شعوبها؟ (
...
-
هل تشكل الانقلابات العسكرية في إفريقيا أداة لتحرّر شعوبها؟ (
...
-
شاحنات الموت تواصل حصد أرواح الكادحات في القطاع الفلاحي
-
كيف يقيّم حزب العمال الشيوعي بفرنسا الدور الأوّل من الانتخاب
...
-
الفقر والسخط الاجتماعي والوعي الطبقي
-
صفحات من تاريخ الحركة الشيوعية بالاكوادور
-
تدهور الأوضاع المعيشية لعموم الكادحين منذ 25 جويلية
-
في الذكرى الستين للحزب الشيوعي الم الل بالاكوادور (ج 10)
-
في الذكرى الستين للحزب الشيوعي الم الل بالاكوادور (ج 9)
-
هل حُمّلت زيارة قيس سعيد الى الصين أكثر مما تحتمل؟
-
في الذكرى الستين للحزب الشيوعي الم الل بالاكوادور (ج 8)
-
في الذكرى الستين للحزب الشيوعي الم الل بالاكوادور (ج 7)
-
المقاومة الفلسطينية تكسب معركة الجامعات في العالم
المزيد.....
-
عاجل: سفينة محملة بشحنات من الأسلحة نحو الكيان الصهيوني تحاو
...
-
الجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد FMCLGR تدعو للاحت
...
-
إعلام غربي: العلاقات بين بريطانيا وأوكرانيا تدهورت في ظل حزب
...
-
الحرية لشريف الروبي
-
مصر.. وفاة قيادي بارز في التيار اليساري وحركة -9 مارس-
-
الخطوة الأولى هي فضح الطابع البرجوازي للنظام وانتخاباته في
...
-
إخفاقات الديمقراطيين تُمكّن ترامب اليميني المتطرف من الفوز ب
...
-
«الديمقراطية»: تعزيز صمود شعبنا ومقاومته، لكسر شوكة العدو، ي
...
-
العدد 578 من جريدة النهج الديمقراطي بالأكشاك
-
المحرر السياسي لطريق الشعب: أكتوبر ثورة العدل والحرية
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|