أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - هواجس أدبية 341















المزيد.....



هواجس أدبية 341


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 8154 - 2024 / 11 / 7 - 10:03
المحور: الادب والفن
    


وصلت لقناعة كاملة أن السعادة إما أن تكون موضوعية أو لا .
لا يمكن الجري وراء السراب أو الوهم المسمى ب "السعادة" .
أنا مع القناعة.
في السجن، كنت أتمنى دقيقة واحدة أن أكون خارج الأسوار، أن أجلس ثانية واحدة على مائدة الطعام مع أهلي، أن أراهم ثانية واحدة، أن أعرف عنهم كيف يعيشون ويأكلون وينامون.
تمنيتُ أن أنام في البيت دون مراقبة السّجّان.
اليوم أنا في السويد، كل يوم قبل النوم أشكر هذا البلد الجميل، انحني له حباً واحتراماً.
أنام بملء جفوني، لا أطلب من هذه السويد سوى الخير والجمال وأن تبقى حرة ديمقراطية.
عشرين سنة أنا في السويد، لم يمسني أي إنسان بكلمة. لا أطلب المال ولا الجاه، أريد أن أبقى حرًا أن آكل لقمة بالهناء، ليس مهمًا ماذا تكون اللقمة. بالنسبة لي السعادة هي في القناعة، ألا يدق علي الجلاد الباب ويخرجني من بيتي عاريًا.
من ذاق طعم السجن، سجن تدمر، يدرك أن الحياة لا لعب فيها.

لا شيء يجمل حياة الإنسان أكثر من الموسيقا.
عندما تسمع خرير الماء، حفيف الشجر، ستعرف أن الطبيعة لغة، موسيقا، فرح وطيران مع الجمال والفرح.
لقد فرحت كثيرًا، ودخلت السعادة إلى قلبي عندما سمعت أن السعودية ستدخل الموسيقا في المناهج المدرسية.
الموسيقا تهذب الروح، تنقبه من الشوائب، تتناغم مع لغة الكون، تهذب الإنسان، ترتقي به، وتدخله في التناغم مع الذات.
من المؤسف أن أغلب المناهج في الدول العربية فيها مادة الدين، وهذا الدين، أي دين، يمزق الإنسان من الداخل، يفككه ويدخل الاضطراب والانقسام بينه وبين نفسه ومحيطه ويخلق الكراهية والعداء مع الآخرين.
الدين مفرق.

قرأت كتاب لعبد عبد الله حنا، الكاتب السوري الذي توفي البارحة، عن عبد الرحمن الشهبندر أول وزير خارجية سوري في العصر الحديث وربما القديم أيضًا الذي قتل في العام 1940، على يد المخالفين له بالرأي غدرًا وخساسة.
الكتاب استطاع من خلال تسليط الضوء على حياة الشهبندر أن يحكي عن تاريخ سوريا الحديث، عن القوى السورية الجديدة بعد خروج السلطنة من سوريا، وعن وضع القوى التي عاشت في ظل الانتداب الفرنسي على سوريا، الأحزاب السياسية وتحالفاتها وتقاطعاتها وصرعاتها وخلافاتها وعلاقاتها الداخلية والعربية والأقليمية والعالمية.
قرأت الكتاب قبل ثلاثين سنة، أنه رائع، بل أنه وثيقة تاريخية مهمة جدًا خاصة أنه صدر من كاتب مؤرخ، مرجع، أستطيع أن أقول عنه أن مفكر سوري من طراز رفيع.
كان همه أن يكتب عن واقع سورية في فترة السلطنة وبين الحربين وبعده بقليل، دون أن يكون إلى جانب هذا الطرف أو ذاك، أستطيع القول أنه كان حياديًا.

العنف والغضب والانفعال الشديد هو نتاج عدم القبض على الممكن، الفرد على مصيره سواء في الماضي أو الحاضر.
وإن العقل غائب، بمعنى لا يمكنه تلبية ما نرغب به، عاجز، لا نثق به، بمعنى لا نعرف كيف نطاوعه ليحقق ما نصبوا إليه.
إن العنف دمار ممنهج للاعصاب والنفس، للذات، وإن العلاقة بين العقل والعواطف مقطوعة، كل واحد يغني في جهة، ويذهب في جهة، لهذا عندما ننظر إلى الماضي نعرف أن ما فعلناه كان ضربًا من الوهم ودمار للذات.
التاريخ سيستمر سواء كنت منفعلًا أو لا، عصبيًا أو لا، وستعلم أن قرأتك لنفسك والواقع كان فيه خلل وحالة، غياب عن الرؤية.
اتساءل:
هؤلاء الذين ذهبوا إلى أفغانستان، من أجل ماذا كان؟
هل جلس أحدهم مع نفسه وسألها، لماذا بترت قدمي، يدي، من أجل ماذا ضحيت بشباب وعمري، وعمر أولادي ومستقبلي، أين حطت حصالة الحرب؟
الانفعال والحماقة صنوان، أحدهما يدعم الأخر، كلاهما سببه غيب الوعي وضعف الحجة أمام نفسه.
جميع معارك التحرير خرج المقاتلين منها من المولد بلا حمص، وجلس الموجهين، القادة في المقاعد الأمامية يستمتعون بالمكانة والسلطة والمال.
هل سألت نفسك، لماذا أنت في الجبهة ربما تموت، وأولاد أسماعيل هنية يدرسون في الجامعات في الولايات المتحدة ولديهم جنسيات هذا الدولة؟
جميع المناضلين قسمين، جهة تتمتع بالمكاسب وجهة أخرى أما تموت أو تقتل أو تتشوه نفسيا أو جسديًا.
وأخيرًا من يقاتل أو يسجن يخرج من المعركة مشوه، عاجز وضعيف، وسيرى أولاد الجالسين فوق، في أرقى الدول، بوتين مثلًا


شاهدت برنامجًا عن بنغلاديش والهند، عن المدينة، القاع.
اتساءل كيف يستطيع الناس في داكا ونيودلهي العيش في الأحياء الجانبية، خارج كل الحسابات الأدمية.
رجل يجر دراجة عادية بثلاث دولايب، يعمل عليها أثنتا عشرة ساعة في اليوم وأكثر، كوسيلة نقل، تاكسي، في وسط الضجيج والزحمة والتلوث والوسخ.
المياه ملوثة، الهواء ملوث، الثياب، الجسد.
شاهدت أحدهم يعمل ليلًا، يفتح ريكار المجاري، يخرج المياه الملوثة، براز الناس وبقية الأوسخ، ثم يدخل الى الجورة بكامل جسمه، ويخرج كل المياه الملوثة التي يستطيع الوصول إليها دون كفوف بلاستيكية أو كمامة، وبعد أن يخرج هذه النفايات الملوثة يبدأ بالبحث عن غرام ذهب أو أكثر، لأن عمله يكون بالقرب من محلاات الصاغة عله يحظى بشيء يسد الرمق.
وفي بيت هذا الرجل عدد كبير من الأطفال، وترى زوجته وابنته الكبيرة يعملان من الصباح إلى المساء لمصلحة محلات خاصة لتأمين قريشات لتغطية متطلبات البيت والعيش.
ركوب القطار هذا لوحده كارثة، ركاب فوقه وركاب محشورين في داخله كأنهم ساردين في علب، وعندما يمر القطار تحت الجسر، على الساكنين فوقه أن يخفظوا رؤوسهم، وإذا لم ينتبه أحدهم لهذا الوضع سيموت عندما يصطدم رأسه بالجسر.
وإذا أراد أحدهم الذهاب إلى الحمام، بالتأكيد لن يصل إليه.
القطارات يعود تاريخ بناءها إلى العام 1917، أيام الاحتلال الانكليزي. ولم يطرأ عليها اي تغيير يذكر، يقول احد السائقين أنا لا أرى الطريق، لأن النافذة الامامية مشبكة، لهذا لا أتوقف ابدا مهما كانت النتائج.
غرفة السائق مرعبة، وكل شيء ضجيج في ضجيج في ضجيج.
وفي الهند شيء قريب من هذا إلى حد كبير، والجميع يحلم ان يغير وضعه، ولكن بوجود عشرة أطفال في بيت واحد، مع الرجل وزوجته وأمه وحماته وبهذا المبلغ الزهيد، عليه أن لا يحلم، أو لا يمكن للحلم إلا أن يكون ميتًا.

الذي يحيرني لماذا يخاف الناس على أديانهم؟
أرى أن المؤمن بدين ما، حامل هم هذا الدين، خائف عليه من الذوبان أو التلاشي، تراه يحضنه كما تحضن الأم وليدها، دون أن يقدم له هذا الدين أي خدمة تذكر أو تعطيه الاحساس بالأمان أو الاستقرار.
المؤمن يعيش حالة قلق وتوتر، على دين يتأرجح بين بقاء وزوال، ولا يعرف كيف يبقيه على قدميه.
أرى المؤمنين في حالة سباق على حماية هذا الدين واسناده ودعمه بكل السبل، ليس مهمًا الوسائل والطرق التي يلجأون إليها لإبقاءه، كذب أو نفاق، رشا.
المؤمن لا يخاف على موت الله، لكنه يخاف على موت دينه، تميزه، بقاء سحر هذا الدين في عقله الباطن كما تلقاءه في طفولته.

الحالم يستدعي الخلود إلى فراشه، يحاوره ويسكن في ظله، في المكان الآمن والدافئ البعيد عن القيود والحواجز، وثقل الأرض والناس.
الحالم يعيش الزمن الأخر، الزمن المفقود أو المفتقد، يحلق معه وفيه، في المجرد، في الفضاء البعيد، بعيدًا عن المحسوس.
وأكثر الأحلام رشاقة هو الحلم بالأخر الغائب، الحاضر في الخيال والزمن.

ما أجملنا لو تحققت الأبدية التي في أذهاننا وتصوراتنا على أرض الواقع.
ذلك السكون المختلط بالجمود، حيث الزمن ميت كما نريده ونرغب فيه. وهذه البدية تنسجم مع تكويننا النفسي والعقلي، كالصورة الجميلة في لوحة ثابتة معلقة على الجدار، حيث أنها تشيخ من الداخل، داخلها، تتفتت ثم تتعفن، بيد أن رونقها، والابتسامة العذبة التي عليها, تبقى معلقة في الفراغ.
إن التوق الحقيقي إلى الأبدية، هو البحث العملي عن الغامض، عن الأحلام المؤجلة النائمة في حضن الصدف الثمينة.
في ذلك المزيج المضطرب بين الأمل والوهم، داخل العواصف والأهواء المضطربة الباحثة عن ما هو جديد

هناك حبيب خالد في ذاكرة الإنسان، هذا لا يموت ابدًا ابدًا، أنه جالس في تكويننا العقلي والنفسي والجسدي والروحي والوجودي. إنه خالد بخلود الكون.
وهناك حبيب يعيش بيننا في الواقع، يذهب أحدهم يأتي غيره.
الحبيب جزء من ذاكرة الأنا.
أنا أو أنت نحب الآخر، لأن جزءً منه فينّا، وجزءً منّا فيه.
إن لم يكن الحبيب حلمًا، ماذا يكون؟
في لحظة الحلم العليا يتلاشى الحبيب، يتبدد، ينتقل من المحسوس إلى المجرد، وتتحول الحياة إلى رموز وأحاسيس متناثرة في الفضاء.
الحالم يستدعي الخلود إلى فراشه، يحاوره ويسكن في ظله، في المكان الآمن والدافئ البعيد عن القيود والحواجز، وثقل الأرض والناس.
الحالم يعيش زمن، هو الزمن المفقود أو المفتقد، يحلق معه وفيه، في الفضاء البعيد، بعيدًا عن المحسوس.
وأكثر الأحلام رشاقة هو الحلم بالأخر الغائب، الحاضر في الزمن

إن لم يكن الحبيب حلمًا، ماذا يكون؟
في لحظة الحلم العليا يتلاشى الحبيب، يتبدد، ينتقل من المحسوس إلى المجرد، وتتحول الحياة إلى رموز وأحاسيس متناثرة في الفضاء.
الحالم يستدعي الخلود إلى فراشه، يحاوره ويسكن في ظله، في المكان الآمن والدافئ البعيدة عن القيود والحواجز، وثقل الأرض والناس.
الحالم يعيش زمن، هو الزمن المفقود أو المفتقد، يحلق معه وفيه، في الفضاء البعيد، بعيدًا عن المحسوس.
وأكثر الأحلام رشاقة هو الحلم بالأخر الغائب، الحاضر في الزمن

كل دولة وصلت إلى مرحلة الأمبرطورية تحتاج في لحظة الانطلاق إلى نقطة ممركزة للبدء، بيد أنها سرعان ما تنفتح على وسع وتكبر دون قيود أو ضوابط. فتتوزع على عدة شبكات تحتضن الكلَّيَّة المكانية للعالم بأسره.
وأول شيء يحدث لها أنها تفتقد للمركز المحرك لها الذي انطلقت منه.
وهذا الزمن الأمبرطوري، الرأسمالية العالمية اليوم، نطلق عليها مفهوم العولمة، كتجاوز، نضج بالكامل في هذا العصر والوقت، حيث لا مركز لإدارة هذا العالم ولا أطراف، ولا القدرة على التحكم بمساراته من قبل دولة بمفردها.
إن الأمبرطورية الرأسمالية موزعة على شكل شبكة عنكبوتية بحيث يتداخل الكل في الجزء والجزء في الكل:
الدول والمؤسسات السياسية والاقتصادية، تعمل في تناغم وتفاعل معًا على إدارة العالم وفق المصلحة العليا لهذه الأمبرطورية العالمية الممأسسة.
صحيح أن الولايات المتحدة قوية جدًا ولديها قدرات عملاقة، بيد أنها لا تستطيع أن تكون مركزًا أو قطبًا لوحدها في هذه الأمبرطورية الواسعة.
صحيح أن لها مكانتها في هذه الشبكة، ولكنها ستبقى جزءً من كل.
هذه الأمبراطورية ليست قادرة على التوسع أكثر مما هي عليها، توسعها لم يعد كميًا، توسعها سيغدو نوعيًا.


ممارسة السياسة في البلدان الصغيرة, تحتاج في المقام الأول, معرفة المعادلة الدولية, وانعكاس ذلك على واقع هذه البلدان.
برنامج أي حزب سياسي, يجب أن يضع في حسبانه, حوامل الخارج, مصالح الخارج سياسيا, ضمن رؤيته السياسية. بمعنى, أي حزب سياسي, يجب أن يقرأ مصالح الدول الكبرى في بلده, وكيف يمكن ان يخفف وقع ذلك عليه.
أغلب الأحزاب السياسية في بلداننا متكلسة, من مخلفات الحرب الباردة. ويقرأون السياسة من منظور قديم.


كان لدى اصفر طفل واحد اسمه مسعود, وعندما مات تزوجت ارملته لرجل اسمه نجار, انجبت منه يعقوب وشكري ومجيد... ولهذا سمي اصفر ونجار, نسبة للاشقاء الستة واخت اسمها شاميرام. وعندما وصلوا إلى الجزيرة السورية في بداية الاربعينات كانت الأرض بور, تسرح الخنازير وقطعان الغزلان والأفاعي والذئاب والثعالب والضباع فيها. استدان هذا الرجل مالًا من سعيد جنكو وبدأ بالزراعة.
لم يكن لديه المال ليدفع إجرة العمال. كان مجيد, ينتقل على الحصان من مكان لآخر. وينام على القش. وخلال بضعة أعوام شكلوا امبرطورية عمل, ورشة لا تكل ولا تمل في الزراعة. هؤلاء جاؤوا من تركيا على أثر المذابح, لديهم خبرة هائلة في الزراعة, لم تفكر تلك الدولة ان تستفيد منهم.
رأوا المياه في كل مكان. كان سعيد جنكو, وهو من أقرباء اصفر ونجار, يقف ويرفع رأسه والعامل وراءه, يقول له, ضع هنا نقطة علام, وهنا. كان طبوغرافيًا بالفطرة.
فتحوا قناة ماء من بين القامشلي وقبور البيض بطول 25 كيلو متر وعرض ستة أمتار بالراحة, دون اجهزة أو آلات, إلى أن اوصلوا المياه إلى عمق الأراضي. زرعوا الرز, وصنعوا القشارات. وكان عدد الحصادات والشاحنات يقدرون بأربعين آلة, عند الفلاحة والحصاد.
وعندما جاء عبد الناصر إلى حكم سورية, اصدر قانون الاصلاح الزراعي. استطاع مجيد اصفر أن يلتقي عبد الناصر في القاهرة, ويوقف تنفيذ هذا القانون, إلى أن جاء البعث ونفذه. وجرد تلك العائلات المزارعة من تلك الأرض ووزعها على التنابل والمتسكعين. والنتيجة كما تروها وتعرفوها.
يلعن الساعة التي جاء بالبعث إلى حكم سورية



يولد الإنسان سجينا, المفاهيم والحدود الموجودة يحاصرونه من كل جانب, ولا يستطيع الانفكاك عنهم الا بتفكيكهم. وتفكيك كل ما هو سائد, للدخول في مملكة الحرية


الأن نهر الخابور ميت.
عدت إليه بعد غياب طويل. جلست على الأرض الجافة العارية لنهرالخابور. تنهدت بعمق مدة طويلة جداً. نظرت إلى الخلاء والصمت والحرارة اللافحة التي تهب علي من السماء والفضاء. مبهوتاً من لوعة السؤال التي تهزني وتدفعني للحسرة المباغتة المعلقة بالصمت:
أي رياح عاتية ساقت الخابورإلى دروب بعيدة. لماذا رحل وبقي سارحاً في فضاء غامض, كندف الغمام الحائر, الطائر في السماء, دون زوادة, أو وعد أن يعود إلى الديارمرة ثانية. انكفئ صوتي في حنجرتي وغاص عميقاً في سديم الحيرة التي غطت عقلي ولبي.
لم أقوى على حمل جسدي. كومة من التشنجات المتداخلة دخلت روحي. بقيت جاثياً في مكاني أنشد الصمت اللهيب, أن يكف أن يبقى صامتاً. في هذه اللحظات أيقنت أن النهر مثل الإنسان,غريب غريب. لاهو من الأرض ولا هو قادم من الفضاء, انه كائن حي, ينطق ويتكلم وينام, يحيا ويموت.
وقفت حائراً, متمتماً على مضض:
أعلم أنني جئتك متأخراً يا خابور, يا قرص السماء على الأرض. لم يكن الأمربيدي. قبل بضعة ساعات اطلقوا سراحي.
لم يتكلم الخابور, لم يرد. بقي صامتاً كجلمود صخر, كالجماد. مددت يدي إلى جسده المشلوح على الأرض. قلت له:
أعلم أنك ميت الأن يا خابور. وإن روحك وجسدك, قطع متناثرة في مكان ما من هذا العالم, بيد أن الدهشة لن تكف من الولوج إلى ذاكرتي, تنشد البحث عنك مثل عصفور جريح يبحث عن فسحة ضوء, ينظف جراحه.
العرق يتصبب من رأسي العاري, من أنفي وأذني ورقبتي. تركت الدموع تمتزج بالعرق وتسيل باسترخاء.
كانت الساعة تشيرإلى السادسة والنصف صباحاً. رمى ثقل المكان حمله على صدري. نظرت إلى جسورالخابورالنائمة على الضفاف الجافة اليابسة كمنحوتات نافرة لا تناسق في مواضعها. أنقل نظراتي المتعرجة على الكائن الميت الراقد تحت قدمي. شققت طريقي حائراً لا أعرف إلى أين يقودني. كنت في وسط المسافة ما بين الجسرين, لا اصدق عيني وعقلي ما حدث. رأيت الأشجاروالزل والصفصاف الميت, والأعشاب الجافة. الأشواك النابتة على الحواف والأطراف. ثمة تغيركبير حدث في هذه المنعطفات الجافة التي غزت المكان.
مشيت في حضن الكائن الميت مسافة طويلة, مدوناً الاختزانات الثقيلة في ذاكرتي.أاضرب قدمي في الأرض اليابسة. رأيت صورة أبي, في القارب وهو يلقي الشباك. كان شاحبا وفي مواضع الوحشة, في عالم متنقل ودائم الجريان. لكن ماذا تبقى منه الأن ورحت اهذرواتوه:
لماذا تلتقط الذاكرة العجوز, الصور الثابتة ما دام كل شيء يهيم على وجهه, يركض دون استئذان أوتوقف .
الهواء الجاف يعبربحرارته اللاسعة بالقرب من وجهي
هنا, وأشرت بيدي, على تلك الضفة اليسرى التقينا أنا وحبيبتي, تحت ظلال أشجارالكينا والزيتون, التين والتفاح, الكروم المسترخية على ضفافك يا خابور.
تحت ظلال شجرة التوت تعانقنا أول عناق. وقبلنا بعضنا أول قبلة. لعبنا وشربنا وركضنا بين بساتين الشمام ودوارالشمس واليقطين. نمنا في حضن الماء, وتعّرينا. أكتشفنا أسرارالحياة في كلينا, في لحظة انبهاق اشعة الشمس من مكمنها. في تلك البقعة, تحت ظل شجرة السرو تعرت حبيبتي البيضاء من ثيابها. جسدها الصلب, العاري الجميل, سبح بجماله تحت سقف السماء. شالها الابيض إلى جانبها, تهزه النسائم الرقيقة. كنت بالقرب منها, منتصب القامة بثقة, أمام قامتها الوتد كالوتد. فتحت ذراعي لأحملها كفراشة ملونة, أنقلها فوق زهري وفرحي.
تابعت ادراجي مثل رياح عابرة داخل مجرى الخابور, مشيعاً نظراتي المكسورة على حواف النهر. رأيت بعض الأشجار العارية تماماً, متعبة, حزينة. صوت أنينها يملأ الفضاء. تحاول البقاء, تشرب ما تبقى من بعض ذرات الماء المرمية في الأعماق السحيقة من المكان. رفرف قلبي كطفل صغير لا يقوى على حمل جسده. قلت:
مات الخابور, النهرالصبور, الحلم الذي مكث بيننا. وتناثرفي فضاء الزمن.
تابعت سيري صامتاً نحوالشمال كأي طائرغريب تخلف عن سربه, لا يدري إلى أين يتجه. في داخلي شغف ودهشة وتساءل مملوء بالغموض. أين الخابوروالفرح؟
لم يكن لدي إجابة تشفي غليلي. جاءني صوت غامض يقول لي:
الا ترى, إنه ميت. مستسلماً للأقدارالتي عبثت به. منطوياً على نفسه كباقة ورد فقدت أريجها.
الأراضي الشاسعة على جانبيه يابسة, جرداء. البيوت كئيبة متناثرة كحبات رمل مدورة. قلت:
ما أغرب هذا المكان. يبدو انني موهوم. هذا المكان لا أعرفه. ولم يسبق, أن رأيت مثل هذا الموت المشلوح في العراء.
مررت تحت جسر القطار, المكان الذي كنا نسبح فيه. نلهو ونعبث, ونلعب ونسبح. ونرمي بأنفسنا من فوقه. وندخل في عمق الماء. شباب وبنات. النساء الريفيات على ضفافه, يغسلن ثيابهن. ويطلقن المواويل الحزينة.
في ذلك الزمن الجميل, الحقل البعيد, في تلك الأوقات, قبل أن يموت الحلم, كانت الحبيبة, الزمن معي, في لحظات توهج الخيال. كنا نرقص ونغني بين حقول القمح والشعيروعباد الشمس. متكئين على الأفق, كقدر وحقيقة. نقتات من السنابل, زوادة لأزماننا الراحلة. سألتني في لحظة العري الكامل:
ـ أي مكان في الأنثى يهزك, أي رؤى أوحلم.
كانت عيني تتجه صوب الأشجارالمورقة, إلى غدران النهر, إلى فيض الخصب في جسدها, ووجنتيها, والكويكب النائم في حضن جسدها. دخلنا في أحشاء الغابة النضرة. جسدي الثائر, فياض بالرغبة. وفي أوج لحظات الصبا والعشق, واندفاعات اللهب من منابعي العميقة. اقتربت منها كموج عارم, ووضعت فمي على فمها ورحنا في عناق أزلي. مضت بنا الأمواج بعيداً, وسروج الخيل تحملنا على منحنياتها المتناثرة. كانت الظلال وورق الأشجارتحمل سرنا. عندما نتعب, نقترب من الخابور, ندخل فيه, نروض الجسد الملتهب ليعيد اللون إلى لونه. كانت الأشياء واضحة لي, غير متردد. أعرف مسارات المكان ودهاليزالأرض ومسافاتها.
بقيت أتامل جمالها, مكنونات جسدها الغضب البض. قلت لها بعد أن شبع جسدينا: أنا جائع يا حبيبة. أحس أن معدتي ستخرج من جسدي. معصورة مثل ليمونة جافة. ومشدودة الاوصال. وتمنعني من التنفس .
ـ معي زوادة, جبنه وخيار وبندورة وبطيخ وخبز. فتحت صرة ملفوفة بخيط طويل. ومدت أصابعها الحليبية. وفرشت الطعام على الحشيش الأخضرالناعم.
النسائم عليلة هذا الربيع يا حبيبي.
كنا وحدنا عراة تماماً. الخابور سرنا وكاتم أسرارنا الآلهية الجميلة. أستيقظت:
ـ بيد أنك شارد وراحل إلى البعيد يا حبيبي. بماذا أنت سارح, بماذا تفكر؟ دع كل شيء جانباً ولبنق مع بعضنا, ننهل من عشقنا صفاء اللحظات.
ـ انا معك يا حبيبتي. إنني أفكربالزمن القادم, بك يا غيمتي البيضاء. بلقائنا الأول داخل أكمة الشجر ومجرى سواقي القمح.
ـ هل هو سرلا يمكن أن يقال .
ـ لا . ليس سرا , إنما افكاري ربما لا تروق لك .
ـ ستروق لي . بيننا أحاديث كثيرة ومتشعبة , لماذا لا تروق لي الان .
ـ هذا صحيح . إننا متعبون. ربما لا استطيع ان ارسمها لك كما ينبغي .
ـ ارسمها كما تشاء, أنا معك ,احب سماع ما تقول .
ـ أحلم بطفلنا القادم, بالخابور, بالتراب الاسمرالحنون. وأشياء أخرى كما قلت.
تابعت سيري على الأرض الجافة, المشققة, فيها منحنيات وتعرجات, مطأطئ الرأس, وحيداً صامتاً. الشمس تزداد قسوة كل دقيقة. والسراب مخادع, يظهر ابتسامته الكاذبة. اتابع سيري دون أن ادرك التعب الذي نالني من سفري الطويل من سجن إلى سجن. الباص الذي حملني, الساعات الطوال في صندوقه بعد سنوات طويلة من العزلة الكاملة عن الحياة والناس والعالم. الصمت المطلق. الدهشة سر ولعي بمعرفة نهاية هذا الخلاء الواسع. خلعت حذائي المطاطي, ورميته على الأرض الجافة. مشيت حافياً. وحرارة الأرض الملتهبة تلعب بقدمي وتصطم بالرمال المذببة. وحواف الأشجار الميتة. سالت الدماء منهم, بيد أني تابعت طريقي بشغف. موجوعاً. وفي قلبي حزن دفين أن اعرف, لماذا مات هذا الجميل. رأيت امرأة ريفية تمشي كالسكرانة مثلي تقترب مني. رفعت رأسي. رأيتها عارية الرأس على غير عادات النساء في مثل وضعها, وحافية القدمين مثلي وتلبس ثياباً طويلة مزركشة وفي أسفل أنفها حلقة من الفضة وتحت فمها وشم أزرق غامض. ما ان رأتني حتى اقتربت. وفي عقلها وعينيها اسئلة كثيرة ومتعددة.
ـ هل كنت سجيناً. قلت
ـ نعم.
ـ لماذا عدت, لماذا خرجت من السجن.
ـ السجين مثل الطفل في رحم أمه. ليس بإرادته ان يبقى فيه أو يخرج. إنها إرادة الآخرين في تقرير شأنه
ـ صدقت. لكنك عدت بعد أن جف هذا الرهوان العظيم. لقد نالوا من جسده بالكامل, حتى الدماء شربوها. اعلم أنك تركته شابا, وها انك تعود إليه ميتاً. الناس عابثه لا خيرفي أمة لا تحافظ على أنهارها.
ـ من قتل الخابور.
ـ أنت تعرف ان للزمن اندفاعات غريبة, دورات على مدار التاريخ يستعصي على التوصيف. جاءه موج غامض, فاقتلع كل شيء. نحن بلاد عبث. عبث به الطوفان. وضيعه. تيبست مروجه, سرجت خيوله ورحل إلى أطراف مجهولة. نحن الوميض الضائع في جهات الأرض الأربعة. ماذا يمكننا ان نقول لبلاد ليس لنهاياتها نهايات وليس لبداياتها بدايات الا رعود الزمن, تحط رحالها ثم تختفي.
همستْ في أذني:
في ذلك الزمن الجميل قبل ان ينضح الحلم بالحلم, قبل ان تهطل الأمطار وتتخلل العاصفة رعود وبروق.
الخابور مثل طفل وليد, حضنه دافئ, جسده طري وجميل, متمايل القسمات متمدد الأبعاد على مئات الكيلومترات. على ضفتيه مئات الآلاف من محركات الديزل التي تمتص ماءه وهوائه وترميه في حقول القطن المترامية الأطراف, موزعة على مساحات شاسعة. كنت بجانب والدي وأمي وأختي لوسي وأنجيل في قرية تل كيف, عندما كان أبي يصلح المحركات العملاقة التي تقتل الماء وترميه في الحقول المريضة التي لا تشبع من الارتواء.
مرات كثيرة كنا نجلس تحت ضوء القمر، عند التقاء رافدي النبعين، حصان وقطينة, مع الخابور. نتأمل تدفق الماء من جوف الأرض. بينما الخابور الأخضر يتمدد على صدرالأرض باسترخاء، سارحا، يستجلي حدود المدى الواسع، محملا بأوراق الشجر وبقايا الأغصان المكسرة. إحدى المرات, حفر أبي الأرض بالرفش. واشعل جدع شجرة ميتة. ووضعها في الحفرة إلى أن اصبحت جمراً فوضع خاروفاً محشيا بالرزوالصنوبروالزبيب على الجمرإلى أن نضج. ضوء القمر يرسل وشوشاته لنا ونحن نغني ونضحك ونصفق, ندخل الماء بفرح.
كل يوم عطلة, في الساعة الخامسة صباحاً, نضع الفطوروالطاولة في الصندوق الخلفي للسيارة ونتجه إلى الينابيع في مدينة رأس العين. نختارنبع عين حمزة الدائري. تقشرأمي البطيخ الأحمر والاصفر, تجهز أختي الجبنة مع الخيار والبندورة. الماء صاف مثل البللور, حبات الرمل تتراقص تحت دفق تدفق الماء الخارج من الأرض. الأسماك الصغيرة تنتقل من جهة إلى أخرى. ندخل الماء ونسبح, نشرب منه ونجلس وأقدامنا في الماء. على مبعدة بسيطة, بضعة أمتار, عين الرياض, الزرقاء. الماء يتدفق من كل مكان, لا أرى أمام نظري الا الماء الخارج من الأرض. أي جمال هذه المنطقة من العالم. الاشجارفي كل مكان, والهواء الصيفي العليل يلعب في الطبيعة حيث يريد.
تمتد المدينة في ذاكرتي كغربة قديمة, كذاكرة ميتة. بيوت صلبة وشوراع قاسية, مستطيلات ودوائر, محلات كبيرة وصغيرة. عدت إليها بعد ان انطفئ الحلم ومات. جلست في صحن الدارفوق أرآك فاخرة اشترتهم أمي أثناء غيابي الطويل. استقبلت الناس ضجراً, أنفاسي متقطعة وذهني سارح في الغياب. انظرإلى وجوه الزائرين الغضة, المملوءة نضارة بوجه متعب مسحوب الفرح. يتسامرون ويتهامسون بينما ذهني يرحل إلى صوب رفاقي النائمين على الأرض العارية في السجن. لماذا جاء هؤلاء الغرباء إلي. ما سبب مجيئهم؟هل هوحالة فضول عابرة, رفع عتب, ترميم غربة سابقة, إحساس بالواجب؟ أي واجب؟ ما هي الدوافع التي جعلتهم يفكرون بالمجيء إلى بيتي. كنت اثبت نظراتي المتعبة على ضحكهم العابر والسريع. لم اصل إلى إجابة شافية رغم أنني بذلت جهداً إضافياً لامتثالي لهذه اللحظات الخاوية. لم أكن في الزمان والمكان الذي كانوا فيه ولا يعو الذي أعيه. اقضي الوقت المنتفي لوقتهم في مفارقات هائلة.
المكيف يبث هوائه البارد في الغرفة فتميد الأنفاس والكلمات الفارغة. الحمد لله على السلامة. الله يسلمكم. هل أنا في حالة عزاء أم فرح, والناس لماذا تأتي. تحت أي دافع. البعض حمل لي هدية, كثرت القمصان التي جلبها الزائرون. والبعض الآخر, جلب لي قميصًا, ثم أخذه في طريق خروجه, على أمل أن يعود مرة أخرى. ففي هذا الزمن الطويل تبدلت الرغبات والوجوه. وجودهم لم يستطع ان يحتوي روحي.
بقيت أربعة أيام لا استطيع أن أنام. قلت لأختي انجيل التي جاءت من اليمن للسلام علي. اعصابي لا تسترخي ابدأ. قالت سأجلب لك حبة فوستان, مهدء كي تنام وترتاح. ما أن تناولتها حتى رأيت أمي بجانبي واصبعي الصغير, يمتد إلى البعيد, قلت لها في لحظة الترحال:
ـ من أين تأتي تلال الماء يا أمي, لماذا يذهب هدراً في جوف الارض. وتحت لفح حرارة الشمس. لم تنتبه لأقوالي. كانت تحدق في ثنايا الأفق، تراقب زرقة السماء وصفاء الطبيعة. مسترخية، تستنشق هواء البراري العذبة. وعلى الضفة الأخرى, كانت أسراب طيورالقطا المتواترة, تحط الرحال بين سنابل الحنطة الطرية.
ـ الصباح منعش ولطيف، تعال نأكل هذه اللقيمات الطازجة.
كانت نوارس الخابورتصفق بجناحيها. وتغوص فوق تلال الماء المتدفقة، المندفعة من شهوة الأرض, باتجاه السهول والبوادي المفتوحة على المدى. لم التفت لما قالته أمي.
كنت اركض وراء الفراشات الملونة، الراقصة، فوق السمت المنعش. اسبح فوق ظلال المساحات المفتوحة، المتربعة على الورد المخاتل، الأحمر والأصفر والنهدي. رافعا وجهي إلى الأعلى، اضحك كثيراً, خاصة عندما كنت أرى وجه أمي الخائف.
ـ لا تقترب كثيرا من النهريا ولدي، أبق على مسافة بعيدة منه.
النسيمات العليلة تهب، تصطفق أوراق الأدغال، تنبعث من الندى المفروش على الأعشاب, رائحة لزجة، عذبة ولذيذة, ممزوجة بالبابونج والزعتروالنعنع البري.
ـ اسمعي يا أمي، اصيغي السمع. وقفت في مكاني اتأمل بصمت، بينما حفيف الأشجار يداعب وجنتي وشعري.
ـ عن ماذا تتكلم.
ـ انظري إلى الأعلى، اشرت بيدي اليمنى إلى الأعلى. اترين ما أرى. رفعت رأسها إلى المكان الذي اشارت إليه. رأت رفوف البط والوز والزرازير. طيورمن أنواع مختلفة، مرتفعة جدا، كأنها لا تنام. تصدح وتغرد طوال الليل والنهار، موسيقاها تتسلل إلى الحواس والذاكرة وتوقظ الحنين للمفاجأة والإندهاش.
رحت استرخي، استرق السمع لأصوات الطيور الصادحة واترك القشعريرة اللذيذة تسري بهدوء في جسدي، انظر الى تموجات شعرها الطائر في الفضاء.
ـ انتبه.. هنا النهر عميق، كن يقظا حتى لا تتزحلق وتقع في الماء فيأخذك الخابور في تياره الجارف.
وعلى امتداد الأفق تسترخي أشجار الحوروالزل والتوت مستمتعة بالنسائم الرقيقة، تجدف أوراقها وتسري عن همومها. على أغصانها الخضراء آلاف العصافير والبلابل يغردون. هناك. ومددت إصبعي الغض. وبصري إلى الأمام. وباستحياء, رافعا حاجبيي إلى الأعلى. كانت السماء صافية، صوت رقرقة الماء يتناغم مع غناء الطيوروحفيف الشجر:
انظري إلى الدوامات الكبيرة للخابور، لخلاياه المتجددة. وبشغف ودونما شعور مني رحت اقترب من الكيش, مادا قدمي في الماء, رامياً فتافيت الخبز للأسماك الصغيرة والبط المنزوي بين ختلات الدغل وأكمة الشجر. كمن مسه هوس, راحت والدتي تصرخ كاللبوة:
ـ قلت لك لا تقترب كثيراً من النهروإلا سيجرفك التيار. وتضيع بين وهاده الغامضة. وقفت خائفا، تراجعت إلى الوراء:
ـ لكنكِ شاردة، منزوية وصامتة، غارقة في أفكارك.
النسيمات الرقيقة تهب بانشراح، تلامس النباتات السكرانة المزنرة بقطرات الندى، تهيج ذاكرتها وتحرك الخلايا الغافية فيها، توقظها من نومها، كي ترتعش، وتفرش روحها على ظهر الفلاة.
أوقدت اللفافة من ولاعتها، راحت تمجها بشراهة، تنفث دخانها في الفضاء، عيناها مركزة على انسياب النهربحرية وطلاقة. رفعت خصلة من شعرها القصيرعن عينها اليمنى وسوته بيدها اليسرى، عدلت من مكانها، أخذت الترمس وملئت فنجانا. راحت ترشف القهوة بنهم وتحدق مرة أخرى بالدفق والنبض والحلم، بالخابور. تمتمت بصوت خافت لوحدها بعض الكلمات المسموعة:
النهر شهوة الأرض والحياة، الزمن البدئي، الومضة الأولى للدفق الكوني. التفتت إلي مرة ثانية تبحث عن خطاي، عن عيني. رأتني إلى جانبها. راحت في شرود والهواجس تسبقها:
ـ عندما كنت صغيراً يا ولدي، جنينا في الوهاد والرحم، ملامسا لزغب الشمس وبويغاتها، كان هذا النهر يتمدد ويسرح تحت لون السماء الأزرق. قلت بصوت ناعم:
وما يزال.
هكذا بدت ترسم شفافية المكان، مسكونة بالتأمل والهواء العليل، تعود إلى قهوتها بين الفينية والأخرى، ترشف المزيد من فنجانها.
يغيب الخابور في الأغوارالعميقة، يبتعد، ثم يعود ثانية إلى موضعه، حاملا على خاصرته, سلال الفرح ودنان المواسم, ولون القوس القزح.
تتوجس دائما, تمد عنقها إلى الأمام. وبخوف مفوت, من الانضباط. وقدميها الناعمتين في تلال الماء. وعيناها في وجهي:
ـ الخابور عند الصباح, يكون سكرانا. في جوفه شبق، باقات سنابل ورائحة الربيع والبيادر. لا تعترض طريقه, تعال نسبح عند الكيش، عند الرمال والحصى. كان وجهها, يلامس زغب أشعة الشمس القادمة من وراء الأفق:
تعرى يا ولدي حتى يراك الخابور ويتعرف على جسدك. تعال كي يغسلك, يعمد روحك من الوجع. لتعقد معه صلة رحم ونسب.
تحت دفق الماء، كانت القوارب الخشبية الصغيرة المصنوعة من جدوع الأشجارتنتقل من ضفة إلى ضفة, محملة بالخيار والبندوروالبطيخ. مشت خطوات قليلة، أخذت بضعة لقيمات صغيرة من الزوادة ووضعتها في فمها، رشفت القليل من القهوة ضاحكة.
اغمر جسدك كله.. كله. أدخل في شهوة الحياة، لتتعطرمسامات جلدك وخلاياك.
كانت الشمس تزداد سطوعا وجمال. كفّنت نفسي في الرمال، بقيت عيناي وفمي وانفي يلامسون الضوء. أسمع هسهسة الأعشاب ونقر الأسماك الصغيرة لاقدامي البضة.
الخابور عراف الخلود، قمصانه ولياليه منسوجة من زفرات الفرح. الماء الأخضركالمرج، يطلق قبراته وسنونواته وسمنه في الفضاء. أنا طائرأبيض، لدي هوس في تعلم السباحة عكس التيار. جاءني صوت إله غامض, أمي:
ـ احذر المغامرة. جسدك الصغيرلا يقوى على السيطرة على التيارات المائية الجارفة والسرعات الهائلة. خاصة, عند المنعطفات والمنحدرات. وحتى في لحظات استرخاء الماء. أسرار كثيرة تكتنفه، أشياء كثيرة تشدك إلى الأسفل.
كانت تتحدث والسيكارة في فمها، تصرخ من حين إلى حين، من الخوف والغضب:
لا تتحدى القدر بحسابات خاطئة أوغامضة.
راحت تدفع خطواتها ببطء بين بساتين العنب والتين, ملتفتة. عيناها لا تفارقني. متكئة على صوت الهواء, وهو يجول بصفاء في رواق الطبيعة. نادت علي أن اعود إليها وامشي بالقرب منها
ـ يتبع


إن التوق الحقيقي إلى الأبدية, هو البحث العملي عن الغامض, عن الأحلام المؤجلة, النائمة في حضن الصدف الثمينة. في ذلك المزيج المضطرب بين الأمل والوهم, داخل العواصف والأهواء المضطربة الباحثة عن ما هو جديد

المفاهيم السائدة, تعني ما تعنيه, هو الموت أو التلذذ بالموت. تكرار ما هو مكرر. وعندما نستيقظ من غفوتنا, يكون الاندهاش قد تأخر ردحا طويلا من الزمن

الديكتاتور قناع, يختبأ خلفه كل يوم. ويلبسه لاتباعه, ليحول الواقع إلى كرنفال مشوه, متعدد, في لونه وسيمائه وتحولاته.
أكاد أقول, إنه لا يوجد شخص واحد في مملكة الديكتاتور لم يلبس هذا القناع يومًا. ليتحول الجميع إلى أشباه مشوهة, متشابهة.

السياسة هي رافعة للتاريخ, ومخلفاته. ويعود الفضل لها, في مكانة الكثير من القوى والمجتمعات والشعوب.
لولا السياسة لما كان هناك دين ورسل وأنبياء ومشاهير. السياسة هي التي جعلت من الأنبياء أنبياء والرسل رسل, لأنها تكثيف للمصالح وحامل مكثف للقوى, والكتل الاجتماعية والتكتلات.


لقد قطع الفرنسيون رأس الملك لويس السادس عشر فقضوا بذلك على التماهي بين الدولة والشخصنة لصالح المؤسسة والانتقال من سلطة الفرد إلى سلطة الدولة. لكن ذلك لم يكن بالسهل فقد قدمت المجتمعات الاوروبية الكثير من التضحيات من أجل تكريس حريتها وقيمها القائمة على احترام الفرد والآخر لكن الديمقراطية السياسية ستبقى عرجاء ان لم يتبعها بديمقراطية اجتماعية. اليوم يسعى شعبنا على وضع الخطوات الأولى لهذه المسيرة الطويلة المكللة بدماء ابنائه وبناته.



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هواجس عامة 340
- هواجس سياسة وأدب ودين ــ 339 ــ
- هواجس أدبية وإنسانية ــ 338 ــ
- هواجس في الأدب والسياسة والفكر 337
- هواجس فكرية ــ 336 ــ
- هواجس ثقافية أدبية سياسية فكرية 335
- هواجس إنسانية وسياسية ــ 334 ــ
- هواجس عالمنا ـ 333 ــ
- هواجس تمس الواقع ــ 332 ــ
- هواجس تمس الدولة والحرية ــ331 ــ
- هواجس إنسانية 330
- هواجس أدلبة 329
- هواجس ثقافية 328
- هواجس قديمة 327
- هواجس في الأدب ــ 326 ــ
- هواجس اجتماعية فكرية أدبية 325
- هواجس فنية وسياسية واجتماعية ــ 324 ــ
- هواجس وأشياء من الذاكرة 323
- هواجس ثقافية ــ 322 ــ
- هواجس ثقافية وفكرية ــ 321 ــ


المزيد.....




- -لوحة ترسم فرحة-.. فنانون أردنيون وعرب يقفون مع غزة برسوماته ...
- ويكيبيديا تحسم موقفها وتصف حرب إسرائيل على غزة بأنها -إبادة ...
- في المؤتمر الثالث للملكية الفكرية بالمغرب.. قلق بين شركات ال ...
- “برومو 1” مسلسل قيامة عثمان الموسم السادس الحلقة 170 مترجمة ...
- معرض الجزائر الدولي للكتاب.. قطر ضيفة شرف وإقبال على رواية - ...
- صور| بيت المدى يستذكر الناقد الراحل عبد الجبار عباس في ذكرى ...
- روسيا والبحرين توقعان اتفاقية تعاون على هامش مبادرة -شبكة ال ...
- تونس: في جرجيس.. فنان يخلد ذكرى المهاجرين الذين لقوا حتفهم ف ...
- “سوسو ولولو جننوا الأطفال”… نزل تردد قناة وناسه ومتع عيالك ب ...
- المخرج الباكستاني علي سهيل جاورا يفوز بالجائزة الثانية في مه ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - هواجس أدبية 341