|
في مفهوم الأيديولوجيا
هاشم نعمة
الحوار المتمدن-العدد: 8153 - 2024 / 11 / 6 - 18:48
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
استُخدم مفهوم الأيديولوجيا أول مرة عام 1797 من قبل المنظر الفرنسي ديستوت دو تراسي، وكان يعني بالنسبة له مجرد “علم أفكار” عام، أي دراسة كيف نفكر ونتكلم ونحاجج. والمفهوم مشتق من الكلمتين اليونانيتين eidos (فكر) وlogos (سبب، خطاب)، وارتبط بمشروع تأسيس علم الظواهر العقلية ودراسة تكوين الأفكار. وقد أدرك دو تراسي أنه على الرغم من أن الاسم كان جديدا، إلا أن العلم كان له تاريخ جدير بالاعتبار. يمكن القول بالفعل أنه أضاف تحسينات طفيفة فقط إلى النظام الذي وضعه كونديلاك. لكن "علم الأفكار" يعود إلى أوقات مختلفة في التاريخ الفرنسي؛ وعندما قدم دو تراسي مفهوم “أيديولوجيا”، وجد هو وزملاؤه الممارسون للعلم الجديد أنفسهم يواجهون صعوبات سياسية. وأدركوا أن الوقت كان حرجا، لاستخدام هكذا مفهوم في ظل الأوضاع السياسية والثقافية السائدة. اكتسب مفهوم الأيديولوجيا عدداً من المعاني خلال قرنين من وجوده القصير، وتم صياغته من خلال وجهات نظر مختلفة. وعند فحص كيف تعاملت العلوم الاجتماعية، على وجه الخصوص، مع الأيديولوجيا، غالبا ما نجد أن الانطباع الأول للمرء يكون ارتباكا كبيرا .مثّلت في البداية القائمة الطويلة من الكتب والمقالات التي يرتبط فيها علم الاجتماع بالإيديولوجيا -آلاف النصوص- صعوبة إضافية في فهم الأيديولوجيا؛ نظرا لاختلاف التعريفات ووجهات النظر ونماذج المقاربات لهذا المفهوم على نحو كبير. المفارقة التي ينبغي الإشارة إليها هي أن الماركسية لديها قِدم في كلا الاتجاهين: من ناحية، فإن الرجوع إلى كارل ماركس يوفر للعلوم الاجتماعية أحد أكثر مصادرها مصداقية. ومن ناحية أخرى، برزت الماركسية في القرن العشرين، باعتبارها أيديولوجيا بامتياز؛ نتيجة الفهم الجامد للماركسية من قبل الأحزاب الشيوعية خصوصا التي كانت في السلطة والتي حولت نصوصها إلى مسلمات غير قابلة للتطور، وعدم النظر للماركسية كمشروع فكري متواصل يغتني ويتطور مع مستجدات العصر، وكان هذا من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى إخفاق تجربة البلدان الاشتراكية. لا تزال الأيديولوجيا من المفاهيم الملتبسة في العلوم الاجتماعية التي يدور النقاش حولها وهي موضع خلاف كبير. وهناك العديد من التعريفات لهذا المفهوم. فقد اعتبر ماركس أن الأيديولوجيا هي تشويه للواقع و"وعي زائف" لصالح طبقة اجتماعية معينة، وعادة ما تكون الطبقة الحاكمة. فالليبرالية، على سبيل المثال، كانت أيديولوجيا البرجوازية التي تخفي استغلال واضطهاد الطبقات الأخرى. واعتُبرت نظريات ماركس علمية وبالتالي فهي ليست أيديولوجية. وهي "تمثّل عند إنغلز في قراءته لماركس، ومن ثم العديد من الاتجاهات الماركسية، تجليا لـ "الوعي الزائف"؛ أي معتقدات غير صائبة يؤمن بها كثيرون بسبب تثبيت الطبقة الحاكمة لها بهدف إضفاء الشرعية على الوضع القائم، والتستر على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية التي يقاسيها العمال في الواقع"(1). وفي هذا السياق من المفيد أن نستحضر قول نيكوس بولانتزاس، بأن الفاشية نشأت من بين أمور أخرى، من أزمة أيديولوجية. اختار علماء الاجتماع في النهاية إدراج الأيديولوجيا كموضوع للدراسة في تخصصهم. ولكن تطلب الأمر منهم الوصول إلى تعريف لهذا المفهوم المربك من خلال محاولات وضع المفاهيم conceptualizations المتعلقة به. لقد كان ماركس هنا أيضاً بمثابة أحد الآباء المؤسسين في هذا الميدان؛ فبالنسبة له، كانت الأيديولوجيا وظيفة للعلاقات الاجتماعية للإنتاج. بكلمات أخرى، افترض ماركس أن الأيديولوجيا لا يمكن فهمها دون الرجوع إلى البنية الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية وطبيعة الفاعلين الذين ينقلونها. وبعد قرن تقريبا، في منتصف سبعينيات القرن العشرين، اقترح السوسيولوجي الفرنسي بيير أنسار، أحد ورثة هذا المنهج، تأسيس علم اجتماع الأيديولوجيات. علما "إن عملية كشف الأيديولوجيات سهلة حينما تكون صريحة، لكنها أيضا تكون غير مباشرة أو ضمنية أو مخفاة أو تأتي في بنيات خطاب يصعب الانتباه إليها.(2) " إن فكر ماركس بحد ذاته مبني على الحداثة؛ فهو مقتنع بأنه يستمد أفكاره من العقل في مقابل نزعة إعاقة التحضر المترسخة في التقاليد البالية، وهو يحارب التضليل الإيديولوجي الذي من المفترض أنه يخفي مصالح الطبقات المهيمنة. في الكتاب الضخم المعروف جيدا "الإيديولوجيا الألمانية" الذي ألفه ماركس وأنغلز، يوضح ماركس أنه في كل الأيديولوجيات يظهر الناس وظروفهم مقلوبة رأسا على عقب، كما في الكاميرا المظلمة. من وجهة النظر هذه، فإن هدف العلم هو وضع الأفكار في سياق الحياة الواقعية، وهو يرى أن الأيديولوجيا هي نقيض الحقيقة والمعرفة. وينبغي استخدام العلم نفسه للعمل والكفاح ضد الظلم الاجتماعي. لقد كان واضحا، أن الماركسيين تصدوا للأيديولوجيا من خلال تعريف أنفسهم أنهم مع العلم. وفي الكتاب تجري الإشارة إلى أن وجود البشر الاجتماعي هو الذي يقرر وعيهم الاجتماعي. لذا المطلوب دراسة العلاقات الاجتماعية لأن هذه العلاقات هي التي تفسر تصوراتنا وأفكارنا، وليس العكس كما يذكر الأيديولوجيون الذين "تصبح الفكرة المجردة عندهم القوة المحركة للتاريخ ... بحيث يرتد التاريخ إلى تاريخ الفلسفة". خلال فترة طويلة استمرت حتى نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، احتل مفهوم الأيديولوجيا بالفعل مساحة متعددة المعاني. ولم يتداخل هذا إلى حد كبير مع اهتمامات علم الاجتماع الذي بلغ سن الرشد في أعمال إميل دوركايم وماكس فيبر ووصل إلى مرحلة النضج مع تالكوت بارسونز. وقد لعبت الأيديولوجيا دوراً رئيسا في النقاشات السياسية والأسئلة التاريخية الرئيسة المركزيتين، وغذت النقاشات بشأن شئون العالم، والصراع الطبقي، والاشتراكية، والاختيار بين اليمين واليسار، والحرب الباردة ... الخ. حيث كان علماء الاجتماع مجرد فئة من المشتغلين في دراسة هذا الحقل من بين حقول معرفية أخرى. وهكذا، في المرحلة التي امتدت من صياغة المصطلح إلى نهاية ثمانينيات القرن العشرين، كان علماء الاجتماع إما يبالغون في تقدير أهمية الأيديولوجيا وإما يقللون من أهميتها. من ناحية أخرى، عادة ما يربط الليبراليون الأيديولوجيا بما يسمونه أنظمة الفكر المغلقة التي تدعي أنها الحقيقة المطلقة. وتزعم الليبرالية أنها مجموعة من المبادئ الفلسفية السليمة، في حين أن العقائد الأخرى مثل الماركسية هي أيديولوجيا، بينما تصنف الليبرالية من قبل الباحثين بأنها أيديولوجيا، والدليل على ذلك ما أعلنه فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، بأن الديمقراطية الليبرالية هي النظام الأفضل الذي وصلت له البشرية. وبإمكانها أن تشكل فعلا “منتهى التطور الأيديولوجي للإنسانية” و"الشكل النهائي لأي حكم إنساني"، أي أنها من هذه الزاوية “نهاية التاريخ”. وهذا إقرار واضح بأن الليبرالية تمثّل أيديولوجيا بامتياز. وعن العلاقة بين الدولة والأيديولوجيا، يجري التأكيد أن مفاهيم مثل الدولة والسلطة لها حتماً دلالات أيديولوجية تعتمد على التوجهات الثقافية والاجتماعية في المجتمع. وهناك من ينظر إلى الأيديولوجيا باعتبارها تنظيما للأفكار والقيم في المجتمع. وأن ثمة تمييز بين الخطاب الأيديولوجي الذي يمثّل سياق النقاشات الأيديولوجية، وأيديولوجيات معينة تعبر بوجهات نظر مختلفة عن طبيعة المجتمع في الخطاب لأيديولوجي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تون فان دايك، الأيديولوجيا والخطاب، ترجمة سعيد بكار ولحسن بوتكلاي، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023، ص 94-95. (2) المصدر نفسه، ص 59.
#هاشم_نعمة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في سمات الشعبوية
-
دراسات في متغيرات العراق السكانية... والهجرات القسرية
-
موضوعات اجتماعية-اقتصادية معاصرة مع التركيز على حالة العلااق
-
في فهم الفاشية
-
تأثير الديمقراطية وعدم الاستقرار السياسي والاستقطاب على النم
...
-
العلاقة البنيوية بين الرأسمالية والهجرة الدولية
-
تناقضات منهج الليبرالية الجديدة تجاه الهجرة
-
العلاقة بين الديمقراطية والتنمية مع التركيز على حالة البلدان
...
-
الليبرالية الجديدة وتناقضاتها
-
تزايد حاجة أوروبا للعمالة المهاجرة
-
صعود الليبرالية الجديدة وسقوطها
-
قراءة في كتاب -لماذا فشلت الليبرالية-
-
العالم العربي: دراسات في الهجرة الدولية ونظرياتها
-
عصر التنوير والجغرافيا
-
شر الاستعمار لا يغتفر
-
الكتابات الماركسية الجديدة
-
ملاحظات في العلاقة بين الديمقراطية والتنمية
-
العلاقة بين الهجرة الدولية والتنمية
-
عصر عدم الاستقرار القادم في أمريكا
-
364 ألف مدني ضحايا حرب أمريكا على الإرهاب
المزيد.....
-
تونس: هجوم بسكين على عنصر أمن نفذه شقيق مشتبه به في قضايا إر
...
-
مقتل عنصري أمن في اشتباكات بحمص بين إدارة العمليات العسكرية
...
-
نتنياهو يضع عقبة جديدة أمام التوصل لصفقة تبادل للأسرى
-
زلزال عنيف يضرب جزيرة هونشو اليابانية
-
موزمبيق.. هروب آلاف السجناء وسط أعمال عنف
-
الحوثيون يصدرون بيانا عن الغارات الإسرائيلية: -لن تمر دون عق
...
-
البيت الأبيض يتألق باحتفالات عيد الميلاد لعام 2024
-
مصرع 6 أشخاص من عائلة مصرية في حريق شب بمنزلهم في الجيزة
-
المغرب.. إتلاف أكثر من 4 أطنان من المخدرات بمدينة سطات (صور)
...
-
ماسك يقرع مجددا جرس الإنذار عن احتمال إفلاس الولايات المتحدة
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|