|
ما ضير الديمقراطية لو انتخب المعاتيه معتوهاً منهم؟
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8152 - 2024 / 11 / 5 - 18:15
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
على افتراض أن الله قد خلقنا جميعاً نحن معشر البشر متساوون تقريباً في البنيان، هب أنك كرجل صفعتني على وجهي أمام المارة في عرض الطريق. الشيء المؤكد، البديهي والمتوقع من الكافة، هو أن أرد لك الصفعة، وهذا أقل ما يمكنك توقعه مني. لماذا؟ لأنك إذا كنت رجلاً تملك قبضة قوية، أنا أيضاً أملك مثلها بحكم الخِلْقَة الطبيعية المتساوية تقريباً. لهذا السبب يحرص معشر البشر في كل الدنيا، من منطلق أعراف وقيم وأصول مُتبعة من اتفاقهم، على تصنيف القوم إلى فئات منفصلة كلٌ منها على حدة، بحيث لا يصح ولا يليق الاحتكام إلى استعمال القوة إلا فيما بين أفراد الفئة الواحدة فقط: الرجال فيما بينهم والنساء فيما بينهن والصبية فيما بينهم، ولا يصح ولا يليق لشاب أن يعتدي على طفل أو مُسن أو مريض، وكذلك الحال مع الشابة...الخ. هذا التوازن الطبيعي في القوة، مضافاً إليه مُلحقه العُرفي، يساعد في ضمان السلم الجمعي واستمرار النشاط والحياة وسط مجموع البشر في أي مكان أو زمان. إذا كنتم تستطيعون العدوان علينا، نحن أيضاً نستطيع. توازن الردع ضد العدوان هذا يُغلق الطريق أمام الاحتكام إلى العنف ويفتحه أمام التنافس السلمي على جميع الأصعدة، من السياسية إلى الاقتصادية، الأمر الذي يساهم في مزيد من تقدم وازدهار وقوة المجموع ككل.
هذا في عالم الحياة الطبيعية كما خلقها الله الذي نُقْرِنه دوماً بصفة العادل. ماذا عن عالم الحياة السياسية/الاجتماعية المصطنع الذي نَرسمه ونُنظمه ونَحكمه ونُراقبه نحن معشر البشر عبر مؤسسات من خلقنا نحن ولم يخلقها لنا الله، وعلى سدتها الرئاسة موضوع هذا المقال، وبالتحديد الرئاسة الأمريكية الذي يهدد أحد المعاتيه الأمريكان بمصادرتها واستغلالها لمصلحته الخاصة ومصلحة المعاتيه أمثاله حال فوزه بها في الانتخابات الجارية. هل يستطيع المعاتيه حقاً رغم كثرتهم- في أي مجتمع مهما كان- أن يقوضوا نظاماً ديمقراطياً راسخاً، يعمل ويؤتي أوكله التي تغذوا منها هم أنفسهم منذ نعومة أظفارهم؟ حتى نجيب على هذا السؤال يجب أن نعرف أولاً ماهية هذه المنظومة وطبيعة هؤلاء الأشخاص الذين صنعوها، ولماذا صنعوها، في المقام الأول.
استكمالاً للغة المجاز أعلاه، الديمقراطية فكرة قديمة، أقدم حتى من الأديان السماوية، تعود أولى أصولها الموثقة إلى قدماء الإغريق والرومان. من هذه الأصول البدائية، استلهم بعض من ألمع وأحذق العقول البشرية المفكرة عبر القرون الأخيرة وأبدعوا لعبة حديثة لكن ليست نسخة ولا صورة طبق الأصل من القديمة التي مارستها واستغلتها لمصلحتها أقلية من الرجال الأحرار الفضلاء ذوي الأملاك ضد أكثرية شملت نظرائهم من الرجال الأحرار لكن معدومي الأملاك، محدودي الدخل، والنساء سواء من ذوات الأملاك أو بدونها، والعبيد من كافة العرقيات والأجناس. بل امتازت الديمقراطية الحديثة وتفوقت على سلفتها القديمة بفضيلة جوهرية: أنها صُنعت لكي تمارسها وتستغلها لمصلحتها كل العامة من الرعاع والدهماء والمعتوهين، الفقراء ومحدودي الدخل والجهلة ومعدومي الأملاك والفضيلة أنفسهم الذين قد تعمدت الديمقراطية القديمة استبعادهم من آليتها ومنتوجها. بينما كانت ديمقراطية الإغريق والرومان الكلاسيكية نخبوية المنشأ والممارسة والغاية، عضويتها حكر على النخبة وتعمل وتُنتج لمصلحتهم حصراً، الديمقراطية الحديثة شعبية، بمعنى أن هؤلاء الدهماء والمعاتيه والجهلة والأراذل عديمي الفضيلة أنفسهم هم أعضائها المساهمون وأصحاب المصلحة الأساسيين في تشغيلها وديمومة عملها واستمرار وزيادة إنتاجها، الذي يتغذون عليه هم أنفسهم في المقام الأول بحكم كونهم الأكثرية. مع ذلك، يبقى السؤال مشروعاً: كيف تأتمن هذه العقول الحاذقة التي ساهمت في بلورة فكرة وممارسة الديمقراطية الشعبية الحديثة مثل هؤلاء الجهلة والمعاتيه، من الأثرياء والفقراء، على آلية جبارة بمقدورها حشد وتجييش طاقات ومقدرات الأمة بأسرها ووضعها بين يدي شخص معتوه مثل الأمريكي دونالد ترامب؟!
هنا نعود إلى المعتوه الأول، هذا الذي دون سبب صفعني على وجهي أمام المارة في عرض الطريق. ماذا لو أنه كان يحمل مسدساً وصوبه في رأسي قبل أن يصفعني؟ هل كنت سأرد له الصفعة؟ بالطبع لا. مثل هذا الأحمق المُسلح لا يستطيع فقط أن يصفعني ويركلني كيفما يحلو له، بل هو يستطيع أيضاً بسطوة سلاحه أن يقطع الطريق كله على المارة جميعاً، ثم يسمح بمرور من يشاء، ويجبي إتاوة أو يضرب وينتهك كرامة وحُرمة من يشاء، أو حتى يمنع المرور كليتاً على من يبغضهم لسبب أو لآخر، بنفيهم أو تصفيتهم جسدياً. من هنا أتى عامل الأمان الأول الذي قد حصنت به نفسها الديمقراطية الشعبية الحديثة: (1) السلاح، الجيش والقوات الأمنية، لا يدخل لاعباً في السياسة. بعد تجريدهم من السلاح، يصبح اللاعبون السياسيون في توازناتهم وعلاقاتهم السياسية أشبه بالأشخاص الطبيعيين شبه المتساويين في خلقتهم وقواهم البدنية.
وكما تُغلف المعاملات فيما بين الأشخاص الطبيعية بحزمة من القيم والأعراف والتقاليد المصونة التي تشجب وتستهجن إلى حد التحريم أحياناً عدوان الرجل على امرأة أو مسن أو مريض، توجد أيضاً حزمة من المبادئ والقيم والأعراف والتقاليد الديمقراطية التي وضعت بهدف تهذيب المعاملات بين الأشخاص الاعتبارية مثل الرئاسة والبرلمان والقضاء والأحزاب والشركات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية والجمعيات الأهلية وما إلى ذلك. عامل الأمان الثاني في الديمقراطية الشعبية الحديثة: (2) كل شخص اعتباري يُحدد له وزن سياسي معين لا يصح ولا يليق أن يتخطاه ليعتدي على شخص اعتباري آخر أقل منه. كما لا يجوز لذكر أن يغتصب أنثى، أو شاب أن يعتدي على طفل أو مسن أو مريض، كذلك لا يليق من مؤسسة الرئاسة، مثلاً، أن تستعمل نفوذها الواسع ضد إحدى مؤسسات الدولة الأخرى من تحتها، مثل حزب أو شركة أو جمعية أهلية أو وسيلة إعلامية؛ ولا يليق من أكثرية برلمانية أن تستخدم أكثريتها حصراً وتحديداً ضد أقلية بعينها.
عامل الأمان الثالث: (3) القرار النهائي ليس ملكاً حصرياً لأحد في الحكومة الديمقراطية الشعبية؛ بل يجب أن يمر بموافقة شُعبها الثلاثة التنفيذية والتشريعية والقضائية. لا رئيس الجمهورية ولا رئيس البرلمان ولا رئيس القضاء يملك القرار السياسي الأخير وحده، بل لابد أن يتفق ثلاثتهم عليه. وإذا لم يتفقوا، يُحال القرار إلى الأمة جميعاً في استفتاء عام.
عامل الأمان الرابع: (4) الانتخابات التي قد يستغلها المعاتيه من أمثال ترامب وأنصاره ليست كل شيء في الديمقراطية الشعبية الحديثة. هناك القضاء، الذي تشغل مناصبه ألمع وأحذق العقول المفكرة مثل التي ابتكرت وصنعت فكرة وممارسة الديمقراطية الشعبية ذاتها، وتسهر يومياً على تقويم عيوبها ومراقبة أدائها بالشكل الصحيح، لا يُتاح أصلاً للانتخابات الشعبية. ويملك هذا القضاء غير المنتخب، كأحد أضلاع الحكومة الثلاثة، الصلاحية لإبطال قوانين البرلمان وحتى قرارات الرئاسة إذا ما قضى بعدم دستوريتها.
رغم ذلك، ماذا يمنع لو نجح المعاتيه الأمريكان بصفتهم يمثلون الأغلبية في تنصيب معتوه منهم مثل ترامب أعلى وأقوى منصب سياسي، الذي قد يتكفل حينئذٍ باستبدال قادة الجيوش والقوات الأمنية بمعاتيه من أنصاره، وقيادتهم إلى تمزيق الدستور وتفريق البرلمان وحل الأحزاب وتصفية القضاء ومصادرة الأملاك ووسائل الإعلام، ثم إعادة تفصيل كل ذلك من جديد على مقاسه الخاص هو وأتباعه كما حدث ويحدث فعلاً في بلدان كثيرة حول العالم، مثل منطقتنا؟َ ألم يفعلها قبله معتوه آخر، هتلر، وأذاق شبعه والعالم الأمَرَّين؟!
هذا ممكن نظرياً، لكنه شبه مستحيل عملياً. حتى لو كان دونالد ترامب أكثر عتهاً وجنوناً من أدولف هتلر، أمريكا اليوم ليست مثل ألمانيا مطلع القرن العشرين، ولا الديمقراطية الألمانية آنذاك تشبه الديمقراطية الأمريكية الآن. الولايات المتحدة الأمريكية فيها ديمقراطية شاملة وراسخة، بمعنى مؤسسات تعمل وتؤتي أوكلها للكافة منذ فترة جيدة من الزمن. هذا عامل أمان خامس: (5) الديمقراطية الشعبية أشبه بشجرة مُعمرة تحتاج إلى الوقت والعناية لكي تعطي ثمرتها التي يتذوقها ويأكل ويعيش منها الكافة. ومن شبه المستحيل- بأقل من حرب أهلية شاملة- أن تقنع هؤلاء المعتادين على الاسترزاق والعيش منها- كافة المواطنين المشاركين وأصحاب المصلحة فيها- بجدوى قطع الشجرة الوحيدة التي تغنيهم وتُظلهم وتحميهم قبل أن توجد لهم أخرى أكبر، ثمرتها ألذ وحمايتها لهم أفضل. في قول أخير، العدو الحقيقي والوحيد للديمقراطية الشعبية بصورتها الراهنة ليس هو معتوه مثل ترامب وأنصاره يتعيشون هم أنفسهم على خيرات هذه الديمقراطية ذاتها، بل يكمن في ديمقراطية أفضل أداءً وأغزر إنتاجاً وأكثر شعبية من القائمة حالياً. هل يستطيع ترامب والمعاتيه أنصاره توفير هذا البديل؟!
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن حاجة الإنسان إلى رَبْ
-
في القانون بين الرذيلة والفضيلة
-
في معرفة الواحد
-
العُقْدَة اليهودية في العقل العربي
-
تمرير ديمقراطية عربية تحت غطاء ديني!
-
رأسمالية روسيا ما بعد الشيوعية
-
باسم العدالة والمساواة حكومات تحتكر الاقتصاد
-
الأنانية في المجتمع والدولة
-
الأمة العربية والإسلامية لكن بزاوية نَظَر حادة
-
الدين سلطان القلوب
-
من الشورى إلى ديمقراطية جهنم
-
بِكمْ تَبِيعُني إلَهَك؟
-
بين الديمقراطية والبَيْعّة والشورى في الواقع العربي
-
نَظْرة ذُكورية
-
هل التعايش ممكناً بين الديمقراطية والدين؟
-
التناقض بين الديمقراطية والدين
-
كيف أضعنا غزة مجدداً
-
ما هي منزلة المرأة في الإسلام؟
-
محاولة لفهم الدولة
-
مفهوم الدولة ما بين الإرادة والقوة
المزيد.....
-
مباشرة بالأرقام.. عدد أصوات ترامب مقابل هاريس في الانتخابات
...
-
كيم كارداشيان تستعرض قلادة شهيرة للأميرة ديانا أمام الجمهور
...
-
مشكلة بالتوقيعات على 11 ألف بطاقة اقتراع بولاية أمريكية.. ما
...
-
-ديلي ميل-: واشنطن ستختبر مباشرة بعد الانتخابات صاروخا نوويا
...
-
توقعات المراهنين والإعلام بفوز ترامب تبلغ 90%
-
-رويترز-: أول عضو من المتحولين جنسيا علنا قد يظهر بمجلس الشي
...
-
-كلاشينكوف- تنهي اختبارات رشاشها الجديد
-
طبيب يؤكد على أهمية تناول الزبيب بانتظام
-
بـ 54 صوتا في المجمّع الانتخابي.. هاريس تفوز بكاليفورنيا في
...
-
كارولينا الشمالية أول ولاية متأرجحة.. تحسم النتيجة لصالح ترا
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|