يـمـنـحـــنــي الألــم أعــلـى أربــــاح الـحــــيـاة:
الـحــب الـوحــــدة ووجـــه الـمــــوت
عاشت الشاعرة الأسوجية اديث سودرغران (1892 ــ 1923) في زمن عاصف. فحينما بلغت الثانية والعشرين اندلعت نيران الحرب العالمية الاولى، وقبل ان تتوقف تلك الحرب الطاحنة اندلعت شرارة الثورة الروسية، التي وضعت المثقفين امام خيارات كبيرة حاسمة. ولم تكن سودرغران محاطة بالعواصف الخارجية كالحرب والثورة والعوز المادي فحسب، بل كانت عواصف الجسد هي الاقوى والاعتى. فقد دهمها، مبكراً، مرض السل الرئوي وظل يلاحقها من دون رحمة حتى لحظة موتها. رغم ذلك كله، جربت سودرغران وسائل عدة للتحرر من أسر العالمين الخارجي والداخلي. ذهبت بكل جوارحها نحو الحلم وتعلقت به تعلق الغرقى، ذهبت الى الطبيعة ووجدت نفسها بها، ثم جربت الذهاب الى فردوس السماوات، نحو الدين، علها تجد صفاءها الروحي. رغم ذلك كله لم تحد سودرغران عن الطريق الذي رسمته لنفسها: التمسك بالخير والجمال اينما وجدا، التشبث بالحلم، باللحظة الراهنة كلحظة طهر ونقاء عظيمة في مواجهة عصف رياح القدر القاسية. ففي لحظات القسوة المريرة تلك كانت سودرغران تقاتل الموت بالحب، تقاتل الفناء بالجمال الذي يسبغه الله او الطبيعة او الانسان على الحياة. سودرغران الضعيفة امام جبروت المرض والحرب العالمية والاهلية، لم تسلّم نفسها للشيطان للحظة واحدة، لا لشيطان اليأس، ولا لشيطان الضمير. كانت قوتها تنبع من ايمانها اللامحدود بنفسها، وبجوانب الخير والنقاء الكامنة في اعماقها. كانت قوية بإخلاصها لضميرها كإنسان. هذا الاخلاص الفريد الذي يذكّرنا بهفواتنا القاتلة، التي نندفع اليها، كلما اصابتنا شظايا الارض الحارقة، وكلما حاصرتنا يد الشر القوية الماكرة، الأمّارة بالرذيلة.
من إجل الحب الذي لم يأت قطّ.
... أسوج
اديث سودرغران اسم ليس ككل الاسماء! انه اسم شعري ثمين، الجهل به له تكاليفه الباهظة. فقد يجبر القارئ على خسارة كنز من المشاعر الفريدة.
تقول:
"انتً بحثتَ عن وردة
ووجدت ثمرةً.
انت بحثتَ عن نبع
ووجدتَ بحراً.
انتَ بحثت عن امرأة
فوجدتَ روحا،
انتَ مخذول".
لا يوجد حرير ازرق، على وجه الارض، يعادل في رقته السماوية كلمات اديث سودرغران. نبتة ورد واحاسيس من اصل مختلط، فهي فنلندية اسوجية مولودة في روسيا. هذا الاختلاط جعلها تكون بلا وطن. كان لديها شخصيا مكان تمكث فيه اينما حلت، بيد ان كلماتها كانت على سفر دائم، الى الحد الذي اضحت فيه اشعارها اكثر عالمية مما يتحمله وطن صغير، حتى لو كان بمساحة روسيا الشاسعة.
عيب اديث الوحيد انها مارست تقليدا شعريا غير مستحب، تقليدا مؤلما، فقد رحلت عنا مبكرا.
ورحيل الشعراء مبكرين عادة مخيفة، جعلت كثيرين يعتقدون ان الشعر سبب جدي من اسباب الموت. فقد مات شاعر روسيا العظيم الكسندر بوشكين في الثامنة والثلاثين من عمره، والشاعر الانكليزي الثائر بايرون عن ستة وثلاثين عاما، واودن عن اربعة وعشرين، وجون كيتس ابرز شعراء الرومنسية الانكليزية، عن ستة وعشرين عاما، والشاعر الفرنسي المتمرد ارثور رامبو، ابرز شعراء الرمزية عن سبعة وثلاثين عاما، وابو فراس الحمداني عن ستة وثلاثين عاما، والشابي عن ثمانية وعشرين عاما.
موت الشعراء المبكر ظاهرة تبعث الخوف في النفوس، حتى ان البعض اعتبرها مشابهة لظاهرة موت مكتشفي الآثار القديمة. فالموتان، كلاهما، مشبعان بالالغاز والسحر. ومما لا شك فيه، هناك من لا يؤمن بهذا. فالجواهري عاش قرابة قرن، متمردا على ارادة الموت. وحينما جاءه الموت وجده واقفا في حديقة العمر الخلفية، ينتظر بشماً دقات القدر الاخيرة على باب الحياة.
وقد فعلت اديث سودرغران الامر عينه، فلم تفاجأ بموتها، رغم عمرها القصير. مرضها الدائم ووحدتها المزمنة جعلاها تنزف شعرا حتى اللحظات الاخيرة من حياتها. لذلك جاء شعرها رقيقا، يجمع بين الاحاسيس المتوقدة وعناصر الطبيعة، التي تلون شعرها بألوان مثيرة. ورغم حزنها ووحدتها، استطاعت ان ترى بهاء الاشجار والانهار والسموات والنجوم، وتتوحد بها. فقد كانت مزيجاً غريبا من الخارق والمألوف، كانت قطعة من الالهام والمشاعر الحادة مصوغة على هيئة كلمات ناعمة.
فلدى سودرغران، الاشياء تحس وتشعر، تتحدث وتفكر. الاشجار توشوش وتتكلم، والعصافير تزقزق متسائلة عن شيء ما. اما اوراق الشجر فلا تكف عن التأوه. كانت ساحرة تقيم صداقة معلنة مع الطبيعة كما لا يستطيع انسان ان يقيمها مع بشر، لكنها لم تنس البشر قط. فخلف كل شجرة او صخرة او قطرة ماء توجد روح، روح لانسان ينظر الى احاسيسه ويراقب ارتعاشاتها. فحينما نستمع الى كلماتها يتملكنا الحذر، فلا ننسى تتبع اهتزازات صوتها وهو يتكسر بين شظايا النجوم:
"حينما يأتي الليل،
اقف على عتبة البيت واصغي،
النجوم تتساقط في الحديقة
وانا اقف في الظلام.
اسمع! نجمة تسقط محدثةً رنيناً!
احذر ان تسير على العشب حافي القدمين
حديقتي ملأى بشظايا النجوم المتكسرة".
كانت سودرغران اشبه بكاسرة جليد في بحر الحداثة الشعرية في الشمال الاوروبي. تتركز خصائص شعرها الاساسية على التحدي الجدي الذي يطبع احساسها بالحياة، وعمق درجة تركيز معايشتها للطبيعة ولمشاعرها اليقظة.
في عام 1916 نشرت باكورة اعمالها "اشعار". اما مجموعاتها الشعرية المركزية الثلاث فقد صدرت في الاعوام 1918 - .1920 وفي عام ،1925 بعد وفاتها، صدرت مجموعتها الاخيرة. وقد جُمعت اعمالها الشعرية عام 1949 تحت عنوان "مجموعة اشعار" وكتب على غلافها "الحالمة التعبيرية والمغنية الاسوجية اديث سودرغران".
أخلق نفسي
من صفات الشاعرة البارزة نزعتها الكوزموبوليتية العالمية، او اللامحلية، وهي نزعة اصيلة في شعر سودرغران وحياتها، لأنها نابعة من واقع حياتها الشخصية. فهي لم تكن تكتب الشعر، وانما كانت تعيش الشعر الذي تكتبه. لذلك تقول سودرغران: "انا لا اصنع شعرا، وانما انا ابدع (اخلق) نفسي". وتقول ايضاً: "اشعاري هي طريقي الى نفسي ذاتها". ولدت سودرغران في سانت بطرسبورغ لعائلة اسوجية فنلندية. وعقب ولادتها بثلاثة اشهر عادت اسرتها لتعيش في مدينة رايفولا في كارلين. وهي منطقة مختلطة، حيوية، مليئة بالنشاط، متنازع عليها بين الروس والفنلنديين، تقع ضمن الاراضي الروسية الآن.
ومن ضمن ما يسجل، كمؤثرات حياتية تشير الى نزعتها العالمية، انها درست في مدرسة المانية في سان بطرسبورغ وعاشت بين زميلات روسيات، وانها ارسلت اشعارا بالالمانية الى احد اساتذتها الفرنسيين. وفي وقت لاحق، حينما اشتد عليها مرض السل الرئوي، غادرت فنلندا الى مصحة في سويسرا عام .1911 وكان من حسنات ذهابها الى سويسرا انها لامست عن قرب التيارات الادبية في القارة الاوروبية، التي وسعت من افقها الادبي. ولهذا فقد منحتها عودتها عام 1914 من سويسرا - التي لم تجلب لها الشفاء - فكرة ان تكون كاتبة.
اعجبت سودرغران اعجابا شديدا بالشاعر الروسي ايغور سفريانين (1887-1941) احد ابرز شعراء المستقبلية الروسية. ينتمي سفريانين الى ما يعرف بفرع سانت بطرسبورغ الذي ساعدته النزعة المستقبلية الذاتية، بينما سادته المستقبلة التكعيبية لدى جماعات موسكو، وكان ممثلها الاكثر شهرة آنذاك فلاديمير ماياكوفسكي (1893-1930).
تعبيرية
ومن غير شك كانت سودرغران جزءا من حركة فنية واسعة هي التعبيرية، التي كانت تمد فروعها في مدن اوروبية كثيرة، بألوان متعددة. ففي براغ كان هناك ماكس برود وفرانز كافكا. وفي المانيا، فرع منشن بشكل خاص اتجهت التعبيرية نحو النزوع الثوري، حالها كحال المستقبلية الروسية. وفي زوريخ تلقت التعبيرية دفعة سريعة من التحديث قدمتها في اتجاه الدادائية، ذات الميول الفوضوية واللعب الشكلي. اما في فنلندا فيمكن الحديث عن فرع آخر من فروع التعبيرية يتمحور حول الشاعرة اديث سودرغران، بنزعتها الذاتية الطبيعية.
تعبيرية خاصة
والتعبيرية مذهب يسعى لا الى تصوير الحقيقة الموضوعية والاشياء والاحداث التي تجري خارج الوعي، بل الى تصوير المشاعر التي تحدثها الاشياء والاحداث في نفس الفنان. ففي "اشعار" يرى المرء صفا من قطع الطبيعة الصغيرة منتشرة على صفحة شعرها، ومن خلالها يلمح بيئة منطقة كارلين بغاباتها وكنائسها ونجومها وبحيراتها الزرق وطيورها وايامها الخريفية الذهبية وصباحاتها الشفيفة. بيد ان هذا الضرب من الشعر لا يصنع مطلقا وصفا للطبيعة فحسب. فالطبيعة لدى سودرغران حلمية، تذوب فيها اجواء الواقع بأجواء النفس في وحدة لا فكاك فيها. ولا غرابة اذاً لو عرفنا ان سودرغران عاشت مع الطبيعة "في تفاهم سري مع شجيرات الدردار الجبلي الشابة" مع الزهور، والحيوانات، والنجوم، كما لو انها هي ذاتها تملك شيئا من روح كائن طبيعي بري يعيش في اعماقها.
"في النافذة تنتصب شمعة".
بطيئة تحترق
وتقول ثمة ميت يوجد هنا في الداخل.
شجراتُ التنوّب تقف صامتةً
حول ممر ينتهي فجأة
في الضباب عند مقبرة.
طير يزقزق
من يا ترى في الداخل؟".
(قصيدة "شمعة في النافذة" من ديوان "اشعار").
لم تكن الطبيعة هي المشهد الوحيد في شعر سودرغران، ففي مجموعتها الاولى نجد اثر تجربة حب تتغنى بها من حين الى آخر. واضافة الى ذلك، فالشاعرة المحاصرة بالوحدة والمرض تملك بوابات مفتوحة على جهات الرياح الاربع. فهي تغني عن الحياة وعن الجحيم، عن الجمال وعن الحزن والألم، "الذي يمنحنا جميعاً أعلى ارباح الحياة: الحب، الوحدة، ووجه الموت".
"قصور هوائي كلها ذابت مثل جليد،
أحلامي كلها ذهبت سائلة مثل ماء.
ومن بين جميع الاشياء التي أحببتها ما زلت أملك فقط
سماء زرقاء وبعض النجوم الشاحبة.
الصمت يستريح. والماء صامت.
والتنوب العجوز يقف يقظاً
وهو يفكر في الغيمة البيضاء، التي قبّلها في الحلم".
(قصيدة "ربيع شمالي" من مجموعة "أشعار").
تستخدم سودرغران ضمير المفرد المذكر الغائب "هو" لشجرة التنوب، وتستخدمه للدلالة الذكورية. تريد ان تنسج علاقة حب بين شجرة وغيمة، قوامها الذكر والانثى. وهذا ما لا يطابق البناء اللغوي العربي. اذ لا يصح القول شجرة التنوب الذي يقف. كما ان حذف كلمة شجرة من عبارة "شجرة التنوب" يحوّل العبارة الى صيغة الاطلاق الدالة على الكثرة. وهنا يجد المرء نفسه للوهلة الاولى امام امتحان لغوي. لكن الامر ليس كذلك. فالمشكلة ليست لغوية بحتة. وانما مشكلة تعبيرية واسلوبية ونفسية تخص الشاعرة. وتغلف بساطتها اللغوية بغلالة متحركة من العواطف المركزة. فالشاعرة تقيم علاقات شديدة الخصوصية مع عناصر الطبيعة، ولذا تضطر في احيان كثيرة الى ايجاد لغة خاصة، مشحونة بالايحاءات، تجعلها قادرة على تبادل الحوار مع كائنات حية وعاقلة، وناطقة ايضاً، لكنها لا تملك لغتنا البشرية.
تهشيم أبواب السماء
تقلبت سودرغران في حياتها القصيرة، بين طغيان العلاقة بالطبيعة، في ديوانها الاول بشكل خاص، وسيطرة مشاعر الوحدة والحزن، ثم لم تلبث في أواخر ايامها ان مدت ابصارها نحو الدين، نحو نوع من المسيحية الخالصة، كسعي نحو طهر محاصر بالفقر والوحدة والسل الرئوي. فقد كان للمرض المفترس، الذي ورثته عن أبيها، والذي ظل يهدد حياتها بقوة، ولحال الفقر التي طاردت عائلتها، أثر كبير في اشاعة مناخ الاسى والوحدة في اشعارها. بيد ان ذلك كله لم يتمكن من كسر مقاومتها ومن تقليل حبها للحياة. على العكس من ذلك، لم تسقط سودرغران في شرك الانكسار الروحي، بل حشدت كل طاقاتها الروحية وكل قوى حب الحياة التي تكتنزها روحها وارتقت بواسطتها فوق مشاعر اليأس. وفي هذه الناحية نجد اثر نيتشه منطبعاً بعمق على تكوينها الروحي. فقد أمدتها فكرة الانسان "فوق الطبيعي" بعون كبير، ساعدها في مقاومة الألم وضربات القدر القاسية، وطبع شعرها بنبرة تحدّ فوق طبيعي في مجاميعها الشعرية التالية. حيث نجدها تسعى باصرار فريد الى "تهشيم ابواب السماء". وتسعى في الوقت عينه الى اهداء "قدر من الجمال الى عيني ذلك الانسان الذي لم تره". فما أعمق الاحساس بالحياة لدى سودرغران وهي تتغنى بنشوة النصر! "النصر ان تتنفس، النصر ان تحيا، النصر ان تظل موجوداً". ففي نشوة النصر هذه نجد بوابات العالم، كلها، مفتوحة في خرائط سودرغران:
"لديّ بوابة مشرّعة على الرياح الاربع كلها
لديّ بوابة ذهبية مشرّعة على الشرق، من اجل الحب الذي لم يأت قط
لديّ بوابة مشرّعة على اليوم واخرى على الحزن.
لديّ بوابة مشرعة على الموت، بوابة مفتوحة ابداً".
سنوات عمر سودرغران القليلة، المشحونة بالوحدة وتهديد الموت الدائم وبالفاقة وبنوبات النزيف الرئوي، ومن جانب آخر المشحونة بالتحدي الروحي الكبير، صنعت منها قوة عاطفية وفنية فريدة، جعلتها تغدو رغم قصر عمرها أحد أبرز مغيّري نهج التعبير الشعري في اسوج وفنلندا على حد سواء. وجعلتها تسمو بذاتها وترتفع بمصيرها فوق العارض والطارئ، وتنتج سيلا من العواطف الدفاقة قلما نجدها - في هيئتها وتناقضاتها المرعبة - لدى كائن آخر. فمن غير اديث سودرغران يقدر على القول:
"أن تحب حياة ساعات المرض الطويلة
وسنوات الشوق المملة
كما لو انها اللحظات القصيرة، حينما تزهر الصحراء".
في ديوانها الاخير تهدينا هذه الكلمات في قصيدة "العودة الى الوطن"، تهدينا إياها وهي تشرف على نهاية رحلتها القصيرة الخاطفة، العظيمة الثراء: "شجرة طفولتي تقف مهلّلة من حولي: ايها الانسان!
والعشب يستقبلني مرحباً بعودتي من البلاد الغريبة.
أحني رأسي للعشب: الآن، اخيراً، أنا في بيتي.
الآن أدير ظهري لكل ما كان خلفي:
الغابة والساحل والبحيرة اصبحوا رفاقي الوحيدين.
الآن أرتشف الحكمة من عصير تيجان شجر التنوب.
الآن أرتشف الحقيقة من جذوع اشجار البتولا الجافة،
الآن أرتشف القوة من أصغر ذرات العشب واكثرها جنينية:
حامٍ عظيم يمدّ لي يده معيناً".