|
عن حاجة الإنسان إلى رَبْ
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8150 - 2024 / 11 / 3 - 23:22
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لما استأنست عيناه بنور الشمس واستدفأ جسده بأشعتها؛ واستوى على عوده واقفاً منتصباً يقطع المسافات عدواً على ساقين لأقصى مرمى البصر طولاً وعرضاً، لكي يقطف ساعداه ثمار الأشجار ويصيد بهما الطرائد التي يُطعم بها فاه ويملئ بطنه؛ ورفع بصره نحو السماء ليلاً لكي يهتدي طريقه تحت ضياء نجومها، حَسِبَ الإنسان نفسه ملكاً كونياً وكل هذا الملكوت الواسع الممتلئ بالخيرات مُسخراً له ومن أجل بقائه. البر والبحر، السماء والأرض، النجوم والكواكب، النبات والجماد وكل الكائنات الحية وغير الحية مُسخرة له، أو هكذا حَسِب في نفسه الإنسان تبعاً لنظرته المنبعثة من متطلبات طبيعته البشرية المحض. لِمَ لا؟! ألم تُخلق الشمس لكي تُضيء له نهاره وتُدفئ له جسده، الأرض لكي تُنتج له مأكله ومشربه، النباتات والحيوانات لكي تُغذي له بدنه ويصنع منها حذائه وملبسه، حتى الجمادات قد وجدت لكي يحتمي ورائها من تقلبات الطبيعة ويصنع منها بيوتاً وحصوناً ومواعين وأسلحة؟!
لكنه، لحسرته، اكتشف أن الشمس لم تَشرق له وحده، والأرض لم تَنبسط لكي يمشي ويختال من فوقها وحده، والثمار لم تَنضج على أشجارها لكي يلتقطها ويستلذ بطعمها وحده، والحيوانات لم تُولد له لكي يقتلها ويأكلها وحده. إن الشمس تَشرق لذاتها وليس من أجل الإنسان أو سواه، والثمار تَقتله مثلما تُغذيه، والحيوانات تفترسه لتقتات مثلما يذبحها هو لكي يُطعم بها نفسه وعياله. بل هناك عالم بأسره من الكائنات الحية الدقيقة التي تتخذ من جسد الانسان ذاته موطناً طبيعياً لها، تتغذى عليه إلى حد أن يُفنيه الألم والوهن والمرض. الكون لم يُخلق من أجل الإنسان وبقائه كما يحسب. بل الانسان هو مجرد مفردة متناهية الضآلة في كون فسيح بلا حدود يتسع لمفردات عملاقة أضخم حتى من أرض البشرية كلها أضعافاً لا حصر لها. والكون، علاوة على كونه لا يُحابي أي من مفرداته على الأخرى، لا يحابي البقاء على الفناء، لا فيما يخص الإنسان أو أي مما سواه. وإذا كان يَهب فعلاً الكثير من مقومات الحياة واستمرارها وبقاء الأنواع، هذا الكون ذاته يُفجر ويُطلق دائماً وأبداً الكوارث والأهوال الجِسام التي قد أبادت فعلاً عن بكرة أبيها الكثير من الأنواع والموجودات والأجناس التي لم تتعلم سُبل التكيف وحماية بقائها بنفسها. إذا كان الواقع كذلك، كيف توصل الانسان إلى قناعة ساذجة بكونه يتبوأ مركز الكون، ومن ثم قد خُلق هذا الأخير لكي يدور في فلك الذات الإنسانية وحدها، يخدم لها غاياتها ويلبي مقاصدها الدنيا والعليا؟! وكيف صدق نفسه؟!
من واقع مشقته اليومية مع بيئة صعبة لتدبير سُبل عيشه وضمان بقائه، تعلم الإنسان هذه الحقيقة المُرة وحفظها عن ظهر قلب. هو يعرف حق المعرفة أن هناك من الثمار ما قد يُسمم له بدنه بقدر ما يُعافيه، ومن الحيوانات ما يتغذى على لحمه ودمه بقدر ما يقتات هو على لحومها، وأن هناك من مسببات الأمراض ما يكفي للقضاء على البشرية جيعاً دفعة واحدة. كذلك، لم يكن الإنسان بحاجة إلى من يُنبهه إلى مخاطر الكوارث الطبيعية، التي يعرفها جيداً من واقع المعايشة المباشرة. لا شك أن الإنسان كان يعرف ذلك بالبديهة منذ القدم. لكنه، رغم معرفته تلك الموثقة في جيناته الوراثية، أبى واستكبر أن يُقر بهذه الحقيقة المُرة ويستسلم لواقع حياته الناقص والمحدود والعاجز داخل الكون.
مشكلة الإنسان الحقيقية هي أنه يُحب الحياة إلى حد التشبث بها بكافة وسائله الممكنة وغير الممكنة، وعدم قدرته على تخيل أو تقبل إمكانية مفارقته الحتمية لها عند نقطة ما في الزمن، حتى وهو يودع بنفسه الأهل والأصدقاء والأحبة إلى قبورهم بعد مفارقتهم لها أمام عينيه. الإنسان لا يتخيل كونه مجرد كائن فاني آخر ضمن هذا الكون الواسع، مثله مثل سائر الكائنات. وكان لابد أن يجد لهذه المعضلة الوجودية حلاً، الذي أوجده من رحم قفزة عملاقة خارج حدود الكون المحسوس ذاته في الغيب وإلى عنان السماوات. إذا كانت الحياة في هذا العالم فانية لا محالة، لماذا لا توجد حياة أخرى خالدة في عالم آخر؟! ولكونه الوحيد من بين كائنات الكون القادر على النطق والتخيل والتفكير باستخدام الرموز والكلمات الدالة على الأشياء والمفاهيم الحسية والمجردة، كان لابد أن يستعمل نفس هذه المهارات لخدمة أغراضه وغاياته الخاصة دون سائر الكائنات، ليصنع لنفسه رباً من نفس جنسه لكن كاملاً ومطلقاً يتربع في مكان ما فيما وراء الكون الفسيح، يديره ويدبره لمصلحة الإنسان ذاتاً وحصراً حتى يكمل له نقصه وعجزه وفنائه في هذه الحياة العارضة.
لكن ثمةً سؤال وجيه يفرض نفسه على العقل البشري لكنه يأبى الإجابة عليه، ماذا لو توفرت سائر كائنات الكون الأخرى على وسيلة ذهنية كالتي تفرد بها الإنسان؟ أما كانت الثيران، مثلاً، قد تصورت نفسها أيضاً مركزاً للكون وغايته، وخلقت لنفسها أرباباً على نفس صورتها أيضاً لكن كاملة ومطلقة، تخاطبهم بخُوار مُقدس مثلما تخاطبنا آلهتنا من متون كتب مقدسة؟!
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في القانون بين الرذيلة والفضيلة
-
في معرفة الواحد
-
العُقْدَة اليهودية في العقل العربي
-
تمرير ديمقراطية عربية تحت غطاء ديني!
-
رأسمالية روسيا ما بعد الشيوعية
-
باسم العدالة والمساواة حكومات تحتكر الاقتصاد
-
الأنانية في المجتمع والدولة
-
الأمة العربية والإسلامية لكن بزاوية نَظَر حادة
-
الدين سلطان القلوب
-
من الشورى إلى ديمقراطية جهنم
-
بِكمْ تَبِيعُني إلَهَك؟
-
بين الديمقراطية والبَيْعّة والشورى في الواقع العربي
-
نَظْرة ذُكورية
-
هل التعايش ممكناً بين الديمقراطية والدين؟
-
التناقض بين الديمقراطية والدين
-
كيف أضعنا غزة مجدداً
-
ما هي منزلة المرأة في الإسلام؟
-
محاولة لفهم الدولة
-
مفهوم الدولة ما بين الإرادة والقوة
-
حُلُم الدولة العربية المُجهض
المزيد.....
-
مسؤول أمريكي: مؤشرات أولية على احتمال إسقاط طائرة أذربيجان ب
...
-
قناة عبرية تنشر تفصيلا جديدا قد لا يخطر على البال حول عملية
...
-
حكومة البشير في سوريا ما بعد الأسد.. من هم الوزراء وماذا نعر
...
-
موزمبيق: اشتباكات عنيفة بعد فرار 6000 سجين من سجن شديد الحرا
...
-
باكو تنطلق من فرضية صاروخ روسي أسقط طائرتها في كازاخستان
-
بعد هيمنة نظام الأسد عليه: لبنان يتطلع لعلاقات أفضل مع سوريا
...
-
هل إسرائيل قادرة على تدمير قدرات الحوثيين الصاروخية؟
-
نيويورك تايمز: أوروبا غير قادرة على فرض عقوبات صارمة على روس
...
-
إيران تعلق على اتهامها بالوقوف وراء الأحداث والاحتجاجات الأخ
...
-
هروب 6 آلاف سجين في موزمبيق وسط أعمال عنف عقب الانتخابات
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|