|
قصة بعنوان توم. من مجموعتي القصصية (شيء مختلف)
وليد الأسطل
الحوار المتمدن-العدد: 8150 - 2024 / 11 / 3 - 00:11
المحور:
الادب والفن
"تُوم”:
جلس توم دون حركة، كالمتجمد، فقد انبسط منظر طبيعي ساحر أمام عينيه؛ أشجار نخيل منحنية بإثارة على بحر ذي لون زبرجدي، بينما كان الشاطئ الرملي الأبيض الطويل بمثابة الخلفية لها. جواهر صغيرة من الجنة، قطع من السعادة المركزة، تخيلات لإجازة أبدية. كما وأضاءت شمس ناعمة امرأة شابة بدت في حالة أقرب إلى النشوة. في أعلى يمين هذه الصورة المثالية، توجد فجوة في قطعة من الخشب الرقائقي المتقادم. تنهد توم، ثم وضع القطعة الأخيرة برفق. كانت قطعة من السماء، زرقاء، محايدة، كئيبة. ذابت الحواف المقطوعة بمهارة عالية في كتلة الصورة الدافئة والساحرة. ومع ذلك كانت صورة باردة جدا وعدوانية. إنها دون حياة. شعر توم بالرغبة في البكاء. لقد وضع القطعة الأخيرة من الأحجية. انتابه الإحساس المعتاد بالتخلي، والتمزق. أغمض عينيه للهروب من هذا الشاطئ الخالي من الروح. ثم فتحهما فجأة. نظر إلى جدران غرفته، جدران عالمه الضيق. شعر وكأنه غريب عن عالمه الحقيقي وعن عالمه الذي تركه للتو. ثم، وهو يمنع نفسه عن البكاء الواقف عند عتبة حلقه، ضرب بيده الأحجية غاضبا؛ فسقطت من الطاولة، وانتثرت على الأرض. التقط القطع الزرقاء والخضراء والبيضاء، الواحدة تلو الأخرى، ووضعها بعيدا في صندوق كبير، كانت تنام في أسفله الكثير من القطع الأخرى، مجهولة الهوية، وغير المجدية. حدق في الصندوق بهدوء، غير قادر على التفكير، غير قادر على الحركة. ببطء، كان الغضب ينحسر بداخله، تاركا إياه بلا حسيب ولا رقيب كما سيطر عليه. ببطء، استعاد الإتصال بالواقع. صوت. هناك من يناديه. “أنا قادم يا أمي”. نزل الدرج راكضا، مرحا. طفل صغير، سهل ومطيع. تم تقديم العشاء. منذ أن أصبحت ثلاثة أطباق فقط تحتل طاولة المطبخ الكبيرة، استحالت الوجبات باهتة أكثر بكثير من ذي قبل. لم يقبل توم ولا والدته رحيل أندرو، الإبن البكر، الذي تزوج منذ شهرين فقط. وعلى الرغم من قصر هذه المدة إلا أن خلافا قد نشأ بين زوجة أندرو وحماتها، اتخذ منحى تصاعديا. مرت الأسابيع ببطء، وباعد الابن البكر بين زياراته لأمه. هرع ثلج نحو توم. ولكن قبل أن يقفز القط في حضن الصبي، أمسكته أمه، وغمست فمها المبلل بالكحول في فروه الأبيض، مصدرة أصواتا طفولية صغيرة. ماء القط متناسيا توم. جاء ضجيج الباب ليغطي على متعة القط. خمّن توم أن والده قد عاد إلى المنزل. توقفت والدته عن مداعبة القط. تصلبت عيناها متغلبتين على ضبابية الكحول المبتلع، التي كان من الصعب أن تسمح لذرة من الصلابة بالمرور عبر هذا المحيط من الأبخرة الناعمة. فكر توم في سباق الخيل. اعتقد أنه سيغطي الأبخرة القاتلة لحياته. قال لنفسه: ستكون أحجيتي التالية سباق الخيل. وهكذا نسي للحظة خطوات والده على البلاط، وأنفاس والدته … استقرت فيه سعادة هزيلة – سريعة الزوال – سببتها أطراف أصابعه، التي كانت تلمس قطعا كرتونية وهمية. جلس والده بقربه، نظر إليه، وقال ملقيا بأحلامه في مكان آخر، ضبابي: “… هل أنت بخير يا بني؟ – نعم يا أبي.” انحنى الرجل على الصبي وقبّله على جبهته، وقد رافقت حركته رائحة زنبق الوادي القوية. عطر المرأة، عطر الفتنة .. اندفعت الدموع الحارقة إلى معدة زوجته، دموع من جمر على جدران بركان مريض. دون أن ينظر إلى زوجته، جلس الرجل، ألقى نظرة سريعة على الطاولة، حول الطاولة، ثم قام متجهما، أمسك بالقط الذي كان يخرخر بين ذراعي صاحبته وألقاه على الأرض. ماء القط معلنا عن انزعاجه، ولجأ إلى غرفة المعيشة. “لا أريد شعر القطط على مائدة الطعام.” زمجرت الزوجة دون إجابة، لتيقنها أنها ستخسر مباراة الشجار اللفظي، على الرغم من النظرة المتحدية المحرضة على المواجهة، التي ألقاها عليها زوجها. “تخيل توم طوفا جليديا. دببة على طوف جليدي … أبيض مثل القط ثلج. طقس بارد، وطوف الجليد …” كانت سنوات عمره الاثنتا عشرة تدور حول الأحجيات. الألعاب الأخرى لم تهمه، تجاهل الأطفال في سنه، تجاهل ألعاب الأطفال في سنه. كان عقله مجرد صورة مجزأة ضخمة حاول بطريقة خرقاء تجميعها. تمت الوجبة دون أي حادث، وهو ما يقدره دون الكثير من الحماس. كانت دقائق الصمت الطويلة لا تطاق بالنسبة إليه، تماما مثل المشاجرات التي لا تنتهي، والتي لطالما تخللت لقاءات والديه. سجل صوت الشِوَك التي تعذب قاع الأطباق، صدمة الزجاجة على شفة كأس أمه، خرخرة القط الذي قفز مرة أخرى إلى حجر أمه، الضجة الصامتة التي تصم الآذان من اللامبالاة الأبوية المفاجئة والازدراء. وأخيرا، الكلمات القليلة التي تم همسها: “يبدو أنك قد شبعت، قالت والدته وهي تصب لنفسها كأسا من النبيذ الأحمر الرديء. – هيا اذهب إلى سريرك، واخلد إلى النوم، أضاف والده بنبرة لاذعة.” كان توم يتوقع أن يقال له هذا. نظر إلى الأعلى متجاهلا البطاطس غير المطبوخة جيدا التي تفسد طبقه. “اذهبي لتنامي، يا حبيبتي”. الحبيبة لا تتفاعل. لاحظ الولد طريقة والده في مناداة زوجته “حبيبتي”. نداء بافلوفي بسيط، يعود إلى فترة ما قبل الطوفان الذي شهده حبهما، تلقائية ساخرة، مفارقة نفاق، حنان منسي، أو ربما سخرية قاسية. نهضت في حالة يرثى لها، متشبثة بالطاولة للحظة. أوقعت طبقها على الأرض، بعد أن دفعته دون أن تنتبه. تمزق الصمت الرهيب، تحطم الطبق إلى العديد من شظايا الزجاج البني الداكن. مثل فيلم يسير إلى الوراء، أعيد بناء الصمت، بشكل متصنع وأخرق. “اتركيها يا أمي، سأجمعها. اذهبي إلى السرير.” امتثلت لأمر ابنها، وذهبت، دون تعليق، دون حياة. انحنى توم، وجمع قطع الزجاج برفق، ثم وضعها على الطاولة. تحدث إليه والده. لم يعد يستمع. أعاد بصبر بناء اللوحة، قطعة قطعة، وحافة حادة على حافة حادة. تسببت حركة خاطئة في ولادة لؤلؤة من الدم على طرف إصبعه. لفترة طويلة، شاهد توم النسغ الأحمر العدواني يتضخم، ثم ركز على أحجيته مرة أخرى. سرعان ما انتهى. لم يستعد الطبق مظهره السابق، بسبب استحالة إعادة تكوين الإنحناء الأصلي، لكن القطع كانت في مكانها، بالكاد ملوثة بالطعام. لاحظ توم والده وهو يراقبه. بدا أن هناك شيئا من الرعب في أعماق عينيه الخضراوين كأوراق زنبق الوادي. قام بمسح الطاولة بظهر كمه، مما أدى إلى سقوط اللوحة مرة أخرى على الأرض. ثم انطلق راكضا، تاركا المطبخ ووالده، ساعيا للحصول على الدفء المريح من حزمة الجليد المتفتتة. كان الليل طويلا. بكى توم قليلا. غدا يوم الأربعاء. في الساعة التاسعة صباحا، كان عليه الذهاب إلى المكتبة، فلم تعد لديه أحجية. كان بحاجة إلى تموين، وكان المكتبي ممونه، وسيده، وأصبح توم عبدا له. كانت قطع الكرتون الصغيرة مَفزَعَه، جواز سفره إلى أرض المناظر الطبيعية المشكال. لم يكن موضوع الأحجية مهما: غابة كثيفة، سيارة فاخرة، تحفة فنية. كل شيء كان جيدا. فقط عدد القطع مهم. ولم يكن أبدا أكثر من ألفين. جاء ثلج لينضم إليه، ويتمسح به. لم يكن يعتبر القط الأبيض صديقا، وإنما مجرد أحد معارفه. لقد نام توم أخيرا. انغمس في نوم خال من الكوابيس والأحلام. استيقظ في الليل على ضجيج مشاجرة قادم من غرفة نوم والديه. تابع تطور الوضع: الصرخات، الدموع، المناشدات. تخيل احمرار العيون، الكلمات المشوشة، والأيادي المرتعشة. سمع ما لم يتخيله، ثم سمع باب البيت يغلق، والدته تذهب إلى الحمام لتتقيأ، ثم تجيء إلى غرفته وتأخذ القط. وأخيرا، الصمت كعادة قديمة. في الصباح الباكر، وجد القط على سرير والديه. كانت والدته تشخر، ومكان والده باردا، خزانة الملابس مفتوحة على مصراعيها، خالية من ملابس والده التي لطالما لبسها. كان يعلم أن الحقيبة اختفت أيضا. انتابته رغبة ملحة في الحصول على أحجية جديدة. كانت الساعة السابعة صباحا. لا زال الوقت باكرا جدا. حمل القط دون أن يوقظ والدته ونزل إلى المطبخ. كانت الساعة العاشرة تدق على أجراس الكنيسة عندما استيقظت والدة توم. فمها ممتلىء بلعاب كثيف، ونظراتها باهتة. نهضت بصعوبة، حدقت باشمئزاز في الخزانة الفارغة، ثم، مترددة بين الحمام والمطبخ، مالت نحو الأخير. نزلت الدرج بتثاقل. صرخت بمجرد دخولها المطبخ. بصعوبة تعرفت على بقايا ثلج في هذا الإنتشار اللحمي المليء بالدم، في هذا التقطيع المنظم بمهارة. استقرت الأرجل المقطوعة بعناية على الزوايا الأربع للطاولة. كان الجسم والفراء الأبيض والدم وشظايا العظام والأحشاء مقطعة رياضيا ومرتبة هندسيا. تم تقطيع الرأس نفسه إلى أربعة أجزاء متساوية. في منتصف كل ذلك، كتبت كلمة “أحجية” بالحبر الأحمر على ورقة بيضاء. على بعد بضعة كيلومترات، كان توم يسير حاملا حقيبة على كتفه، ذاهبا في مغامرة. هروبٌ صغير، آخر قطعة من أحجية عائلية كانت مبعثرة في قاع صندوق يتحلل.
#وليد_الأسطل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الناقد عمار بلخضرة يكتب عن شيء مختلف
-
صباح مقاطعة شامبانيا (فرنسا)
-
من سجل تجاربي ٣
-
مشيناها خطى كتبت علينا
-
الناقد الأستاذ عمار بلخضرة يكتب عن رواية -سقوط-
-
من سجل تجاربي ٢
-
حوار أجرته معي الكاتبة ياقوت شريط
-
سقوط؟
-
عن روايتي -سقوط- بقلم الكاتب الطيب صالح طهوري
-
لا تغرنكم الألقاب
-
من سجل تجاربي
-
رأي الناقد السينمائي مهند النابلسي في روايتي سقوط
-
روايتي سقوط بعيني الشاعر والقاص الطيب صالح طهوري
-
رواية الفانوس الأخضر، للكاتب الأمريكي جيروم تشارين
-
شيء مختلف.. الطيب صالح طهوري
-
صدور مجموعتي القصصية (شيء مختلف)
-
شذرتان
-
فيلم قضية كوليني
-
خاطرة عن الزواج
-
من أجل راشيل
المزيد.....
-
تحديث تردد قناة كوكي كيدز 2024 على النايل سات وعرب سات بجود
...
-
وفاة عملاق الموسيقى الأمريكي كوينسي جونز عن عمر يناهز 91 عام
...
-
شيماء سيف: كشف زوج فنانة مصرية عن سبب عدم إنجابهما يلقى إشاد
...
-
فيلم -هنا-.. رحلة في الزمان عبر زاوية واحدة
-
اختفى فجأة.. لحظة سقوط المغني كريس مارتن بفجوة على المسرح أث
...
-
رحيل عملاق الموسيقى الأمريكي كوينسي جونز عن 91 عاماً
-
وفاة كوينسي جونز.. عملاق الموسيقى وأيقونة الترفيه عن عمر 91
...
-
إصابة فنانة مصرية بـ-شلل في المعدة-بسبب حقن التخسيس
-
تابع الان مسلسل صلاح الدين الأيوبي مترجمة للعربية على قناة ا
...
-
قصيدة عامية مصرية (تباريح)الشاعر مدحت سبيع.مصر.
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|