|
في القانون بين الرذيلة والفضيلة
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8148 - 2024 / 11 / 1 - 18:12
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أن نتعرى جميعاً داخل حمامات بيوتنا بشكل متكرر يومياً، هذا يعني أن العُري أمر طبيعي لا شائبة فيه من عورة أو فاحشة أو رذيلة؛ وهو أيضاً ليس فيه شيء من الفضائل ومكارم الأخلاق؛ وأن نمارس- كبالغين- الجنس داخل غرف نومنا بتلقائية واستمتاع، هذا يعني أن الجنس كذلك هو أمر طبيعي لا شائبة فيه من عورة أو فاحشة أو رذيلة؛ كذلك ليس في ممارسته فضيلة أو خدمة للبشرية أو تتمة لمكارم الأخلاق. إذا كان الفعل في ذاته طبيعياً، لا هو فاحشة ولا فضيلة، كيف يفقد فطرته تلك كلما تجاوز حدود موئله الطبيعي- أو الذي نحتسبه طبيعي- وراء أبواب الحمامات المغلقة في حالة العُري وفوق فراش الزوجية في حالة الجنس؟ هل للقانون مكاناً لكي يتدخل ويفصل متى يكون هذا الفعل الطبيعي فاحشة ليقمعه، ومتى يكون فضيلة ليشجعه؟
القانون لا يكون قانوناً إلا إذا كان محايداً، بمعنى أن يكون أعمى، صوته مسموع لكنه لا يرى، مُجرد من المضامين القيمية، عديم الهوية والانتماء لا يحابي طرف ضد الآخر. ولما كانت الرذيلة والفضيلة أحكاماً قيمية بامتياز، مُحملة بمشاعر الحب والكراهية، مُنحازة وتحابي بطبيعتها طرفاً ضد الآخر، هي إذن لا تصلح إطلاقاً كجوهر قانوني، ولا حتى مبرراً وتغطية لقيام وتطبيق هذا الأخير. القانون قانون فقط، لا هو قانون رذيل أو قانون فضيل؛ لا قانون يحارب الرذيلة، ولا قانون يذود عن مكارم الأخلاق والآداب أو القيم العامة. القانون إما صحيح، يستوفي شروطه الذاتية المحض كقانون، أو فاسد لا يستوفيها. لكن، إذا كان القانون لا يحمي قيم المجتمع وآدابه العامة، ماذا تكون وظيفته ووجه منفعته لهذا الأخير؟!
القيم المجتمعية متغير وليست ثابت، بمعنى عدم الثبات من حيث الزمان والمكان. هكذا يكون من حق المجتمع أن يرى في العُري الذي كان طبيعياً داخل الحمامات فاحشة إذا ما حدث المجاهرة به وسط الميادين العامة؛ كذلك الحال مع الجنس ما بين فراش الزوجية أو بدونه أو عبر الفضاء العام. لكونها- القيم والآداب المجتمعية- متغيرة وغير ثابتة على حال بطبيعتها بهذا الشكل، بل تتطور وتتبدل من زمن لآخر، يصبح خروج المرأة للعمل وسط الرجال الذي كان مرفوضاً بالأمس مستحباً ومعترفاً به اليوم؛ والرق والعبودية التي كانت تنظمها وتحميها قيم وقوانين المجتمعات التقليدية القديمة بالأمس أصبحت بغيضة قيمياً ومُجرمة قانوناً من المجتمعات الحديثة. إذا كانت القيم بطبيعتها نسبية ومتغيرة ومتبدلة بهذا الشكل، القانون بطبيعته كحكم محايد لا ينبغي له أن يكون كذلك؛ لأنه عندئذ سيفقد أهليته التحكيمية التي يكتسبها لكونه الثابت الذي يحكم ويفصل بين متغيرات. لذلك عندما يتبنى القانون أي من قيم المجتمع ضد أخرى، هو بذلك ينزل إلى مرتبة المتغير الذي يفصل بين متغيرات متنافسة، وبالتالي يتحول إلى مجرد متغير خصم آخر يدعي الأهلية والجدارة للفصل بين متغيرات متخاصمة، الأمر الذي يُفقده صفات النزاهة والحياد والعدل التي كانت له عندما كان ثابتاً ومتربعاً فوق المتغيرات. حتى يُؤهل لمنصة المُحكم العادل بين قيم نسبية ومتغيرة ومتصارعة، يجب أن يتحلى القانون إضافة إلى صفة الحياد بصفة أخرى، الثبات، بمعنى أن يكون موضوعه ورسالته ما يُعتبر من الثوابت العليا من أجل بقاء وازدهار المجتمع. ما هي، إذن، ثوابت بقاء وازدهار المجتمع؟ وهل يندرج تحتها ما تُسمى الفضائل أو الأخلاق الحميدة أو الآداب العامة؟
دعونا نفترض أن العُري داخل الحمام تم تحت تهديد السلاح، أو ممارسة الجنس فوق فراش الزوجية تمت بالإكراه والعنف، هل ينبغي حينئذٍ أن يتدخل القانون؟ تحت أي ذريعة وحجة؟ منع العدوان. ليس هناك ما يهدد بقاء وازدهار الفرد والجماعة أكثر من الاعتداء. حين يقع فعل الاعتداء، الذي تكمن الرسالة الأصيلة للقانون في منعه والحيلولة دون وقوعه، تصبح الوظيفة الأساسية للقانون وقف العدوان وردع ومعاقبة المعتدي، حتى لو كان زوجاً شرعياً ضد زوجته الشرعية فوق فراش زيجة شرعية. لكن ماذا لو وقع الفعل نفسه داخل الفضاء العام، ما يصنع منه فحشاء ورذيلة من المنظور القيمي للمجتمع وبالتالي يستوجب- من وجهة نظرهم- وأده وقمعه ولو عبر وسائل الإكراه والعنف؟ ماذا لو، تحت ذريعة وغطاء حماية الفضيلة والآداب العامة والقيم المجتمعية، حدث هناك عدوان من أغلبية- ولو مليون شخص- ضد أقلية- ولو من شخص واحد؟! ماذا يكون موقف القانون؟ هل ينصر الفضيلة ضد الرذيلة، الأغلبية ضد الأقلية؟ هل هذه هي حقاً رسالة ووظيفة القانون في المجتمع؟ أم أن القانون قد وجد أصلاً لمنع العدوان، وبالأخص لو كان من طرف أغلبية ضد أقلية، من طرف مجموعة تستقوي بعصبتهم وعزوتهم ومالهم وسلطانهم وجاههم ضد مجموعة أو مجموعات أخرى من المستضعفين الذين يفتقرون إلى ذلك؟
هذا الذي يتعرى أو يمارس الجنس في المجال العام، إذا ما جرؤ أصلاً على ذلك، لا يمارس فاحشة ولا رذيلة، بل هو نفس الفعل الطبيعي الذي يمارسه فوق فراش الزوجية. وكما أن من حقه على القانون أن يحميه من التعرض للاعتداء حتى وهو فوق فراش الزوجية، من حقه كذلك التمتع بهذه الحماية عبر الفضاء العام أيضاً. لكن كيف يحميه القانون بينما هو، من منظور القيمة المجتمعية الغالبة، يمارس الفحشاء والرذيلة جهاراً؟ هنا يتحقق دور القانون كحكم محايد بين خصمين، متغيرين قيميين، متصارعين لكل منها حقه الكامل على القانون أن يكفل له الحماية من العدوان أثناء ممارسة ما يعتبرها قيمه الفضيلة وأخلاقه الحميدة. ويصبح لزاماً على القانون أن يضع ويفرض الضوابط والنظم والحدود التي تضمن حماية الخصوم جميعاً من دون محاباة أو استثناء أثناء ممارسة قيمهم وآدابهم المعتبرة من العدوان، خاصة لو أتى من طرف مئة مليون كاملة ضد فرد واحد. في عين القانون، يجب أن تكون كفة الأقلية ومنظومتها القيمية التي تعتبرها الأغلبية شاذة ورذيلة متعادلة بالتمام والكمال مع كفة الأغلبية، حتى لو كانت النسبة مئة مليون ضد واحد. إن اختصاص القانون لا ينحصر على توفير الحماية للأغلبية الساحقة ومنظومتها القيمية مما قد تعتبره فواحش ورذائل أقليات شاذة ومنحرفة تهدد وحدتها وبقائها، بل تشمل أيضاً بالتزامن وفي الوقت نفسه حماية الأقليات، ولو كانت مؤلفة من فرد واحد فقط، ومنظومتها القيمية من عدوان الأغلبية.
وفق قوانين الأزمان الغابرة، تلك التي لا يزال يَحنُ كثيرون لإحيائها وإعادة العمل بها لكن في ثوب حديث، كانت المعاملات وكتابة وإنفاذ عقود البيع والشراء داخل أسواق النِخَاسة- حيث تُعرض جهاراً نهاراً على الملأ مفاتن الجواري الحسناوات- تُنظم من قبل القانون، الذي كان هو نفسه الذي يقضي بالجلد أو الرجم حتى الموت بحق الزانية والزاني لكن من فئة الأحرار التي يُفترض فيها دون غيرها التمسك بالشرف والفضيلة ومكارم الأخلاق. هذا لم يكن قانوناً بالمغزى الحديث. بل هو عنصرية واستقواء وغلبة بغيضة من قبل أقلية من الذكور المتحكمين بنصال سيوفهم فوق رقاب أكثرية مستضعفة، إذا جمعنا النساء الأحرار مع العبيد والجواري والغلمان. هو قانون الغاب، الذي بواسطته يُخضع القوي الضعيف لسيطرته وخدمة احتياجاته المادية والمعنوية، التي بالطبع تشمل منظومته القيمية التي كان يحسبها تجسيداً للفضيلة والعدل المطلق.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في معرفة الواحد
-
العُقْدَة اليهودية في العقل العربي
-
تمرير ديمقراطية عربية تحت غطاء ديني!
-
رأسمالية روسيا ما بعد الشيوعية
-
باسم العدالة والمساواة حكومات تحتكر الاقتصاد
-
الأنانية في المجتمع والدولة
-
الأمة العربية والإسلامية لكن بزاوية نَظَر حادة
-
الدين سلطان القلوب
-
من الشورى إلى ديمقراطية جهنم
-
بِكمْ تَبِيعُني إلَهَك؟
-
بين الديمقراطية والبَيْعّة والشورى في الواقع العربي
-
نَظْرة ذُكورية
-
هل التعايش ممكناً بين الديمقراطية والدين؟
-
التناقض بين الديمقراطية والدين
-
كيف أضعنا غزة مجدداً
-
ما هي منزلة المرأة في الإسلام؟
-
محاولة لفهم الدولة
-
مفهوم الدولة ما بين الإرادة والقوة
-
حُلُم الدولة العربية المُجهض
-
أصحاب الجلالة والسيادة والسمو
المزيد.....
-
يقدمون القرابين لـ-باتشاماما-.. شاهد كيف يعيش بوليفيون بمناز
...
-
انفجار هائل ثم حريق خارج عن السيطرة.. شاهد ما حدث لمنزل صباح
...
-
قتلى وجرحى فلسطينيين في خان يونس
-
ترامب ويطالب بضم كندا والسيطرة على قناة بنما
-
لافروف لـ RT: أحمد الشرع يتعرض لضغوط كبيرة من الغرب الساعي ل
...
-
فنلندا تحقق في دور سفينة أجنبية بعد انقطاع كابل كهرباء تحت ا
...
-
جثثهم تفحّمت.. غارة إسرائيلية تقتل 5 صحفيين في النصيرات بقطا
...
-
تركيا توجه تحذيرا لوحدات حماية الشعب الكردية في شمال سوريا
-
صورة لـ-شجرة عيد الميلاد الفضائية-
-
-اتفاقية مينسك لم تكن محاولة-.. لافروف يقدم نصيحة لمبعوث ترا
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|