|
أزهار أبدية(الجزءالثاني)
الحسين سليم حسن
كاتب وشاعر وروائي
الحوار المتمدن-العدد: 8144 - 2024 / 10 / 28 - 18:47
المحور:
الادب والفن
سجنت نفسي في المنزل بعد ذلك اليوم لأسابيع ،ولم أنزل المكتبة حتى . اتصل بي مجد مرارا" ليعيد إلي المال لكنني لم أجب عليه ،أو بالأحرى لم أقو على ذلك ،لم أقو على فعل أي شيء ،لأن النزيف عاد إلي مجددا" . التهب جرح العملية أيضا" ،بالرغم من كل تلك المضادات الحيوية التي تناولتها ،فعدت كسيرة وهشة رغما" عني . إلا أنني في هذه المرة كنت أكثر تعلقا" بالحياة ،ومتغافلة عن هجران ولدي الذي رحت ألعنه بالكلب بيني وبين نفسي . وغدوت أكثر عزيمة على الاستمرار ،من أجل نفسي فقط . حين تعافيت على نحو مكنني من النهوض بمفردي ،اتصلت بمجد وأعلمته بأنني أرغب في لقائه . سبقته إلى مقهانا المعتاد ،وطلبت كأسا" كبيرا" من عصير الفواكه. حين دخل المقهى نظر إلي مندهشا" وكأنه يراني للمرة الأولى ،ثم اقترب من طاولتي ببطء محدقا" بي بعينين واسعتين . أخرج من جيب معطفه رزمة النقود ،وأعطاني إياها وهو يتمتم: هل أنت بخير أمي؟ فأجبته بكل ثقة: نعم ،بخير ،بخير كثير . فأردف متسائلا":لم وجهك شاحب إذن؟ هل آخذك إلى المستشفى ؟ _لا ،لا داعي لذلك ،سأطلب لك شيئا" ،كأس عصير مثلا" ؟ فهز رأسه موافقا"،مبررا" بأنه يشعر بإرهاق شديد لقضاءه ليلة أمس عند صديق له في السكن الجامعي . _لماذا؟ لكي تترك المنزل لذلك العاهر و تلك العاهرة ؟ سألته . نظر إلي مندهشا" ،محاولا" النطق بإجابة ما ثم اكتفى بالصمت . تناولنا العصير دون أن نتفوه بكلمة ،وحين خرجنا ،شعرت بالدوار وكدت أسقط أرضا" ،فأصر على اصطحابي للمستشفى . أوقف سيارة أجرة واستندت إلى كتفه لأصعد إليها، وانطلقنا باتجاه المستشفى . خجلت من نفسي على ما أنا فيه ،أي شخص وحيد ومعوق ومثير للشفقة تحولت إليه ؟ لكنني لن أبكي ،رددت ذلك في قرارة نفسي . حين وصلنا المستشفى ،كنت على وشك فقدان الوعي . قال لي المتدرب الذي فحصني ،بأنني بحاجة إلى تسريب وريدي لمحاليل ملحية وسكرية ،فعلقوا لي المحاليل وانتظروا زمنا" ليسحبوا مني عينة لإجراء التحاليل الطبية للتأكد من سلامتي وخلو جسدي من أي مرض . أخبرته بأنني خارجة لتوي من عملية جراحية لم يفت عليها سوى بضعة أسابيع . حين غادر المتدرب ،نزعت عني القثطرة الوريدية ،وطلبت من مجد بأن نغادر . اعترض بداية لكنني أكدت له بأنني على مايرام ،وأنني لن أنتظر نتيجة التحاليل التي أعرفها مسبقا" ،سيقولون بأنني مصابة بفقر الدم وأنني أعاني من التهاب بسيط ،وهذا كله أستطيع حله بنفسي . عدنا إلى منزلي ،وطلبت من مجد البقاء ،لأعد الطعام لنا كلينا ،فوافق على طلبي . تناولنا الغداء بصمت دون أن نتكلم حتى عن إيفان ،أو حتى عن والديه وعن مدينته ادلب التي حرم منها بكل قسوة . شربنا القهوة بعد تناول الطعام ،ثم اقترحت عليه : لماذا لا تأتي للعيش عندي ؟وتترك ذلك المنزل لذلك الكلب وعشيقته ؟ هز رأسه بالموافقة ،مبتسما" وعيناه المتعبتان ملأهما النعاس والخدر ،ووجهه المتندي يطفح بالطمأنينة . ابتسمت ابتسامة متعبة رغم الألم ،وسارعت نحو علبة المكمل الغذائي وتناولت حبة منها .
في اليوم التالي زرت والدي في مأوى العجزة ،بعد أن تركت مجد نائما" في سرير إيفان . وجدت والدي كعادته في الحديقة ،يتأمل حوض الزهور التي لم يأتي الربيع إليها لتزهر ،ولم يكن بمفرده ،كان برفقة إيلي . إذن كان والدي محقا" حين أخبرني بأنه يزوره بانتظام . لقد عرفته فورا" لأنه لم يتغير البتة ،وكأنه قادم للتو من ذاك الزمن . ألقيت التحية عليهما ،فضحك والدي بشدة وقال متحمسا" : انظري هذا إيلي حبيبك هنا . انتابنا الخجل سوية "لبرهة ثم ترجل إيلي وسألني :كيف حالك حنان؟ ابتسمت دون أية مجاملة وأجبته :بخير ،بخير . ثم أردفت رغبة مني في أن أبدو مهتمة لأنني حقا" كنت مهتمة :وأنت ؟ ماهي أخبارك بعد كل تلك السنوات ؟ _أنا مازلت كما أنا ،فقط غيرت منزلي ،أعيش في بيت بجانب البحر ،بمفردي طبعا" بعد وفاة والدي . شعرت بأنه إقحام غير مبرر بأن يخبرني بأنه يعيش بمفرده . أيعني ذلك أنه يخبرني بأنه غير متزوج ومتاح بالنسبة لي ؟ لا بد أنه عرف من والدي أنني أرملة . _كيف عرفت عنوان والدي ؟ سألته كمن يحجب اقتراحا" ما قبل أن يتبدى . _بالصدفة ،كنت أداوم على زيارة عمي دوما" ،كان نزيلا" هنا فالتقيت بأستاذي القديم ،تخيلي بأنه ناداني باسمي ،لقد عرفني بعد كل هذه السنوات . صمت قليلا" وهو ينظر بحب إلى والدي وتابع :أعيش وحيدا" ولدي الكثير من أوقات الفراغ ،وأنا أعشق كل ما يأتي من الماضي ،إلى جانب صيد السمك . باختصار أعيش حياة عادية و هادئة إلى حد ما . فكرت في أنه لا يعلم بأنني كنت أعيش الحياة ذاتها فيما يخص عاديتها وهدوءها قبل أن يهجرني إيفان . كم نحن متشابهان الآن بعد كل تلك السنوات ،بالرغم من كل ما درسته وتعلمته وقرأته ،وبرغم التباين الطبقي بيننا ،إلا أننا خلصنا إلى حياة بنفس المفاد . استأذنت منه بالمغادرة بعد أن بدأت أشعر بأنني على وشك أن أجهش في البكاء وأخبره بكل ما يجري معي . كان والدي قد نسينا تماما" وراح يحدق في حوض الزهور ويتمتم بأغنية ما . _إنه ينتظر تفتح الزهور كعادته . قال إيلي وكأنه يعلمني بأمر مهم للغاية . هززت له برأسي معبرة عن درايتي بذلك . وهرولت مسرعة قبل أن أسقط ربما في أحضانه !
حين عدت إلى المنزل كان مجد قد أعد الفطور لكلينا ،تناولنا الفطور وغادرنا سوية" إلى المكتبة . قال بأنه لطالما كان تواقا" لقراءة الكتب إلا أن حياته كانت زاخمة بالأحداث المؤلمة والتي لم تترك له أية فسحة ليتنفس بها رائحة الخيال . جلست إلى طاولتي المعتادة ،وتركته يتفحص كتب المكتبة كلها ،ويهيم بين الرفوف . مرت ساعات ولم يأتي أي زبون ،فتناولت روايتي المفضلة (مرتفعات وذرنج ) والتي كنت أقرؤها دوما" حين أكون سعيدة ،لكنني هذه المرة شعرت بأنها ليست الرواية الملائمة لما أشعر به ،فقد كنت سعيدة حقا" لكن على نحو جديد علي كليا" . فتشت عن كتاب ملائم ،لكنني لم أعثر . فدعوت مجد للجلوس معي ،وسألته فيما لو أعجبته المكتبة . فردد :في الواقع ،للمرة الأولى أرى هذا الكم الهائل من الكتب وأغرق فيه ،حتى الجامعة اضطررت إلى تركها بعد وفاة أهلي ،فقد كنت أدرس في جامعة خاصة . أتعلمين أمي ؟ أشعر بأن هذا المكان ملائم لي للعمل ،بدلا" من العمل في معمل الألبسة ،لكن هذا مستحيل ،لا أعرف شيئا" عن الكتب . أخبرته بأنه لاداعي لأن يعمل ،وبإمكانه الجلوس في المكتبة طوال اليوم ،وأنني سأصرف عليه بنفسي . رفض بداية ،لكنني أخبرته بأن هذا الأمر غير قابل للنقاش . نظرت بعدها في وجهه ،وفكرت كم أن ذلك الشاب سيء الحظ تماما" ،وكأن كل الآلام اجتمعت فيه ،كما لو أنه مسيح آخر ،وأنه ما قيمة آلامي تجاه آلامه ؟ أغلقت جميع الكتب أمامي ،ورحت فقط أستمع إليه ،لكنه لم ينطق بشيء ،بل بدا وكأنه يشعر بالأمان للمرة الأولى في حياته .وكأن كل ما يريده هو الراحة من كل تعب . بعد صمت مطول ،أخرج هاتفه الرخيص من جيبه وراح يشاهد فيديوهات مضحكة قصيرة ،ويضحك من كل قلبه . تصرف وكأنني غير موجودة ،أو ربما موجودة بكثرة لذا ليس عليه القلق من ناحيتي ،وأنني لن أتخلى عنه مطلقا" . جعلني ذلك أشعر بأنني على قيد الحياة مجددا" ،وخفت بأن يهرب مني هذا الشعور ،أو يدفن عنوة كما حصل لي مع زوجي ومع ابني .
بعد عدة شهور عاش فيها مجد بقربي ، وصار وكأنه ابني الآخر ،استيقظ ذات يوم مودعا" ،وأخبرني بنيته بالسفر إلى ادلب حيث نشأ ،قال بأن عمه أرسل له المبلغ اللازم من اسطنبول حيث يقيم ،ومن هناك سيحاول اللحاق به . شعرت بأن ما توقعته قد حدث بالفعل ،سيغادرني مجد أيضا" ،لكنه على الأقل ممتن لي ،سيغادرني مع وعد بلقاء قريب . بعد رحيله ،زرت والدي في اليوم نفسه ،فكان برفقة إيلي ،وكان كعادته يحدق في حوض الزهور . كان الربيع قد اكتسح الحديقة ،و سطا على حوض الزهور كاسيا" إياه بشتى أنواع الورود كي ينبهر والدي بها إلى الحد الذي شغلته تماما" عن النظر إلي . جلست إلى جانب إيلي على مقعد خشبي ،صامتين لفترة من الوقت . ليفاجئني بسؤاله : ماهي أخبار إيفان ولدك ؟ _ماعلمت عنه أنه قد سافر مؤخرا" إلى بغداد بمفرده .ما معناه ربما أنه ترك عشيقته هنا ربما ،لا أعلم من أين أحصل على المال ؟لا بد أنه حصل عليه من تلك الفتاة . صمت لبرهة ثم أردف:مممم،لا تحزني قد يكون هذا أفضل له . نظرت إليه وقد انتابني ذهول من تصالح هذا الرجل مع كل ما قد تأتي به الحياة ،ولربما هذا ما أحتاج إليه . _هل مازلت تصيد السمك ؟ سألته . ضحك على نحو مبتذل وقال : بالطبع ،وخصوصا" هذه الأيام ،سأحضر لك بعضا" منها في المرة المقبلة . _شكرا" لك ،سلفا" .قلت مبتسمة .
حين غادرت المأوى ،استقليت الحافلة فلم أكن لأقوى على المشي بسبب ألم مفاجئ شعرت به في مكان جرح العملية . جلست في المقعد المحاذي للسائق ،بجانب النافذة بينما جلس شاب مراهق بيني وبين السائق ،وراح يأكل الشيبس وقد أمسك في يده زجاجة من المياه الغازية وراح يرتشف منها بواسطة شيليمون . بعد أن سارت بنا الحافلة بقليل ،ظهرت أمامنا فجأة شاحنة ضخمة ،لم أعلم من أين أتت بهذه السرعة . وحين لم أفهم ما يحصل حولي ،نظرت إلى الشاب الذي يجلس إلى جانبي ،وشعرت بأن الأولوية في هذا المجهول كله والذي يحدث لنا بسرعة البرق هو حمايته . استجمعت كل قواي ،وكل ما اعتقدت أنني أملكه بفضل المكمل الغذائي الذي أتناوله يوميا" ،ورميت بجسدي بين الصبي و زجاج الواجهة .. لم أشعر بعدها بأي شيء ولم أر سوى الظلمة ،هل تراني مت هذه المرة بالفعل ؟أم أن هناك من سينقذني وسأستيقظ ربما بعد قليل على سرير في مستشفى؟ إن حدث ذلك فسأتمكن من الذهاب مع إيلي إلى الصيد ،وسيزورني ولدي إيفان بالضرورة ،ولن أعود لعصام حتى ولو توفيت زوجته بالسرطان . أما لو مت فعلا" فمعنى ذلك أنني ذاهبة إلى زوجي ،وسأعانقه حتما" بكل حب وحرارة وسعادة ،كما كنا نتعانق دوما" .
انقشعت الظلمة شيئا" فشيئا"عن عيني ،فوجدتهم كلهم متحلقين حولي ،ولدي إيفان ، وإيلي ،وعصام . وعلى يميني مزهرية كبيرة ملأى بالأزهار ،أخبرني إيلي أن والدي من قام بإرسالها لي بعد أن قطف كل ما في حوض الزهور في حديقة المأوى من أزهار .
#الحسين_سليم_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أزهار أبدية (الجزء الأول)
-
القمع (٨)
-
القمع (٨)
-
القمع (٧)
-
القمع (٦)
-
القمع (٥)
-
القمع (٤)
-
القمع (٣)
-
القمع (٢) منقحة
-
القمع (٢)
-
القمع (الجزء الأول)
-
قم هات عودا-
-
سوق السلام
-
اعترافات البومة القاتلة
-
أحفاد زورو
-
الأنثى التي تكتنفني
-
قصائد مختارة
-
ما يهم أنك حي
-
لو عاد بي الزمن
-
حرب رشيدة
المزيد.....
-
-أرسيف- تعلن ترتيب الجامعات العربية حسب معامل التأثير والاست
...
-
“قناة ATV والفجر“ مسلسل قيامة عثمان الموسم السادس الحلقة 168
...
-
مستوطنة إسرائيلية: قصف غزة موسيقى تطرب أذني
-
“وأخير بعد غياب أسبوعين” عودة عرض مسلسل المؤسس عثمان الحلقة
...
-
من هو الفنان المصري الراحل حسن يوسف؟
-
الليلادي .. المؤسس عثمان ح168 الموسم 3 على قناة atv وعلى الم
...
-
أوليفيا رودريغو تستعيد اللحظة -المرعبة- عندما سقطت في حفرة ع
...
-
الأديب الإيطالي باولو فاليزيو.. عن رواية -مملكة الألم- وأشعا
...
-
سوريا.. من الأحياء القديمة إلى فنون الطب الصيني
-
وفاة الفنان المصري حسن يوسف
المزيد.....
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|