|
هويتنا المفقودة
أكرم شلغين
الحوار المتمدن-العدد: 8144 - 2024 / 10 / 28 - 14:27
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في فترة التحولات الجذرية التي شهدها العالم في نهاية القرن العشرين، كتب أحد البعثيين "عبد الله الأحمد"، البارزين أيديولوجيا رسالة مفتوحة إلى "الرفيق ميخائيل غورباتشوف"، مُعبرا عن استيائه العميق من التحول الذي طرأ على المبدأ الاشتراكي الذي تَعلّمته منطقتنا وشعوبها على أيدي السوفييت. حيث قال في رسالته ما معناه: لقد تتلمذنا على أيديكم وتعلمنا الاشتراكية منكم، والآن أنتم تهجرونها، فأين هو موقعنا اليوم وإلى أين نحن سائرون؟ عكست كلماته وقتها الشعور بالإحباط والضياع الذي عاشه العديد من المثقفين والسياسيين في العالم العربي، بعد أن لاحظوا بأن مبادئهم قد تآكلت بفعل التحولات السياسية والاقتصادية العالمية. وقد أظهرت رسالتها حينها أيضا التوتر بين الأيديولوجيات السياسية المعلنة والتغيرات الميدانية، مما يضع علامات استفهام كبيرة حول مستقبل الأيديولوجيا البعثية ومكانتها في عالم متغير. تعود لرأسي رسالة عبد الله الأحمد منذ أشهر لأقاربها بالمشهد السياسي ومجمل ما يحصل على الساحة الإقليمية والدولية، فحين يصرخ غزاوي متألم حتى نقي العظم، بل وأكثر: "أين العرب وأين الإسلام؟ وتسقط صرخاته على من بهم صمم انتمائي وإنساني ليتحول نواح الغزاوي والفلسطيني إلى صحراء لامتناهية الحدود يسافر عبرها ويتلاشى يصبح همسا ثم يختفي...فأسأل نفسي عن أي عرب وعن أي إسلام يتساءل هؤلاء!؟ مع مرور الزمن، تخلت العديد من التيارات الثقافية والسياسية في العالم العربي عن جذورها العروبية، وأصبح بعض المثقفين يفتخرون بارتباطاتهم بالثقافات الغربية، متناسين بذلك التنوع الغني والهوية المعقدة التي تشكلت عبر قرون من التاريخ. بينما يعتبرون هذا التوجه سعيا نحو الانفتاح والتقدم، يطرح سؤالًا حيويا عن موقف سكان المناطق التي تُعرف الآن بالدول العربية، والذين تشكلت هويتهم العربية نتيجة لعمليات تاريخية معقدة. كيف يتفاعل هؤلاء مع الهوية التي أُعيدت صياغتها في سياق العولمة والثقافة الغربية؟ هل يمكنهم الحفاظ على خصوصيتهم الثقافية في ظل هيمنة القيم الغربية؟ إن هذه التساؤلات تفتح أبواب الحوار حول مفهوم الهوية والانتماء في عالم متغير، وتدعونا للتفكير في كيفية المحافظة على التراث العربي الغني في ظل التحديات المعاصرة. وفي ظل التطبيع الجاري ورؤية التجريف الجغرافي والديموغرافي، يتساءل الكثيرون عن أصولهم وارتباطهم بالعروبة. إذ تُعزز سياسات بعض الحكام الحاليين فكرة أن هؤلاء هم بمثابة "عرابي" التحولات التاريخية، مما يثير القلق حول الهوية الثقافية. كيف يمكن للأفراد أن يحددوا مكانهم ومكانتهم في عالم يتسم بتغيرات سريعة، حيث تتداخل الهويات وتتعرض العروبة للتحديات من كل جانب؟ إن هذا التساؤل يُشغل التفكير حول معنى العروبة في السياق المعاصر وأين هي الهوية الثقافية في مواجهة التحديات المعقدة. صفة "العرب" التي أُطلقت على شعوب الشرق الأوسط اليوم لها جذور تاريخية معقدة، ترتبط بعوامل سياسية وثقافية ودينية على مر العصور. فالتاريخ يُظهر أن سكان المنطقة لم يكونوا جميعهم عرباً بالمعنى العرقي أو اللغوي في العصور القديمة. وهنا أهم النقاط التي تُفسر كيف تحوّلنا نحن سكان الشرق الأوسط إلى "عرب": 1. التنوع العرقي واللغوي قبل الإسلام قبل ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي، كانت شعوب منطقة الشرق الأوسط تضم العديد من الحضارات والأعراق، مثل الأكاديين والسومريين والآشوريين والبابليين والكنعانيين والفينيقيين والآراميين والنبطيين والفرس والرومان. كانوا يتحدثون لغات متعددة منها الآرامية، السريانية، الفارسية، واليونانية، ولم تكن الهوية العربية قد تشكلت كما هي عليه اليوم. سكان الجزيرة العربية، الذين كانوا يُعرفون بالعرب في تلك الفترة، كان لهم ثقافتهم ولغتهم الخاصة. إلا أن التأثير الثقافي والسياسي لهؤلاء "العرب" كان محدوداً خارج الجزيرة. 2. ظهور الإسلام وانتشار اللغة العربية الفتح الإسلامي: مع ظهور الإسلام وانتشاره في القرن السابع الميلادي، بدأت الشعوب في المناطق التي فتحها المسلمون تتبنى اللغة العربية بسبب ارتباطها بالقرآن، والنبي محمد، والعبادات الإسلامية. كان هذا التحول لغويًا وثقافيًا، وليس عرقيًا. الفتوحات الإسلامية امتدت إلى مناطق مثل بلاد الشام، العراق، مصر، وشمال أفريقيا، والتي كانت تتحدث لغات أخرى قبل الإسلام. اللغة العربية كلغة جامعة: تبنّت الشعوب المحلية اللغة العربية لأسباب دينية وإدارية. فقد أصبحت العربية لغة الدولة والخلافة الأموية ثم العباسية، وبالتالي كانت اللغة الرسمية في جميع المجالات، سواء الدينية أو العلمية أو الأدبية. كما أن الإسلام جعل من العربية لغة مقدسة، مما ساعد في انتشارها بين غير العرب. 3. التعريب السياسي والثقافي التعريب: مع مرور الزمن، حدثت عمليات تعريب تدريجي لسكان المناطق المفتوحة. على سبيل المثال، أصبحت الآرامية التي كانت منتشرة في بلاد الشام والعراق تتراجع أمام اللغة العربية. أما في مصر، فقد تراجعت اللغة القبطية، وفي شمال أفريقيا تراجعت اللغات البربرية. الدين والهوية: الإسلام كان عاملاً مهماً في هذا التحول. اعتناق الشعوب المحلية للإسلام جعلهم يتبنون اللغة العربية كلغة مقدسة، ومع مرور الوقت أصبح الاندماج الثقافي أكثر شمولية. وبالرغم من أن الأصل العرقي لم يكن عربياً، إلا أن الانتماء إلى الإسلام واللغة العربية خلق هوية عربية مشتركة. 4. الدولة القومية والهوية العربية الحديثة القومية العربية: في القرن العشرين، مع تفكك الدولة العثمانية وصعود الحركات القومية، نشأت فكرة القومية العربية التي نادت بوحدة الشعوب العربية على أساس اللغة والثقافة. هذه الفكرة روجت إلى أن شعوب المنطقة جميعها "عرب"، بناءً على اشتراكهم في اللغة والثقافة، بغض النظر عن خلفياتهم العرقية. دور الاستعمار: القوى الاستعمارية، وخاصة البريطانية والفرنسية، ساهمت في رسم حدود الدول الحديثة في الشرق الأوسط، وكانت هناك رغبة في تعزيز الهويات الوطنية الجديدة المستندة على اللغة والثقافة العربية. فمثلاً، كثير من سكان الشام والعراق ومصر كانوا يعتبرون أنفسهم جزءاً من الحضارات السابقة، لكن في ظل القومية العربية الحديثة، أصبحوا جزءاً من "الأمة العربية". 5. التنوع العرقي في إطار الهوية العربية رغم هيمنة اللغة العربية والثقافة العربية في معظم أنحاء الشرق الأوسط، إلا أن المنطقة ما زالت تضم تنوعاً عرقياً ولغوياً. هناك الأكراد، الأمازيغ، الفرس، والأرمن، الآشور، السريان وغيرهم، وكل هؤلاء يعيشون في دول "عربية" لكنهم يحتفظون بهوياتهم العرقية الخاصة. بعبارة مختصرة، إن "العرب" كمفهوم في الوقت الحاضر هو تعبير ثقافي ولغوي أكثر منه عرقي. تحول الشعوب إلى "عرب" كان نتيجة لعمليات تعريب تاريخية بدأت مع الفتح الإسلامي وانتشار اللغة العربية والدين الإسلامي. ومع مرور الزمن، أصبحت الهوية العربية شاملة لغالبية سكان المنطقة، رغم أنهم لم يكونوا جميعاً عرباً في الأصل.
#أكرم_شلغين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لقاء لأجل الجواب عن سؤال -ما العمل!؟-
-
إلى أين نحن ذاهبون
-
طفل الاغتصاب
-
فانتازيا لامرئي
-
حروف مفقودة وأمنية
-
بحور الحياة: رحلة أبو نجوان بين زمردة الأمل وألم الوداع
-
عبور الزمن: عندما يعود الماضي ليطارد الحاضر
-
ناقد كاتب وشاعر: وقفة قصيرة مع المثقف مصطفى سليمان
-
قمر، ولكن...!
-
والمال بدّل أيديولوجية مسرحية تاجر البندقية
-
بانتظار الغريبة
-
لا يكفر من يصرخ من شدة الألم!
-
أهو ذئب في ثوب حمل؟
-
نموذج إنجليزي لتفادي المشاكل الاجتماعية السياسية
-
إذلال
-
مواجهة
-
يحيى ويحيى
-
حب أو حرمان
-
القافلة
-
الغرب لم يسرق أخلاقك
المزيد.....
-
الملكة رانيا والأمير الحسين يهنئان ملك الأردن بعيد ميلاده
-
بعد سجنه في -معسكر بوكا-.. ماذا نعلم عن أحمد الشرع الذي أصبح
...
-
الجولة الثالثة.. بدء إطلاق سراح الرهائن في غزة و110 أسرى فلس
...
-
من هي أغام بيرغر الرهينة التي أطلقت سراحها حماس الخميس؟
-
هواية رونالدو وشركائه.. هذه مضار الاستحمام في الماء المثلج
-
سقطتا في النهر.. قتلى في اصطدام طائرة ركاب بمروحية عسكرية قر
...
-
مراسم تسليم الرهينة الإسرائيلية آغام بيرغر للصليب الأحمر في
...
-
-كلاب و100 ضابط من أوروبا على حدود مصر-.. الإعلام العبري يكش
...
-
أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يصل إلى دمشق في أول
...
-
دقائق قبل الكارثة.. رجل يكشف آخر رسالة من زوجته قبل حادثة مط
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|