أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - أزقة الروح قصة قصيرة















المزيد.....

أزقة الروح قصة قصيرة


سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 1779 - 2006 / 12 / 29 - 11:56
المحور: الادب والفن
    


أزقة الروح
غالباً ما يتركني في الدكان وحيداً، فأبقى طوال الصباح، أسير دكته العالية، أرقب بعيني ابن الثامنة الشارع العام، الذي يحفل بالقادمين من الريف، والمتصل بمداخل الأزقة الضيقة المؤدية إلى الجامع، فعلاوي الحنطة المفضية بدورها إلى السوق المسقوف. الشارع يغلي، مزاد لبيع الحمير. قرويون يترجلون من لوريات خشبية مصطحبين نسوة هزيلات، صفراوات. رجال ينعلون حوافر الخيل، باعة متجولون، حدادون. مقاه. عربات. أقفاص عصافير، وشمس صيف لاهبة.
أتلاشى في الضجة، مبحراً عن سجني بين أكداس الخشب، المتراصة إلى جوانب الدكان لاعناً اللحظة التي قادتني فيها، ورمتني إلى هذا الضجيج قائلة لخالي:
ـ مرمره ... دعه يعِ لزمانه!!.
لم أدرك ما جنيته من ذنب، سوى ارتباكي من سؤالها الصعب كلما عدت متأخراً للبيت.
ـ أين كنت؟.
أصاب بالبله، فأنطوي في صمتي خائفاً، إذ لم أكن مع أحد، ولم أتعود أعذاراً كاذبة، وإذا صدقتها الإجابة فسوف تكذبني.. فغالباً ما تأسرني أشياء غريبة، تنسيني نفسي والبيت والوقت.. يشغلني مصير طائر يحلق في السماء، أو نملة تلج ثقباً في الأرض، أو اهتزاز سعف نخلة. فأرحل مع الطائر إلى البعيد، وأدخل مع النملة إلى ثقب الأرض، ويخدرني اهتزاز السعف وأفياء البساتين.
ـ أين كنت؟ أجب!.
ـ .....
ـ ما بك أخرس!...
أخرس... أخرس.. تخرسني شبابيك البيوت، وما تزخر به من دفء وأسرار، فأخلد إزاءها ساعات، أتخيلها تجنبني كف أبي السكير، ونواح أمي على حظها العاثر، وزحمة غرفتنا الطينية الوحيدة، المكتظة بإحدى عشرة نفساً. أيأس في صمت فأبدد قنوطي بالتيهان في برار شاسعة تحيط بالمدينة. ألاحق عصافير برية تدور حولي، أجول بين سواقي الحقول، أجمع أعشاب الريحان والخباز، وأسكن مسحوراً بزرقة السماء، إلى أن يوقظني الجوع وغياب الشمس، فأهرع فزعاً إلى المدينة. مرة أخرى.. أكون قد نسيت نفسي عن موعد العشاء، أو قضاء حاجة أرسلوني من أجلها. أتسلل خلسة إلى باحة الدار ميت الأطراف، لتستقبلني أمي بوجهها العاصف وسؤالها المريع:
ـ أين كنت؟.
المحنة اليومية نفسها، وإيغالي بصمتي الذي يزيد غضبها، ويجعلها تنقض علي بصفعات تصيرني أكثر عناداً، وأشد تعلقاً بأحلامي، فألوذ لصق جدار الطين، باكياً بخفوت من يشعر بأنه مظلوم والآخرين مذنبون بحقه.
* * *
حدث ذلك صدفة شأن الكثير من الأشياء، فأخذتني أحلام من نوع آخر.. أكثر حلاوة وجنوناً. أوحشني صمت الخشب. خنقتني نشارته، ووحدتي وسط ضجيج الشارع، فانسللتُ تائقاً لمعرفة ما يدور حولي في الأزقة القريبة. احتوتني رطوبتها وبيوتها القديمة المتعانقة الشرفات، وأفياؤها الباردة. توغلتُ متأملاً جدراناً شائخة، وأبواباً خشبية مقوسة، وسلالم حجرية تصعد إلى عتبات عالية وأخرى تنزل إلى باحات فسيحة. في ظلال تزهر بصبية حفاة يلعبون، تنفستُ بعمق هواء خالياً من رائحة الخشب، وفي قاع زقاق لا مخرج له، حدثت تلك الصدفة. رمتني صبية بيضاء فأسرتني. رمتني من بين أهداب سوداء مقوسة إلى أعلى وأسفل قليلاً، بنظرة ناعسة من عينين بنيتين كأنهما تهمان بالبكاء. انجذبتُ نحوهما، قرفصتُ أمامهما مفتوناً مستكيناً، يفصل بيننا قدر باقلاء وحفنة صمت. ثغرها البالغ الصغر انفرج عن صف أسنان منضودة بدقة. انهمكتْ كفاها الناعمتان بكيل حبوب الباقلاء. تدلتْ خصلة بحلكة أدكن ليل، وتأرجحت حاجبة عينيها. ردتها بنفضة أفزعتني. مدتْ ذراعها العارية اللدنة، ووضعت الصحن المليء أمامي. تاهت عيناي، واختفت أصابعي في التراب، وهي تفتش عن صحن الباقلاء. شملتني بنظرة ماكرة، كانت تكبرني قليلاً. رأيت في التماعة عينيها الصافيتين بوضوح... بلل الأزقة، ولعب الصبيان، والجدران القديمة، والفيء وذهول وجهي.
ـ يا... يا.. ما بكَ؟.
انبعث من صوتها الهامس باضطراب، طيب غريب الرائحة، أشبع نفسي بخلاصة أعشاب برية. رافقني ذلك الطيب الذي يذويني عطره إلى هذه اللحظة. أكلتُ صحناً وثانياً وثالثاً حتى نَفَدَ ما لدي من نقود، ورابطت حولها، ألعب مع الصبية، وعيناي مشدوهتان بين اللعب وبلل سماوات عينيها الموشكتين على البكاء. نسيتُ الدكان وخالي والدنيا، ولم ينتزعني من استغراقي إلى صوت "الله أكبر" يؤذن لصلاة الظهر، فزلزل بي الأرض. تجمدتُ لحظة ملتصقاً بالجدار، قبل أن أنطلق راكضاً بجنون، وعيناها المتسائلتان تغيبان في خوفي.. ويا لتلك المسافة بين قاع أحلامي ودكان خالي، وما ينتابني فيها من أحاسيس فظيعة، لم أشعر بمثيل لها إلا حينما تولهتُ بقطف الورد من بستان روحي. بلغتُ الدكان لاهث الأنفاس، فطالعني خالي مكفهراً، وألقى السؤال المخيف ذاته:
ـ أين كنت؟.
أيـ...ن .... أيـــــ..ن .. كـ.. نـــ.. تـــ.. أ... يـــ... أطفأت ضجيج الشارع في روحي، وجعلت رأسي يصفر بفراغ الصمت، الذي يسبق الصفعة العاصفة. لذتُ خلف خزانة خشبية. انتحبُ بخفوت، وأحلم بالاختباء خلف حوائط قديمة تستدير بقيعان سماوات بنية، وبين أصابعي وردة.
* * *
في الصبيحة التالية كانت وردة تعطر طيات جيبي. غادرني خالي مكفهراً، مكرراً تهديدات باقتلاع أذني إذا تركت الدكان. لم يكد يختفي في الضجيج حتى حوصرتُ بصمت الخشب الميت، وسكون الجدران، ونداءات الباعة، ووقع حوافر الخيل، ووجوه القرويات الشاحبة المترجلات، الصاعدات، من وإلى لوريات خشبية تذهب وتجيء. ضاقت أنفاسي، فانسللتُ إلى قعر زقاقي، ناوياً رؤيتها وإعطاءها وردة. "دقائق وأعود" قلت لنفسي، وأنا أقترب من أحشاء ذلك الجدار العتيق، وعندما انزلقتُ إلى قاعه المسحور، انزويتُ في أفياء عينيها الموشكتين على البكاء.
ـ يا... يا... ماذا بك؟.
قالتها بغنج صبية، أدركت معنى الصمت في عيني الحالمتين، المختلفتين، الضائعتين بين خشب الأبواب المتداعية، وأكراتها الحديدية الصدئة، وأقواس الشبابيك المتقابلة، الغارقة في قعرها البعيد. اقتربتُ وابتعدتُ، عزمتُ وترددتُ، وأصابعي تلتفُ حول عنق الوردة النائمة في جيبي. تلكأتُ محتدماً بهواجسي. عزمتُ.. دنوت.. حتى كدت ألاصقها.. خدرني عطرها الخفي فاستخرجتُ بعناء كفي المنتفضة، ورميت الوردة إلى حضنها. أسرعتُ خافق القلب مبتعداً، التفتُ.. كانت تشم وردتي وعيناها تفيضان بدفق هادئ... أغرقني، فبقيت راقداً بالوداد المائج في نهر بشرتها البيضاء، ولم أصجو إلى و"الله أكبر" تصب نيران جهنم على رأسي، لتحيل هناءاتي فحماً. هببتُ مرتعداً من انخساف العالم بي. جريتُ مذعوراً. استقبلني خالي على الرصيف ممسكاً عصا غليظة، أربد وأرعد زافراً حريق السؤال:
ـ أين كنت؟.
المحنة ذاتها، لعثمة وصمت، ثم أضلاعي المتورمة، وخلف الخشب أنشج، وتتراءى لي في غشاوة الدمع الرقيقة، ذات العينين البنيتين تشم وردتي، وترش فيض رذاذها الناعم على ثيابي.
لم أكف عن الانسلال الهادئ وفي جيبي وردة... وعودتي اللاهثة وفي روحي هول.
في آخر مرة قابل اضطرابي ولهاثي دون اكتراث. انتظرتُ ريثما أتم نشر قطعة الخشب، أسندها إلى الحائط. التفتَ إليّ. تأملني طويلاً، ثم أقفل الدكان، وقادني بصمت متوتر إلى أمي، رماني نحوها قائلاً بصوت أسفٍ:
ـ خذيه... إنه لا يصلح لشيء!.
واستدار بقامته الفارعة المشدودة ليغيب في أفق الشارع. رمتني طويلاً بعينين شارفتا على البكاء، وتحسرت بألم. كنتُ مغتبطاً لتحرري من القيد، وحزيناً لأجل عيني أمي.
***
بعد ثلاثين عاماً... ما زلت أنسلُ غفلة ممن حولي وفي جيبي وردة.
أيلول/ 1989
أوردكاه خوي زرعان



#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)       Salam_Ibrahim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصة قصيرة-جنية الأحلام
- تحجر
- العصفور
- حصار يوسف
- بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال عندما أدخلني ...
- بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال...عندما أدخلن ...
- بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال...عندما أدخلن ...
- العمة الجميلة*
- النص العراقي والناقد
- أنها الحرب
- اختطاف
- كتّاب كانوا سوط الجلاد الثقافي
- بمناسبة المؤتمر الرابع للطائفة المندائية..يا عراق متى تنصف أ ...
- قالت لي: أنا عندي حنين


المزيد.....




- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - أزقة الروح قصة قصيرة